حوار مع مركز أفاق للدراسات والأبحاث: مشكلة الأديان تتشكل في الخطاب الفقهي    ثمن الحرية    أمثل الأساليب في عمليّة تهذيب النفس    مزايا الشباب    العمل سرّ النجاح    العبادة وعيٌ وانفتاح لا جهل وانغلاق    اقتناء أصنام الأمم البائدة    المفاهيم الدينية بين وجوب الاعتقاد وحرمة الانكار    البناء الاعتقادي بين الاجتهاد والتقليد    
 
بحث
 
تكريم الإنسان
 
س » أنا طالب علم، لدي خوف من أن أتكلم بغير علم.. ما الحل؟
ج »

وعليكم السلام

لا بد لطالب العلم في مساره العلمي أن يتسلح بأمرين أساسيين:
الأول: الاستنفار العلمي وبذل الجهد الكافي لمعرفة قواعد فهم النص واستكناه معناه ودلالاته بما يعينه على التفقه في الدين وتكوين الرأي على أسس صحيحة.
الثاني: التقوى العلمية ويُراد بها استحضار الله سبحانه وتعالى في النفس حذراً من الوقوع في فخ التقوّل على الله بغير علم. ومن الضروري أن يعيش مع نفسه حالة من المحاسبة الشديدة ومساءلة النفس من أن دافعه إلى تبني هذا الرأي أو ذاك: هل هو الهوى والرغبة الشخصية أم أن الدافع هو الوصول إلى الحقيقة ولو كانت على خلاف الهوى.
أعتقد أن طالب العلم إذا أحكم هذين الامرين فإنه سيكون موفقاً في مسيرته العلمية وفيما يختاره من آراء أو يتبناه من موقف.

 
س » كيف علمنا أن الصحيفة السجادية ناقصة؟ وهل ما وجده العلماء من الأدعية صحيح؟؟
ج »

أقول في الإجابة على سؤالكم:

أولاً: إن الصحيفة السجادية في الأصل تزيد على ما هو واصل إلينا وموجود بين أيدينا، قال المتوكل بن هارون كما جاء في مقدمة الصحيفة: " ثم أملى عليّ أبو عبد الله (ع) الأدعية، وهي خمسة وسبعون باباً، سقط عني منها أحد عشر باباً، وحفظت منها نيفاً وستين باباً"، بيد أن الموجود فعلاً في الصحيفة الواصلة إلينا هو أربعة وخمسون دعاء. آخرها دعاؤه في استكشاف الهموم، وهذا آخر دعاء شرحه السيد علي خان المدني في رياض السالكين، وكذا فعل غيره من الأعلام.

ثانياً: إن سقوط عدد من أدعية الصحيفة وضياعها دفع غير واحد من الأعلام للبحث والتتبع في محاولة لمعرفة ما هو الضائع منها، وبحدود اطلاعي فإنهم عثروا على أدعية كثيرة مروية عن الإمام زين العابدين (ع)، لكنهم لم يصلوا إلى نتائج تفيد أن ما عثروا عليه هو من الأدعية الناقصة منها، ولذا عنونوا مؤلفاتهم بعنوان مستدركات على الصحيفة، ولم يجزموا أن ما جمعوه من أدعية هو الضائع من أدعية الصحيفة. وهذا ما تقتضيه الضوابط العلمية والدينية، فما لم يعثر الإنسان على نسخة قديمة موثوقة أو قرائن مفيدة للوثوق بأن هذا الدعاء أو ذاك هو من جملة أدعية الصحيفة فلا يصح له إضافة بعض الأدعية على الصحيفة بعنوان كونها منها.

ثالثاً: لقد ابتُلينا بظاهرة خطيرة، وهي ظاهرة الإضافة على الصحيفة أو غيرها من كتب الأدعية، وهذا العمل هو خلاف الأمانة والتقوى، وقد ترتّب على ذلك الكثير من المفاسد، وأوجب ذلك وهماً للكثيرين، فتوهموا أن بعض الأدعية هي جزء من الصحيفة السجادية المشهورة، ومردّ ذلك بكل أسف إلى أن مجال الأدعية والزيارات شرعة لكل وارد، وتُرك لأصحاب المطابع والمطامع! وأعتقد أن هذا العبث في كتب الأدعية والزيارات ناشئ عن عدم عناية العلماء بالأمر بهذه الكتب كما ينبغي ويلزم، كما نبه عليه المحدث النوري في كتابه "اللؤلؤ والمرجان" مستغرباً صمت العلماء إزاء التلاعب والعبث بنصوص الأدعية والزيارات مما يعدّ جرأة عظيمة على الله تعالى ورسوله (ص)!

رابعاً: أما ما سألتم عنه حول مدى صحة الأدعية الواردة بعد دعاء استكشاف الهموم، فهذا أمر لا يسعنا إعطاء جواب حاسم وشامل فيه، بل لا بدّ أن يدرس كل دعاء على حدة، ليرى ما إذا كانت قرائن السند والمتن تبعث على الحكم بصحته أم لا. فإن المناجاة الخمس عشرة بنظرنا لم تصح وربما كانت من وضع الصوفية، وقد أوضحنا ذلك بشكل مفصل في كتاب الشيع والغلو.


 
س » ابني المراهق يعاني من التشتت، وأنا جدا قلق ولا اعرف التصرف معه، ما هي نصيحتكم؟
ج »

التشتت في الانتباه في سن المراهقة مع ما يرافقه من الصعوبات هو في حدود معينة أمر طبيعي وظاهرة تصيب الكثير من المراهقين ولا سيما في عصرنا هذا.

وعلينا التعامل مع هذه المرحلة بدقة متناهية من الاستيعاب والتفهم والإرشاد والتوجيه وتفهم سن المراهق، وأن هذه المرحلة تحتاج إلى أسلوب مختلف عما سبقها.

فالمراهق ينمو لديه الإحساس بالذات كثيرا حتى ليخيل إليه أنه لم يعد بحاجة إلى الاحتضان والرعاية من قِبل والديه.

وبالتالي علينا أن نتعامل معه بأسلوب المصادقة "صادقه سبعا.." والتنبه جيدا للمؤثرات التي تسهم في التأثير على شخصيته واستقامته وتدينه، ومن هذه المؤثرات: الأصدقاء ووسائل التواصل الاجتماعي، فإن نصيبها ودورها في التأثير على المراهق هو أشد وأعلى من دورنا.

وفي كل هذه المرحلة علينا أن نتحلى بالصبر والأناة والتحمل، وأن نبتدع أسلوب الحوار والموعظة الحسنة والتدرج في العمل التربوي والرسالي.

نسأل الله أن يوفقكم وأن يقر أعينكم بولدكم وأن يفتح له سبيل الهداية. والله الموفق.


 
س » اعاني من عدم الحضور في الصلاة، فهل أحصل على الثواب؟
ج »
 
لا شك أن العمل إذا كان مستجمعا للشرائط الفقهية، فهو مجزئٌ ومبرئٌ للذمة. أما الثواب فيحتاج إلى خلوص النية لله تعالى بمعنى أن لا يدخل الرياء ونحوه في نية المصلي والعبادة بشكل عام.
ولا ريب أنه كلما كان الإنسان يعيش حالة حضور وتوجه إلى الله كان ثوابه أعلى عند الله، لكن لا نستطيع نفي الثواب عن العمل لمجرد غياب هذا الحضور في بعض الحالات بسبب الظروف الضاغطة على الإنسان نفسيا واجتماعيا.
لكن على الإنسان أن يعالج مشكلة تشتت الذهن أثناء العمل العبادي وذلك من خلال السعي الجاد للتجرد والابتعاد عن كل الهواجس والمشكلات أثناء الإقبال على الصلاة، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، باستحضار عظمة الله عز وجل في نفوسنا وأنه لا يليق بنا أن نواجهه بقلب لاهٍ وغافل. والله الموفق.

 
س » أنا إنسان فاشل، ولا أتوفق في شيء، وقد كتب عليّ بالخسارة، فما هو الحل؟
ج »

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

أولاً: التوفيق في الحياة هو رهن أخذ الإنسان بالأسباب التي جعلها الله موصلة للنجاح، فعلى الإنسان أن يتحرك في حياته الشخصية والمهنية والاجتماعية وفق منطق الأسباب والسنن. على سبيل المثال: فالإنسان لن يصل إلى مبتغاه وهو جليس بيته وحبيس هواجسه، فإذا أراد الثروة فعليه أن يبحث عن أسباب الثروة وإذا أراد الصحة فعليه أن يأخذ بالنصائح الطبية اللازمة وإذا أراد حياة اجتماعية مستقرة عليه أن يسير وفق القوانين والضوابط الإسلامية في المجال الاجتماعي وهكذا.

ثانياً: لا بد للإنسان أن يعمل على رفع معوقات التوفيق، وأني أعتقد أن واحدة من تلك المعوقات هي سيطرة الشعور المتشائم على الإنسان بحيث يوهم نفسه بأنه إنسان فاشل وأنه لن يوفق وأنه لن تناله البركة الإلهية.

إن هذا الإحساس عندما يسيطر على الإنسان فإنه بالتأكيد يجعله إنسانا فاشلا ومحبطا ولن يوفق في حياته ولذلك نصيحتي لك أن تُبعد مثل هذا الوهم عن ذهنك وانطلق في الحياة فإن سبيل الحياة والتوفيق لا تعد ولا تحصى.


 
س » ما هو هدف طلب العلم الذي يجب أن يكون؟
ج »

عندما ينطلق المسلم في طلبه للعلم من مسؤوليته الشرعية الملقاة على عاتقه ومن موقع أنه خليفة الله على الأرض، فإن ذلك سوف يخلق عنده حافزاً كبيراً للجد في طلب العلم والوصول إلى أعلى المراتب. أما إذا انطلق في تحصيله من موقع المباهاة أو إثبات ذاته في المجتمع أو من موقع من يريد أن يزين اسمه بالشهادة الجامعية ليُقال له "الدكتور" وما إلى ذلك، فإنه - في الغالب - لن يصل إلى النتيجة المرجوة.

وعلى كل إنسان منا أن يعي أنّنا في هذه الحياة مسؤولون في أن نترك أثراً طيباً، وأن نقوم بواجباتنا قبل أن يطوينا الزمان، إننا مسؤولون عن عمرنا فيما أفنيناه وعن شبابنا فيما أبليناه، وسنُسأل يوم القيامة عن كل هذه الطاقات التي منّ اللهُ بها علينا.

وأضف إلى ذلك، إنه من الجدير بالمسلم، أن لا يفكر في نفسه وما يريحه هو فحسب في طلبه للعلم، بل أن يفكر أيضاً في أمته والنهوض بها ليكون مستقبلها زاهراً، وهذا كله يحتم عليه أن يكون سقف طموحاته عالياً ليتمكن هو وأقرانه من الطلاب والعلماء من ردم الفجوة بيننا وبين الغرب الذي سبقنا على أكثر من صعيد.

باختصار: إن مسؤوليتنا ورسالتنا وانتماءنا لهذه الأمة يفرض علينا أن نعيش حالة طوارئ ثقافية وعلمية.


 
س » ما رأيكم في الاختلاط المنتشر في عصرنا، وكيف نحاربه؟
ج »

إنّ الاختلاط قد أصبح سمة هذا العصر في كثير من الميادين، ومنها الجامعات والطرقات والساحات وكافة المرافق العامة.. والاختلاط في حد ذاته ليس محرماً ما لم يفضِ إلى تجاوز الحدود الشرعية في العلاقة بين الرجل والمرأة الأجنبيين؛ كما لو أدى إلى الخلوة المحرمة بالمرأة أو مصافحتها أو كان المجلس مشوباً بأجواء الإثارة الغرائزية أو غير ذلك مما حرمه الله تعالى.

وفي ظل هذا الواقع، فإنّ العمل على تحصين النفس أولى من الهروب أو الانزواء عن الآخرين بطريقة تشعرهم بأن المؤمنين يعيشون العُقد النفسية. إن على الشاب المسلم أن يثق بنفسه وأن يفرض حضوره ووقاره، وأن يبادر إلى إقناع الآخرين بمنطقه وحججه، وأن يبيّن لهم أن الانحراف والتبرج والفجور هو العمل السيّئ الذي ينبغي أن يخجل به الإنسان، وليس الإيمان ومظاهر التدين.

وأننا ندعو شبابنا عامة وطلاب الجامعات خاصة من الذكور والإناث إلى أن يتزينوا بالعفاف، وأن يحصنوا أنفسهم بالتقوى بما يصونهم من الوقوع في الحرام.


 
س » كيف يمكن التخلص من السلوكيات والعادات السيئة؟
ج »

إن التغلب على السلوكيات الخاطئة أو العادات السيئة – بشكل عام – يحتاج بعد التوكل على الله تعالى إلى:

أولاً: إرادة وتصميم، ولا يكفي مجرد الرغبة ولا مجرد النية وانما يحتاج بالإضافة إلى ذلك إلى العزم والمثابرة وحمل النفس على ترك ما اعتادته.

ثانياً: وضع برنامج عملي يمكّن الإنسان من الخروج من هذه العادة السيئة بشكل تدريجي؛ وأرجو التركيز على مسألة "التدرج" في الخروج من هذه العادات السيئة؛ لأن إدمان النفس على الشيء يجعل الخروج منه صعباً ويحتاج إلى قطع مراحل، وأما ما يقدم عليه البعض من السعي للخروج الفوري من هذه العادة، فهو - بحسب التجربة - سيُمنى في كثير من الأحيان بالفشل. والله الموفق


 
 
  مقالات >> فقهية
غياب الممارسة النقدية
الشيخ حسين الخشن



 

غياب الممارسة النقدية

 

 

وقيمة أخرى نراها غائبة أو مغيّبة ولا وجود لها في قاموس الكثير من الحركات الإسلامية ولاسيما السلفية التكفيرية منها، وهي قيمة النقد والمصارحة والمساءلة، ويحلّ محلها لغة التسليم الأعمى ومنطق "نفّذ ثم اعترض" وأنّ الأمير يُطاع ولا يناقَش وما إلى ذلك من تعبيرات تعكس ثقافة القمع والصمت والإسكات، وغياب هذه القيمة عن قاموس العقل التكفيري هو نتيجة طبيعيّة لتحكم الذهنية التعبديّة بهذا العقل.

 

 

مشروعية النقد

 

هذا مع أنّ النقد حالةٌ فطريةٌ تفرضها طبيعة الإنسان كما يوحي بذلك قوله تعالى: {وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً}[الكهف: 54]، حتى أنّنا نجد هذه الطبيعة لصيقة بكلِّ المخلوقات العاقلة، بما في ذلك الملائكة والجنّ، ولهذا انطلق التساؤل النقدي البريء من الملائكة عندما أعلمهم الله باستخلاف آدم على الأرض: {قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ}[البقرة: 30]، والأمر نفسه قد حصل مع إبليس في رفضه السجود لآدم مع فارق جوهري، وهو أنّ إبليس انطلق من حال تمرّد على الله خلافاً للملائكة.

 

 

ولو غضَّينا النظر عن ذلك وأردنا الاستدلال على مشروعية الممارسة النقدية بالطريقة التقليدية لقلنا:

 

أولاً: إنّ الأنبياء (ع) مارسوا النقد كما يظهر للمتأمّل في سيرتهم التي عرضها القرآن، فهذا نبيّ الله موسى (ع) ينتقد أخاه هارون على عدم اتّباع طريقته في التشدّد مع بني إسرائيل، قال تعالى: {قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي}[طه: 92- 93]، وهكذا نقدَ موسى (ع) العبدَ الصالحَ على تصرّفاته التي لم يُحِط بها خبراً ووجدها معارضة لظواهر الشريعة من قَتْل الغلام وخرق السفينة وإقامة الجدار.

 

ثانياً: إنّ عنوان النقد يندرج ويلتقي مع عنوان النصيحة أو المعاتبة أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذه العناوين قد أكّدت النصوص الدينية على مشروعيّتها، فاعتبرت الآيات القرآنية أنّ النصح من وظيفة الأنبياء والرسل، قال تعالى على لسان نوح: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ}[الأعراف: 62][1] ويلخّص رسول الله (ص) الدين بالنصيحة، يقول (ص): "إنّ الدين النصيحة"، ولما سُئِل لمن؟ قال: "لله ولكتابه ولرسوله ولأئمّة المسلمين وعامتهم"[2]، وتعتبر بعض الروايات أنّ ترك النصيحة للآخر خيانة، فعن الإمام الصادق (ع): "مَنْ رأى أخاه على أمر يكرهه فلم يردّ عنه وهو يقدر فقد خانه"[3].

 

 وعن أبي الحسن الثالث علي بن محمد الهادي (ع): قال لبعض مواليه: "عاتب فلاناً وقل له: إنّ الله إذا أراد بعبد خيراً إذا عوتب قبل"[4]، وعدّت بعض النصوص النصيحة "لجماعة المسلمين" في عداد أمور تُدخل الجنة[5]، وعن أمير المؤمنين (ع): "مِنْ أحسن النصيحة الإبانة عن القبيحة"، وقال: "لا نصح كالتحذير"، ومن "حذّرك كمن بشّرك"[6]، والنصوص في هذا المجال كثيرة.

 

وعن رسول الله (ص) أنّه قال ذات يوم وهو المعصوم المسدّد من الله: "أشيروا عليّ"[7] قاصداً ترشيد الأمّة وتبصيرها وتعليمها الفكر النقدي الذي لا يستبدّ صاحبه برأيه ولا يُصرّ على خطئه.

 

 

ضرورة النقد

 

وانطلاقاً ممّا تقدّم، يكون النقد أكثر من مجرّد أمر مشروع أكّدته النصوص الدينية وممارسات المعصومين ودعواتهم، بل هو ضرورة دينية إسلامية يُلام الإنسان على ترك الأخذ بها لا على فِعْلِها، لأنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبٌ شرعيّ، والنُّصح مطلوب ومرغوب شرعاً، وقد عدّ الإمام الصادق (ع) في حديثه الآنف ترك النقد خيانةً، عندما يكون الآخر- فرداً أو جماعةً- في معرض ارتكاب خطأ في قول أو فعل، ومن هنا يكون من الضروري والملحّ جداً تعميم ثقافة النقد والتبشير بها بدل اعتبارها مسّاً بكرامة الآخر وهتكاً لحرمته.

 

 

النقد وترشيد الفكر وتقويم الخطى

 

إنّ الأُمة أو الجماعة أو الحركة التي تنعدم أو تخفت فيها ثقافة النقد لتحلّ محلّها ثقافة الطاعة والانقياد الأعمى، محكومة بإنتاج قادة طغاة وجبابرة، وخَلْقِ حالةٍ من التخشّب والجمود في كيانها، ما قد يجرّ إلى التعثّر أو السقوط، بينما تُشكّل المساءلة والمحاسبة ركناً أساسياً في حيوية وفاعلية واستمرارية الحياة الفكرية والاجتماعية والسياسية، لأنّها تُسهم في إثراء الفكر وترشيده، وإنضاج التجارب وتصويبها، وتسديد الخطى وتقويمها، وتمييز الحسن من الأفكار والبرامج من فاسدها، والصالح من الأفراد عن الطالح، قال عليّ (ع) فيما يُروى عنه: "الشركة في الرأي تؤدّي إلى الصواب" وعنه (ع) في حديث آخر: "امخضوا الرأي مخض السّقاء ينتج سديد الآراء"[8].

 

إنّ غياب الثقافة النقدية عن واقع أمّتنا وما رافقه من تنظير لثقافة الطاعة- حتى في ما لا ربط له بالطاعة ونظم الأمر- وإلباسها لبوساً إسلامياً من قبيل المفاهيم القائلة: "إنّ السلطان ظلّ الله على الأرض" و"أنّه يد" و"أنّه لا يجوز الخروج عليه ولو كان جائراً"، إنّ ذلك كلّه ساهم في نشوء ظاهرة الطغيان والاستبداد الذي عانت منه أُمّتنا لقرونٍ عديدة ولا تزال، وكانت نتائج ذلك الطبيعية: انحسار مساحة الحريّات، وإصابة الحياة السياسيّة والاقتصاديّة والأمنيّة والفكريّة بالشلل أو التراجع، وقد قالها الإمام عليّ (ع): "مَن استبدّ برأيه هلك ومن شاور الرجال شاركها في عقولها"[9].

 

 

النقد المسموح والممنوع

 

إنّ الفارق بين النقد المسموح والنقد الممنوع كبير جداً، بحجم الفارق بين النصيحة والفضيحة، وبين التوضيح والتجريح، وبين الأمانة والخيانة، وبين الفتق والرتق، وبين تسديد الخطى وتسجيل النقاط.

 

فلا يُتوهّم أنّ النقد يلتقي أو يندرج تحت عنوان الغيبة أو عنوان هتك الآخر وفضحه، أو نحو ذلك من العناوين المذمومة شرعاً، فإنّ الغيبة هي كشف عيوب الآخر ممّا يرتبط بحياته الخاصة الشخصية، وأمّا النقد فهو عبارة عن الاعتراض على الآخر والتنديد بأخطائه فيما يرتبط بمواقفه وأفعاله وأقواله في الحياة العامة وما يتّصل بمصلحة الأُمّة، فالحياة الشخصية تُعتبر منطقة محرَّمة على الآخرين، لا يجوز لهم اقتحامها، وأمّا مواقف الآخر وآراؤه الفكرية والسياسية فهي ليست ملكاً شخصيّاً له، بل إنّها نشاط في الحقل العام، وهي ملك للأُمّة، ومن حقّها أن تتدخّل لتقويم أو تسديد ما يمسّها من أفعال وأقوال. وعن علي (ع) أنّه قال: "أيّها الناس إنّ لي عليكم حقّاً ولكم عليّ حقّ، فأمّا حقّكم عليّ فالنصيحة لكم... وأمّا حقّي عليكم فالوفاء بالبيعة، والنصيحة في المشهد والمغيب..."[10]. فالنصيحة وظيفة متبادلة بين الحاكم والأمّة، كما بين أبناء الأمّة أنفسهم، وهي حقٌّ للحاكم على الأمّة وللأمّة على الحاكم، ولا يُسمح للإنسان بأن يتجاوز حقوق الآخرين.

 

 

آداب النقد وشروطه

 

بالإضافة إلى أنّ الممارسة النقدية يجب أن تبتعد عن دائرة التجريح الشخصي وكشف المعايب وفضح الأسرار الخاصة، فإنّه لا بدّ لهذه الممارسة أن تتحرّك أيضاً في إطار القول بالحقّ والحكم على أساس العلم والبرهان، وتبتعد عن الخوض وفق الأوهام والظنون، قال تعالى: {هَا أَنتُمْ هَؤُلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ}[آل عمران: 66]. وقال تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}[الإسراء: 36].

 

وهكذا يجب أن يكون النقد هادفاً، لأنّ الإسلام لا يؤمن بالنقد العابث أو ما يُسمّى بالنقد لأجل النقد، والمعارضة لأجل المعارضة، وإنّما من حقّنا بل ينبغي علينا أن ننقد الآخر بهدف تسديد خطاه وتصويب فكره، ولو أنّ الممارسة النقدية تحرّكت ضمن هذه الضوابط، فإنّها بالتأكيد ستساعد على تلاحم أبناء المجتمع، وستعود بالخير على المنقود قبل الناقد، ويتحوّل الناقد إلى صديق للمنقود لا عدواً له، قال عليّ (ع) فيما يروى: "النصح يثمر المحبّة"، وعنه (ع): "لا عداوة مع نصح"[11]، وفي كلمة ثالثة له (ع): "العتاب حياة المودة"، وفي كلمة رابعة له (ع): "مَن أحبّك نهاك"[12].

 

 

نقد القيادة وإضعافها

 

وفي المقابل، قد يحلو للبعض ممَّن يرون إقفال باب النقد على أساس أنّ يبرّروا رفض الممارسة النقدية بأنَّ فتح هذا الباب على مصراعيه بما يشمل القادة– ولاسيّما الدينيّين- يؤدّي إلى إضعاف موقع القيادة ويجرّيء الناس على النيل منها والحطّ من كرامتها.

 

ولكنّنا نلاحظ على ذلك، أنّ الأُمّة التي تُثقَّف على معرفة الفرق الكبير بين النقد والتجريح سوف تتعامل مع نقد القائد في مواقفه أو فكره تعاملاً إيجابيّاً، وترى أنّ ذلك يحصّن موقع القيادة ويقوّيها لا أنّه يُضعفها، وأنَّ إقفال هذا الباب ومنع الأمّة من التعبير عن آرائها النقدية بطريقة حضارية قد يولِّد ردّة فعل سلبيّة تجاه القائد والنظام الذي يحميه من النقد.

 

والمفارقة الكبرى أن ترى عليّاً، وهو المعصوم في فكره المتسامي في عقله وعواطفه، يدعو الناس ويجتذبهم إلى مراقبته ونقده ويحثّهم على إبداء المشورة له في زمنٍ كانت سيرة الحاكم جارية على كمِّ الأفواه المعارضة، وذلك في كلمته الشهيرة: "فلا تكلّموني بما تكلَّم به الجبابرة، ولا تتحفّظوا منّي بما يتحفّظ به عند أهل البادرة، ولا تخالطوني بالمصانعة، ولا تظنّوا بي استثقالاً في حقٍّ قيل لي، ولا التماس إعظام لنفسي، فإنّ مَن استثقل الحقّ أن يُقال له، أو العدل أن يُعرَض عليه، كان العمل بهما عليه أثقل، فلا تكفّوا عن مقالةٍ بحقٍّ أو مشورة بعدل.."[13].

 

لكنّنا، ونحن نزعم الانتماء إلى مدرسة عليّ (ع)، نرفض نقد القادة ونُضفي عليهم هالة من القداسة المصطنعة، مع أنّ نقد القيادة ومساءلتها عندما يتحرّك ضمن الضوابط المتقدِّمة، يعود بالخير على الأُمّة جمعاء، لأنّه يحُول دون نشوء ظاهرة الاستبداد السياسي، وكذا الاستبداد الدينيّ الذي يُعتبر من أسوأ أنواع الاستبداد، وقد تكون الممارسة النقدية هي الضمانة الوحيدة التي تجنّبنا الوقوع في شرك هذا الاستبداد، وقد تنبّه لخطورة هذا الأمر الفقيه الشيعي الكبير الشيخ النائيني (1857م- 1936م) في رسالته "تنبيه الأُمة وتنزيه الملّة"[14] والتي تُعتبر أهم وثيقة في الفقه السياسيّ عند الشيعة الإمامية، فإنّه قد أكّد على تقسيم الاستبداد إلى استبدادٍ سياسي وآخر ديني، وعلى ربط كلّ منهما بالآخر واعتبارهما توأمين متآخيين، ويدعو إلى تشكيل هيئة مراقبة ومحاسبة "من عقلاء الأُمة وعلمائها الخبراء بالحقوق الدولية المطّلعين على مقتضيات العصر وخصائصه، ليقوموا بدور المحاسبة والمراقبة تجاه ولاة الأمور الماسكين بزمام الدولة بغية الحيلولة دون حصول أيّ تجاوز أو تفريط... ولا تتحقّق وظيفتهم من المحاسبة والمراقبة وحفظ محدودية السلطة ومَنْع تحولها إلى ملوكية، إلاّ إذا كان جميع موظَّفي الدولة، وهم القوّة التنفيذية في البلاد، تحت نظارة ومراقبة هذه الهيئة التي يجب أن تكون هي الأخرى مسؤولة أمام كلّ فرد من أفراد الأُمة..."[15].

 

وقد سبقه للتنبيه على ذلك المفكِّر الكبير عبد الرحمن الكواكبي (1854- 1902) في كتابه "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد"، معتبِراً أنّ القهر أو الاستبداد هو سرّ تخلُّف هذه الأمّة، ومتحدِّثاً عن العلاقة بين الاستبداد السياسي والاستبداد الديني.

 

 

 

من كتاب "العقل التكفيري قراءة في المفهوم الاقصائي"

9/4/2014

 


[1] وراجع الأعراف: 68- 79- 93، التوبة: 91.

[2] راجع سنن أبي داوود ج2 ص 465 وغيره.

[3] الأمالي للصدوق ص343.

 [4]وسائل الشيعة ج12 ص18، الحديث9، الباب من أبواب أحكام العِشرة.

 [5]راجع بحار الأنوار ج72 ص65.

 [6]انظر: تصنيف غرر الحكم ص225.

 [7]كنز العمال ج10 ص 423 رقم 30021.

[8]تصنيف غرر الحكم ص442.

[9] نهج البلاغة ج4 ص41.

 [10]نهج البلاغة ج1 ص84.

 [11]تصنيف غرر الحكم ص226.

[12] المصدر نفسه ص 414.

[13]نهج البلاغة ص334.

[14] نُشرت الرسالة بالعربية في كتاب بعنوان "ضدّ الاستبداد"، تأليف: د.توفيق السيف، وصدرت عن المركز الثقافي العربي – بيروت والدار البيضاء.

[15]تنبيه الأمة وتنزيه الملة، ص: 106-114.

 






اضافة تعليق

الاسم *

البريد الإلكتروني *

موضوع *

الرسالة *


 


 
  قراءة الكتب
 
    Designed and Developed
       by CreativeLebanon