حوار مع مركز أفاق للدراسات والأبحاث: مشكلة الأديان تتشكل في الخطاب الفقهي    ثمن الحرية    أمثل الأساليب في عمليّة تهذيب النفس    مزايا الشباب    العمل سرّ النجاح    العبادة وعيٌ وانفتاح لا جهل وانغلاق    اقتناء أصنام الأمم البائدة    المفاهيم الدينية بين وجوب الاعتقاد وحرمة الانكار    البناء الاعتقادي بين الاجتهاد والتقليد    
 
بحث
 
تكريم الإنسان
 
س » هل ممكن إثبات وحيانية القرآن وعدم تحريفه من خلال مضمونه؟
ج »

إن الوحي الإلهي في عملية وصوله إلى البشر يحتاج إلى مرحلتين أساسيتين ليصلح كمصدر معصوم وعلى البشر الانقياد له، وهما:

المرحلة الأولى: مرحلة التلقي عن الله تعالى، بمعنى أنه حقاً وحي نزل من قِبل الله تعالى على رسول الله (ص).

المرحلة الثانية: مرحلة الصدور عن النبي (ص) والوصول إلينا سالماً من التحريف.

 

أما بالنسبة إلى المرحلة الثانية، أعني إثبات صحة صدوره عن رسول الله (ص) وعدم تعرضه للتحريف من بعده. فتوجد عشرات الدراسات والكتب والمصادر التي تؤكد على عدم تعرض القرآن الكريم للتحريف، وقد بحثنا هذا الأمر بشكل مفصل وأقمنا أدلة كثيرة على أنّ هذا القرآن هو عين القرآن الذي جمعه النبي (ص) ودونه وانتشر بعد ذلك بين المسلمين جيلاً بعد جيل، راجع كتابنا "حاكمية القرآن الكريم": الرابط  https://al-khechin.com/article/632

 

أما بالنسبة للمرحلة الأولى، أعني إثبات وحيانية الكتاب وأنه ليس مختلقاً من النبي (ص) أو من وحي الخيال، فهو أمر نستطيع التوثق منه بملاحظة العديد من العناصر التي - إذا ضمت إلى بعضها البعض - تورث الإنسان اليقين بأن هذا الكتاب لا يمكن إلا أن يكون وحياً من الله تعالى، وهذه العناصر كثيرة وأهمها:

 

أولاً: ملاحظة المنظومة المعرفية المتكاملة والرؤية الكونية والوجودية المتماسكة التي جاء بها القرآن، ففي عصر عرف بالجاهلية والخواء الفكري، يأتي محمد (ص) بكتاب يمثل منعطفاً تاريخياً بما يتضمنه من تأسيس معرفي لرؤية فكرية جديدة، إن فيما يتصل بالخالق وصفاته وعلاقة المخلوق به، أو رحلة المبدأ والمعاد، أو يتصل بالكون ودور الإنسان فيه، أو ما ما تضمنه من نظام اجتماعي وأخلاقي وروحي، وعلى القارئ الموضوعي للقرآن أن ينظر إليه نظرة واسعة وشمولية ولا يغرق في بعض الجزئيات المتصلة ببعض الآيات المتشابهة التي أشكل عليه فهمها بما يحجب عنه ما رسالة القرآن الحقيقية. وأنصحك بقراءة كتاب "وعود الإسلام" للمفكر والفيلسوف الفرنسي روجيه غارودي في هذا الشأن، وكتاب "الإسلام كبديل" للمفكر الألماني مراد هوفمان.

 

ثانياً: نظم القرآن، فإنّ كل منصف أمعن ويمعن النظر والتأمل والتدبر في آيات القرآن، لا مفر له من الاذعان أنّه أمام نصٍّ عظيم ومتميّز في تماسكه وتناسق موضوعاته وعلو مضامينه، وعمق معانيه، والقوة في حججه وبراهينه، والبلاغة العالية في أسلوبه المتميز عن النثر والشعر، وفي ألفاظه وجمله وتراكيبه مما يأخذ بالألباب والعقول. وسوف لن يتوانى عن الإقرار بأنّ هذا الكتاب هو - كما وصف نفسه - قول فصل: {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} [الطارق 13- 14] خالٍ من التناقض والاختلاف، {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء 82] وأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

 

باختصار: إنّ في آيات القرآن الكريم كيمياءً خاصة وروحاً عجيبة وعذوبة فائقة الجمال وقوة بيانية ومضمونية لا تضاهى، ولا شك أنّ من وطّن النفس على اتباع الحق وأصغى إلى آيات الكتاب بمدارك العقل ومسامع القلب سوف يرى فيها جاذبية ونورانيّة مميزة وروحانية عالية، كما أنّ فيها نُظماً راقية ومتقدمة لا يمكن أن تبلغ قوّتها وعمق مضامينها وتدفق معانيها أي نصوص أخرى. وهذا في الوقت الذي يدل على إعجاز القرآن فهو يدل أيضاً على عدم تعرضه للتحريف.

وإنّ الجاذبيّة المذكورة لآيات القرآن الكريم هي مما اعترف بها البلاغاء العرب وكثير من الحكماء من المسلمين وغيرهم، ولم يجرؤ فطاحلة الشعراء والأدباء من العرب أن يعارضوه بطريقة جديّة ذات قيمة رغم تحديه لهم ودعوتهم إلى معارضته، قال سبحانه: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [الإسراء 88] وما هذا إلا دليل على قوة القرآن وعدم وجود أية ثغرة فيه أو زيادة أو نقيصة.

 

ثالثاً: ملاحظة صفات الشخصية (ص) التي جاءت بهذا الكتاب، فهو شخص أمّي لم يدرس عند أحد ومع ذلك أتى بهذا القرآن بكل ما يتضمنه من تناسق مبدع ومضمون روحي ومعرفي غير مسبوق، وكذلك ملاحظة سيرته وأقواله وسلوكه الشخصي وخصائصه الذاتية التي تؤكد على تمتعه بأعلى درجات النزاهة والصدقية والطهارة، ومعلوم أنّ حياة الإنسان هي أهم مختبر لصدقية طروحاته ومقولاته، ويلي ذلك دراسة مشروعه الثقافي والحضاري وما تتضمنه رسالته من معارف ومفاهيم لم يعرف الإنسان عنها إلا القليل، ويلي ذلك ملاحظة إنجازاته وحجم التأثير والتغيير الذي أحدثه في المجتمع، والمقارنة بين ما جاء به وبين الموروث الثقافي في السائد في مجتمعه أو الذي جاءت به الكتب الأخرى، فإنّ البشر مهما كان عبقرياً لا يتسنى له أن يخرج عن الموروث الثقافي الذي يحكم بيئته الاجتماعية، فعندما ترى شخصا قد أوجد انقلاباً حضارياً معتمداً على منظومة فكرية وثقافية لا تمت بصلة إلى المستوى الثقافي لمجتمعه، فهذه القرائن وسواها قد تورث اليقين بصدقيته، أأسميتها معجزة أم لم تسمها.

 

رابعاً: أما بعض التفاصيل مثل قضية طول عمر الإنسان، أو قضية يأجوج ومأجوج، أو غيرها، فهي قضايا تسهل الإجابة عليها، ولا أعتقد أنها تشكل معضلة كبيرة، إذا أخذنا بعين الاعتبار أمرين:

 الأول: أن التجارب العلمية لا تزال تفاجئنا كل يوم بجديد وأنّ ما قد نخاله اليوم غير معقول قد يصدقه العلم بعد غد. 

 الثاني: إنّ فهم الكتاب وآياته، ليس محكوماً بالقراءة العرفية اللغوية، وأنّ ثمة مجالاً للقراءة الرمزية – على الأقل – بالنسبة لصنف من الآيات القرآنية.


 
س » هل صحيح إن الإسلام الحنيف لم يسمح لغير الفقهاء بالإفتاء الشرعي ، ولكن الكلام في العقيدة والمسائل الثقافية هو حقٌَ للجميع ، ولكن لابد أن يكون الكلام عن علم ومعرفة ؟
ج »
إن الافتاء بغير علم أمر مبغوض عقلا وشرعا، قال تعالى: وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (الإسراء ٣٦) 

 

ولا يفرق الحال في مبغوضية وكراهية الكلام بغير علم بين الفقه والعقيدة والتاريخ وغيرها من العلوم. ولا يجوز للإنسان، في كل ما لا يملك معرفته، أن يتحدث بضرس قاطع فيه. وبالتالي فإن على الجاهل أن يتعلم ويرجع إلى العالم. والرجوع إلى العالم، هو أيضا أمر عقلاني جرت عليه سيرة العقلاء، وقد أرشد إليه الشارع في قوله تعالى:  ۚ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (النحل ٤٣)
 
أجل، إذا كان ثمة فارق بين الحقل الفقهي والحقل العقدي، فليس لانه يحرم في الفقه الإفتاء لغير الفقهاء بينما في العقيدة يجوز ذلك لغير الفقهاء؛ كلا، إن كان ثمة من فارق، فهو أن على الإنسان في المجال العقدي أن يكون مجتهدا في أمهات قضايا العقيدة ولا يجوز له التقليد خلافا للمجال الفقهي حيث يجوز له التقليد، إلى غيرها من فوارق.. والله الموفق

 
 
  محاضرات >> دينية
في محراب الأبوة
الشيخ حسين الخشن



 

في محراب الأبوة

 

   في محراب الأب تخجل الكلمات وتخشع الأصوات وتخرس الألسنة..

 

   وإلى عرين الأب يدخل المرء متهيباً خائفاً وجلاً.

 

وعلى جثمان الأب يقف الابن محدودب الظهر فقد بدأت مرحلة الشيخوخة والهرم، فإنّك حتى لو كنت في مقتبل العمر ستبقى تشعر بطفولتك وأنت تعيش في كنف أبيك فإذا ما فارق الدنيا شعرت بالكهولة.

 

   وفي رثاء الأب يقف الخاطر الملهم عاجزاً حائراً لا يهتدي بياناً، فماذا عساه يقول؟ وأياً كان ما يقول شعراً أو نثراً فإنّه لن يلامس شرف الأبوة.

 

  في محراب الأبوة وقفت حائراً بين حديث الفكر وحديث الوجدان، ودون وعي وجدتني أنشدّ إلى حديث الوجدان، فقلت لنفسي: وما الضير في ذلك؟ أليس الإنسان عقلاً وقلباً، وكما يحتاج العقل إلى غذاء فإنّ القلب يحتاج إلى غذاء أيضاً، لهذا فليكن الطابع العام لحديثي في هذه المناسبة طابعاً وجدانياً، ولا سيما أننا في زمن تراجعت فيه العواطف وتخشبت الأحاسيس.

 

 

ما أحوجنا إلى حديث الروح

 

 فما أحوجنا في هذه الأيام إلى حديث القلب والروح والوجدان، إلى حديث يثير فينا الأحاسيس الإنسانية ويحرّك العواطف النبيلة، فإنّ كل ما يجري في أمتنا ومن حولنا من توحش وسفك للدماء يشي بأمر واحد وهو أنّ القلوب قد قست وأنّ الإنسان فينا قد قتل، وأنّ الإنسانية هي الذبيحة قبل أن يكون الإنسان هو الذبيح، وأنّ الرصاصة التي تطلقها على الآخر إنما تقتل إنسانيتك قبل أن تصل إلى الآخر لتقتله، فقد قست القلوب حتى غدت كالحجارة أو أشد قسوة، وما أعجب هذا الإنسان وما أغرب أمره فبينما تراه حملاً وديعاً سرعان ما يتحوّل إلى وحش كاسر ضارٍ ينهش لحم أخيه الإنسان بدمٍ بارد!

 

 وبكل أسف أقول: لقد غادرتنا القيم والأخلاق، ومن أشرف وأنبل هذه القيم المغادرة قيمة الأبوة، فلم يعد الابن يعي معنى أن يكون فلاناً أباه؟ ولا الأب يعي معنى أن يكون أباً.

 

 

معنى أن يكون لك أب

 

أن يكون فلان أباك يعني أنّه أصلك وأنت فرعه ولا قيمة للفرع بدون الأصل، أن يكون فلان أباك يعني أنّه الشجرة وأنت الغصن وإذا انفصل الغصن عن الشجرة أصابه الذبول واليباس.

 

أن يكون فلان لك أباً فهذا يعني أنّ أقل ما يلزمك تجاهه أن تبرّه وتحسن إليه وأن تكون في خدمته وتنحني إجلالاً واحتراماً له، وأن تبقى في خدمته كلما احتاج إليك، فخدمة الأب هي عبادة لله تعالى، وطاعتك لأبيك هي من طاعتك لله تعالى، {وقضى ربك ألا تعبدوا إلاّ إياه وبالوالدين إحساناً إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أفٍ ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً} [الإسراء 23 – 24].

 

 أن يكون فلان لك أباً فهذا يعني أن تعرف حقوقه عليك، وقد سئل الحبيب المصطفى ما حق الوالد على ولده؟ قال: لا يسميه باسمه ولا يمشي بين يديه ولا يجلس قبله ولا يستسب له"[1].

 

   وقد جاء أحدهم ذات يوم إلى رسول الله (ص) يشكو إليه أباه ويخاصمه فقال: يا رسول الله هذا أبي وقد ظلمني ميراثي من أمي فأخبره النبي(ص) أنّه أنفقه عليه وعلى نفسه، فقال له النبي (ص): "أنت ومالك لأبيك"[2]، فما أقل حياء هذا الشخص إذ يتجرأ ويقدم أباه للمحاكمة ويشتكي عليه!

 

 وفي دعاء الإمام زين العابدين(ع) لوالديه: "اللهم اجعلني أهابهما هيبة السلطان العسوف وأبرهما بر الأم الرؤوف، واجعل طاعتي لهما وبري بهما أقر لعيني من رقدة الوسنان وأثلج لصدري من شربة الظمآن"[3].

 

 

معنى أن تكون أباً

 

وأمّا أن تكون أباً فليس معناه أن تكون قادراً على الانجاب، فكل ذكر لديه قدرة على الانجاب حتى لو لم يكن من جنس البشر.

 

   أن تكون أباً يعني أن تكون الحضن الدافئ لأبنائك، وأن تكون المرشد والناصح لهم، وأن تكون الحصن المنيع الذي يحميهم، وأن تكون أباً يعني أن توزع عاطفتك على الجميع دون انحياز، فقد رأى النبي (ص) رجلاً معه ولدان وقد قبّل أحدهما وترك الآخر فقال: "هلا واسيت بينهما!"[4].

 

   إنّ انحيازك العاطفي لولد دون آخر يعني أنّك تزرع الأحقاد بين الأبناء، ولذا فعندما تطلب من ابنك أن يبرّك فعليك أن تعينه على برّك، من خلال أخذك بأساليب التربية الناجحة، يقول النبي الأكرم (ص) فيما روي عنه: "رحم الله من أعان ولده على برّه، قال: قلت: وكيف يعينه؟ قال: يقبل ميسوره ويتجاوز عن معسوره ولا يرهقه ولا يخرق به"[5].

 

   إنّ معنى أن تكون أباً يحتّم عليك أن تهتم لأمر ابنك، وأن تعلم أنّ ابنك هو كنفسك فتحبّ له ما تحب لها وتكره له ما تكره لها، من وصية الإمام علي (ع) للإمام الحسن (ع): "ووجدتك بعضي بل وجدتك كلي حتى كأنّ شيئاً لو أصابك أصابني وكأنّ الموت لو أتاك أتاني، فعناني من أمرك ما يعنيني من أمر نفسي"[6].

 

   أن تكون أباً أن تهتم بغذاء أبنائك المعنوي والروحي كما تهتم بغذائهم المادي، وأن تهتم بجمالهم الروحي والخُلقي كما تهتم بجمالهم الجسدي.

 

    أن تكون أباً أن تهتم بمستقبل أبنائك وكثيراً ما نسمع البعض يقول: "بدي أمّن مستقبل أولادي" وهذا جميل، ولكن الأمر المستغرب أننا نهتم لمستقبلهم القريب ولا نهتم بمستقبلهم البعيد يوم يقوم الناس لرب العالمين {يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة} [الملك 6].

 

 

الأبوة المعنوية

 

   في محراب الأبوة لا بدّ أن أطل على معنى آخر من معاني الأبوة ألاّ وهو الأبوة المعنوية، فلكل منا أب بيولوجي، وفي الغالب فإنّ له أيضاً أباً معنوياً، والأبوة المعنوية هي أبوة الفكر وأبوة الرسالة وأبوّة الإمامة، يقول النبي (ص): "يا علي أنا وأنت أبوا هذه الأمة"[7]، فرسول الله( ص) هو أبونا في الرسالة ونحن أبناؤه في الاتباع والاقتداء، وعيسى ابن مريم(ع) هو أبونا ونحن أبناؤه في الحب والانتماء، وعلي بن أبي طالب(ع) أبونا ونحن أبناؤه في الحب والولاء.

 

   وإذا كان رسول الله (ص) أبانا جميعاً فهذا يعني أننا أخوة، فكيف يستحل الأخ أن يأكل لحم أخيه! {أيحب أجدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه} [الحجرات 12] ويا ليته يأكل لحم أخيه بالغيبة فقد صار يأكله بالحقيقة ! لقد كانت هذه الآية تشير إلى معنى مجازي في أكل لحم الأخ وهو أكله بالغيبة وإذا بمرور الزمان يرأينا العجائب حيث إنّ الأمر أصبح حقيقياً!

 

   وإذا كان علي بن أبي طالب(ع) أبانا جميعاً (ونحن في هذه الأيام في ذكرى استشهاده) فلماذا يريد البعض منا أن يقزّم علياً ليكون أباً لجماعة أو طائفة دون أخرى، علي عابر للطوائف والمذاهب هو بفكره ملك الإنسانية.

 

 

يقول بولس سلامة :

هو فخر التاريخ لا فخر شعب        يدعيه ويصطفيه ولياً

لا تقل شيعةٌ هواة علي                إنّ في كل منصف شيعياً

إنّما الشمس للنواظر عيد              كل طرف يرى الشعاع السنيا

جلجل الحق في المسيحي حتى        عدّ من فرط حبه علوياً

يا سماء اشهدي ويا أرض قري       واخشعي إنني ذكرت علياً

 

إنّ أبوة علي (ع) للمسلمين تجسدت في كل حياته فهي التي دفعته ليتنازل عن حقه من أجل مصلحة الأمة، يقول (ع): "لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن بها جور إلاّ عليّ خاصة"[8].

 

وإني أتساءل معكم أين الآباء الروحيون لهذه الأمة في هذه المرحلة ؟ فما أحوجنا اليوم إلى أبوة تجمع ولا تفرق، أبوة تحب ولا تكره، أبوة تحتضن ولا تذبح، أبوة تلم أبناءها جميعا تحت سقف بيت واحد.

 

 

الأبوة المجازية

 

وهناك شكل ثالث من أشكال الأبوة، وهو الأبوة المجازية التي دعت وصايا النبي (ص) وأئمة أهل البيت (ع) إلى تكريسها بين بني الإنسان وبين الطبيعة، فالأرض التي نعيش في كنفها هي أمنا وأبونا، فمنها خلقنا وإليها نعود، يقول النبي (ص): "تمسحوا بالأرض فإنّهما أمكم وهي فيكم برّة"[9]، وفي حديث آخر: "أكرموا عمتكم النخلة"[10].

 

 فإذا كانت النخلة عمتنا فما يمنع أن تكون الزيتونة هي خالتنا وأن تكون التينة هي ابنة خالتنا.. وأن تكون الأرض هي أبونا كما هي أمنا.

 

   إنّ هذه الأحاديث ترمي إلى تأكيد معنىً سامٍ ورائع، ألا وهو أنّ بينك – أيها الإنسان- وبين هذه الأرض التي تعيش في كنفها علاقة نسبية، فهي أبوك وهي أمك، فانظر كيف تتعامل معها، فلا تعتدي على جمالها، ولا تعبث بنواميسها، كما يحصل اليوم حيث أصبح الكوكب معرضاً للمخاطر بكل ما فيه ومن عليه، وكل ذلك بما جنته أيدي الناس، {ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا ولعلهم يرجعون} [الروم 41].

 

وإذا كانت الأرض هي أمنا فعلينا أن نرأف بها كما نرأف بالأم، وأن لا نقسو عليها، فعنما تضع قدمك على النبات فامش بهدوء ولا تسحقه، يقول الشاعر:

ارحم الغصن لا تنله بسوء    قد يحس النبات كالإنسان

واستمع للحفيف منه تجده     بات يشكو الإنسان للرحمان

 

وإذا كانت الأرض هي أبونا وأمنا وهي مبدأنا وإليها معادنا، وهي مدفن آبائنا وأجدادنا، فمهلاً مهلاً أيها الإنسان لا تقسو عليها، واعلم أنك عندما تمشي عليها فإنك قد تضع قدمك على بقايا أجساد الآباء والأجداد، كما قال الإمام علي (ع) في بعض كلماته عند تلاوته لقول الله تعالى: {ألهاكم التكاثر}: ".. تطأون هامهم وتستثبتون في أجسادهم"[11]، وقد أخذ عنه المعري هذا المعنى حيث يقول :

 

خفف الوطء ما أظن أديم الأرض             إلاّ من هذه الأجساد

وقبيح بنا وإن قدم العهد                       هوان الآباء والأجداد

سر إن استطعت في الهواء رويداً             لا اختيالاً على رفات العباد

 

 

علّمته الأرض

 

وحديث أبوة الأرض هذا يأخذنا إلى الوالد الحبيب رحمه الله، فقد وعى أبوة الأرض للإنسان جيداً، ولذا يمكنني وصفه بكلمة مختصرة وهي  أنّه ابن الأرض، وقد أقام علاقة صداقة معها وتعلّم منها دروساً لا تعدّ ولا تحصى، فالأرض مدرسة ونعم المدرسة لمن كان له بصيرة.

 

فقد علّمته الأرض معنى الأبوة، وذلك عندما تحتضن البذرة وتحنو عليها وتسقيها وتنميها حتى تغدو شجرة باسقة.

 

علّمته الأرض الكرم والعطاء، فهي تعطيك بمقدار ما تعطيها، فهي لا تعرف البخل أبداً، {فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج} [الحج 5].

 

علّمته الأرض أن يكون حراً رافضاً للظلم، لأنّ الأرض لا يمكن أن تقبل عرقاً ظالماً فيها وغريباً عليها، فهي تلفظ العرق الذي ليس من بيئتها ولا ينتمي إلى طينتها ولا تسمح له بالبقاء طويلاً.

 

علّمته الأرض أن يكون صلباً قوياً في مواجهة الأعاصير، فإنّ "الشجرة البرية أصلب عوداً" كما قال أمير المؤمنين (ع)[12].

 

علّمته الأرض أن لا يخضع ولا ينقاد إلاّ لله، فالأرض لا تعرف التمرد على خالقها، فكما قال تعالى:{فقال لها وللأرض أئتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين} [فصلت 11].

 

هذا ما علّمته الأرض أمّا هو فقد بادلها الجميل بالجميل والحب بالحب، فأعطاها من عرقه ومن دمه، أعطاها كل حياته ولم يبخل بشيء وكانت الأرض وصيته الأخيرة وظلّ محباً ومهتماً لأمرها إلى أن  نزل في حناياها ملتحداً.

 

 

أشعر بالفخر والأعتزاز

 

لهذا ولغيره، فإنّي عندما أدخل محرابك يا أبتاه أشعر بالفخر والاعتزاز.

 

فقد كنت العبد الصالح المؤمن، كنت الصابر المحتسب إلى الله تعالى، لقد كنت جبلاً من الصبر، ولذا لم يستطع المرض أن ينال من إيمانك وعزيمتك، لقد استطاع أن ينهك الجسد لكن الروح بقيت محلقة مع الله تعالى، كنت تتلوى من وطأة الأوجاع على فراشك ومع ذلك ما تصدر منك كلمة "آخ"، بل كان وردك الدائم هو ذكر الله تعالى، ولطالما أيقظتنا وأنت تناجي الله تعاى قائلاً في ذروة الوجع: "لا إله إلاّ الله الحليم الكريم لا إله إلاّ الله العلي العظيم سبحان الله رب السماوات السبع ورب الأرضين السبع وما فيهن وما بينهن ورب العرش العظيم وس لام على المرسلين والحمد لله رب العالمين"، أو قائلاً: "عفوك يا رب عفوك يا رب".

 

ولا أنسى عندما استدعينا لك الطبيب على عجل، فبينما كان يعاينك وأنت تترنم بكلمات فقال لي: إنّه يريد شيئاً، فقلت له: كلا، إنّه لا يريد شيئاً، وإنّما هو يردد  الدعاء مع الداعي الذي كان يسمع صوته عبر المذياع.

 

وإن أنسى لا أنسى حرصك على المصلحة العامة وتفكيرك في الشأن حتى وأنت تتلوى وجعاً، فكم قلت لي في أيامك الأخيرة: إنّ البلدة تحتاج إلى مقبرة جديدة فقد ضاقت المقبرة بأهلها، وكنت تقدّم لي اقتراحات عملية في هذا المجال، وكلما دخلت عليك كنت تسألني ماذا فعلتم ؟ وقد أخذني الفضول ذات مرة فسألتك: لماذا يهمك هذا الأمر؟ فقلت لي: أليس في ذلك أجر وثواب؟ فقلت لك وقد طابت نفسي بنبل مقصدك: بلى فإن "الدال على الخير كفاعله"[13].

 

 وإن أنسى فلا أنسى حرصك واهتمامك بتواصل الأرحام، فقد زارك بعض الأرحام وأنت على فراش الموت ونظر إليك ولم يتمالك دموع عينيه، فقلت له: يا فلان هل لي عندك كرامة؟ فأجاب قائلاً: أنا بخدمتك يا حاج، فقلت له : إذن صالح أختك فلانة، وكان لك ما أردت وأحضرنا الطرفين وتعانقا وتصافحا في محضرك.

 

هذا بعض مما كنت عليه يا والدي،  وإني إنما أذكره هنا للعبرة، وعسى أن نوفيك بعض حقوقك علينا.

 

سامحنا يا أبتاه على تقصيرنا وعقوقنا، فهذا العقوق يثقل أوزارنا وآمل أن لا يستمر هذا العقوق بعد الموت.

 

 

رحمك الله وأسكنك الفسيح من جنانه وحشرك مع محمد وأهل بيته الأطهار.

 

 

·       ألقيت في ذكرى أسبوع الوالد رحمه الله في حسينية بلدة سحمر, وذلك في 21 رمضان 1433هجري.



[1] الكافي ج2 ص159.

[2] الكافي ج5 ص135.

[3] الصحيفة السجادية، والوسنان هو من غلبه النعاس.

[4] عدة الداعي لابن فهد الحلي ص79.

[5] الكافي ج6 ص50.

[6] نهج البلاغة.

[7] علل الشرائع للصدوق ج1 ص127.

[8] نهج البلاغة ج1 ص124.

[9] المجازات النبوية للشريف الرضي ص 269، ودعائم الإسلام للقاضي نعمان المصري ج 1 ص178، المصنف لابن أبي شيبة ج 1 ص 187.

[10] مجمع الزوائد للهيثمي ج5 ص39.

[11] نهج البلاغة ج 2 ص 205، بيان: الهام جمع هامة وهي أعلى الرأس، وتستثبتون أي تحاولون إثبات ما تحتاجونه من الأعمدة ونحوها في الأرض، فأنت تثبتون ذلك في أجسادهم.

[12] نهج البلاغة ج3 ص73.

[13] كما في حديث النبي الأكرم (ص) ، انظر: من لا يحضره الفقيه للصدوق ج 4 ص 380.

 






اضافة تعليق

الاسم *

البريد الإلكتروني *

موضوع *

الرسالة *


 


 
  قراءة الكتب
 
    Designed and Developed
       by CreativeLebanon