حوار مع مركز أفاق للدراسات والأبحاث: مشكلة الأديان تتشكل في الخطاب الفقهي    ثمن الحرية    أمثل الأساليب في عمليّة تهذيب النفس    مزايا الشباب    العمل سرّ النجاح    العبادة وعيٌ وانفتاح لا جهل وانغلاق    اقتناء أصنام الأمم البائدة    المفاهيم الدينية بين وجوب الاعتقاد وحرمة الانكار    البناء الاعتقادي بين الاجتهاد والتقليد    
 
بحث
 
تكريم الإنسان
 
س » أنا طالب علم، لدي خوف من أن أتكلم بغير علم.. ما الحل؟
ج »

وعليكم السلام

لا بد لطالب العلم في مساره العلمي أن يتسلح بأمرين أساسيين:
الأول: الاستنفار العلمي وبذل الجهد الكافي لمعرفة قواعد فهم النص واستكناه معناه ودلالاته بما يعينه على التفقه في الدين وتكوين الرأي على أسس صحيحة.
الثاني: التقوى العلمية ويُراد بها استحضار الله سبحانه وتعالى في النفس حذراً من الوقوع في فخ التقوّل على الله بغير علم. ومن الضروري أن يعيش مع نفسه حالة من المحاسبة الشديدة ومساءلة النفس من أن دافعه إلى تبني هذا الرأي أو ذاك: هل هو الهوى والرغبة الشخصية أم أن الدافع هو الوصول إلى الحقيقة ولو كانت على خلاف الهوى.
أعتقد أن طالب العلم إذا أحكم هذين الامرين فإنه سيكون موفقاً في مسيرته العلمية وفيما يختاره من آراء أو يتبناه من موقف.

 
س » كيف علمنا أن الصحيفة السجادية ناقصة؟ وهل ما وجده العلماء من الأدعية صحيح؟؟
ج »

أقول في الإجابة على سؤالكم:

أولاً: إن الصحيفة السجادية في الأصل تزيد على ما هو واصل إلينا وموجود بين أيدينا، قال المتوكل بن هارون كما جاء في مقدمة الصحيفة: " ثم أملى عليّ أبو عبد الله (ع) الأدعية، وهي خمسة وسبعون باباً، سقط عني منها أحد عشر باباً، وحفظت منها نيفاً وستين باباً"، بيد أن الموجود فعلاً في الصحيفة الواصلة إلينا هو أربعة وخمسون دعاء. آخرها دعاؤه في استكشاف الهموم، وهذا آخر دعاء شرحه السيد علي خان المدني في رياض السالكين، وكذا فعل غيره من الأعلام.

ثانياً: إن سقوط عدد من أدعية الصحيفة وضياعها دفع غير واحد من الأعلام للبحث والتتبع في محاولة لمعرفة ما هو الضائع منها، وبحدود اطلاعي فإنهم عثروا على أدعية كثيرة مروية عن الإمام زين العابدين (ع)، لكنهم لم يصلوا إلى نتائج تفيد أن ما عثروا عليه هو من الأدعية الناقصة منها، ولذا عنونوا مؤلفاتهم بعنوان مستدركات على الصحيفة، ولم يجزموا أن ما جمعوه من أدعية هو الضائع من أدعية الصحيفة. وهذا ما تقتضيه الضوابط العلمية والدينية، فما لم يعثر الإنسان على نسخة قديمة موثوقة أو قرائن مفيدة للوثوق بأن هذا الدعاء أو ذاك هو من جملة أدعية الصحيفة فلا يصح له إضافة بعض الأدعية على الصحيفة بعنوان كونها منها.

ثالثاً: لقد ابتُلينا بظاهرة خطيرة، وهي ظاهرة الإضافة على الصحيفة أو غيرها من كتب الأدعية، وهذا العمل هو خلاف الأمانة والتقوى، وقد ترتّب على ذلك الكثير من المفاسد، وأوجب ذلك وهماً للكثيرين، فتوهموا أن بعض الأدعية هي جزء من الصحيفة السجادية المشهورة، ومردّ ذلك بكل أسف إلى أن مجال الأدعية والزيارات شرعة لكل وارد، وتُرك لأصحاب المطابع والمطامع! وأعتقد أن هذا العبث في كتب الأدعية والزيارات ناشئ عن عدم عناية العلماء بالأمر بهذه الكتب كما ينبغي ويلزم، كما نبه عليه المحدث النوري في كتابه "اللؤلؤ والمرجان" مستغرباً صمت العلماء إزاء التلاعب والعبث بنصوص الأدعية والزيارات مما يعدّ جرأة عظيمة على الله تعالى ورسوله (ص)!

رابعاً: أما ما سألتم عنه حول مدى صحة الأدعية الواردة بعد دعاء استكشاف الهموم، فهذا أمر لا يسعنا إعطاء جواب حاسم وشامل فيه، بل لا بدّ أن يدرس كل دعاء على حدة، ليرى ما إذا كانت قرائن السند والمتن تبعث على الحكم بصحته أم لا. فإن المناجاة الخمس عشرة بنظرنا لم تصح وربما كانت من وضع الصوفية، وقد أوضحنا ذلك بشكل مفصل في كتاب الشيع والغلو.


 
س » ابني المراهق يعاني من التشتت، وأنا جدا قلق ولا اعرف التصرف معه، ما هي نصيحتكم؟
ج »

التشتت في الانتباه في سن المراهقة مع ما يرافقه من الصعوبات هو في حدود معينة أمر طبيعي وظاهرة تصيب الكثير من المراهقين ولا سيما في عصرنا هذا.

وعلينا التعامل مع هذه المرحلة بدقة متناهية من الاستيعاب والتفهم والإرشاد والتوجيه وتفهم سن المراهق، وأن هذه المرحلة تحتاج إلى أسلوب مختلف عما سبقها.

فالمراهق ينمو لديه الإحساس بالذات كثيرا حتى ليخيل إليه أنه لم يعد بحاجة إلى الاحتضان والرعاية من قِبل والديه.

وبالتالي علينا أن نتعامل معه بأسلوب المصادقة "صادقه سبعا.." والتنبه جيدا للمؤثرات التي تسهم في التأثير على شخصيته واستقامته وتدينه، ومن هذه المؤثرات: الأصدقاء ووسائل التواصل الاجتماعي، فإن نصيبها ودورها في التأثير على المراهق هو أشد وأعلى من دورنا.

وفي كل هذه المرحلة علينا أن نتحلى بالصبر والأناة والتحمل، وأن نبتدع أسلوب الحوار والموعظة الحسنة والتدرج في العمل التربوي والرسالي.

نسأل الله أن يوفقكم وأن يقر أعينكم بولدكم وأن يفتح له سبيل الهداية. والله الموفق.


 
س » اعاني من عدم الحضور في الصلاة، فهل أحصل على الثواب؟
ج »
 
لا شك أن العمل إذا كان مستجمعا للشرائط الفقهية، فهو مجزئٌ ومبرئٌ للذمة. أما الثواب فيحتاج إلى خلوص النية لله تعالى بمعنى أن لا يدخل الرياء ونحوه في نية المصلي والعبادة بشكل عام.
ولا ريب أنه كلما كان الإنسان يعيش حالة حضور وتوجه إلى الله كان ثوابه أعلى عند الله، لكن لا نستطيع نفي الثواب عن العمل لمجرد غياب هذا الحضور في بعض الحالات بسبب الظروف الضاغطة على الإنسان نفسيا واجتماعيا.
لكن على الإنسان أن يعالج مشكلة تشتت الذهن أثناء العمل العبادي وذلك من خلال السعي الجاد للتجرد والابتعاد عن كل الهواجس والمشكلات أثناء الإقبال على الصلاة، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، باستحضار عظمة الله عز وجل في نفوسنا وأنه لا يليق بنا أن نواجهه بقلب لاهٍ وغافل. والله الموفق.

 
س » أنا إنسان فاشل، ولا أتوفق في شيء، وقد كتب عليّ بالخسارة، فما هو الحل؟
ج »

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

أولاً: التوفيق في الحياة هو رهن أخذ الإنسان بالأسباب التي جعلها الله موصلة للنجاح، فعلى الإنسان أن يتحرك في حياته الشخصية والمهنية والاجتماعية وفق منطق الأسباب والسنن. على سبيل المثال: فالإنسان لن يصل إلى مبتغاه وهو جليس بيته وحبيس هواجسه، فإذا أراد الثروة فعليه أن يبحث عن أسباب الثروة وإذا أراد الصحة فعليه أن يأخذ بالنصائح الطبية اللازمة وإذا أراد حياة اجتماعية مستقرة عليه أن يسير وفق القوانين والضوابط الإسلامية في المجال الاجتماعي وهكذا.

ثانياً: لا بد للإنسان أن يعمل على رفع معوقات التوفيق، وأني أعتقد أن واحدة من تلك المعوقات هي سيطرة الشعور المتشائم على الإنسان بحيث يوهم نفسه بأنه إنسان فاشل وأنه لن يوفق وأنه لن تناله البركة الإلهية.

إن هذا الإحساس عندما يسيطر على الإنسان فإنه بالتأكيد يجعله إنسانا فاشلا ومحبطا ولن يوفق في حياته ولذلك نصيحتي لك أن تُبعد مثل هذا الوهم عن ذهنك وانطلق في الحياة فإن سبيل الحياة والتوفيق لا تعد ولا تحصى.


 
س » ما هو هدف طلب العلم الذي يجب أن يكون؟
ج »

عندما ينطلق المسلم في طلبه للعلم من مسؤوليته الشرعية الملقاة على عاتقه ومن موقع أنه خليفة الله على الأرض، فإن ذلك سوف يخلق عنده حافزاً كبيراً للجد في طلب العلم والوصول إلى أعلى المراتب. أما إذا انطلق في تحصيله من موقع المباهاة أو إثبات ذاته في المجتمع أو من موقع من يريد أن يزين اسمه بالشهادة الجامعية ليُقال له "الدكتور" وما إلى ذلك، فإنه - في الغالب - لن يصل إلى النتيجة المرجوة.

وعلى كل إنسان منا أن يعي أنّنا في هذه الحياة مسؤولون في أن نترك أثراً طيباً، وأن نقوم بواجباتنا قبل أن يطوينا الزمان، إننا مسؤولون عن عمرنا فيما أفنيناه وعن شبابنا فيما أبليناه، وسنُسأل يوم القيامة عن كل هذه الطاقات التي منّ اللهُ بها علينا.

وأضف إلى ذلك، إنه من الجدير بالمسلم، أن لا يفكر في نفسه وما يريحه هو فحسب في طلبه للعلم، بل أن يفكر أيضاً في أمته والنهوض بها ليكون مستقبلها زاهراً، وهذا كله يحتم عليه أن يكون سقف طموحاته عالياً ليتمكن هو وأقرانه من الطلاب والعلماء من ردم الفجوة بيننا وبين الغرب الذي سبقنا على أكثر من صعيد.

باختصار: إن مسؤوليتنا ورسالتنا وانتماءنا لهذه الأمة يفرض علينا أن نعيش حالة طوارئ ثقافية وعلمية.


 
س » ما رأيكم في الاختلاط المنتشر في عصرنا، وكيف نحاربه؟
ج »

إنّ الاختلاط قد أصبح سمة هذا العصر في كثير من الميادين، ومنها الجامعات والطرقات والساحات وكافة المرافق العامة.. والاختلاط في حد ذاته ليس محرماً ما لم يفضِ إلى تجاوز الحدود الشرعية في العلاقة بين الرجل والمرأة الأجنبيين؛ كما لو أدى إلى الخلوة المحرمة بالمرأة أو مصافحتها أو كان المجلس مشوباً بأجواء الإثارة الغرائزية أو غير ذلك مما حرمه الله تعالى.

وفي ظل هذا الواقع، فإنّ العمل على تحصين النفس أولى من الهروب أو الانزواء عن الآخرين بطريقة تشعرهم بأن المؤمنين يعيشون العُقد النفسية. إن على الشاب المسلم أن يثق بنفسه وأن يفرض حضوره ووقاره، وأن يبادر إلى إقناع الآخرين بمنطقه وحججه، وأن يبيّن لهم أن الانحراف والتبرج والفجور هو العمل السيّئ الذي ينبغي أن يخجل به الإنسان، وليس الإيمان ومظاهر التدين.

وأننا ندعو شبابنا عامة وطلاب الجامعات خاصة من الذكور والإناث إلى أن يتزينوا بالعفاف، وأن يحصنوا أنفسهم بالتقوى بما يصونهم من الوقوع في الحرام.


 
س » كيف يمكن التخلص من السلوكيات والعادات السيئة؟
ج »

إن التغلب على السلوكيات الخاطئة أو العادات السيئة – بشكل عام – يحتاج بعد التوكل على الله تعالى إلى:

أولاً: إرادة وتصميم، ولا يكفي مجرد الرغبة ولا مجرد النية وانما يحتاج بالإضافة إلى ذلك إلى العزم والمثابرة وحمل النفس على ترك ما اعتادته.

ثانياً: وضع برنامج عملي يمكّن الإنسان من الخروج من هذه العادة السيئة بشكل تدريجي؛ وأرجو التركيز على مسألة "التدرج" في الخروج من هذه العادات السيئة؛ لأن إدمان النفس على الشيء يجعل الخروج منه صعباً ويحتاج إلى قطع مراحل، وأما ما يقدم عليه البعض من السعي للخروج الفوري من هذه العادة، فهو - بحسب التجربة - سيُمنى في كثير من الأحيان بالفشل. والله الموفق


 
 
  محاضرات >> دينية
متى نستكمل التحرير؟
الشيخ حسين الخشن



 

متى نستكمل التحرير؟

 

 

   في ذكرى التحرير والانتصار، ذكرى العزة والفخار، يحقّ لنا أن نفرح ونفخر ونعتز، فطعم الانتصار جميل وفرحته مشروعة وضروية لأنها تحفز على مزيد من الانتصارات، والبعض لا يريد للأمة أن تفرح بانتصارتها، يريدها أن تخجل بلحظات العز، إنّ أمة تخجل بانتصاراتها ولا تمجد أيامها البيض هي أمة غير جديرة بالحياة وغير لائقة بالكرامة.

 

 في ذكرى التحرير يحق لنا، بل هو حق وواجب علينا أن نمجّد كل التضحيات التي أنتجت هذا الانتصار من دماء الشهداء وعذابات الأسرى ووجع الثكالى وصبر الناس، فإنّ الحريّة لم تأت ولن تأتي يوماً من دون ثمن ولن تمنح من أحد، بل إنّها تُنتزع بالقوة وتؤخذ ببذل الثمن الغالي، وهذا - في الحقيقة - ما يعطي الحرية قيمتها، لأنّ ما يعطى بالمجان قد يؤخذ مرة أخرى بالمجان، ولكن ما يؤخذ بثمن الدماء الطاهرة يصعب التفريط به أو تضييعه.

 

   وإذا كان التحرير يعطي المنتصر حقوقاً، فإنّه في الوقت عينه يرتّب عليه واجبات ومسؤليات:

 

1-   وأولى تلك الواجبات أن نحفظ الانتصار ولا نضيعه. ودروس التاريخ قد علمتنا أنّ مهمة حفظ الانتصار هي أكثر عناءً ومشقة من مهمة صنع الانتصار نفسه.

 

2-   وثاني هذه الواجبات أن نستكمل الانتصار والتحرير.

 

 

 إن من أهم ما يلزمنا التفكير به هو أن نسأل أنفسنا: هل اكتمل التحرير؟

 

قد يكون تحرير الأرض في معظمه قد اكتمل من رجس الاحتلال، ولكن هل الاحتلال هو للأرض فقط؟  وهل الغزو الذي أصاب الأمة هو غزو أراضيها فحسب ؟ فماذا عن غزو العقول والإرادات وغزو النفوس؟

 

  ولهذا فإنّي أعتقد أنّه ليس لطلاب الحرية وعشاقها أن يستريحوا أو يسترخوا حتى يكملوا المعركة، وعلينا بعد معركة تحرير الأرض أن نبدأ بالخطوة الثانية، وهي معركة تحرير الإنسان.

 

 

 

تحرير الإنسان

 

   ألم يحن الوقت لنبدأ معركة تحرير الإنسان ليس في هذا الوطن الصغير لبنان فحسب، بل على امتداد هذا الوطن العربي والإسلامي ؟

 

   أن نعمل على تحرير الإنسان من الآصار الجاهلية التي لا تزال تكبله، وأن نعمل على تحرير الإنسان من رجس العصبيات المذهبية والطائفية القاتلة، وأن نعمل على أن نحرر الإنسان من دنس الأحقاد ورجس الجهل، وأن نحرر الإنسان من نير الاستبداد وسياسة الإفقار والإذلال.

 

فإنساننا إن لم يعش جوهر الحرية وإن لم يُعط حقه في العيش الكريم فإنّه حتى لو استطاع أن يطرد المحتل من الباب فإنّ الاحتلال والغزو قد يدخل إليه من الشباك، ولذا لا يمكن للثائر والمقاوم الحر أن يواجه الظلم القادم من الخارج ويحابي أو يتحالف مع الظالم في الداخل، فالموقف الرافض للظلم لا يمكن أن يتجزأ، وقد قالها علي (ع) للحسنين و(ع) ولكل من وصلته وصيته: "كونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً".  ولا فرق عند علي بين ظالم وآخر، وبين مظلوم وآخر، فالظلم لا يتجزأ، والعدل لا يتجزأ . وإذا كان ظلم العدو الخارجي قبيحاً ومرفوضاً ويستدعي القيام لمواجهته والتخلص من شرّه، فإن ظلم المستبد في الدخل وكذلك الفاسد لا يقل أهمية عن ذاك.

 

 

 

تحرير العقول

 

وإنّ معركة تحرير الإنسان لا يمكن أن تنجح إلاّ بالعمل على تحرير العقول، تحريرها أولاً من الغزو الفكري الذي أصابها تحت وطأة الانبهار بالآخر والتبعية له فانهزمت نفسياً واستسلم للآخر حتى أدمنت المذلة، وكما قال الشاعر:

 

  من يهن يسهل الهوان عليه          ما لجرح بميت إيلام

 

   وأنّ نعمل ثانياً على تحرير العقول من الجمود والتحجر، وأتحدث هنا عن العقل الإسلامي، فهذا العقل لا بدّ أن ينعتق من أسر الماضي لينطلق إلى آفاق المستقبل، ففرق كبير بين أن تعود إلى الماضي لتعيش فيه وتقدسه، وبين أن تعود إلى الماضي لتقرأه بوعي وتستلهم منه الدروس والعبر لمستقبلك. وإنّه بغير هذه المراجعة النقدية لتاريخنا وماضينا فإننا لن نبدع ولن نتطور، فالعقل المبدع هو الذي ينظر إلى الشمس ويتطلع إلى الأمام ويحلم بالتغيير.

 

 

 

تحرير النفوس

 

   وتبقى الخطوة الأهم في رحلة التحرير ألا وهي العمل على تحرير النفوس، أجل إنّها المعركة الأهم، ولست أنا من يقول إنّها المعركة الأهم، إنّه رسول الله (ص) من يقول ذلك، فقد قالها  لجمع من صحابته وقد رجعوا من المعركة: "مرحباً بقوم قضوا الجهاد الأصغر وبقي عليهم الجهاد الأكبر، قالوا: وما الجهاد الأكبر يا رسول الله؟ قال: جهاد النفس".

 

   ودعوني أقولها بصراحة: كثيرون على مرّ التاريخ حتى من أصحاب الأنبياء(ع) نجحوا في معركة الجهاد الأصغر ورسبوا في معركة الجهاد الأكبر، استطاعوا أن يهزموا العدو ولكن انهزموا أمام النفس الأمارة بالسوء، فتحولوا إلى طغاة ومستبدين، وتحولوا إلى لصوص أرادوا استغلال انتصارهم بطريقة رخيصة عندما انتقلوا من مرحلة الثورة إلى مرحلة السلطة، فأغرتهم السلطة بزخارفها وجاهها فسقطوا ضحايا على أعتابها، {إنّ الإنسان ليطغى أن رآه استغنى} ومن هنا تكون الحاجة ملحة لرادع أخلاقي يمنع النفس من الطغيان والتجاوز على الآخرين، لأنّ النفس الإنسانية بحسب ما تمتلكه من غرائز قد تميل إلى التسلط وقد تتحكم بها الأنانية وتبتلي بالكثير من الأمراض، ولا يشعر الإنسان بها إلاّ بعد أن ترديه صريعاً، وهكذا يصاب بالغرور وبتضخم الشخصية وتورمها، يقول المتنبي لسيف الدولة:

 

 أعيذها نظرات منك صادقة    أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم

 

 

إنّ طغيان النفس قد يبلغ حداً يؤلّه الإنسان معه نفسه وذاته، قال تعالى: {أفرأيت من اتخذ إلهه هواه}، لا نبالغ إذا قلنا: إنّ النفس الأمارة بالسوء قد تغدو في حال افتقاد الإنسان إلى الرادع الأخلاقي المذكور أشد ضرراً على صاحبها من أعدائه وخصومه، "أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك".

 

 

 

ضرورة محاسبة النفس

 

ومن هنا تأتي أهمية المحاسبة، فالمحاسبة تجعل الإنسان يتواضع علمياً ويتواضع جهادياً فلا يتعالى على الناس لكونه أعلم منهم ولا يشمخ ويستهين بالآخرين لأنه جاهد في سبيل الله تعالى، عن أمير المؤمنين (ع): فالمحاسبة تحصّن النفس من الغرور والإنحراف، قال علي (ع) فيما روي عنه: "ثمرة المحاسبة صلاح النفس" وعنه (ع): "من حاسب نفسه وقف على عيوبه وأحاط بذنوبه، واستقال الذنوب وأصلح العيوب", والمحاسبة على مستوى الفرد أو الجماعة هي بداية الإصلاح، بل إنّ تطور الإنسان معنوياً وفكرياً وسلوكياً هو رهن قيامه المستمر بعمليات مراجعة نقدية، يجريها مع نفسه ويحاسبتها ويساءلها.

 

 

 

نقد الغير ونقد الذات

 

والغريب أنّ الإنسان بطبيعته يستسهل نقد الآخرين ومحاسبتهم على الصغير والكبير، لكنه يغضّ الطرف عن عيوبه ولا يرى قبائحه، وإنّ من أخطر تسويلات النفس الأمارة أنّها تلهي الإنسان عن رؤية عيوبه يراها، وتمنيه وتزين له أعماله فيرى سيئاته حسنات، إنّ أصدق الناس هو من كان صادقاً مع نفسه وأغش الناس من غشّ نفسه، قال أحدهم لأبي ذر: "عظني، فقال: لا تسىء إلى من تحب، قال: أورأيت عاقلاً يسيء إلى من يحب؟ قال: نعم نفسك أحب الأشياء إليك فإذا أنت عصيت الله فقد أسأت لها.."

 

 

 

محكمة الصبر ومحكمة العدل

 

إنّ هذه المحاسبة الداخلية من خلال محكمة الضمير الصاحي هي الأساس لصلاح الإنسان الفرد، ولصلاح الإنسان المجتمع، ومحال أن ترجو العدل من إنسان يمارس الظلم والغش مع نفسه، ففاقد الشيء لا يعطيه.

 

 ولذا فمن يريد إصلاح هذا البلد أو أي بلد آخر فعليه أن يبدأ بالتربية وتهذيب النفوس، وأن يهتم بوازرة التربية والتعليم، ومن هنا نفهم لماذا كان الوظيفة الإلهية الأسمى بالنسبة لأنبياء الله ورسله (ع) هي تهذيب النفوس وتربيتها وإصلاحها، {ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة}، فالأنبياء (ع) لم يبعثوا جباة ولا طغاة بل هداة.

 

وكلمة أخيرة أقولها في الختام: إذا سقط الإنسان في محمكة الضمير فقد فقد إنسانيته، ولا يظن أولئك الذين سقطوا في محكمة الضمير لأنّ ضمائرهم ماتت، وأفلتوا من محاكم الدنيا من خلال الرشا والاحتيال وما إلى ذلك، لا يظنوا أبدا أنهم سيفلتون من حكم العدل، فعليهم أن يتجهزوا لمحكمة العدل الإلهي التي لا تغادر صغيرة ولا كبيرة، لهؤلاء ولغيرهم نقول ما قاله علي (ع): "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا وتجهزوا للعرض الأكبر".

 

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

 

 

 

 

 

محاضرة ألقيت في مناسبة عيد المقاومة والتحرير في حسينية بلدة سحمر بتاريخ 24 أيار 2014م.






اضافة تعليق

الاسم *

البريد الإلكتروني *

موضوع *

الرسالة *


 


 
  قراءة الكتب
 
    Designed and Developed
       by CreativeLebanon