المسائل الكلامية والفقهية: فوارق ومعايير
الشيخ حسين الخشن
تواجهنا في كثير من الأحيان حالة من الشك في طبيعة بعض المفاهيم الدينية لجهة اندراجها في نطاق القضايا الاعتقادية أو في نطاق القضايا التاريخية أو الفقهية، وعلى سبيل المثال: هل إنّ أميّة النبي (ص) من سنخ القضايا الاعتقادية أو أنها أشبه بالقضايا التاريخية كما يرى السيد محسن الأمين رحمه الله؟(أعيان الشيعة1/84)، وهل أنّ ولاية الفقيه هي من القضايا الاعتقادية كما يرى الشيخ جوادي الآملي أم أنها مسألة فقهية كما هو الرأي المعروف بين الفقهاء ولذا بحثوها في ثنايا الكتب الفقهية..؟
والسؤال هل من أصل مرجعي يحدد الموقف في المقام؟ وما هي المعايير التي تفك الاشتباك وتضع الحدود الفاصلة بين مسائل العلوم المختلفة؟
إن الاشتغال على دراسة المعايير المشار إليها سوف يضع حداً لحالة التخبط الملحوظة في المقام، ويخفف من حدة الاختلافات على هذا الصعيد ويضعها في الإطار العلمي بعيداً عن لغة المهاترات والاتهامات.
لا أصل في المقام:
وفيما يبدو أننا لا نمتلك أصلاً مرجعياً يحدد الموقف في صورة الشك ويحكم بعقدية المسألة أو تاريخيتها أو فقهيتها... ولذا لاسبيل أمامنا في معالجة حالة الشك والخروج من حالة التخبط إلا الاشتغال على وضع معايير يتم بموجبها التعرف على ملاكات أو مناطات المسائل العقدية أو التاريخية والفقهية.
بين فعل الله وفعل العبد:
وأول ما يواجهنا في المقام المعيار الذي يطرحه مشهور العلماء بشأن المسألة الكلامية وأنّ مناطها كون موضوعها عبارة عن وجود الله أو صفة من صفاته أو فعل من أفعاله، بينما معيار المسألة الفقهية كون موضوعها فعلاً من أفعال الله.
ويلاحظ على هذا المعيار أنه يقارب المسألة وفق ثنائية فعل الله وفعل العبد وهو ما يعطي انطباعاً بالتقابل وعدم التلاقي بين المسائل الاعتقادية والمسائل الشرعية وهو انطباع خاطئ من الجهتين، لأن موضوع المسألة الكلامية وان كان على صلة بوجود الله أو صفاته وأفعاله، إلا أن الاعتقاد هو فعل العبد، والعقيدة لها تأثير مباشر على فعله وسلوكه، كما أنّ الشريعة وإن ارتبطت بفعل المكلف، لكنها لا تبتعد عن فعل الله، بل هي في أصل تشريعها وانشائها ممّا لا دخل للعبد بها، وأمّا في امتثالها وتطبيقها فهي وإن ارتبطت بفعل العبد لكنها لا تبتعد عن فعل الله أيضاً وفقاً لنظرية أو عقيدة الأمر بين الأمرين التي تفترض أن أفعال الإنسان هي أفعال الله أيضاً، دون أن يلغي ذلك حرية الإنسان واختياره.
على أن تقديم بعض القضايا العقدية كالنبوة والإمامة من زاوية أنها مجرد فعل من أفعال الله لا يعطي هذه المعتقدات حقها وصورتها الواقعية، بل ربما أفقدها حيويتها وفاعليتها، ونأى بها عن التأثير في حياة الإنسان.
وغير بعيد عن المعيار المذكور في الإشكال ما يطرحه بعض العلماء من أن معيار المسألة الكلامية هو كون البحث فيها عن المبدأ أو المعاد(الموسوعة الفقهية الميسرة1/452)، فإنّه يفترض أن النبوة وكذا الإمامة وغيرها من المسائل العقيدية تندرج بشكل أو بآخر في نطاق "المبدأ"، وهذا لا يخلو من تغييب لهذه المعتقدات واختزال دورها.
الالتزام العملي أو القبلي:
وربما بامكاننا طرح معيار آخر يقارب المسألة من زاوية موقف الإنسان وتكليفه إزاء الموضوعات الدينية الكلامية أو الفقهية، وحاصل هذا المعيار الفارق بين المسألتين: أن المسألة الكلامية لا يُطلب فيها سوى توطين القلب وعقده تفصيلاً أو إجمالاً على مفهوم معين، أمّا المسألة الفقهية فإنّ ما يُطلب فيها أولاً وبالذات هو الامتثال العملي ولو لم ينطلق أو يترافق مع إذعان النفس وعقد القلب، بكلمة أخرى: إن ما يلزم في المسألة الكلامية هو الموافقة الالتزامية بينما لا يلزم في المسألة الفقهية إلاّ الموافقة العملية، فالإيمان بالله سبحانه أو بالمعاد أو بأية قضية لا يصح ولا يستقيم إلاّ إذا انطلق من قناعة راسخة في النفس والتزام قلبي وجداني، بينما الحكم بحرمة شرب الخمر أو لبس الذهب أو ما إلى ذلك من أحكام إلزامية لا يجب فيها سوى الامتثال العملي دون الاذعان النفسي والالتزام القلبي بالحرمة، وكثيراً ما يلتزم الناس بأحكام الشريعة لا لقناعة نفسية بهذا الحكم أو ذاك، وإنما انقياداً لرسول الله(ص) أو حفظاً للنظام العام، أو خوفاً من العواقب القانونية في صورة المخالفة أو لغير ذلك من الاعتبارات.
ومما يشهد لصوابية هذا الفارق المعياري هو أنه لو كان الواجب في المسائل الفقهية الالتزام النفسي مضافاً إلى الالتزام العملي، لكان معنى ذلك أن ثمة امتثالين وطاعتين في الأحكام الفقهية: طاعة جوارحية وأخرى جانحية، وفي حال المخالفة فالعبد مستحق لعقوبتين: إحداهما عقوبة على المخالفة العملية، والأخرى على المخالفة الالتزامية، وهذا مخالف للوجدان القاضي بعدم استحقاق المكلف عقوبة في حال موافقته للتكليف عملاً وعدم موافقته له التزاماً، كما أنه مخالف لحكم العقل باستحقاق العبد الممتثل أمر مولاه عملاً ـ ولو لم يلتزم قلباً ـ للمثوبة لا للعقوبة (راجع كفاية الأصول:268 طبع مؤسسة آل البيت(ع)).
ملاحظات وردود:
إلا أن هذا الفارق المعياري تواجهه عقبتان:
الأولى: إن قوله تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً}(النساء:65)، خير شاهد على عدم صحة الفارق المذكور، لدلالته على ضرورة الإذعان والتسليم بما جاء به النبي(ص) أو قضى به سواء كان في نطاق العقائد أو الأحكام.
ولكن يمكن أن يجاب على ذلك: بأن الآية ناظرة إلى مسألة عقدية وهي مسألة الانقياد والإذعان لرسول الله(ص) في كل ما جاء به من مفاهيم عقدية أو أخلاقية أو أحكام شرعية أو غير ذلك، ومسألة الانقياد لرسول الله(ص) في كل ما جاء به هي من أصول الدين، لا من فروعه.
الثانية: إن هذا الفارق ليس مطرداً، فثمة أحكام شرعية لا يجب فيها الامتثال العملي وإنما يكتفي فيها بعقد القلب والتوجه الباطني، كما في أحكام النية الواجبة في العبادات والطهارات الثلاث، وهي تبحث في الكتب الفقهية، وبعبارة أخرى: هناك أحكام شرعية ترتبط بالجوانح كما هناك أحكام ترتبط بالجوارح.
ويلاحظ على ذلك: بأن النية شرط في العمل، فالواجب هو الامتثال العملي، مقروناً بنية القربة والإخلاص فضلاً عن نية تعيين العمل، فالواجب أولاً وبالذات هو العمل العبادي، أمّا النية كما في الصلاة فهي أمر عرضي فرضته عبادية العمل، هذا في الفقهيات، وأمّا في العقديات فإنّ الواجب أولاً وبالذات هو عقد القلب، وان ترتب على ذلك سلوك عملي على أن لقائل أن يقول: إنّ نيّة القربة في العبادة هي أقرب إلى قضايا العقيدة منها إلى قضايا الشريعة حتى لو تم بحثها في الفقه.
معيار المسألة التاريخية:
في ضوء المعايير المشار إليها للتفرقة بين المسألة الكلامية والفقهية، تغدو التفرقة بينهما من جهة وبين المسألة التاريخية من جهة أخرى واضحة جلية، فمعيار تاريخية المسألة حدوثها في عامود الزمن المنصرم مع عدم ارتباطها بفعل الله ولا بفعل العبد، هذا لو أخذنا المعيار الأول بنظر الاعتبار، وأمّا بملاحظة المعيار الثاني فإن الفارق أيضاً سيكون أشد وضوحاً، فالمسألة التاريخية هي ما لا يجب فيها عقد القلب ولا الامتثال العملي .. أجل إن تاريخية المسألة لا تمنع من الاستفادة من بعض مجرياتها أو جوانبها على الصعيدين الفقهي العقدي وكذلك الوعظي الأخلاقي...
الخلط بين المقامات:
إنّ ملاحظة المعايير الآنفة قد تساهم في فك الاشتباك بين العلوم المختلفة ورسم حدود واضحة المعالم لكل منها، فإنّ غياب هذه المعايير أو عدم الاشتغال الجاد على تأصيلها ورسم معالمها ربما كان سبباً في حصول نوع ٍ من التخبط أو الخلط بين المسائل الاعتقادية وغيرها، وهذا ما وقع فيه الكثيرون، فرب مسألة فقهية أو تاريخية يدرجها البعض جهلاً أو تسامحاً في عداد القضايا العقدية، وعلى سبيل المثال: فإن المظالم التي تعرض لها الأئمة من أهل البيت(ع) أو السيدة الزهراء(ع) هي مفردات تاريخية وتجدر بل تلزم دراستها وفق آليات وضوابط منهج البحث التاريخي، ولا وجه ولا مبرر لإقحامها في ثنايا البحث العقائدي أو محاولة لإضفاء هالة من القداسة عليها تمنع من النقاش فيها أو دراستها دراسة نقدية.