حوار مع مركز أفاق للدراسات والأبحاث: مشكلة الأديان تتشكل في الخطاب الفقهي    ثمن الحرية    أمثل الأساليب في عمليّة تهذيب النفس    مزايا الشباب    العمل سرّ النجاح    العبادة وعيٌ وانفتاح لا جهل وانغلاق    اقتناء أصنام الأمم البائدة    المفاهيم الدينية بين وجوب الاعتقاد وحرمة الانكار    البناء الاعتقادي بين الاجتهاد والتقليد    
 
بحث
 
تكريم الإنسان
 
س » أنا طالب علم، لدي خوف من أن أتكلم بغير علم.. ما الحل؟
ج »

وعليكم السلام

لا بد لطالب العلم في مساره العلمي أن يتسلح بأمرين أساسيين:
الأول: الاستنفار العلمي وبذل الجهد الكافي لمعرفة قواعد فهم النص واستكناه معناه ودلالاته بما يعينه على التفقه في الدين وتكوين الرأي على أسس صحيحة.
الثاني: التقوى العلمية ويُراد بها استحضار الله سبحانه وتعالى في النفس حذراً من الوقوع في فخ التقوّل على الله بغير علم. ومن الضروري أن يعيش مع نفسه حالة من المحاسبة الشديدة ومساءلة النفس من أن دافعه إلى تبني هذا الرأي أو ذاك: هل هو الهوى والرغبة الشخصية أم أن الدافع هو الوصول إلى الحقيقة ولو كانت على خلاف الهوى.
أعتقد أن طالب العلم إذا أحكم هذين الامرين فإنه سيكون موفقاً في مسيرته العلمية وفيما يختاره من آراء أو يتبناه من موقف.

 
س » كيف علمنا أن الصحيفة السجادية ناقصة؟ وهل ما وجده العلماء من الأدعية صحيح؟؟
ج »

أقول في الإجابة على سؤالكم:

أولاً: إن الصحيفة السجادية في الأصل تزيد على ما هو واصل إلينا وموجود بين أيدينا، قال المتوكل بن هارون كما جاء في مقدمة الصحيفة: " ثم أملى عليّ أبو عبد الله (ع) الأدعية، وهي خمسة وسبعون باباً، سقط عني منها أحد عشر باباً، وحفظت منها نيفاً وستين باباً"، بيد أن الموجود فعلاً في الصحيفة الواصلة إلينا هو أربعة وخمسون دعاء. آخرها دعاؤه في استكشاف الهموم، وهذا آخر دعاء شرحه السيد علي خان المدني في رياض السالكين، وكذا فعل غيره من الأعلام.

ثانياً: إن سقوط عدد من أدعية الصحيفة وضياعها دفع غير واحد من الأعلام للبحث والتتبع في محاولة لمعرفة ما هو الضائع منها، وبحدود اطلاعي فإنهم عثروا على أدعية كثيرة مروية عن الإمام زين العابدين (ع)، لكنهم لم يصلوا إلى نتائج تفيد أن ما عثروا عليه هو من الأدعية الناقصة منها، ولذا عنونوا مؤلفاتهم بعنوان مستدركات على الصحيفة، ولم يجزموا أن ما جمعوه من أدعية هو الضائع من أدعية الصحيفة. وهذا ما تقتضيه الضوابط العلمية والدينية، فما لم يعثر الإنسان على نسخة قديمة موثوقة أو قرائن مفيدة للوثوق بأن هذا الدعاء أو ذاك هو من جملة أدعية الصحيفة فلا يصح له إضافة بعض الأدعية على الصحيفة بعنوان كونها منها.

ثالثاً: لقد ابتُلينا بظاهرة خطيرة، وهي ظاهرة الإضافة على الصحيفة أو غيرها من كتب الأدعية، وهذا العمل هو خلاف الأمانة والتقوى، وقد ترتّب على ذلك الكثير من المفاسد، وأوجب ذلك وهماً للكثيرين، فتوهموا أن بعض الأدعية هي جزء من الصحيفة السجادية المشهورة، ومردّ ذلك بكل أسف إلى أن مجال الأدعية والزيارات شرعة لكل وارد، وتُرك لأصحاب المطابع والمطامع! وأعتقد أن هذا العبث في كتب الأدعية والزيارات ناشئ عن عدم عناية العلماء بالأمر بهذه الكتب كما ينبغي ويلزم، كما نبه عليه المحدث النوري في كتابه "اللؤلؤ والمرجان" مستغرباً صمت العلماء إزاء التلاعب والعبث بنصوص الأدعية والزيارات مما يعدّ جرأة عظيمة على الله تعالى ورسوله (ص)!

رابعاً: أما ما سألتم عنه حول مدى صحة الأدعية الواردة بعد دعاء استكشاف الهموم، فهذا أمر لا يسعنا إعطاء جواب حاسم وشامل فيه، بل لا بدّ أن يدرس كل دعاء على حدة، ليرى ما إذا كانت قرائن السند والمتن تبعث على الحكم بصحته أم لا. فإن المناجاة الخمس عشرة بنظرنا لم تصح وربما كانت من وضع الصوفية، وقد أوضحنا ذلك بشكل مفصل في كتاب الشيع والغلو.


 
س » ابني المراهق يعاني من التشتت، وأنا جدا قلق ولا اعرف التصرف معه، ما هي نصيحتكم؟
ج »

التشتت في الانتباه في سن المراهقة مع ما يرافقه من الصعوبات هو في حدود معينة أمر طبيعي وظاهرة تصيب الكثير من المراهقين ولا سيما في عصرنا هذا.

وعلينا التعامل مع هذه المرحلة بدقة متناهية من الاستيعاب والتفهم والإرشاد والتوجيه وتفهم سن المراهق، وأن هذه المرحلة تحتاج إلى أسلوب مختلف عما سبقها.

فالمراهق ينمو لديه الإحساس بالذات كثيرا حتى ليخيل إليه أنه لم يعد بحاجة إلى الاحتضان والرعاية من قِبل والديه.

وبالتالي علينا أن نتعامل معه بأسلوب المصادقة "صادقه سبعا.." والتنبه جيدا للمؤثرات التي تسهم في التأثير على شخصيته واستقامته وتدينه، ومن هذه المؤثرات: الأصدقاء ووسائل التواصل الاجتماعي، فإن نصيبها ودورها في التأثير على المراهق هو أشد وأعلى من دورنا.

وفي كل هذه المرحلة علينا أن نتحلى بالصبر والأناة والتحمل، وأن نبتدع أسلوب الحوار والموعظة الحسنة والتدرج في العمل التربوي والرسالي.

نسأل الله أن يوفقكم وأن يقر أعينكم بولدكم وأن يفتح له سبيل الهداية. والله الموفق.


 
س » اعاني من عدم الحضور في الصلاة، فهل أحصل على الثواب؟
ج »
 
لا شك أن العمل إذا كان مستجمعا للشرائط الفقهية، فهو مجزئٌ ومبرئٌ للذمة. أما الثواب فيحتاج إلى خلوص النية لله تعالى بمعنى أن لا يدخل الرياء ونحوه في نية المصلي والعبادة بشكل عام.
ولا ريب أنه كلما كان الإنسان يعيش حالة حضور وتوجه إلى الله كان ثوابه أعلى عند الله، لكن لا نستطيع نفي الثواب عن العمل لمجرد غياب هذا الحضور في بعض الحالات بسبب الظروف الضاغطة على الإنسان نفسيا واجتماعيا.
لكن على الإنسان أن يعالج مشكلة تشتت الذهن أثناء العمل العبادي وذلك من خلال السعي الجاد للتجرد والابتعاد عن كل الهواجس والمشكلات أثناء الإقبال على الصلاة، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، باستحضار عظمة الله عز وجل في نفوسنا وأنه لا يليق بنا أن نواجهه بقلب لاهٍ وغافل. والله الموفق.

 
س » أنا إنسان فاشل، ولا أتوفق في شيء، وقد كتب عليّ بالخسارة، فما هو الحل؟
ج »

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

أولاً: التوفيق في الحياة هو رهن أخذ الإنسان بالأسباب التي جعلها الله موصلة للنجاح، فعلى الإنسان أن يتحرك في حياته الشخصية والمهنية والاجتماعية وفق منطق الأسباب والسنن. على سبيل المثال: فالإنسان لن يصل إلى مبتغاه وهو جليس بيته وحبيس هواجسه، فإذا أراد الثروة فعليه أن يبحث عن أسباب الثروة وإذا أراد الصحة فعليه أن يأخذ بالنصائح الطبية اللازمة وإذا أراد حياة اجتماعية مستقرة عليه أن يسير وفق القوانين والضوابط الإسلامية في المجال الاجتماعي وهكذا.

ثانياً: لا بد للإنسان أن يعمل على رفع معوقات التوفيق، وأني أعتقد أن واحدة من تلك المعوقات هي سيطرة الشعور المتشائم على الإنسان بحيث يوهم نفسه بأنه إنسان فاشل وأنه لن يوفق وأنه لن تناله البركة الإلهية.

إن هذا الإحساس عندما يسيطر على الإنسان فإنه بالتأكيد يجعله إنسانا فاشلا ومحبطا ولن يوفق في حياته ولذلك نصيحتي لك أن تُبعد مثل هذا الوهم عن ذهنك وانطلق في الحياة فإن سبيل الحياة والتوفيق لا تعد ولا تحصى.


 
س » ما هو هدف طلب العلم الذي يجب أن يكون؟
ج »

عندما ينطلق المسلم في طلبه للعلم من مسؤوليته الشرعية الملقاة على عاتقه ومن موقع أنه خليفة الله على الأرض، فإن ذلك سوف يخلق عنده حافزاً كبيراً للجد في طلب العلم والوصول إلى أعلى المراتب. أما إذا انطلق في تحصيله من موقع المباهاة أو إثبات ذاته في المجتمع أو من موقع من يريد أن يزين اسمه بالشهادة الجامعية ليُقال له "الدكتور" وما إلى ذلك، فإنه - في الغالب - لن يصل إلى النتيجة المرجوة.

وعلى كل إنسان منا أن يعي أنّنا في هذه الحياة مسؤولون في أن نترك أثراً طيباً، وأن نقوم بواجباتنا قبل أن يطوينا الزمان، إننا مسؤولون عن عمرنا فيما أفنيناه وعن شبابنا فيما أبليناه، وسنُسأل يوم القيامة عن كل هذه الطاقات التي منّ اللهُ بها علينا.

وأضف إلى ذلك، إنه من الجدير بالمسلم، أن لا يفكر في نفسه وما يريحه هو فحسب في طلبه للعلم، بل أن يفكر أيضاً في أمته والنهوض بها ليكون مستقبلها زاهراً، وهذا كله يحتم عليه أن يكون سقف طموحاته عالياً ليتمكن هو وأقرانه من الطلاب والعلماء من ردم الفجوة بيننا وبين الغرب الذي سبقنا على أكثر من صعيد.

باختصار: إن مسؤوليتنا ورسالتنا وانتماءنا لهذه الأمة يفرض علينا أن نعيش حالة طوارئ ثقافية وعلمية.


 
س » ما رأيكم في الاختلاط المنتشر في عصرنا، وكيف نحاربه؟
ج »

إنّ الاختلاط قد أصبح سمة هذا العصر في كثير من الميادين، ومنها الجامعات والطرقات والساحات وكافة المرافق العامة.. والاختلاط في حد ذاته ليس محرماً ما لم يفضِ إلى تجاوز الحدود الشرعية في العلاقة بين الرجل والمرأة الأجنبيين؛ كما لو أدى إلى الخلوة المحرمة بالمرأة أو مصافحتها أو كان المجلس مشوباً بأجواء الإثارة الغرائزية أو غير ذلك مما حرمه الله تعالى.

وفي ظل هذا الواقع، فإنّ العمل على تحصين النفس أولى من الهروب أو الانزواء عن الآخرين بطريقة تشعرهم بأن المؤمنين يعيشون العُقد النفسية. إن على الشاب المسلم أن يثق بنفسه وأن يفرض حضوره ووقاره، وأن يبادر إلى إقناع الآخرين بمنطقه وحججه، وأن يبيّن لهم أن الانحراف والتبرج والفجور هو العمل السيّئ الذي ينبغي أن يخجل به الإنسان، وليس الإيمان ومظاهر التدين.

وأننا ندعو شبابنا عامة وطلاب الجامعات خاصة من الذكور والإناث إلى أن يتزينوا بالعفاف، وأن يحصنوا أنفسهم بالتقوى بما يصونهم من الوقوع في الحرام.


 
س » كيف يمكن التخلص من السلوكيات والعادات السيئة؟
ج »

إن التغلب على السلوكيات الخاطئة أو العادات السيئة – بشكل عام – يحتاج بعد التوكل على الله تعالى إلى:

أولاً: إرادة وتصميم، ولا يكفي مجرد الرغبة ولا مجرد النية وانما يحتاج بالإضافة إلى ذلك إلى العزم والمثابرة وحمل النفس على ترك ما اعتادته.

ثانياً: وضع برنامج عملي يمكّن الإنسان من الخروج من هذه العادة السيئة بشكل تدريجي؛ وأرجو التركيز على مسألة "التدرج" في الخروج من هذه العادات السيئة؛ لأن إدمان النفس على الشيء يجعل الخروج منه صعباً ويحتاج إلى قطع مراحل، وأما ما يقدم عليه البعض من السعي للخروج الفوري من هذه العادة، فهو - بحسب التجربة - سيُمنى في كثير من الأحيان بالفشل. والله الموفق


 
 
  مقالات >> فقهية
الثقافة التعبّدية
الشيخ حسين الخشن



 

الثقافة التعبّدية

 

 

من السّمات البارزة للشخصية التكفيرية (السمة السادسة) أنّها شخصية مُقْفَلة ومُعلَّبة تؤمن بالتعبّد فيما لا مجال للتعبّد فيه، وهذه السمة قد نجدها وبتفاوت لدى العديد من الجماعات والأوساط الإسلامية، ومنها أوساط الجماعات السلفية التكفيرية، حيث تدعو هذه الأوساط إلى تعميم ما قد يسمى بالثقافة التعبّدية وإحلالها محلّ الثقافة العقلانية النقدية، ويرى أصحاب هذه الفكرة أنّ الثقافة النقدية إن كانت مشروعة فلها أهلها ووسطها الخاص، ولا يصحّ إشاعتها بين جمهور الناس، لما لذلك من سلبيّات كثيرة ليس أقلّها تشكيك الناس بعقائدهم وزلزلة إيمانهم ونظرتهم إلى الدين دون أن يكونوا مسلَّحين بما يحصّنهم ويدفع عنهم غائلة الشكّ، وربّما انجرَّ الأمر إلى خلق حالة من التمرُّد على الدين في مفاهيمه وعقائده وشعائره.

 

 

ولكن يمكن لنا أن نسجّل بعض الملاحظات ونثير بعض علامات الاستفهام بوجه هذا النمط من التفكير:

 

1-  إنّ هذا التفكير يؤدّي ويساهم ولو عن غير قصد في تكريس واقع طبقي يتألّف: من طبقة "العوام الجهلة" الذين لا يفقهون في الدين شيئاً، ويُلقَّنون العلم تلقيناً من قبل الطبقة الثانية، وهي التي تحتكر العلم وتشكّل جهازاً خاصاً شبيهاً بالجهاز الكهنوتي لدى بعض الأديان وهو الجهاز الذي يحتكر لنفسه مهمة تفسير الشريعة ونصوصها، هذا مع العلم أنّ الإسلام يريد رفع مستوى الأُمة برمّتها، ليكون كلّ فرد من أفرادها مثقفاً وعالماً ومحصَّناً أمام الأفكار المنحرفة وقادراً على مقارعتها بالحجّة والبرهان.

 

وأذكر أنّي ذات يوم حاورتُ بعض العلماء حول مشكلة التعقيد الموجود في غالب كتب الفتوى المعروفة بـ "الرسائل العمليّة" لجهة بعض الاصطلاحات أو المطالب العلمية أو غيرها، فكان تبريره لذلك بأنّ تيسير لغة الرسالة العملية يؤدّي إلى استغناء الناس عن "العالم" أو "الشيخ"، لأنهم سيأخذون الفتاوى من الكتاب مباشرة دون الرجوع إليه!

 

إنّ هذا النمط من التفكير- فيما أرى- ليس سليماً ولا ينسجم مع المبادئ المستقاة من الكتاب الكريم وسُنّة النبي (ص) وسيرة الأئمة (ع)، فإنّنا نلاحظ أنّ القرآن الكريم في كلّ توجيهاته وأحكامه يخاطب "الناس" و"المؤمنين" و"الأُمّة"، وحتى عندما يدعو إلى تشكيل جماعة للقيام بواجب الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو خروج جماعة للتفقّه في الدين- على اعتبار أنّ الجميع لا يمكنهم التفرّغ لهذا الأمر- فإنّه يخاطب الأُمة ويكلّفها بهذا الواجب قال تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104]، وقال تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122].

 

وهكذا نجد أنّ سيرة رسول الله (ص) كانت جارية على مخاطبة الأُمة جمعاء وطرح الأفكار والعقائد والأحكام الإسلامية على العموم ومن خلال المنبر، ولم يكن (ص) يعقد جلسات خاصة مغلقة أو يتخذ وسيطاً بينه وبين الناس.

 

 ولهذا فالمبدأ العام هو أنّ الثقافة الإسلامية هي للعموم وليس هناك ألغاز وأسرار وأفكار تُطرح في الخفاء، يقول تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ}[الحجر: 94]. وهذا لا يلغي إطلاقاً فكرة التدرّج في طرح  بعض هذه الأفكار أو المفاهيم الخاصة، لِمَا رُوِيَ من "إنّ هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق"[1] أو قوله (ص): "إنّا معاشر الأنبياء أُمرنا أن نكلّم الناس على قدر عقولهم"[2]. وفكرة التدرّج هذه لا تعني حجب الناس عن الحقيقة، بل هي تدعو إلى دراسة قابلية المستمع للفكرة وقدرته على استيعابها، وتقديمها له في الوقت المناسب، وهذا أمر منطقي ومعتمد في كلّ العلوم والمعارف التي يراد تقديمها للناس. 

 

2-  إنّ الثقافة النقدية العامّة وإن تركت بعض التأثيرات السلبيّة على ضعاف العقول والنفوس، إلاّ أنّها وبكلّ تأكيد تساهم في خلق وعي عام وترفع مستوى الأُمة وتحصّنها أمام الغزو الثقافي الذي يدهم الناس في بيوتهم وغرف نومهم من خلال وسائل الاتصال والتواصل الحديثة (الانترنت، الستالايت وغيرهما) التي قرّبت البعيد وجعلت العالم بمثابة قرية واحدة.

 

إنّ الخطر الكبير على الجيل الإسلامي الناشئ أنّه- في وسط معترك الثقافات وتنافسها- إن لم يجد الإجابة الشافية على أسئلته الفكرية والعقائدية والتاريخية عند علماء أُمته ومفكريها، فسوف يلجأ لاستماع الجواب إلى خصوم الأُمة وأعدائها.

 

ثم لماذا الخوف من الشكّ؟! أليس الشكّ مقدّمة اليقين؟ أم أنّ المطلوب أن يكون إيمان الناس بدينهم إيماناً مغلقاً وأعمى؟!

 

3-  إنّ الثقافة التعبّدية هي ثقافة تلقينيّة معلَّبة إسكاتية تمنع النقاش والتفكير الحرّ، وهذا أمرٌ مخالف للطبيعة البشرية، فإنّ الإنسان ليس كائناً مقفلاً وجامداً ليلقّن الأفكار تلقيناً وتُفرض عليه فرضاً، بل هو كائن مفكّر حساس مفعم بالمشاعر، يفتّش على الدوام عن الفكرة الأسلم التي يقنع بها عقله وتطمئن لها نفسه، ولهذا وجدنا شيخ الأنبياء إبراهيم الخليل(ع)، ورغم إيمانه واقتناعه عقلياً بقدرة الله تعالى على إحياء الموتى تصديقاً لكلام الله، لكنّه طلب البرهان الحسيّ على ذلك ليتنزَّل هذا الإيمان من منطقة العقل إلى منطقة القلب، فيشعر القلب بِبَرْدِ الإيمان كما شعر العقل بساطع البرهان، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}[البقرة: 260].

 

وهكذا نجد أنّ القرآن يعلّمنا أن لا نستسلم للفكرة استسلاماً، بل يدعونا إلى رفضها إن لم يعضدها الدليل القاطع والبرهان الساطع قال تعالى: {أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}[النمل: 64]، وقال سبحانه: {وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}[البقرة: 111] ، ويصف القرآن نفسه بأنّه برهان ونور: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً}[النساء: 174].

 

 

الخلط بين عالمَي الثقافة والإدارة

 

وقد يبرّر دعاة الثقافة التعبّدية فكرتهم بأدلّة وعناوين إسلامية، من قبيل ما دلّ على إطاعة الله ورسوله والتسليم لما ثبت من الدين، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}[النساء: 59]، وقال سبحانه: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً}[النساء: 65]، إلى غير ذلك من الآيات والروايات.

 

ويمكن التعليق على هذا الكلام: بأنّ هذه الآيات ليست واردةً في الحقل الثقافي المعرفي، بل هي واردة في الحقل الإداري التنظيمي، وفرق كبير بين الحقلين، فالحقل الثقافي لا مجال للتعبّد فيه، وليس من الإسلام في شيء القولُ بلزوم التسليم الأعمى والانقياد الأبله لأحد من الناس مهما علا شأنه ما دام غير معصوم، ولهذا رأينا أنّ صحابة الرسول (ص) وأتباع الأئمّة (ع)- وعلى الرغم من عصمة النبيّ (ع) وكذلك الإمام (ع) حسب العقيدة الشيعية- كانوا يسألونهم بلغة إشكالية اعتراضية لا عنادية، عن الخالق ومكانه وعدله وقدرته، وعن البعث والحساب، وعن أسرار التشريع وعلل الأحكام وغير ذلك من الأسئلة، وكان النبي (ص) والأئمة (ع) يتلقون أسئلتهم واعتراضاتهم بصدر رحب دون تأفّف أو إنكار، مما يشهد ويؤكّد أنّه لا تعبّد في الحقل الثقافي.

 

وأمّا الحقل التنظيمي الإداري، كما في المجال العسكري مثلاً، فهو يتحرّك على أساس الطاعة والانقياد للمدير المسؤول، منعاً للفوضى وحفظاً للنظام العام.

 

ولكن لا بدّ من الالتفات إلى أنَّ أمر المسؤول والفائد في المجال التنظيمي والإداري- ولو كان فقيهاً- لا يتحرّك في أُطُر غيبيّة تجمّد الفكر وتشلّه، بحيث يصل الحال- كما نلاحظ في بعض الأحيان - إلى درجة إلقاء المأمور نفسه في التهلكة، أو تجاوز الحدود الإلهية بحجّة إطاعة التكليف، فإنّ فكرة إطاعة المسؤول الواردة في الشرع ليست ابتداعاً دينياً، بل هي فكرة عقلائية جرت عليها الحياة البشريّة منذ بدء الخليقة وإلى يوم الناس هذا، ولا بدّ أن تُنزَّل الأوامر الشرعية بطاعة الولي والمدير والقائد على ذلك، أي لا بدّ من تقييد الإطاعة بما لا يؤدي إلى تجاوز الضوابط الإسلامية أو الحدود العقلائية، لأنّه كما جاء في الحديث عن رسول الله (ص): "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق"[3].

 

 

الخلط بين القوانين والأفكار

 

ومن الأمور التي ينبغي التنبّه لها، ما نلحظه من خلط بين شخصيّة الفقيه كحاكم وقائد، وشخصيته كمؤرخ أو مفكّر، حيث يتم النظر إلى الشخصيّتين بمنظار واحد والتعاطي مع ما يصدر عنه في القضايا العقائدية أو التاريخية بالطريقة نفسها التي يتعاطى بها مع ما يصدر عنه في القضايا التنظيمية أو الفقهية، مع أنّ بين الحقلين بوناً شاسعاً، فإنّ آراء الفقيه في القضايا التاريخية أو العقيدية أو السياسية التحليلية هي آراء شخصية وليست قوانين يُلزم الناس بالانقياد لها ولو كانوا من مقلّديه فضلاً عن غيرهم، وهذا بخلاف آرائه التنظيمية فإنّها ملزمة لكلّ أفراد الأمّة ممّن هم تحت ولايته ولو كانوا من غير مقلّديه.

 

وربّما تكون الهالة القدسية التي يضفيها المخيال الشعبي على الفقيه ويحاول البعض تعميمها وسحبها على كلّ "رجال الدين"، هي السبب في هذا الانقياد الأعمى له، والخلط بين ما يصدر عنه ممّا هو في دائرة الأحكام التنظيمية والتدبيرات السياسية أو الفتاوى ممّا يلزم إطاعته والعمل به، وبين ما يصدر عنه ممّا هو مندرج في دائرة الأفكار التاريخية أو المفاهيم العقيدية أو الآراء السياسية التحليلية، ممّا لا يلزم بإطاعته فيها.

 

 

من كتاب {العقل التكفيري قراءة في المنهج الاقصائي }

 

29/3/2014

 

 

 

 

 

 

 



[1] الكافي ج2 ص86.

 [2]المصدر نفسه ج1 ص23.

[3]المصنّف لابن أبي شيبة ج7 ص737، وهو مروي عن عليّ (ع)، نهج البلاغة ج4 ص410.

 






اضافة تعليق

الاسم *

البريد الإلكتروني *

موضوع *

الرسالة *


 


 
  قراءة الكتب
 
    Designed and Developed
       by CreativeLebanon