حوار مع مركز أفاق للدراسات والأبحاث: مشكلة الأديان تتشكل في الخطاب الفقهي    ثمن الحرية    أمثل الأساليب في عمليّة تهذيب النفس    مزايا الشباب    العمل سرّ النجاح    العبادة وعيٌ وانفتاح لا جهل وانغلاق    اقتناء أصنام الأمم البائدة    المفاهيم الدينية بين وجوب الاعتقاد وحرمة الانكار    البناء الاعتقادي بين الاجتهاد والتقليد    
 
بحث
 
تكريم الإنسان
 
س » أنا طالب علم، لدي خوف من أن أتكلم بغير علم.. ما الحل؟
ج »

وعليكم السلام

لا بد لطالب العلم في مساره العلمي أن يتسلح بأمرين أساسيين:
الأول: الاستنفار العلمي وبذل الجهد الكافي لمعرفة قواعد فهم النص واستكناه معناه ودلالاته بما يعينه على التفقه في الدين وتكوين الرأي على أسس صحيحة.
الثاني: التقوى العلمية ويُراد بها استحضار الله سبحانه وتعالى في النفس حذراً من الوقوع في فخ التقوّل على الله بغير علم. ومن الضروري أن يعيش مع نفسه حالة من المحاسبة الشديدة ومساءلة النفس من أن دافعه إلى تبني هذا الرأي أو ذاك: هل هو الهوى والرغبة الشخصية أم أن الدافع هو الوصول إلى الحقيقة ولو كانت على خلاف الهوى.
أعتقد أن طالب العلم إذا أحكم هذين الامرين فإنه سيكون موفقاً في مسيرته العلمية وفيما يختاره من آراء أو يتبناه من موقف.

 
س » كيف علمنا أن الصحيفة السجادية ناقصة؟ وهل ما وجده العلماء من الأدعية صحيح؟؟
ج »

أقول في الإجابة على سؤالكم:

أولاً: إن الصحيفة السجادية في الأصل تزيد على ما هو واصل إلينا وموجود بين أيدينا، قال المتوكل بن هارون كما جاء في مقدمة الصحيفة: " ثم أملى عليّ أبو عبد الله (ع) الأدعية، وهي خمسة وسبعون باباً، سقط عني منها أحد عشر باباً، وحفظت منها نيفاً وستين باباً"، بيد أن الموجود فعلاً في الصحيفة الواصلة إلينا هو أربعة وخمسون دعاء. آخرها دعاؤه في استكشاف الهموم، وهذا آخر دعاء شرحه السيد علي خان المدني في رياض السالكين، وكذا فعل غيره من الأعلام.

ثانياً: إن سقوط عدد من أدعية الصحيفة وضياعها دفع غير واحد من الأعلام للبحث والتتبع في محاولة لمعرفة ما هو الضائع منها، وبحدود اطلاعي فإنهم عثروا على أدعية كثيرة مروية عن الإمام زين العابدين (ع)، لكنهم لم يصلوا إلى نتائج تفيد أن ما عثروا عليه هو من الأدعية الناقصة منها، ولذا عنونوا مؤلفاتهم بعنوان مستدركات على الصحيفة، ولم يجزموا أن ما جمعوه من أدعية هو الضائع من أدعية الصحيفة. وهذا ما تقتضيه الضوابط العلمية والدينية، فما لم يعثر الإنسان على نسخة قديمة موثوقة أو قرائن مفيدة للوثوق بأن هذا الدعاء أو ذاك هو من جملة أدعية الصحيفة فلا يصح له إضافة بعض الأدعية على الصحيفة بعنوان كونها منها.

ثالثاً: لقد ابتُلينا بظاهرة خطيرة، وهي ظاهرة الإضافة على الصحيفة أو غيرها من كتب الأدعية، وهذا العمل هو خلاف الأمانة والتقوى، وقد ترتّب على ذلك الكثير من المفاسد، وأوجب ذلك وهماً للكثيرين، فتوهموا أن بعض الأدعية هي جزء من الصحيفة السجادية المشهورة، ومردّ ذلك بكل أسف إلى أن مجال الأدعية والزيارات شرعة لكل وارد، وتُرك لأصحاب المطابع والمطامع! وأعتقد أن هذا العبث في كتب الأدعية والزيارات ناشئ عن عدم عناية العلماء بالأمر بهذه الكتب كما ينبغي ويلزم، كما نبه عليه المحدث النوري في كتابه "اللؤلؤ والمرجان" مستغرباً صمت العلماء إزاء التلاعب والعبث بنصوص الأدعية والزيارات مما يعدّ جرأة عظيمة على الله تعالى ورسوله (ص)!

رابعاً: أما ما سألتم عنه حول مدى صحة الأدعية الواردة بعد دعاء استكشاف الهموم، فهذا أمر لا يسعنا إعطاء جواب حاسم وشامل فيه، بل لا بدّ أن يدرس كل دعاء على حدة، ليرى ما إذا كانت قرائن السند والمتن تبعث على الحكم بصحته أم لا. فإن المناجاة الخمس عشرة بنظرنا لم تصح وربما كانت من وضع الصوفية، وقد أوضحنا ذلك بشكل مفصل في كتاب الشيع والغلو.


 
س » ابني المراهق يعاني من التشتت، وأنا جدا قلق ولا اعرف التصرف معه، ما هي نصيحتكم؟
ج »

التشتت في الانتباه في سن المراهقة مع ما يرافقه من الصعوبات هو في حدود معينة أمر طبيعي وظاهرة تصيب الكثير من المراهقين ولا سيما في عصرنا هذا.

وعلينا التعامل مع هذه المرحلة بدقة متناهية من الاستيعاب والتفهم والإرشاد والتوجيه وتفهم سن المراهق، وأن هذه المرحلة تحتاج إلى أسلوب مختلف عما سبقها.

فالمراهق ينمو لديه الإحساس بالذات كثيرا حتى ليخيل إليه أنه لم يعد بحاجة إلى الاحتضان والرعاية من قِبل والديه.

وبالتالي علينا أن نتعامل معه بأسلوب المصادقة "صادقه سبعا.." والتنبه جيدا للمؤثرات التي تسهم في التأثير على شخصيته واستقامته وتدينه، ومن هذه المؤثرات: الأصدقاء ووسائل التواصل الاجتماعي، فإن نصيبها ودورها في التأثير على المراهق هو أشد وأعلى من دورنا.

وفي كل هذه المرحلة علينا أن نتحلى بالصبر والأناة والتحمل، وأن نبتدع أسلوب الحوار والموعظة الحسنة والتدرج في العمل التربوي والرسالي.

نسأل الله أن يوفقكم وأن يقر أعينكم بولدكم وأن يفتح له سبيل الهداية. والله الموفق.


 
س » اعاني من عدم الحضور في الصلاة، فهل أحصل على الثواب؟
ج »
 
لا شك أن العمل إذا كان مستجمعا للشرائط الفقهية، فهو مجزئٌ ومبرئٌ للذمة. أما الثواب فيحتاج إلى خلوص النية لله تعالى بمعنى أن لا يدخل الرياء ونحوه في نية المصلي والعبادة بشكل عام.
ولا ريب أنه كلما كان الإنسان يعيش حالة حضور وتوجه إلى الله كان ثوابه أعلى عند الله، لكن لا نستطيع نفي الثواب عن العمل لمجرد غياب هذا الحضور في بعض الحالات بسبب الظروف الضاغطة على الإنسان نفسيا واجتماعيا.
لكن على الإنسان أن يعالج مشكلة تشتت الذهن أثناء العمل العبادي وذلك من خلال السعي الجاد للتجرد والابتعاد عن كل الهواجس والمشكلات أثناء الإقبال على الصلاة، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، باستحضار عظمة الله عز وجل في نفوسنا وأنه لا يليق بنا أن نواجهه بقلب لاهٍ وغافل. والله الموفق.

 
س » أنا إنسان فاشل، ولا أتوفق في شيء، وقد كتب عليّ بالخسارة، فما هو الحل؟
ج »

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

أولاً: التوفيق في الحياة هو رهن أخذ الإنسان بالأسباب التي جعلها الله موصلة للنجاح، فعلى الإنسان أن يتحرك في حياته الشخصية والمهنية والاجتماعية وفق منطق الأسباب والسنن. على سبيل المثال: فالإنسان لن يصل إلى مبتغاه وهو جليس بيته وحبيس هواجسه، فإذا أراد الثروة فعليه أن يبحث عن أسباب الثروة وإذا أراد الصحة فعليه أن يأخذ بالنصائح الطبية اللازمة وإذا أراد حياة اجتماعية مستقرة عليه أن يسير وفق القوانين والضوابط الإسلامية في المجال الاجتماعي وهكذا.

ثانياً: لا بد للإنسان أن يعمل على رفع معوقات التوفيق، وأني أعتقد أن واحدة من تلك المعوقات هي سيطرة الشعور المتشائم على الإنسان بحيث يوهم نفسه بأنه إنسان فاشل وأنه لن يوفق وأنه لن تناله البركة الإلهية.

إن هذا الإحساس عندما يسيطر على الإنسان فإنه بالتأكيد يجعله إنسانا فاشلا ومحبطا ولن يوفق في حياته ولذلك نصيحتي لك أن تُبعد مثل هذا الوهم عن ذهنك وانطلق في الحياة فإن سبيل الحياة والتوفيق لا تعد ولا تحصى.


 
س » ما هو هدف طلب العلم الذي يجب أن يكون؟
ج »

عندما ينطلق المسلم في طلبه للعلم من مسؤوليته الشرعية الملقاة على عاتقه ومن موقع أنه خليفة الله على الأرض، فإن ذلك سوف يخلق عنده حافزاً كبيراً للجد في طلب العلم والوصول إلى أعلى المراتب. أما إذا انطلق في تحصيله من موقع المباهاة أو إثبات ذاته في المجتمع أو من موقع من يريد أن يزين اسمه بالشهادة الجامعية ليُقال له "الدكتور" وما إلى ذلك، فإنه - في الغالب - لن يصل إلى النتيجة المرجوة.

وعلى كل إنسان منا أن يعي أنّنا في هذه الحياة مسؤولون في أن نترك أثراً طيباً، وأن نقوم بواجباتنا قبل أن يطوينا الزمان، إننا مسؤولون عن عمرنا فيما أفنيناه وعن شبابنا فيما أبليناه، وسنُسأل يوم القيامة عن كل هذه الطاقات التي منّ اللهُ بها علينا.

وأضف إلى ذلك، إنه من الجدير بالمسلم، أن لا يفكر في نفسه وما يريحه هو فحسب في طلبه للعلم، بل أن يفكر أيضاً في أمته والنهوض بها ليكون مستقبلها زاهراً، وهذا كله يحتم عليه أن يكون سقف طموحاته عالياً ليتمكن هو وأقرانه من الطلاب والعلماء من ردم الفجوة بيننا وبين الغرب الذي سبقنا على أكثر من صعيد.

باختصار: إن مسؤوليتنا ورسالتنا وانتماءنا لهذه الأمة يفرض علينا أن نعيش حالة طوارئ ثقافية وعلمية.


 
س » ما رأيكم في الاختلاط المنتشر في عصرنا، وكيف نحاربه؟
ج »

إنّ الاختلاط قد أصبح سمة هذا العصر في كثير من الميادين، ومنها الجامعات والطرقات والساحات وكافة المرافق العامة.. والاختلاط في حد ذاته ليس محرماً ما لم يفضِ إلى تجاوز الحدود الشرعية في العلاقة بين الرجل والمرأة الأجنبيين؛ كما لو أدى إلى الخلوة المحرمة بالمرأة أو مصافحتها أو كان المجلس مشوباً بأجواء الإثارة الغرائزية أو غير ذلك مما حرمه الله تعالى.

وفي ظل هذا الواقع، فإنّ العمل على تحصين النفس أولى من الهروب أو الانزواء عن الآخرين بطريقة تشعرهم بأن المؤمنين يعيشون العُقد النفسية. إن على الشاب المسلم أن يثق بنفسه وأن يفرض حضوره ووقاره، وأن يبادر إلى إقناع الآخرين بمنطقه وحججه، وأن يبيّن لهم أن الانحراف والتبرج والفجور هو العمل السيّئ الذي ينبغي أن يخجل به الإنسان، وليس الإيمان ومظاهر التدين.

وأننا ندعو شبابنا عامة وطلاب الجامعات خاصة من الذكور والإناث إلى أن يتزينوا بالعفاف، وأن يحصنوا أنفسهم بالتقوى بما يصونهم من الوقوع في الحرام.


 
س » كيف يمكن التخلص من السلوكيات والعادات السيئة؟
ج »

إن التغلب على السلوكيات الخاطئة أو العادات السيئة – بشكل عام – يحتاج بعد التوكل على الله تعالى إلى:

أولاً: إرادة وتصميم، ولا يكفي مجرد الرغبة ولا مجرد النية وانما يحتاج بالإضافة إلى ذلك إلى العزم والمثابرة وحمل النفس على ترك ما اعتادته.

ثانياً: وضع برنامج عملي يمكّن الإنسان من الخروج من هذه العادة السيئة بشكل تدريجي؛ وأرجو التركيز على مسألة "التدرج" في الخروج من هذه العادات السيئة؛ لأن إدمان النفس على الشيء يجعل الخروج منه صعباً ويحتاج إلى قطع مراحل، وأما ما يقدم عليه البعض من السعي للخروج الفوري من هذه العادة، فهو - بحسب التجربة - سيُمنى في كثير من الأحيان بالفشل. والله الموفق


 
 
  محاضرات >> دينية
في محراب الأبوة
الشيخ حسين الخشن



 

في محراب الأبوة

 

   في محراب الأب تخجل الكلمات وتخشع الأصوات وتخرس الألسنة..

 

   وإلى عرين الأب يدخل المرء متهيباً خائفاً وجلاً.

 

وعلى جثمان الأب يقف الابن محدودب الظهر فقد بدأت مرحلة الشيخوخة والهرم، فإنّك حتى لو كنت في مقتبل العمر ستبقى تشعر بطفولتك وأنت تعيش في كنف أبيك فإذا ما فارق الدنيا شعرت بالكهولة.

 

   وفي رثاء الأب يقف الخاطر الملهم عاجزاً حائراً لا يهتدي بياناً، فماذا عساه يقول؟ وأياً كان ما يقول شعراً أو نثراً فإنّه لن يلامس شرف الأبوة.

 

  في محراب الأبوة وقفت حائراً بين حديث الفكر وحديث الوجدان، ودون وعي وجدتني أنشدّ إلى حديث الوجدان، فقلت لنفسي: وما الضير في ذلك؟ أليس الإنسان عقلاً وقلباً، وكما يحتاج العقل إلى غذاء فإنّ القلب يحتاج إلى غذاء أيضاً، لهذا فليكن الطابع العام لحديثي في هذه المناسبة طابعاً وجدانياً، ولا سيما أننا في زمن تراجعت فيه العواطف وتخشبت الأحاسيس.

 

 

ما أحوجنا إلى حديث الروح

 

 فما أحوجنا في هذه الأيام إلى حديث القلب والروح والوجدان، إلى حديث يثير فينا الأحاسيس الإنسانية ويحرّك العواطف النبيلة، فإنّ كل ما يجري في أمتنا ومن حولنا من توحش وسفك للدماء يشي بأمر واحد وهو أنّ القلوب قد قست وأنّ الإنسان فينا قد قتل، وأنّ الإنسانية هي الذبيحة قبل أن يكون الإنسان هو الذبيح، وأنّ الرصاصة التي تطلقها على الآخر إنما تقتل إنسانيتك قبل أن تصل إلى الآخر لتقتله، فقد قست القلوب حتى غدت كالحجارة أو أشد قسوة، وما أعجب هذا الإنسان وما أغرب أمره فبينما تراه حملاً وديعاً سرعان ما يتحوّل إلى وحش كاسر ضارٍ ينهش لحم أخيه الإنسان بدمٍ بارد!

 

 وبكل أسف أقول: لقد غادرتنا القيم والأخلاق، ومن أشرف وأنبل هذه القيم المغادرة قيمة الأبوة، فلم يعد الابن يعي معنى أن يكون فلاناً أباه؟ ولا الأب يعي معنى أن يكون أباً.

 

 

معنى أن يكون لك أب

 

أن يكون فلان أباك يعني أنّه أصلك وأنت فرعه ولا قيمة للفرع بدون الأصل، أن يكون فلان أباك يعني أنّه الشجرة وأنت الغصن وإذا انفصل الغصن عن الشجرة أصابه الذبول واليباس.

 

أن يكون فلان لك أباً فهذا يعني أنّ أقل ما يلزمك تجاهه أن تبرّه وتحسن إليه وأن تكون في خدمته وتنحني إجلالاً واحتراماً له، وأن تبقى في خدمته كلما احتاج إليك، فخدمة الأب هي عبادة لله تعالى، وطاعتك لأبيك هي من طاعتك لله تعالى، {وقضى ربك ألا تعبدوا إلاّ إياه وبالوالدين إحساناً إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أفٍ ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً} [الإسراء 23 – 24].

 

 أن يكون فلان لك أباً فهذا يعني أن تعرف حقوقه عليك، وقد سئل الحبيب المصطفى ما حق الوالد على ولده؟ قال: لا يسميه باسمه ولا يمشي بين يديه ولا يجلس قبله ولا يستسب له"[1].

 

   وقد جاء أحدهم ذات يوم إلى رسول الله (ص) يشكو إليه أباه ويخاصمه فقال: يا رسول الله هذا أبي وقد ظلمني ميراثي من أمي فأخبره النبي(ص) أنّه أنفقه عليه وعلى نفسه، فقال له النبي (ص): "أنت ومالك لأبيك"[2]، فما أقل حياء هذا الشخص إذ يتجرأ ويقدم أباه للمحاكمة ويشتكي عليه!

 

 وفي دعاء الإمام زين العابدين(ع) لوالديه: "اللهم اجعلني أهابهما هيبة السلطان العسوف وأبرهما بر الأم الرؤوف، واجعل طاعتي لهما وبري بهما أقر لعيني من رقدة الوسنان وأثلج لصدري من شربة الظمآن"[3].

 

 

معنى أن تكون أباً

 

وأمّا أن تكون أباً فليس معناه أن تكون قادراً على الانجاب، فكل ذكر لديه قدرة على الانجاب حتى لو لم يكن من جنس البشر.

 

   أن تكون أباً يعني أن تكون الحضن الدافئ لأبنائك، وأن تكون المرشد والناصح لهم، وأن تكون الحصن المنيع الذي يحميهم، وأن تكون أباً يعني أن توزع عاطفتك على الجميع دون انحياز، فقد رأى النبي (ص) رجلاً معه ولدان وقد قبّل أحدهما وترك الآخر فقال: "هلا واسيت بينهما!"[4].

 

   إنّ انحيازك العاطفي لولد دون آخر يعني أنّك تزرع الأحقاد بين الأبناء، ولذا فعندما تطلب من ابنك أن يبرّك فعليك أن تعينه على برّك، من خلال أخذك بأساليب التربية الناجحة، يقول النبي الأكرم (ص) فيما روي عنه: "رحم الله من أعان ولده على برّه، قال: قلت: وكيف يعينه؟ قال: يقبل ميسوره ويتجاوز عن معسوره ولا يرهقه ولا يخرق به"[5].

 

   إنّ معنى أن تكون أباً يحتّم عليك أن تهتم لأمر ابنك، وأن تعلم أنّ ابنك هو كنفسك فتحبّ له ما تحب لها وتكره له ما تكره لها، من وصية الإمام علي (ع) للإمام الحسن (ع): "ووجدتك بعضي بل وجدتك كلي حتى كأنّ شيئاً لو أصابك أصابني وكأنّ الموت لو أتاك أتاني، فعناني من أمرك ما يعنيني من أمر نفسي"[6].

 

   أن تكون أباً أن تهتم بغذاء أبنائك المعنوي والروحي كما تهتم بغذائهم المادي، وأن تهتم بجمالهم الروحي والخُلقي كما تهتم بجمالهم الجسدي.

 

    أن تكون أباً أن تهتم بمستقبل أبنائك وكثيراً ما نسمع البعض يقول: "بدي أمّن مستقبل أولادي" وهذا جميل، ولكن الأمر المستغرب أننا نهتم لمستقبلهم القريب ولا نهتم بمستقبلهم البعيد يوم يقوم الناس لرب العالمين {يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة} [الملك 6].

 

 

الأبوة المعنوية

 

   في محراب الأبوة لا بدّ أن أطل على معنى آخر من معاني الأبوة ألاّ وهو الأبوة المعنوية، فلكل منا أب بيولوجي، وفي الغالب فإنّ له أيضاً أباً معنوياً، والأبوة المعنوية هي أبوة الفكر وأبوة الرسالة وأبوّة الإمامة، يقول النبي (ص): "يا علي أنا وأنت أبوا هذه الأمة"[7]، فرسول الله( ص) هو أبونا في الرسالة ونحن أبناؤه في الاتباع والاقتداء، وعيسى ابن مريم(ع) هو أبونا ونحن أبناؤه في الحب والانتماء، وعلي بن أبي طالب(ع) أبونا ونحن أبناؤه في الحب والولاء.

 

   وإذا كان رسول الله (ص) أبانا جميعاً فهذا يعني أننا أخوة، فكيف يستحل الأخ أن يأكل لحم أخيه! {أيحب أجدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه} [الحجرات 12] ويا ليته يأكل لحم أخيه بالغيبة فقد صار يأكله بالحقيقة ! لقد كانت هذه الآية تشير إلى معنى مجازي في أكل لحم الأخ وهو أكله بالغيبة وإذا بمرور الزمان يرأينا العجائب حيث إنّ الأمر أصبح حقيقياً!

 

   وإذا كان علي بن أبي طالب(ع) أبانا جميعاً (ونحن في هذه الأيام في ذكرى استشهاده) فلماذا يريد البعض منا أن يقزّم علياً ليكون أباً لجماعة أو طائفة دون أخرى، علي عابر للطوائف والمذاهب هو بفكره ملك الإنسانية.

 

 

يقول بولس سلامة :

هو فخر التاريخ لا فخر شعب        يدعيه ويصطفيه ولياً

لا تقل شيعةٌ هواة علي                إنّ في كل منصف شيعياً

إنّما الشمس للنواظر عيد              كل طرف يرى الشعاع السنيا

جلجل الحق في المسيحي حتى        عدّ من فرط حبه علوياً

يا سماء اشهدي ويا أرض قري       واخشعي إنني ذكرت علياً

 

إنّ أبوة علي (ع) للمسلمين تجسدت في كل حياته فهي التي دفعته ليتنازل عن حقه من أجل مصلحة الأمة، يقول (ع): "لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن بها جور إلاّ عليّ خاصة"[8].

 

وإني أتساءل معكم أين الآباء الروحيون لهذه الأمة في هذه المرحلة ؟ فما أحوجنا اليوم إلى أبوة تجمع ولا تفرق، أبوة تحب ولا تكره، أبوة تحتضن ولا تذبح، أبوة تلم أبناءها جميعا تحت سقف بيت واحد.

 

 

الأبوة المجازية

 

وهناك شكل ثالث من أشكال الأبوة، وهو الأبوة المجازية التي دعت وصايا النبي (ص) وأئمة أهل البيت (ع) إلى تكريسها بين بني الإنسان وبين الطبيعة، فالأرض التي نعيش في كنفها هي أمنا وأبونا، فمنها خلقنا وإليها نعود، يقول النبي (ص): "تمسحوا بالأرض فإنّهما أمكم وهي فيكم برّة"[9]، وفي حديث آخر: "أكرموا عمتكم النخلة"[10].

 

 فإذا كانت النخلة عمتنا فما يمنع أن تكون الزيتونة هي خالتنا وأن تكون التينة هي ابنة خالتنا.. وأن تكون الأرض هي أبونا كما هي أمنا.

 

   إنّ هذه الأحاديث ترمي إلى تأكيد معنىً سامٍ ورائع، ألا وهو أنّ بينك – أيها الإنسان- وبين هذه الأرض التي تعيش في كنفها علاقة نسبية، فهي أبوك وهي أمك، فانظر كيف تتعامل معها، فلا تعتدي على جمالها، ولا تعبث بنواميسها، كما يحصل اليوم حيث أصبح الكوكب معرضاً للمخاطر بكل ما فيه ومن عليه، وكل ذلك بما جنته أيدي الناس، {ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا ولعلهم يرجعون} [الروم 41].

 

وإذا كانت الأرض هي أمنا فعلينا أن نرأف بها كما نرأف بالأم، وأن لا نقسو عليها، فعنما تضع قدمك على النبات فامش بهدوء ولا تسحقه، يقول الشاعر:

ارحم الغصن لا تنله بسوء    قد يحس النبات كالإنسان

واستمع للحفيف منه تجده     بات يشكو الإنسان للرحمان

 

وإذا كانت الأرض هي أبونا وأمنا وهي مبدأنا وإليها معادنا، وهي مدفن آبائنا وأجدادنا، فمهلاً مهلاً أيها الإنسان لا تقسو عليها، واعلم أنك عندما تمشي عليها فإنك قد تضع قدمك على بقايا أجساد الآباء والأجداد، كما قال الإمام علي (ع) في بعض كلماته عند تلاوته لقول الله تعالى: {ألهاكم التكاثر}: ".. تطأون هامهم وتستثبتون في أجسادهم"[11]، وقد أخذ عنه المعري هذا المعنى حيث يقول :

 

خفف الوطء ما أظن أديم الأرض             إلاّ من هذه الأجساد

وقبيح بنا وإن قدم العهد                       هوان الآباء والأجداد

سر إن استطعت في الهواء رويداً             لا اختيالاً على رفات العباد

 

 

علّمته الأرض

 

وحديث أبوة الأرض هذا يأخذنا إلى الوالد الحبيب رحمه الله، فقد وعى أبوة الأرض للإنسان جيداً، ولذا يمكنني وصفه بكلمة مختصرة وهي  أنّه ابن الأرض، وقد أقام علاقة صداقة معها وتعلّم منها دروساً لا تعدّ ولا تحصى، فالأرض مدرسة ونعم المدرسة لمن كان له بصيرة.

 

فقد علّمته الأرض معنى الأبوة، وذلك عندما تحتضن البذرة وتحنو عليها وتسقيها وتنميها حتى تغدو شجرة باسقة.

 

علّمته الأرض الكرم والعطاء، فهي تعطيك بمقدار ما تعطيها، فهي لا تعرف البخل أبداً، {فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج} [الحج 5].

 

علّمته الأرض أن يكون حراً رافضاً للظلم، لأنّ الأرض لا يمكن أن تقبل عرقاً ظالماً فيها وغريباً عليها، فهي تلفظ العرق الذي ليس من بيئتها ولا ينتمي إلى طينتها ولا تسمح له بالبقاء طويلاً.

 

علّمته الأرض أن يكون صلباً قوياً في مواجهة الأعاصير، فإنّ "الشجرة البرية أصلب عوداً" كما قال أمير المؤمنين (ع)[12].

 

علّمته الأرض أن لا يخضع ولا ينقاد إلاّ لله، فالأرض لا تعرف التمرد على خالقها، فكما قال تعالى:{فقال لها وللأرض أئتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين} [فصلت 11].

 

هذا ما علّمته الأرض أمّا هو فقد بادلها الجميل بالجميل والحب بالحب، فأعطاها من عرقه ومن دمه، أعطاها كل حياته ولم يبخل بشيء وكانت الأرض وصيته الأخيرة وظلّ محباً ومهتماً لأمرها إلى أن  نزل في حناياها ملتحداً.

 

 

أشعر بالفخر والأعتزاز

 

لهذا ولغيره، فإنّي عندما أدخل محرابك يا أبتاه أشعر بالفخر والاعتزاز.

 

فقد كنت العبد الصالح المؤمن، كنت الصابر المحتسب إلى الله تعالى، لقد كنت جبلاً من الصبر، ولذا لم يستطع المرض أن ينال من إيمانك وعزيمتك، لقد استطاع أن ينهك الجسد لكن الروح بقيت محلقة مع الله تعالى، كنت تتلوى من وطأة الأوجاع على فراشك ومع ذلك ما تصدر منك كلمة "آخ"، بل كان وردك الدائم هو ذكر الله تعالى، ولطالما أيقظتنا وأنت تناجي الله تعاى قائلاً في ذروة الوجع: "لا إله إلاّ الله الحليم الكريم لا إله إلاّ الله العلي العظيم سبحان الله رب السماوات السبع ورب الأرضين السبع وما فيهن وما بينهن ورب العرش العظيم وس لام على المرسلين والحمد لله رب العالمين"، أو قائلاً: "عفوك يا رب عفوك يا رب".

 

ولا أنسى عندما استدعينا لك الطبيب على عجل، فبينما كان يعاينك وأنت تترنم بكلمات فقال لي: إنّه يريد شيئاً، فقلت له: كلا، إنّه لا يريد شيئاً، وإنّما هو يردد  الدعاء مع الداعي الذي كان يسمع صوته عبر المذياع.

 

وإن أنسى لا أنسى حرصك على المصلحة العامة وتفكيرك في الشأن حتى وأنت تتلوى وجعاً، فكم قلت لي في أيامك الأخيرة: إنّ البلدة تحتاج إلى مقبرة جديدة فقد ضاقت المقبرة بأهلها، وكنت تقدّم لي اقتراحات عملية في هذا المجال، وكلما دخلت عليك كنت تسألني ماذا فعلتم ؟ وقد أخذني الفضول ذات مرة فسألتك: لماذا يهمك هذا الأمر؟ فقلت لي: أليس في ذلك أجر وثواب؟ فقلت لك وقد طابت نفسي بنبل مقصدك: بلى فإن "الدال على الخير كفاعله"[13].

 

 وإن أنسى فلا أنسى حرصك واهتمامك بتواصل الأرحام، فقد زارك بعض الأرحام وأنت على فراش الموت ونظر إليك ولم يتمالك دموع عينيه، فقلت له: يا فلان هل لي عندك كرامة؟ فأجاب قائلاً: أنا بخدمتك يا حاج، فقلت له : إذن صالح أختك فلانة، وكان لك ما أردت وأحضرنا الطرفين وتعانقا وتصافحا في محضرك.

 

هذا بعض مما كنت عليه يا والدي،  وإني إنما أذكره هنا للعبرة، وعسى أن نوفيك بعض حقوقك علينا.

 

سامحنا يا أبتاه على تقصيرنا وعقوقنا، فهذا العقوق يثقل أوزارنا وآمل أن لا يستمر هذا العقوق بعد الموت.

 

 

رحمك الله وأسكنك الفسيح من جنانه وحشرك مع محمد وأهل بيته الأطهار.

 

 

·       ألقيت في ذكرى أسبوع الوالد رحمه الله في حسينية بلدة سحمر, وذلك في 21 رمضان 1433هجري.



[1] الكافي ج2 ص159.

[2] الكافي ج5 ص135.

[3] الصحيفة السجادية، والوسنان هو من غلبه النعاس.

[4] عدة الداعي لابن فهد الحلي ص79.

[5] الكافي ج6 ص50.

[6] نهج البلاغة.

[7] علل الشرائع للصدوق ج1 ص127.

[8] نهج البلاغة ج1 ص124.

[9] المجازات النبوية للشريف الرضي ص 269، ودعائم الإسلام للقاضي نعمان المصري ج 1 ص178، المصنف لابن أبي شيبة ج 1 ص 187.

[10] مجمع الزوائد للهيثمي ج5 ص39.

[11] نهج البلاغة ج 2 ص 205، بيان: الهام جمع هامة وهي أعلى الرأس، وتستثبتون أي تحاولون إثبات ما تحتاجونه من الأعمدة ونحوها في الأرض، فأنت تثبتون ذلك في أجسادهم.

[12] نهج البلاغة ج3 ص73.

[13] كما في حديث النبي الأكرم (ص) ، انظر: من لا يحضره الفقيه للصدوق ج 4 ص 380.

 






اضافة تعليق

الاسم *

البريد الإلكتروني *

موضوع *

الرسالة *


 


 
  قراءة الكتب
 
    Designed and Developed
       by CreativeLebanon