حوار مع مركز أفاق للدراسات والأبحاث: مشكلة الأديان تتشكل في الخطاب الفقهي    ثمن الحرية    أمثل الأساليب في عمليّة تهذيب النفس    مزايا الشباب    العمل سرّ النجاح    العبادة وعيٌ وانفتاح لا جهل وانغلاق    اقتناء أصنام الأمم البائدة    المفاهيم الدينية بين وجوب الاعتقاد وحرمة الانكار    البناء الاعتقادي بين الاجتهاد والتقليد    
 
بحث
 
تكريم الإنسان
 
س » كم كان عمر الزهراء (ع) حين زواجها من أمير المؤمنين (ع)؟ هل صحيح أن الإجماع هو على التسع من عمرها؟
ج »
 
▪️يوجد اختلاف كبير بين العلماء في تحديد عمر سيدتنا الزهراء سلام الله عليها حين زواجها من أمير المؤمنين عليه السلام، وتترواح هذه الأقوال بين تسع سنوات وعشرين سنة.
 
▪️مرد هذا الاختلاف إلى أمرين:
 
- الأول: الاختلاف في تاريخ مولدها، فهل ولدت قبل البعثة بخمس أم بعدها بخمس أو باثنتين؟ 
 
- الثاني: الاختلاف في تاريخ زواجها من أمير المؤمنين عليه السلام، حيث إن ثمة خلافاً في أنها تزوجت بعد الهجرة إلى المدينة بسنة أو بسنتين أو بثلاث.
 
▪️المعروف عند كثير من المؤرخين - كما ينقل التستري في تواريخ النبي (ص) والآل (ع) - أنها ولدت قبل البعثة النبوية بخمس سنين، وهذا ما ذهب إليه محمد بن إسحاق وأبو نعيم وأبو الفرج والطبري والواقدي وغيرهم، وعلى هذا سيكون عمرها حين الزواج ثماني عشرة سنة أو يزيد.
 
▪️ ونقل العلامة الأمين "أن أكثر أصحابنا" على أنها ولدت بعد البعثة بخمس سنين، وعلى هذا سيكون عمرها حين الزواج تسعاً أو عشراً أو أحد عشر عاماً، تبعاً للاختلاف في تاريخ الزواج.
 
⬅️ الظاهر أنه ليس هناك إجماع على أنّ عمرها عند الزواج بها كان تسع سنوات، فقد ذهب الشيخ المفيد في "مسار الشيعة" أنها ولدت بعد مبعث النبي (ص) بسنتين، وهو ظاهر الشيخ الطوسي في المصباح، بل نقل الشيخ عن رواية أنها ولدت في السنة الأولى لمبعثه الشريف، وحينئذ إذا كانت قد  تزوجت في السنة الأولى من الهجرة فيكون عمرها حين الزواج ثلاث عشرة سنة، وإذا تزوجت في السنة الثانية للهجرة سيكون عمرها أربع عشرة سنة، وإذا تزوجت في السنة الثالثة سيكون عمرها خمس عشرة سنة.
 
 وقد رجح التستري وغيره من علمائنا القول بولادتها بعد البعثة بخمس، استناداً إلى بعض الأخبار المروية عن الأئمة(ع).. وكيف كان، فتحقيق المسألة واتخاذ موقف حاسم يحتاج إلى متابعة.. والله الموفق.

 
 
  مقالات >> فقهية
العمليات الاستشهادية والانتحارية *
الشيخ حسين الخشن



 

العمليات الاستشهادية والانتحارية *

 

   منذ أن بدأت الحركات الإسلامية الجهادية تطوير عملياتها الجهادية والقيام بنوعٍ جديد من المقاومة، وهي العمليّات الاستشهادية المتمثلة بإلقاء المجاهد نفسه على الموت، ليقتل بموته واستشهاده ما أمكن من أفراد العدو عندما يفجّر نفسه في حافلة أو قافلة أو أي موقع من مواقعه، حتى بدأ التساؤل في الأوساط الإسلامية، لا سيّما الفقهية منها، عن مشروعية هذا العمل من الناحية الإسلامية، وقد ذهب بعض الفقهاء إلى إصدار الفتوى بحرمته أو تحفظوا إزاءه، لأنّه – برأيهم – عمل انتحاري وإلقاء للنفس في التهلكة، بينما اختار البعض الآخر مشروعيته، واعتبروه إحدى وسائل الجهاد والقتال في سبيل الله.

 

وفي الآونة الأخيرة لجأت بعض الجماعات التكفيرية والحركات المتشددة إلى استخدام هذا الأسلوب في الصراعات الداخلية، حيث يعمد هؤلاء إلى القيام بعمليات تستهدف قتل المسلمين ممن لا يتفقون معهم في المذهب أو العقيدة، ويلاحظ أنّ هذه الجماعات أخذت بإعداد مئات الشباب ودفعهم إلى تفجير أنفسهم في وسط التجمعات المدنية، دون أن  توفّر طفلاً أو شيخاً أو امرأة، أو تراعي حرمة مسجد أو معبد!

 

وإزاء هذا الواقع المستجد ازدادت الأسئلة وكثرت الإشكالات حول مدى شرعية اعتماد هذا الأسلوب في القتال، الأمر الذي جعل من الملّح والضروري جدأ أن يصار إلى دراسة المسألة من الزاوية  الفقهية بغية استخلاص موقف واضح، نتبين فيه  مدى شرعية هذا النوع من العمل الجهادي، وهذا يفرض علينا أن نستعرض مستند كلا الرأيين المشار إليهما، ونلاحظ مدى تمامية أي منهما، وضمناً سيتحتم علينا أن نستجلي الفارق بين العمل الاستشهادي والعمل الانتحاري.

 

 

محاور البحث

 

   وبحثنا لهذ المسألة يتم ضمن المحاور التالية:

 

1-   في بيان بعض الأصول والقواعد الشرعية في مسألة النفوس.

 

2-   في ذكر الأدلة والوجوه التي يمكن أن يستدل بها لإثبات شرعية العمليات الاستشهادية.

 

3-   في ذكر الأدلة التي قد يستدل بها لحرمة العمليات الاستشهادية.

 

4-   في ذكر ظوابط العمليات الاستشهادية وشروطها

 

 

 

1-   المحور الأول: الأصول والقواعد

 

في البداية وقبل الدخول في البحث الاستدلالي وبيان الوجوه التي قد تصلح للاستدلال بها في المقام نرى أنّ من الضروري أن نتطرق إلى بيان ثلاثة أصول أساسية ارتكزت عليها الشريعة الإسلامية فيما يرتبط بالنفس الإنسانية .

 

1-   حرمة النفس

 

الأصل الأول هو أصالة احترام النفوس، حيث يلحظ الإنسان أنّ الإسلام قد اهتمّ اهتماماً بالغاً بالحياة الإنسانية وحرص على احترامها ولزوم المحافظة عليها، لأنّ ذلك حقاً من حقوقها الأساسية، قال تعالى: {ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله إلا بالحق ومن قتل وظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً فلا يسرف في القتل إنّه كان منصوراً} [ الإسراء 33]، وحرصاً منه على رعاية النفس وحمايتها فقد ذلك رأى التشريع الإسلامي أنّ الاعتداء على حياة فرد من أفراد الإنسان هو اعتداء على الإنسانية جمعاء، قال تعالى: {من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنّه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً..} [المائدة 32]، الظاهر أنّه لا خصوصية لبني إسرائيل في هذا الحكم.

 

ولم يقتصر الأمر على تحريم قتل نفس الآخر، بل حرّم الإسلام قتل الإنسان لنفسه ووضع حدٍ لحياته، لأنّ حياة الإنسان – في منطق الإسلام - ليست ملكاً له ولا هو مسلط عليها، وإنّما هي وديعة استودعه الله إياها، فلا يجوز له التفريط بها والاعتداء عليها والتخلص منها دون أن يأذن الله بذلك، قال تعالى: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} [البقرة 195]، ولنا عودة تفصيلية إلى هذه الآية المباركة.

 

 وقال عزّ من قائل في آية أخرى: {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلاّ أن تكون تجارة عن تراض ولا تقتلوا أنفسكم إنّ الله كان بكم رحيماً} [النساء 29]، حيث نصّت الآية على حرمة قتل النفس.

 

قد يقال: إنّ الآية الثانية ناظرة إلى قتل الآخر بتنزيله منزلة النفس، كما في قوله تعالى: {..ولا تلمزوا أنفسكم..} [الحجرات 11]، فإنّ المعنى أن لا يلمز بعضكم بعضاً، واللمز هو الطعن بالآخر، ونحوه قوله تعالى: {..فإذا دخلتم بيوتاً فسلّموا على أنفسكم ..} [ النور 61]، فإن المقصود هو التسليم على الآخر الذي تدخلون عليه، والقرينة على نظر الآية إلى قتل الغير هو السياق، فإنّ صدر الآية {لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} ينصّ على منع الإنسان من أكل مال الآخرين بالباطل.

 

ويجاب على ذلك: إنّ الآية الشريفة إن لم تكن ظاهرة في حرمة قتل الإنسان لنفسه، فهي شاملة لذلك، أي أنّها تشمل حالة الانتحار، وهو قتل الإنسان نفسه، وذلك تمسكاً بعموم التعليل، أعني قوله تعالى: {إنّه كان بكم رحيماً}، فإنّ رحمته تعالى كما تقتضي المنع من قتل الغير فإنّها تقتضي المنع من قتل النفس، بل إنّه لو قيل بنظر الآية حصراً إلى قتل نفس الآخر، فهي تكون قد نزّلت الآخر منزلة النفس، وما ذلك إلاّ لوضوح حرمة قتل النفس، وهكذا الحال في الآية الناهية عن لمز النفس، فإنها تنزّل الآخر منزلة النفس في لزومه الابتعاد عن الاساءة إليه، فكما لا تحبون أن يلمزكم أحد فلا تلمزوا الآخر لأنه بمثابة أنفسكم، ما يعني أن حرمة لمز النفس هي من الواضحات، والكلام بعينه يجري في آية التسليم على النفس.

 

وبصرف النظر عن دلالة الآية، فإنّ حرمة الانتحار وإلقاء النفس في التهلكة هي من واضحات وبديهيات التشريع الإسلامي، وتدل عليها العديد من النصوص الروائية، وإليك بعضها مما جاء في مصادر طرق الفريقين، ونبدأ بالروايات الواردة في مصادر الحديث عند أهل السنة :

 

1-   ما رواه أبو هريرة عن رسول الله (ص): "من قتل نفسه بحديدة، فحديدته في يده يتوجأ بها (أي يضرب بها) في بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن قتل نفسه بسم، فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن تردى من جبل فقتل نفسه، فهو متردٍ في نار جهنم خالداً مخلداً فيها ابداً"[1].

 

2-   وأخرج الشيخان عن أبي هريرة أيضاً قال: شهدنا مع رسول الله (ص)، فقال لرجل ممن يدعي الإسلام: "هذا من أهل النار، فلما حضر القتال قاتل ذلك الرجل قتالاً شديداً، فأصابه جراح، فقيل يا رسول الله: الذي قلت آنفاً إنه من أهل النار، قد قاتل قتالاً شديداً وقد مات، فقال (ص): إلى النار، فكاد بعض المسلمين أن يرتاب، فبينما هم على ذلك، إذ قيل له: إنه لم يمت، ولكن به جراحة شديدة، فلما كان من الليل لم يصبر على الجراح، فأخذ ذباب سيفه [أي: طرفه الأعلى]، فتحامل عليه فقتل نفسه، فأخبر بذلك رسول الله (ص) فقال: "الله أكبر أشهد أني عبد الله ورسوله"، ثم أمر بلالاً فنادى في الناس: "إنّه لا يدخل الجنّة إلاّ نفس مسلمة، وإنّ الله ليؤيّد هذا الدين بالرجل الفاجر"[2].

 

3-   وعنه (ص) قال: "كان ممن قبلكم رجل به جرح فجزع، فأخذ سكيناً فحزّ بها يده، فما رقأ الدم حتى مات، قال الله تعالى: "بادرني عبدي بنفسه حرّمت عليه الجنة"[3].

 

4-   وفي رواية ابي داوود من حديث جابر ابن سمرة قال: أُخبر النبي (ص) برجل قتل نفسه فقال: "لا أصلي عليه"[4].

 

5-   ما ورد في الحديث الصحيح (صحيح أبي ولاّد الحناط) عن الإمام الصادق (ع): "من قتل نفسه متعمداً فهو في نار جهنم خالداً فيها"[5].

 

6-   وفي حديث عن أبي جعفر (ع) قال: "إنّ المؤمن يبتلى بكل بلية ويموت بكل ميتة، إلاّ أنه لا يقتل نفسه"[6].

 

7-   روى الشيخ بإسناده عن طلحة بن زيد عن جعفر عن أبيه عن علي بن الحسين (ع) قال: "سئل النبي (ص) عن امرأة أسرها العدو، فأصابوا بها حتى ماتت أهي بمنزلة الشهيد؟ قال: نعم إلاّ أن تكون أعانت على نفسها"[7].

 

8-   وعن طلحة بن زيد عن أبي عبد الله (ع): "إنّ علياً قال: من انهمك في أكل الطين فقد شرك في دم نفسه"[8].

 

                                                    

2-   وجوب الجهاد

 

والأصل أو المبدأ الآخر الذي أقرّه الإسلام وشرعه هو مبدأ الجهاد بما يتضمنه من بذل للنفس في سبيل الله، قال تعالى: {كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاَ وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون} [ البقرة 216].

 

وكما هو معلوم فقد صدر الإذن القرآني بالقتال في المدينة المنورة قال تعالى:{ أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإنّ الله على نصرهم لقدير * الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلاّ يقولوا ربنا الله ولولا دفع الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم  الله كثيراً ولينصرن الله من ينصره إنّ الله لقوي عزيز} [ الحج 39 – 40].

 

وهذا الأصل (وجوب الجهاد) لا ينافي الأصل الأول (حرمة الانتحار)، بل هما ينطلقان سويّة من نبعٍ واحد ولهما هدف واحد وهو حماية حياة الإنسان وحفظ كرامته، لأنّ الجهاد - فيما نفهمه - لم يشرّعه الإسلام لأجل السيطرة على الآخرين واستغلالهم واستعبادهم، بل شرّعه دفاعاً عن حياة الإنسان وحفاظاً على حياته وكرامته، وسعياً لتحريره من الأغلال والآصار، ففي الآيتين المتقدمتين علل الإذن بالجهاد بأمرين وهما:

 

أولاً: أنّهم ظُلِموا واعتدي عليهم وأُخرجوا من ديارهم بغير حق.

 

ثانياً: إنّه لولا الإذن بالجهاد لهدّمت المساجد والصوامع والبيع التي يذكر فيها اسم الله كثيراً، وهذا يعني أنّ الجهاد لا يستهدف هدم أو تخريب معابد الآخرين من الكنائس والبيع التي يتعبد الآخرون فيه لله، بل هو يستهدف إلى حمايتها، كما تحمى المساجد.

 

وقال تعالى في آية أخرى مقرراً مبدأ الجهاد لرد الاعتداء: {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إنّ الله لا يحب المعتدين} [البقرة 190]،

 

وقال تعالى في آية ثالثة مقرراً مشروعية القتال لرفع الظلم والضيم عن المستضعفين ولو كان من غير المسلمين: {وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك ولياً واجعل لنا من لدنك نصيراً} [ النساء 75].

 

 

3-   أصالة الاحتياط في الدم

 

وبين هذين الأصلين (حرمة قتل النفس، ووجوب الجهاد) يأتي السؤال عمّا يسمى بـ"العمليات الاستشهادية"، فهل هي عمل جهادي لتندرج ضمن الأصل الثاني، أو أنها عمل انتحاري وقتل للنفس بغير حق فتندرج ضمن الأصل الأول؟

 

لو أمكننا تقريب أحد الوجهين وترجيحه على الآخر، فيحكم بمقتضاه سلباً أو إيجاباً، وأمّا إذا لم نتمكن من حسم الموقف طبقاً للأدلة اللفظية من نصوص خاصة أو عمومات أو إطلاقات، فيأتي الحديث عن الأصل الثالث، وهو الأصل العملي في المقام، (ويراد بالأصل العملي: الوظيفة العملية التي يفترض بالمشرّع أن يحددها للمكلفين عند عدم وصولهم - بطريق معتبر - إلى معرفة الحكم الشرعي في الواقعة المشكوكة، والأصل العملي هو المرجع في حالة الشك)، فما هو الأصل العملي في المقام؟

 

 المحقق في علم الأصول أنّ الأصل العملي في موارد الشك في التكليف هو البراءة، إلاّ في موارد الدماء والنفوس، فإنّه يقتضي الاحتياط، وهو يعني في المقام العملي ضرورة اجتناب العمل "الاستشهادي" أو الفدائي المتمثل بقتل النفس في عمل تفجيري في بعض مواقع من يفترض أنّه عدو، ولا يُرفع اليد عن أصالة الاحتياط هذه إلاّ بقيام دليل على المشروعية، وأمّا مع عدم قيام دليل كهذا فاللازم هو الاجتناب.

 

 ولهذا فإنّه يتحتم علينا من الناحية المنهجية أن نستعرض أدلة الجواز ونلاحظ مدى تماميتها، فإن لم تتم دلالتها فهذا يعني عدم وجود مبرر لرفع اليد عن أصالة الاحتياط المتقدمة، وأمّا إذا كانت تامة في نفسها فإنّها لن تكون كفيلة في حد ذاتها بإثبات مشروعية العمل الاستشهادي ما لم نتأكد من عدم وجود معارض لها، لذا يكون من اللازم علينا ملاحظة أدلة المنع، فإن تبيّن عدم تماميتها فحينها يتمّ الدليل على المشروعية وحينها فقط نرفع اليد عن أصالة الاحتياط، وأمّا إن تمّت دلالتها على المنع فلا بدّ حينها من إجراء موازنة بين أدلة المنع وأدلة الجواز للخلوص إلى نتيجة فقهية تحددها عملية الموازنة المذكورة.

 

 

 

2-   المحور الثاني : أدلة المشروعية

 

يرى جمع من الفقهاء مشروعية العمل الاستشهادي، وما يمكن الاستدلال به لهذا الرأي هو مجموعة من الوجوه نطرحها فيما يلي مع تقييمها :

 

الوجه الأول: إنّ إطلاقات الجهاد بالنفس والقتال في سبيل الله تشمل العمل الاستشهادي، فقوله تعالى: {انفروا خفاقاً وثقالاً وجاهدوا بأمولكم وأنفسكم في سبيل الله ذلك خير لكم إن كنتم تعلمون} [التوبة 41]، أو قوله تعالى: {قاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين} [البقرة 19]، وكذلك قوله سبحانه: {إنّ الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأنّ لهم الجنة يقاتلون في سبيل فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقاً في التوراة والانجيل والقرآن..} [التوبة 111]، وغيرها من الآيات والروايات الدالة على جواز الجهاد بالنفس هي مطلقة وشاملة للعمل الاستشهادي المتمثل بقتل المجاهد أعداء الأمة الذين يجوز قتالهم بتفجير نفسه في وسطهم، لأنّ هذا العمل الاستشهادي هو نوع من القتال في سبيل الله تعالى ووسيلة من وسائل الجهاد ضد العدو، ولا سيّما بالالتفات إلى أنّ الله لم يحدد وسيلة معيّنة للجهاد، بل ترك الأمر مرناً ومتحركاً في هذه الدائرة ليتسنى لولي الأمر – بالاستعانة بأهل الخبرة – أن يأخذوا بأفضل الوسائل وأشدها تأثيراً في حسم المعركة وأقربها إلى تحقيق النصر، وأشدّها مساهمة في ردع العدو عن ظلمه وعدوانه، وعندما أشار القرآن الكريم إلى "رباط الخيل" في قوله تعالى: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوّة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم..} [الأنفال 60]، فلأنّه كان أفضل وسيلة ممكنة ومؤثرة آنذاك، ولذا ذكره الله تعالى بعد إعطاء المبدأ العام الثابت، وهو "إعداد القوة قدر المستطاع"، ومن هنا، فإنّنا نعتبر أنّ الدليل الذي يدلّ على مشروعية الجهاد والقتال في سبيل الله يدل بنفسه على مشروعية العمليات الاستشهادية[9].

 

ولكن قد يلاحظ على هذا الاستدلال:

 

  أولاً:  إنّه ثمة فرق بين العمل الجهادي العادي وبين العمل الاستشهادي، إذ في الحالة الأولى يخرج الإنسان إلى المعركة وهو يحتمل النجاة، بينما في الحالة الثانية يذهب وقد اتخذ قراراً مسبقاً بالموت.

 

وجوابه: إنّ هذا الفرق غير فارق – كما يقال – أي أنّه لا يوجب عدم شرعية العمل الاستشهادي ما دام مصداقاً من مصاديق الجهاد والقتال في سبيل الله ومشمولاً لمطلقاته، ويشهد له أنّه إذا كان العلم بالموت يمنع من صدق الجهاد، فاللازم من ذلك سدّ باب الجهاد من رأس، لأنّه في بعض المعارك يعلم بعض المجاهدين بأنه سيلقى حتفه بسبب طبيعة مهمته القتالية مثلاً، كما أنّه لا يوجد قائد يأمر بمعركة أو بحربٍ إلاّ وهو يعلم في معظم الأحيان بأنّ بعض حنوده سيقتلون، ولا فرق بين العلم الإجمالي والتفصيلي من هذه الناحية، ولا بين علم الشخص بموته أو موت من هم تحت قيادته وضمن مسؤليته.

 

ثانياً: إذا كان العمل الاستشهادي مصداقاً للجهاد في سبيل الله فهذا يعني أنّه يجوز اللجوء إليه في الحالة الطبيعية أو الاختيارية مع عدم وجود ضرورة  لبذل النفس من خلال العمل الاستشهادي، بمعنى أنّه كان من الممكن التوصل إلى نتيجة العمل الاستشهادي بالطرق التقليدية المألوفة للقتال، فلو كان هناك نقطة معينة للعدو يتوقف العمل الجهادي على تدميرها، وكان بالإمكان تحقيق ذلك إمّا بهجوم عادي (غير استشهادي) قد لا يكلف سقوط شهداء، وإمّا بهجوم استشهادي، ففي هذه الحالة يصعب على الفقيه أن يلتزم بجواز العملي الاستشهادي مع كون الخيار الآخر متيسراً، هذا مع أنّ هذا العمل الاستشهادي هو مصداق للجهاد! وسيأتي التنبيه على ذلك في الحديث عن شروط العمل الاستشهادي.

 

 والجواب: إنّ المستفاد من مجموع الأدلة الشرعية الواردة في حفظ النفس وتحريم إلقائها في المهالك أو تعريضها للمخاطر هو ضرورة الاحتراز عن كل ما يؤدي إلى إيقاع الإنسان نفسه في خطر الموت دون مبرر بسبب وجود خيارات أخرى، حتى في حالات الجهاد، وهذا المعنى هو نهج عقلائي عام ويدان من يتخطاه ويتجاوزه، وعليه تنزّل الأدلة الشرعية الآمرة بالجهاد والقتال في سبيل الله، وعليه إذا وجد الكادر العسكري وسيلة جهادية تحقق النتيجة عينها التي تحققها العملية الاستشهادية فلا يجوز اللجوء للأخيرة، فكون العمل الستشهادي مصداقاً للقتال أو الجهاد في سبيل الله لا يمنع من وجود تراتبية في الأعمال الجهادية.  

 

الوجه الثاني: إنّ العديد من الشواهد التاريخية التي حصلت مع النبي (ص) وبعض أئمة أهل البيت (ع) تدل على أنّ العمل الاستشهادي ليس جديداً في عمقه وجوهره، وإن كان جديداً في شكله، وإليك بعض هذه الشواهد:

 

1-    روى المؤرخون لسيرة النبي (ص)، أنّ عروة بن مسعود الثقفي بعد أنّ أسلم وحسن إسلامه، استأذن النبي أن يذهب إلى الطائف ليدعو قومه إلى الإسلام، فأخبره النبي (ص) بأنّهم قاتلوه إن هو ذهب إليهم بهذا الأمر، وهكذا كان، فلمّا رجع إليهم ودعاهم إلى الإسلام رموه بالنبل، فقتلوه، ولما بلغ النبي (ص) مقتله أثنى عليه وقال: "إنّ مثله في قومه كمثل صاحب ياسين في قومه"[10].

 

2-   ونظير ذلك ما حصل مع أمير المؤمنين (ع) يوم الجمل عندما تقابل الطرفان ورمى أهل البصرة جيش الإمام بالنبل حتى عقروا منهم جماعة، فاستوى الإمام على بغلة النبي (ص) ودعا بمصحف ثم قال: "أيها الناس، من يأخذ هذا المصحف ويدعو هؤلاء القوم إلى ما فيه؟ فوثب غلام يقال له أسلم فقال: أنا آخذه يا أمير المؤمنين، فقال له الإمام: يا فتى تقطع يدك اليمنى فتأخذه باليسرى فتقطع اليسرى ثم تضرب بالسيف حتى تقتل؟ فقال الفتى: لأصبرنّ على ذلك، وخرج الفتى، وحصل له ما قاله الإمام (ع)[11].

 

 ويستفاد من هذين النموذجين أنّ ذهاب هذا الصحابي أو ذاك الفتى إلى الموت المحتّم إنّما صار مشروعاً، لأنّه مقدمة للدعوة إلى الإسلام، أو إلى العمل بالكتاب، ومن الواضح أنّ الجهاد – بما في ذلك العمل الاستشهادي – يتضمن هذه الغاية، أو ما هو أرفع منها، لأنّ الجهاد الابتدائي إنّما هو للدعوة إلى الإسلام وحكم القرآن، وأمّا الجهاد الدفاعي، فإنّما شُرّع لحفظ بيضة الإسلام وقوة المسلمين، فإذا كانت الدعوة إلى الإسلام تبرر سفك المهج، فما بالك بالدفاع عن بيضة الإسلام .

 

3-   ما فعله عمّار بن ياسر يوم صفين، فقد أخبره النبي (ص) أنّه تقتله الفئة الباغية، وأنّ آخر شرابه قدح من لبن،ولمّا قُدّم له في معركة صفين قدح من لبن تذكر كلام الرسول (ص) وقام إلى المعركة وهو على يقين باستشهاده، ولم يفكر في التقاعس، أو يتباطأ، أو يتخذ موقعاً مثالياً يبعده عن مواقع الخطر، روى المؤرخ الطبري عن حبّة العرني أنّ حذيفة أخبره في المدائن بحديث رسول الله(ص) بحق عمار: "تقتله الفئة الباغية وأنّ آخر رزقه ضياح من لبن" يقول حبة العرني: "فشهدته يوم صفين وهو يقول ائتوني بآخر رزق لي من الدنيا، فأتي بضياح من لبن في قدح أروح له حلقة حمراء، فما أخطأ حذيفة مقياس شعرة ، فقال: "اليوم ألقى الأحبة * محمداً وحزبه"، والله لو ضربونا حتى يبلغوا بنا سعفات هجر لعلمنا أنّا على الحق وأنّهم على الباطل، وجعل يقول: الموت تحت الأسل والجنة تحت البارقة"[12]. ثمّ حمل عمار فحمل عليه شخصان من أتباع معاوية، فطعنه أحدهما، واحتز الآخر رأسه[13].

 

 إنّ هذا يعني أنّ علم الشخص بموته إذا خرج إلى المعركة، لا ينفي كون عمله جهاداً وقتالاً في سبيل الله.

 

   ربما يقال: إنّ العمل الاستشهادي يمتاز عن غيره بأنّ فيه تصميماً وعزماً على الموت، وليس مجرد علم بالموت وحسب، وفرق بين أن يخرج الإنسان وهو عالم بالموت وبين أن يخرج وهو مصمم على الموت ملقياً بنفسه عليه.

 

وربما يجاب: إنّه من غير البعيد أن يكون القصد حاصلاً في هذه النماذج، وعلى فرض عدم حصوله فربما يقال - على تأمل - : ليس لهذا الفارق دخل في الحكم الشرعي.

 

4-   الثورة الحسينية فعل استشهاد: وربما يذكر نموذج آخر يستشهد به لإثبات شرعية العمليات الإستشهادية، وهو ما جرى مع الإمام الحسين (ع) في كربلاء وذلك أنّه وبعد أن أيقن الحسين(ع) وأهل بيته وصحبه أنّ القوم قد ركزوا بين السلة والذلة، (القتل أو الاستسلام) نجد أنّه (ع) اختار طريق الجهاد والاستشهاد، وكان كل فرد من أفراد جيشه يخرج إلى الميدان وهو عالم بحتفه، لأنّ القوم يحيطون بهم من كل جانب، ولذا رأينا أنّ الواحد منهم لا يوصي صاحبه بعياله، لأنّه كان يقول له: لولا أني أعلم أنّك في الأثر لأوصيتك بعيالي[14]، ورأينا أنّ الإمام الحسين (ع) يقول لابنه علي الأكبر – عندما استسقاه –: "عدْ إلى المعركة، فعمّا قليل سيسقيك جدّك المصطفى بكأسه الأوفى شربة لا تظمأ بعدها أبداً"[15]. والسؤال: أليست هذه الأعمال  أعمالاً استشهادية بامتياز؟

 

قد يقال اعتراضاً على ذلك: إنّ الحسين (ع) وأصحابه لم يكن لهم خيار آخر غير الاستشهاد بعد استبعاد خيار الاستسلام، لأنّ الإسلام لا يرضى به، {..ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين..} [المنافقون8]، وهذا ما عبّرت عنه الكلمة الخالدة للإمام الحسين(ع): "هيهات منا الذلة"[16]، أمّا في عصرنا الحاضر فهناك خيارات أخرى أمام المجاهدين غير إلقاء النفس في لهيب النار؟!

 

وقد يجاب على ذلك: بأنّه في ليلة العاشر من المحرّم، كان لدى أصحاب الحسين(ع) خيار آخر وهو الانسحاب، وليس هذا خياراً محرماً لا من جهة  كونه فراراً من الزحف، ولا من جهة كونه تركاً للإمام(ع) وحيداً في ساحة المعركة، وذلك:

 

أ‌-        إماّ لأنّ الإمام الحسين (ع) قد أذن لهم بالانسحاب، باعتبار أنّ القوم لا يريدون غيره، كما جاء في الروايات، التي نصّت على أنّه(ع) قال لهم: "ألا وإني قد أذنت لكم فانطلقوا جميعاً في حلٍ ليس عليكم مني ذمام، هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً"[17].

 

ب‌-  وإمّا لأنّ حرمة الفرار من الزحف مختصة بما إذا كان عدد أفراد العدو ضعف المسلمين فما دون، وأمّا إذا كان العدد أضعافاً مضاعفة فلا يحرم الفرار حينها[18]، وفي كربلاء كان عدد جيش ابن سعد أضعافا مضاعفة مقارنة بأصحاب الحسين(ع) .

 

ت‌-  وإمّا لأنّه لا موضوع للفرار من الزحف، فإنّ المعركة لم تكن قد بدأت بعد ليصدق الفرار من الزحف.

 

لكنّ الوجه الأخير ضعيف، فإنّ الفرار من الزحف لا يتوقف على بدء المعركة، بل يكفي تهيؤ الطرفين واستعداهما للقتال، وهذا ما يستفاد من قوله عزّ وجلّ: {يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم  الذين كفروا فلا تولوهم الأدبار ومن يولهم منكم يومئذٍ دبره إلاّ متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير} [الأنفال 15 – 16] .

 

الوجه الثالث: ويمكن إثبات شرعية العمليات الاستشهادية على نحو الموجبة الجزئية، استناداً إلى موازين باب التزاحم ومرجحاته، وذلك لأنّه لو توقّف ردع العدو عن دخول بلاد المسلمين واستباحتها أو تدميرها على قيام بعض المجاهدين بتحويل أجسادهم إلى قنابل مدمرة تتفجر في جنود العدو، أو توقف تحرير البلاد من رجس الاحتلال وبغيه على العمل الاستشهادي، وهكذا لو فرض أنّ حماية الأعراض والنفوس تتحقق بذلك ولم يكن هناك وسيلة أجدى وأردع من ذلك، فإنّ بالإمكان في هذه الحالات ونظائرها الحكم بجواز وربما بوجوب العمل الاستشهادي، عملاً بقوانين باب التزاحم وتقديم الأهم على المهم.

 

وخلاصة القول: إنّا نلاحظ في حالات كثيرة أنّ النصر أو الفتح أو صدّ العدو عن بلاد المسلمين يتوقف على أن يلقي بعض المجاهدين نفسه على الموت أو يفجر نفسه في حقل من الألغام، ليتمكن الجيش الإسلامي من العبور، أو غير ذلك من الموارد التي يعلم فيها المجاهد علماً تفصيلياً بموته، والالتزام بعدم صدق الجهاد على هذا النوع من الأعمال في غاية البعد.

 

إلاّ أن تشخيص الأهم من المهم يحتاج إلى اطلاع واسع ومعرفة بأحكام الشرع وموازينه، وليس هذا شأن كل أحد، وإنما هو موكول إلى القيادة الشرعية البصيرة[19].

 

وفي ضوء هذا تعرف حكم ما لو عرف المجاهد وهو في ظروف المعارك أنّه إذا أسر من قبل الأعداء فقد يعترف تحت ضغط التعذيب بما يضر المسلمين أو يفشي أسراراً خطيرة بما يلحق الضرر بالدولة أو الحركة الإسلامية فإنّه في مثل هذه الحالة يجوز أن يقوم بعمل استشهادي، بل ربما قيل بجواز "الانتحار" في مثل هذه الحالة، إذا لم يكن له محيص عنه[20].

 

ويؤيد ما قلناه ويشهد له ما اشتهر بين فقهاء المسلمين من أنّه لو تترس الكافر بالمسلم أو بأي إنسان محقون الدم، فإنّه يجوز للمجاهدين المسلمين قتل الترس بقصد قتل المحارب وذلك إمّا في حال التحام القتال أو إذا توقفت الغلبة على العدو على قتل الترس[21]، أمّا إذا لم تكن الحرب قائمة فلا يجوز رمي الترس المسلم. فإذا جاز للمسلم أن يقتل المسلم الآخر في هذه الحال أفلا يجوز له قتل نفسه بأن يفجرها في العدو؟ بل أليس هذا جائزاً بطريق أولى؟

 

إلاّ أن يقال: إنّ مستند الحكم في جواز قتل الترس ليس هو النص الخاص لعدم تماميته، بل المسألة جارية وفق قواعد باب التزاحم وعليه فلا معنى للأولوية لأن ّالمسألتين من واد واحد.

 

 

3-   المحور الثالث : دليل عدم المشروعية

 

   ليس للقائلين بحرمة العمليات الاستشهادية من دليل إلاّ القول بأنّها انتحار وإلقاء للنفس في التهلكة ، وهو أمر محرّم في الشريعة الإسلامية كتاباً وسنة، قال تعالى: {وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة}[ 195]، وما مرّ في الأحاديث عن رسول الله (ص) ، وما جاء في الحديث عن الإمام الصادق (ع) من أنّ قتل النفس يوجب الخلود في النار.

 

ولكن هذا الاستدلال غير تام

 

أولاً: إن عنوان إلقاء النفس في التهلكة لا يشمل حالة الجهاد وبذل النفس في سبيل الله سبحانه، وذلك:

 

أ‌-       إن ّمورد الآية هو الممارسات الفردية في إلقاء النفس في التهلكة، أمّا الجهاد والقتال في سبيل الله فليس من إلقاء النفس في التهلكة إطلاقاً، بل إنّ عدم تشريع الجهاد، لا سيما الدفاعي منه، هو إلقاء للنفس وللأمة في الهلاك، لأنّ معنى ذلك سيطرة الظالمين والكفرة عليها مع ما يستتبعه من فساد وانتهاك للحرمات والأعراض وتعدِّ لحدود الله، ولهذا فإذا كان في القصاص حياة لأولي الألباب، فإنّ في الجهاد والقتال في سبيل الله بكل أشكاله حياة للأمة جميعها وليس إهلاكاً لها، ويشهد لذلك ما جاء في بعض تفسيرات الآية الشريفة، يقول ابن أبي جامع العاملي:

 

 " 1- أي لا تهلكوا أنفسكم بالإسراف الذي يأتي عليها، 2- أو بترك الغزو والانفاق فيه، فيغلب عليكم العدو، 3- أو بالإمساك المؤدي إلى الهلاك "[22]، وواضح أنّه بناءً على المعنيين الأخيرين في كلامه، تكون الآية على عكس ما يريده المدعي أدل.

 

ب‌- إنّ "المقصود بإلقاء النفس في التهلكة هو تعريض النفس إلى الهلاك، سواء كان الإنسان جازماً بتحقق الموت أو ظاناً به"[23]، وعليه فلو شملت الآية العمل الجهادي للزم منه سد باب الجهاد كلياً، لأنّه لا يوجد شخص يخرج إلى المعركة إلا وهو يظن بموته.

 

ثانياً: إنّه لو سلّم أنّ الجهاد هو إلقاء للنفس في التهلكة، لكن مع ذلك لا يكون مشمولاً للآية، لأنّها ناظرة إلى العمل الذي لا يكون بطبيعته مبنياً على إلقاء النفس في الهلكة، وإنّما يعرض عليه ذلك أحياناً، وأمّا العمل الذي يكون مبنياً على إلقاء النفس في الهلكة، فلا تشمله الآية، وإلا لزم إغلاق باب الجهاد من التشريع الإسلامي، لأنّه لا ينفك عن هلاك النفوس وسفك المهج.

 

   وهذه الإجابة الثانية وإن كانت رافعة للإشكال، لكنها في نفسها غير تامة، لأنّها تنطلق من نظرة ضيقة للشريعة، وهي النظرة التي تتعاطى مع الشريعة على أنّها فقه للأفراد فقط، وبالتالي فإنّ قراءة النصوص التشريعية بهذه الخلفية تنتج أنّ الجهاد إلقاء للنفس في التهلكة، وأن ّالخمس والزكاة هما من مصاديق الضرر، وهذا ما يضطر الفقيه إلى تكلّف الإجابة على الإشكال الآنف بما ذكر، مع أنّه لو أخذنا بعين الاعتبار الجانب الآخر للشريعة، وهي أنّها تقدم حلولاً فقهية للأمة والمجتمع كما تقدم حلولاً فقهية للأفراد، فلن يرد الإشكال من أصله، لأنّ النظرة إلى الجهاد من منظار حاجة الأمة إليه سوف تجعله ضرورة حيوية لها وليس إلقاء لها في الهلاك، والنظرة إلى الزكاة والخمس من زاوية حاجة الأمة والمجتمع لهما لما يقومان به من سدّ حاجة الفقراء والمحتاجين فسوف يجعلهما حاجة للأمة وليس إضراراً بها.

 

   هذا بالنسبة للآية الشريفة، وأمّا الروايات المتقدمة، فلا تدل أيضاً على حرمة العمل الاستشهادي، لأنّها بأجمعها ناظرة إلى قتل الإنسان نفسه على طريقة الانتحار، فهذا منصرف تلك الأحاديث بل الظاهر منها، ولا تشمل قتل النفس في العمل الجهادي بوجه..

 

 

 

4-   المحور الرابع : ضوابط العمل الاستشهادي

 

مع اتضاح مشروعية العمليات الاستشهادية يبقى علينا أن نبيّن أمرين:

 

الأمر الأول: إنّ ثمة فرقاً وبوناً شاسعاً بين الانتحاري والاستشهادي، فالأول يدفعه إلى الموت يأسه من الحياة فيتوّجه إلى التخلص مما يعانيه من عقدٍ نفسية أو مشاكل عاطفية أو صعوبات مادية أو اجتماعية أو غيرها، بينما الثاني وهو الاستشهادي، هو إنسان يسير إلى الموت بروح مطمئنة آمنة، وغايته التقرب إلى الله ونيل رضاه من خلال إقدامه على تفجبر نفسه وسط تجمع لأعداء الأمة والإنسانية، أوتحرير العباد والبلاد من رجسهم وبغيهم.

 

ومن جهة أخرى، فالمنتحر يهدف من إقدامه على الموت إلى وضع حدٍ لحياته، بينما الاستشهادي يهدف إلى تخليص الأمة من عدوها بواسطة قتله لنفسه.

 

باختصار: إنّ الشخصين (الاستشهادي والانتحاري) يختلفان في المنطلقات ، وفي الأهداف ، وفي طريقة الموت.

 

   الأمر الثاني: إنّ العمليات الاستشهادية محكومة بنفس شروط العمل الجهادي بشكل عام ، فحيثما يشرع الجهاد تكون مشروعة وإلاّ فلا، وينبّه بعض الفقهاء إلى ضرورة توفر شروط معينة في العمل الاستشهادي، ولكنّ معظمها شروط للعمل الجهادي بشكل عام ولا تختص بالعمل الاستشهادي، ولكن حيث عرفت أنّ العمل الاستشهادي لا يجوز في بعض الحالات(كما لو كان بالإمكان التوصل إلى نتيجته بالعمل الجهادي الاعتيادي الذي قد لا يؤدي إلى إزهاق الأرواح) كان من الضروري ذكر هذه الشروط إلفاتاً للنظر، وتنبيهاً على موارد جواز العمل الاستشهادي:

 

1-   أن يبتعد عن تفجير نفسه في أوساط التجمعات المدنية والذي سيصيب الأبرياء وغير المحاربين بالضرر، فما يفعله بعض التكفيريين المسلمين من تجنيد بعض الشباب وتعبئتهم ليفجروا أجسادهم في الأماكن المأهولة بالناس المدنيين من المسلمين أو غيرهم ممن يختلف معهم في الرأي أو المذهب، ودون أن يفرقوا بين مسلم شيعي وآخر سني أو كتابي أو معاهد هو عمل لا علاقة له بالجهاد، ولا يمت إلى منطق الشهادة أو القتال في سبيل الله بأي صلة، بل هو عمل انتحاري، ومن المؤكد أنّ الله سيحاسبهم عليه، من جهتين، من جهة أنّهم قتلوا أنفسهم دون وجه حق وبدون إذن شرعي، ومن جهة أنّهم قتلوا أو تسببوا بقتل الأبرياء وترويع الآمنين.

 

2-   أن يكون العمل الاستشهادي بإجازة من القيادة الشرعية التي تمتلك فقهاً وبصيرة في هذا المجال، ولا يكتفى في هذه الحالات بقرار الأفراد، لأنّ القرار العسكري يجب أن يخضع للفتوى الشرعية وللقيادة الواعية، نعم من الطبيعي أنّ القيادة الشرعية عندما تصدر إجازة، فلا بدّ لها من الرجوع إلى أهل الخبرة من العسكريين الذين يشرحون لها الخطة ومدى نجاحها ونتائجها الإيجابية أو السلبية، وليس بالضرورة أن يؤخذ الإذن في كل عملية يراد القيام بها، لأنّ بالإمكان أن ترسم القيادة الشرعية الخطوط العامة ويتولى أهل الاختصاص بعد ذلك دراسة المسألة ومتابعتها بشكل تفصيلي.

 

3-   أن تكون العملية مدروسة بدقة بدون تسرع ولا تهور، وأن تكون مضمونة النتائج أو شبه مضمونة، لأنّ الحذر مطلوب والتهور مبغوض لله، ودماء المؤمنين غالية عنده تعالى، والعمل الاستشهادي وإن لم يكن مصداقاً لآية التهلكة، لكنّ ذلك حيث لا يكون هناك تفريط ولا مجازفة ولا تعريض للنفس للخطر بدون مبرر، وإلاّ فلا ريب في كونه من أجلى مصاديق إلقاء اليد في التهلكة، إنّ الحيطة والحذر مطلوبان في الحروب والمعارك بشكل عام، ولا يجوز للمكلف أن يعرّض نفسه للمجازفة التي قد تودي بحياته أو حياة غيره من المجاهدين، والأمر عينه ينطبق على العمل الاستشهادي.

 

4-   أن لا يكون هناك خيار آخر للوصول إلى النتيجة نفسها التي قد توصل إليها العملية الاستشهادية، وإلاّ فقد ذكرنا أنه دون إحراز ذلك فلا يجوز اللجوء إلى خيار العمليات الاستشهادية.

 

5-   ويذكر بعض الفقهاء شرطاً آخر في هذا المجال وهو أن يكون في إقدام هذا المجاهد على خيار العملية الاستشهادية مصلحة للإسلام ونفع للحركة الإسلامية أكثر مما ينتفع به في حياته.

 

 

 

 

الشيخ حسين الخشن

29/1/2014

 

 

·       كتب هذا البحث قبل عقد من الزمن ونشر حينها في جريدة بينات الصادرة عن مكتب المرجع الراحل السيد فضل الله رحمه الله، وقد أعدت النظر فيه موضحاً ومتمماً .

 

 



[1] صحيح البخاري ج7 ص32.

[2] صحيح البخاري ج4 ص34، صحيح مسلم ج1 ص74.

[3] ،صحيح البخاري ص146،نيل الأوطار ج7 ص198

[4] سنن أبي داوود ج2 ص76.

[5] وسائل الشيعة، ج29 ص الباب 5 من أبواب القصاص في النفس، الحديث 1.

[6] م. ن.

[7] التهذيب ج6 ص168.

[8] الكافي ج6 ص265، التهذيب ج9 ص90.

[9] فقه الحياة ص130.

[10] راجع: بحار الأنوار، وأعلام الورى وسيرة المصطفى وسيرة ابن هاشم..

[11] الجمل والنصرة للمفيد ص339.

[12] تاريخ الطبري ج 4 ص27، والكامل لابن الأثير ج3 ص310.

[13] وقعة صفين ص341.

[14] ذكر أرباب المقاتل أنّه لما سقط مسلم بن عوسجة مثخناً بجراحه قال له حبيب بن مظاهر: لولا أني في الأثر لأحببت أن توصي إليّ بما يهمك، فقال: أوصيك بهذا يعني الحسين (ع)" مثير الأحزان ص47، والكامل في التاريخ ج4 ص68، والبداية والنهاية لابن الأثير ج8 ص197.

[15] في مثير ألحزان لابن نا الحلبي أنّ علي بن الحسين "قاتل قتالاً شديداً وقتل جمعاً ثم رجع إلى الحسين (ع) وقال: يا أبه العطش قتلني وثقل الحديد قد أجهدني، فبكى وقال: واغوثاه قاتل فما أسرع الملتقى بجدك محمد (ص) ويسقيك بكأسه الوفى.."، وراجه اللهوف في قتلى الطفوف ص67، وكتاب الفتوح لابن أعثم الكوفي ج5 ص115.

[16] الاحتجاج للطبرسي ج2 ص24، وتاريخ مدينة دمشق ج 14ص 219، وشرح نهج البلاغة ج3 ص250.

[17] الإرشاد للمفيد ج 2 ص 91  وتاريخ الطبري ج 4 ص 317.

[18] انظر دليله في منهاج الصالحين ج1 ص 370.

[19] دراسات في ولاية الفقيه ج2 ص583.

[20] م. ن.

[21] راجع: المبسوط للشيخ الطوسي ج2 ص11، السرائر ج2 ص8، تحرير الأحكام ج2 ص143، جواهر الكلام ج21 ص68، منهاج الصالحين ج1 ص371، وراجع من مصادر السنة: المجموع للنووي ج7 ص447.

النص الموجود في المسألة والذي ذكر بعض الفقهاء مؤيداً للحكم هو رواية حفص بن غياث قال: سألت أبا عبد الله (ع) عن مدينة من مدائن الحرب هل يجوز أن يرسل عليها الماء أو تحرق أو ترمى بالمنجنيق حتى يقتلوا ومنهم النساء والصبيان والشيخ الكبير والأسارى من المسلمين والتجار؟ فقال (ع): يفعل ذلك بهم ولا يمسك عنهم لهؤلاء ولا دية للمسلمين ولا كفارة.." وسائل الشيعة الباب 16 من جهاد العدو الحديث2. والرواية مع ضعفها السندي فإنّها معارضة..

[22] الوجيز في تفسير كتاب الله العزيز ج1 ص170.

[23] فقه الحياة ص130.

 






اضافة تعليق

الاسم *

البريد الإلكتروني *

موضوع *

الرسالة *


 


 
  قراءة الكتب
 
    Designed and Developed
       by CreativeLebanon