التكفير.. مناشئ ودوافع (5)
الشيخ حسين الخشن
عجمة الفهم والفهم المعجمي
السبب الخامس: سوء الفهم
عرفنا أنّ سوء الظنّ يعتبر واحداً من أهم الأسباب الكامنة وراء انتشار ظاهرة التكفير، وهناك سبب آخر يناظره ويشاطره الخطورة نفسها وهو سوء الفهم وعجمته، وإذا ما اقترن هذا بذاك فسينتجان- لا محالة- عقليات صدامية تكفيرية ضيقة تحكم على الآخر دون أن تفهمه وتستعديه دون مَوجب أو مبرر، وتُقوّله ما لا يقول وتُحمّله ما لا يحمل، فما المراد بسوء الفهم؟ وما هي مناشئه ومخاطره؟
إنّ ما نعنيه بسوء الفهم أو عجمته عجز الشخص عن إدراك كنه النصوص الدينية أو فهمها على حقيقتها، فضلاً عن إدراك أبعادها ومراميها، ويأتي فهمه مبتوراً وحكمه منقوصاً وخاطئاً، لأنّ الحكم الصحيح على الشيء فرع تصوّره وفهمه، وسوء الفهم يعود: إمّا إلى حالة السفه الفكري والنظرة السطحية للأمور، ممّا تكلّمنا عنه في السبب الثاني من أسباب التكفير، أو لافتقاد الرؤية المتكاملة والشمولية عن الدين ودوره في الحياة، أو لاعوجاج في السليقة والذائقة الفقهية التي تتعامل مع النصوص وتستنطقها، أو لعدم الإلمام الكافي بالقواعد اللغوية والأصولية المعدّة لفهم النصوص واستنطاقها والموازنة بينها وملاحظة عامها وخاصّها، ناسخها ومنسوخها، ومحكمها ومتشابهها، مكّيها ومدنيها.
وإنّ افتقاد الرؤية المتكاملة والذوق الفقهي وآليات الاستنباط وقواعده معناه افتقاد المنهج السوي في التفكير والاستنباط، وليس مجرّد وقوع الشخص في اجتهادات خاطئة في بعض المفردات، كما أنّ لذلك انعكاسات كبيرة وآثاراً خطيرة على الواقع الإسلامي برمّته وعلى قدرة الإسلام على استيعاب المستجدات لمتطلبات الحياة المتغيرة، فعندما يقود الفهم الخاطئ- مثلاً- بعض الناس إلى أن يفهموا من قوله تعالى: {أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ}[المائدة: 1] أنّه مختص بالعقود المتعارفة زمن نزول الآية ولا يشمل العقود المستحدثة كعقود التأمين وغيرها، وهو ما دفعهم إلى محاولة تكلّف إرجاع العقود المستحدثة إلى العقود الشائعة سابقاً، إنّ ذلك يعطي انطباعاً عن الدين بأنّه جاء لمعالجة مشاكل ابن الصحراء، ويريد للحياة أن ترجع إلى الوراء وتجمد على الماضي، ولذا حذّر بعض الفقهاء من هذه العجمة في الفهم قائلاً: "ولا أظنّ يختلج ببال أحد من العرف العارف باللسان العاري الذهن من الوسواس أنّ قوله تعالى: {أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ}، الوارد في مقام التقنين المستمرّ إلى يوم القيامة، منحصر في العهود المعمول بها في ذلك الزمان، فإنّ مثل هذا الجمود مستلزم للخروج عن دائرة الفقه بل عن ربقة الدين نعوذ بالله من ذلك"[1].
وفيما يلي نسلّط الضوء على ثلاثة من الآثار السلبيّة التي تساهم عجمة الفهم في تكوينها وهي: افتقاد النظرة المتكاملة، الجمود على الظواهر، الفهم المعجمي للنصّ.
النظرة التجزيئية
إنّ من الصفات البارزة للجماعات التكفيرية افتقارها إلى رؤية متكاملة عن الإسلام عقيدةً وشريعةً وعن دوره في الحياة وموقع الإنسان في الرؤية الكونية، ولهذا تراها تحدّق في جانب معيّن وتستغرق فيه ولا ترى الجوانب الأخرى من الصورة، وهو ما يجعل نظرتها للأمور مجتزَأة وتقييمها ناقصاً وأحكامها قاسية على من يخالفها الرأي، ولذا تطعن فيه بقسوة ولا تجد له عذراً ولا تسأل عن دليله وحجّته، وقد حذّر بعض الفقهاء تلاميذه من طلّاب العلوم الدينية من هذه الآفة والنزعة عندما قال وهو يخاطبهم: "إنّ مسألة اليانصيب ليست من مسائل الفقه الضرورية والواضحة ليتّفق فيها الجميع"، ويضيف: "في هذه المسألة (اليانصيب) كان المشهور أنّ المرحوم الخونساري والمرحوم السيد يونس الأردبيلي (رحمهما الله) يقولان بجوازه، طبعاً اجتهادهما أدّى إلى الجواز وهذا لا يبرّر أنْ نطعن فيهما لأنّهما أفتيا بذلك، كما أنّه ليس لهما أن يطعنا فينا لأنّا لا نقول بالجواز، بل يمكنهما أن يبحثا المسألة معنا بحثاً علمياً"، ثم يضيف (رحمه الله): "يجب أن يكون السادة الطلاب منتبهين جيداً إلى أعمالهم الصغيرة.. وإلى ألفاظهم حتى لا يُسلب التوفيق منهم بشطر كلمة..."[2].
إنّ الطعن بالآخر لأنّه لا يرتئي ما نرتئيه، يكشف عن جهالة وقصور في فهم الدين، ومَنْ كان كذلك فلا يكون مؤهّلاً لتفسير نصوص الدين والقيام بأمره، لأنّه وكما ورد في الحديث عن رسول الله (ص): "لا يقوم بدين الله إلاّ من حاطه من جميع جوانبه"[3].
وإذا كانت الجماعات التكفيرية تملك هذه النظرة الضيّقة عن الدين والحياة فمن الطبيعي أنَّ الصورة التي سوف تقدّمها عن الدين لن تكون مشرقة أبداً، بل مشوّشة لأنّ فهمها للدين مشوّه وناقص.
الجمود على الظواهر
والأثر الآخر لسوء الفهم واعوجاج السليقة أنّه- وفي ظلّ غياب الرؤية المتكاملة عن الدين والحياة- يؤسّس لنزعة ظاهرية قشرية تستهويها المظاهر والشكليات وتهمل المعاني والمقاصد، بل إنّ قاموسها لا يعرف معنى التفكير المقاصدي ولا الحيوية الاجتهادية ولا يفرّق بين المبادئ الثابتة والوسائل المتحركة ولا بين الفرائض والنوافل، تختلط عندها الأولويات، ولا تفرّق بين النظريات والبديهيّات، على الرغم من أنّ الإسلام يدعونا إلى الموازنة بين الأمور وتقدير الظروف ومقتضياتها، لأنّ الأحكام تختلف باختلافها، ومن هذا ما يُحكى من اعتراض جماعة على عليّ (ع) لعدم تغييره شيبه بالخضاب، "قيل له: لو غيّرت شيبك يا أمير المؤمنين (ع)؟ فقال: الخضاب زينة ونحن قوم في مصيبة"، يريد وفاة رسول الله (ص)"[4].
إلاّ أنَّ الجماعة الظاهريّة في غفلة عن ذلك، فتراها على استعداد لخوض المعارك وسفك الدماء في سبيل بعض النوافل من الشعائر والطقوس والقضايا الهامشية، مع أنّ القاعدة الإسلامية تقول: "إذا أضرّت النوافل بالفرائض فارفضوها" كما ورد في الحديث عن عليّ (ع)[5]، وانسجاماً مع هذا الحديث نقول: إذا أضرّت الفروع بالأصول والجزئيات بالكليات والنظريات بالبديهيات، فلا بدّ من تجميد الفروع والجزئيات والنظريات لصالح الأصول والكليات والبديهيات.
وهذا ما تقتضيه القاعدة العقلية الحاكمة بأنّه لدى دوران الأمر بين المهم والأهم فلا بدّ من تقديم الأهم وترجيحه على المهم، ولذا فإنّك عندما تسمع قضية واقعية مفادها: أنّ مسلماً يخرج من بيته لأداء صلاة الجماعة في المسجد وفي الطريق يصادف اثنين من المسلمين يتضاربان ويتناحران، ومع أنّ بإمكانه أن يتدخّل ويصلح بينهما ومن ثَمَّ يؤدّي صلاته فُرادى، لكنّه يشيح بوجهه عن ذلك ويسرع إلى المسجد كيلا يفوته فضل الجماعة وثوابها، إنّك إذا سمعتَ ذلك أو واجهته بنفسك فاعلم أنّ لدى هذا الشخص خللاً في فهم الإسلام، لأنّ "إصلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصيام" كما جاء في الحديث عن رسول الله (ص)[6]، كما أنّ تأكيد الإسلام وحرصه على صلاة الجماعة يرمي- فيما يرمي إليه- إلى شدّ الأواصر الاجتماعية وتعزيز الأخوّة على قاعدة الإيمان.
الفهم المعجمي
والأثر السلبي الآخر لسوء الفهم واعوجاج السليقة، أنّه يؤسّس لما نسمّيه الفهم المعجمي أو القاموسي للنصّ بحيث يتعامل الباحث مع النص الديني وفق عقلية حَرْفِيّة تقف عند الحروف والكلمات بطريقة هندسية فلسفية تُفقد النص بلاغته وحيويته، وتُكثر من الاحتمالات العقلية التجريدية في تفسيره، مع أنّها احتمالات بعيدة عن ذهن الإنسان العرفي المخاطب بالنص بشكل مباشر وأساسي.
وعلى سبيل المثال: يتعاطى أصحاب هذه المدرسة الهندسية مع النصوص الناهية عن إسبال الإزار وجرّ الذيول بشكلٍ حَرْفيّ، وهو ما يجعلهم مبالغين في تقصير ثيابهم وفي النكير على من يترك التقصير، متمسكين بحرفية ما ورد عن رسول الله (ص) في هذا الشأن، مع أنّ من يمتلك ذوقاً فقهياً سليماً ويلاحظ مجموع الروايات الواردة عنه (ص) في هذه المسألة يكاد يجزم أو يطمئنّ بأنّ النهي عن جرّ الثياب إنّما هو باعتبار كونه علامة- آنذاك- للمتكبّرين والمترفين، ويشهد بذلك ما ورد عن أبي ذرّ عن رسول الله (ص): "ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكّيهم ولهم عذابٌ أليم، قلت: من هم خابوا وخسروا؟ قال: المسبل إزاره خيلاء والمنان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب"[7] وورد نحوه عن ابن عمر "سمعت رسول الله بأذنيّ هاتين يقول: من جرّ إزاره لا يريد بذلك إلاّ المخيلة فإنّ الله لا ينظر إليه يوم القيامة"[8]، وقريب منه ما عن أبي سعيد عنه (ص)[9].
ومن أمثلة الفهم المعجمي أو الحرفي للنص، ما استفاده البعض من قوله تعالى: {وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً}[المائدة: 6]، حيث جمد على ظاهر كلمة الملامسة فأفتى بأنّ مَن لامس امرأة ولو بوضع كفّه على كفّها فقد انتقض وضوؤه، مع أنّ المقصود بالملامسة معناها الكنائي، وهو المعاشرة الجنسية تماماً كما هو المقصود بالمماسة في قوله تعالى: {وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ}[البقرة: 237]، وهذا ما أكّدته روايات أهل البيت (ع)[10]، وعن ابن عباس: "إنّ الله حييّ كريم يعبّر عن مباشرة النساء بالملامسة"[11].
من كتاب العقل التكفيري
19/2/2014
[1]مجلة فقه أهل البيت، العدد 1 ص 8، من مقال للإمام الخميني (رحمه الله).
[2]سيماء الصالحين، للشيخ رضا المختاري ص212-213.
[6]نهج البلاغة ج3 ص76، والكافي ج7 ص51، وتحف العقول ص198.
[7]الوسائل ج17 ص421 الحديث 9 الباب 25 من آداب التجارة.
[9] راجع: سنن ابن ماجة ج2 ص1182.
[10]راجع: وسائل الشيعة، ج1 ص271، الباب 9 من أبواب نواقض الوضوء، الحديث 4.
[11]التفسير الكبير للفخر الرازي، ج10 ص112 وبحار الأنوار ج75 ص221.