حوار مع مركز أفاق للدراسات والأبحاث: مشكلة الأديان تتشكل في الخطاب الفقهي    ثمن الحرية    أمثل الأساليب في عمليّة تهذيب النفس    مزايا الشباب    العمل سرّ النجاح    العبادة وعيٌ وانفتاح لا جهل وانغلاق    اقتناء أصنام الأمم البائدة    المفاهيم الدينية بين وجوب الاعتقاد وحرمة الانكار    البناء الاعتقادي بين الاجتهاد والتقليد    
 
بحث
 
تكريم الإنسان
 
س » هل ممكن إثبات وحيانية القرآن وعدم تحريفه من خلال مضمونه؟
ج »

إن الوحي الإلهي في عملية وصوله إلى البشر يحتاج إلى مرحلتين أساسيتين ليصلح كمصدر معصوم وعلى البشر الانقياد له، وهما:

المرحلة الأولى: مرحلة التلقي عن الله تعالى، بمعنى أنه حقاً وحي نزل من قِبل الله تعالى على رسول الله (ص).

المرحلة الثانية: مرحلة الصدور عن النبي (ص) والوصول إلينا سالماً من التحريف.

 

أما بالنسبة إلى المرحلة الثانية، أعني إثبات صحة صدوره عن رسول الله (ص) وعدم تعرضه للتحريف من بعده. فتوجد عشرات الدراسات والكتب والمصادر التي تؤكد على عدم تعرض القرآن الكريم للتحريف، وقد بحثنا هذا الأمر بشكل مفصل وأقمنا أدلة كثيرة على أنّ هذا القرآن هو عين القرآن الذي جمعه النبي (ص) ودونه وانتشر بعد ذلك بين المسلمين جيلاً بعد جيل، راجع كتابنا "حاكمية القرآن الكريم": الرابط  https://al-khechin.com/article/632

 

أما بالنسبة للمرحلة الأولى، أعني إثبات وحيانية الكتاب وأنه ليس مختلقاً من النبي (ص) أو من وحي الخيال، فهو أمر نستطيع التوثق منه بملاحظة العديد من العناصر التي - إذا ضمت إلى بعضها البعض - تورث الإنسان اليقين بأن هذا الكتاب لا يمكن إلا أن يكون وحياً من الله تعالى، وهذه العناصر كثيرة وأهمها:

 

أولاً: ملاحظة المنظومة المعرفية المتكاملة والرؤية الكونية والوجودية المتماسكة التي جاء بها القرآن، ففي عصر عرف بالجاهلية والخواء الفكري، يأتي محمد (ص) بكتاب يمثل منعطفاً تاريخياً بما يتضمنه من تأسيس معرفي لرؤية فكرية جديدة، إن فيما يتصل بالخالق وصفاته وعلاقة المخلوق به، أو رحلة المبدأ والمعاد، أو يتصل بالكون ودور الإنسان فيه، أو ما ما تضمنه من نظام اجتماعي وأخلاقي وروحي، وعلى القارئ الموضوعي للقرآن أن ينظر إليه نظرة واسعة وشمولية ولا يغرق في بعض الجزئيات المتصلة ببعض الآيات المتشابهة التي أشكل عليه فهمها بما يحجب عنه ما رسالة القرآن الحقيقية. وأنصحك بقراءة كتاب "وعود الإسلام" للمفكر والفيلسوف الفرنسي روجيه غارودي في هذا الشأن، وكتاب "الإسلام كبديل" للمفكر الألماني مراد هوفمان.

 

ثانياً: نظم القرآن، فإنّ كل منصف أمعن ويمعن النظر والتأمل والتدبر في آيات القرآن، لا مفر له من الاذعان أنّه أمام نصٍّ عظيم ومتميّز في تماسكه وتناسق موضوعاته وعلو مضامينه، وعمق معانيه، والقوة في حججه وبراهينه، والبلاغة العالية في أسلوبه المتميز عن النثر والشعر، وفي ألفاظه وجمله وتراكيبه مما يأخذ بالألباب والعقول. وسوف لن يتوانى عن الإقرار بأنّ هذا الكتاب هو - كما وصف نفسه - قول فصل: {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} [الطارق 13- 14] خالٍ من التناقض والاختلاف، {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء 82] وأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

 

باختصار: إنّ في آيات القرآن الكريم كيمياءً خاصة وروحاً عجيبة وعذوبة فائقة الجمال وقوة بيانية ومضمونية لا تضاهى، ولا شك أنّ من وطّن النفس على اتباع الحق وأصغى إلى آيات الكتاب بمدارك العقل ومسامع القلب سوف يرى فيها جاذبية ونورانيّة مميزة وروحانية عالية، كما أنّ فيها نُظماً راقية ومتقدمة لا يمكن أن تبلغ قوّتها وعمق مضامينها وتدفق معانيها أي نصوص أخرى. وهذا في الوقت الذي يدل على إعجاز القرآن فهو يدل أيضاً على عدم تعرضه للتحريف.

وإنّ الجاذبيّة المذكورة لآيات القرآن الكريم هي مما اعترف بها البلاغاء العرب وكثير من الحكماء من المسلمين وغيرهم، ولم يجرؤ فطاحلة الشعراء والأدباء من العرب أن يعارضوه بطريقة جديّة ذات قيمة رغم تحديه لهم ودعوتهم إلى معارضته، قال سبحانه: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [الإسراء 88] وما هذا إلا دليل على قوة القرآن وعدم وجود أية ثغرة فيه أو زيادة أو نقيصة.

 

ثالثاً: ملاحظة صفات الشخصية (ص) التي جاءت بهذا الكتاب، فهو شخص أمّي لم يدرس عند أحد ومع ذلك أتى بهذا القرآن بكل ما يتضمنه من تناسق مبدع ومضمون روحي ومعرفي غير مسبوق، وكذلك ملاحظة سيرته وأقواله وسلوكه الشخصي وخصائصه الذاتية التي تؤكد على تمتعه بأعلى درجات النزاهة والصدقية والطهارة، ومعلوم أنّ حياة الإنسان هي أهم مختبر لصدقية طروحاته ومقولاته، ويلي ذلك دراسة مشروعه الثقافي والحضاري وما تتضمنه رسالته من معارف ومفاهيم لم يعرف الإنسان عنها إلا القليل، ويلي ذلك ملاحظة إنجازاته وحجم التأثير والتغيير الذي أحدثه في المجتمع، والمقارنة بين ما جاء به وبين الموروث الثقافي في السائد في مجتمعه أو الذي جاءت به الكتب الأخرى، فإنّ البشر مهما كان عبقرياً لا يتسنى له أن يخرج عن الموروث الثقافي الذي يحكم بيئته الاجتماعية، فعندما ترى شخصا قد أوجد انقلاباً حضارياً معتمداً على منظومة فكرية وثقافية لا تمت بصلة إلى المستوى الثقافي لمجتمعه، فهذه القرائن وسواها قد تورث اليقين بصدقيته، أأسميتها معجزة أم لم تسمها.

 

رابعاً: أما بعض التفاصيل مثل قضية طول عمر الإنسان، أو قضية يأجوج ومأجوج، أو غيرها، فهي قضايا تسهل الإجابة عليها، ولا أعتقد أنها تشكل معضلة كبيرة، إذا أخذنا بعين الاعتبار أمرين:

 الأول: أن التجارب العلمية لا تزال تفاجئنا كل يوم بجديد وأنّ ما قد نخاله اليوم غير معقول قد يصدقه العلم بعد غد. 

 الثاني: إنّ فهم الكتاب وآياته، ليس محكوماً بالقراءة العرفية اللغوية، وأنّ ثمة مجالاً للقراءة الرمزية – على الأقل – بالنسبة لصنف من الآيات القرآنية.


 
س » هل صحيح إن الإسلام الحنيف لم يسمح لغير الفقهاء بالإفتاء الشرعي ، ولكن الكلام في العقيدة والمسائل الثقافية هو حقٌَ للجميع ، ولكن لابد أن يكون الكلام عن علم ومعرفة ؟
ج »
إن الافتاء بغير علم أمر مبغوض عقلا وشرعا، قال تعالى: وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (الإسراء ٣٦) 

 

ولا يفرق الحال في مبغوضية وكراهية الكلام بغير علم بين الفقه والعقيدة والتاريخ وغيرها من العلوم. ولا يجوز للإنسان، في كل ما لا يملك معرفته، أن يتحدث بضرس قاطع فيه. وبالتالي فإن على الجاهل أن يتعلم ويرجع إلى العالم. والرجوع إلى العالم، هو أيضا أمر عقلاني جرت عليه سيرة العقلاء، وقد أرشد إليه الشارع في قوله تعالى:  ۚ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (النحل ٤٣)
 
أجل، إذا كان ثمة فارق بين الحقل الفقهي والحقل العقدي، فليس لانه يحرم في الفقه الإفتاء لغير الفقهاء بينما في العقيدة يجوز ذلك لغير الفقهاء؛ كلا، إن كان ثمة من فارق، فهو أن على الإنسان في المجال العقدي أن يكون مجتهدا في أمهات قضايا العقيدة ولا يجوز له التقليد خلافا للمجال الفقهي حيث يجوز له التقليد، إلى غيرها من فوارق.. والله الموفق

 
 
  مقالات >> فكر ديني
الخطاب الإسلامي بين قيود الماضي وتحدّيات الحاضر والمستقبل
الشيخ حسين الخشن



 

الخطاب الإسلامي بين قيود الماضي

وتحدّيات الحاضر والمستقبل

 

 

منذ أمد ليس بالقصير جاهر أفراد من أُمّتنا بالدعوة إلى الانقطاع عن الماضي والتاريخ، معتبرين أنّ ذلك هو الخطوة الأولى على طريق تقدّم الأُمّة والتحاقها بركب التطوّر الحضاري، وهكذا شهدنا مَنْ يسعى- تنظيراً وعملاً- نحو الانعتاق عن الجذور والتراث بحجّة كونه عقبة كأداء تتعارض مع التطوّر الحضاري والتقدّم العلمي وتعترض مسيرتهما، وكان الحلّ الأمثل عند هؤلاء في تقليد الغرب ومحاكاته واستنساخ تجربته والتخلّق بأخلاقه.

 

وفي المقابل شهدنا ولا نزال، الكثير من المدارس التي تنظر إلى الماضي بقداسة وتسعى إلى استعادته واستنساخه برمّته من دون تمييز بين غثِّه وسمينه، ثابته ومتغيّره، معتبرة أنّ سعادة الأُمة وعزّتها تكمن في ذلك وأنّ تأخّرها وهزيمتها بدأت عندما انقطعت عن تاريخها، ولهذا يتوجّس هؤلاء من كلِّ جديد ويحاربون كلّ حادث لأنّه بدعة، وكلّ بدعة ضلالة، وكلّ ضلالة في النار، ولا نزال إلى يومنا هذا نسمع عن أشخاص يرفضون الوقوف أمام آلات التصوير(الكاميرات) أو يعتقدون أنّ الأرض مسطّحة وليست كروية...!

 

إنّ شطط أولئك وسطحية هؤلاء، قد خلقت ردّات فعل عنيفة بين الطرفين إزاء بعضهما البعض تمثّلت تعبيراتها وتجلّت في التكفير أو التبديع الذي يلهج به لسان الماضويين تجاه خصومهم، أو بالخروج على الآداب الإسلامية والتهجّم على المقدسات الذي يقع فيه المنبهرون بالحضارة الغربية، وهذا ما أوجد في واقع الأُمة مدرستين متضادتين لا يزال الصراع بينهما يشتد تارة ويخبو أخرى.

 

وفي قبال هاتين المدرستين، برزت مدرسة ثالثة وسطية، تبنّاها جَمْع من علماء الأُمة ومثقفيها وتميزت برفضها لاستنساخ الماضي واستنساخ تجربة الآخرين على السواء، لاسيّما التجربة الغربية، كما أنّها رفضت القطيعة مع الماضي أو القطيعة مع الآخرين وتجاربهم. وإنّنا نعتقد أنّ هذه المدرسة الوسطية هي المدرسة الصحيحة، لانسجامها مع روح الإسلام ومقاصده ونصوصه. 

 

 

 

القطيعة مع التراث

 

وإنّ الدعوة إلى القطيعة مع التراث واعتباره سبباً في تخلّف الأُمة وتراجعها هي دعوة مجّانية للحقيقة ومجافية للواقع، وهي تنطلق في الحقيقة من قياس خاطئ وجهل بيّن، فقد رأى هؤلاء أنّ النهضة الأوروبية لم تنجح إلاّ بعد أن تخلّصت أوروبا من قيود الكنيسة وهيمنتها، لأنّ الكنيسة في القرون الوسطى غلب عليها التحجّر والجمود فوقفت بوجه المسيرة الحضارية وحالت دون تكاملها، ولم تنطلق العلوم أو تزدهر إلاّ بعد إقصاء الدين عن التأثير في الحياة السياسية والاجتماعية، لكنّنا نعتقد أنّ قياس حال الأُمة الإسلامية على الواقع الغربي قياس غير منطقي وينطلق من مفردة جزئية، ثم يعمّم الحكم على المجتمعات الأخرى بأحكام كليّة لا يمكن إصدارها إلاّ بعد استقراء الكثير من الجزئيات واكتشاف تشابهها في الخصوصية[1].

 

ولدى دراسة تاريخنا الإسلامي نجد أنّ المسيرة الحضارية التي شهدتها الأُمة ما كانت لتنجح لولا حضانة علماء المسلمين وفقهائهم وحكّامهم لها، وحمايتها ودعمها، ولا نجد الفقهاء- في الأعمّ الأغلب- واقفين حجر عثرة في وجه التطوّر العلمي أو يرون فيه تعدّياً على صلاحياتهم أو مقوّضاً لمكانتهم، أو يشكّل تجديفاً بالخالق واعتداءً على ذاته المقدسة وصلاحياته في إدارة الكون، وإدراكاً منه لهذا الفارق الموضوعي بين الواقع الإسلامي والواقع الغربي قال أحد علماء المسلمين (الشيخ محمد عبده) كلمته الشهيرة: "إنّ أوروبا تركت الدين فتقدّمت وتركناه فتخلفنا".

 

 

استحضار الماضي

 

ولكن لسائل أن يسأل، لماذا هذا الإلحاح على استعادة الماضي واستحضاره مع أنّ تحديات الحاضر تحاصرنا، وتجعل الأرض تهتز تحت أقدامنا وتهدّد حاضرنا ومستقبلنا! أوليست الأُمة المنهزمة هي التي تلحّ على الهروب إلى ماضيها المجيد لتشعر بتعويض نفسي عن تقهقرها وانهزامها؟ وإلى متى يبقى الانشداد نحو الماضي بطريقة تعمل على استحضاره بكل تفاصيله ومآسيه وتسعى إلى استنساخه؟ إلى متى يبقى ذلك هو الصفة التي تطغى على الخطاب الإسلامي على مستوى الظاهرة؟!

 

ولنا أن نقول تعليقاً على ذلك: إنّ في هذا الكلام قدراً كبيراً من الصحة، إلاّ أنّ ذلك لا يبرر القطيعة مع التراث، بل يدعونا إلى التأمّل في كيفية استعادته وتوظيفه، ويمكننا أن نذكر في هذا الصدد عدة أمور: 

 

1-  إنّ علينا عندما ندرس التاريخ، أن لا ندرسه دراسة مَنْ يريد أن يتجمّد فيه ويعود إلى الوراء، بل دراسة مَنْ يريد أن يميّز صفوه من كدره، وإيجابيّاته من سلبيّاته، دراسة مَنْ يقرأه بوعي ليتعرّف على سننه وقواعده الحاكمة على مسيرته، ليعرف- على ضوء ذلك- كيف يتحرّك في الحاضر ويساهم في صنع المستقبل، وعلى هذا تغدو دراسة التاريخ أمراً ضروريّاً وملحّاً بدل أن تكون أمراً عبثيّاً، وقد تحدّث الإمام عليّ (ع) في وصيّته لابنه الإمام الحسن (ع) عن كيفية دراسة التاريخ وأهدافها، فقال: "أي بنيّ إنّي وإن لم أكن عُمّرت عمر مَنْ كان قبلي، فقد نظرت في أعمالهم وفكّرت في أخبارهم وسرت في آثارهم حتى عدت كأحدهم، بل كأني بما انتهى إليّ من أمورهم قد عمّرت مع أولهم إلى آخرهم، فعرفت صفو ذلك من كدره ونفعه من ضرره، فاستخلصت لك من كل أمر نخيله وتوخيت لك جميله"[2].

 

2-  إنّنا عندما نعود إلى هذا التاريخ فلأنه يمثِّل في صوره المشرقة ونماذجه الحيّة، جزءاً من هويّتنا، ومَنْ يتنكّر لهويّته فإنّه لا يحترم نفسه، وبالتالي فلن يحترمه العالم وسيبقى على هامش الحياة.

 

 

إنّ في هذا التاريخ محطّات للحقّ والعدل وهي لا تعرف الزمن، ولنا فيه مُثلٌ عُليا نحن بأمس الحاجة إلى الاقتداء بها والاستفادة من تجاربها في زمن أصبحت أُمّتنا تستورد المُثُل والأفكار والأخلاق، كما لو كانت تستورد مواد الزراعة والصناعة، ويزيد الأمر خطورة هجوم العولمة الكاسح الذي يلغي كلّ خصوصيات الأُمم الثقافية والفكرية، كما يبتلع اقتصادها ومواردها المالية.

 

3-  إنّ علينا عندما نستعيد تاريخنا المليء بالمآسي والأحداث المريرة أن نستعيده بكل موضوعية وعقلانية، وفي سياق أخذ العبر والدروس منه، كما قال سبحانه: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ}[يوسف: 111]، وليس في سياق تأجيج العصبيات الدينية وإثارة النعرات المذهبية والقومية والعرقية التي تهدف إلى تمزيق الأُمة وتشتيتها إلى أحزاب وفرقٍ تتصارع على التاريخ وباسم رجالاته، وذلك انسجاماً مع القاعدة القرآنية القائلة: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[البقرة: 134].

 

 

         الخطاب الإسلامي المعاصر وتوظيف التاريخ

 

إنّ الراصد للخطاب الإسلامي المعاصر لا يحتاج إلى كثير عناء ليكتشف أنّ فيه كثيراً من الثغرات والعثرات فيما يرتبط بالتعاطي مع التاريخ وتوظيفه في قضايا الأُمّة، فإنّ بعض المدارس ما فتئت تعبّئ الأُمة بأحقاد تاريخية بما يمنع من تواصلها وتلاقيها، أو أنّها تعمل على استنساخ الماضي وتكراره واجتراره بطريقة تُشعرك أنّها تريد لعقرب الحياة أن يعود إلى الوراء. أو أنّها تستغرق في زهو الماضي وانتصاراته وانجازاته بما يُنسيك الحاضر ويجعلك تطيل الوقوف على الأطلال والتغنّي بذكرى الأجداد، من دون أن يكون هناك سعي أو تفكير في استعادة تلك الأمجاد وتشييد تلك الأطلال.

 

وممّا يميّز خطاب الجماعات السلفيّة أنّه خطاب موغل في التاريخ ويعمل على استحضار كلّ مفرداته وأسلحته من الماضي، وهذا الأمر قد يعطيه جاذبية و"مشروعيّة" خاصة لدى جمهور المسلمين الذين ينظرون إلى الظواهر، فيرون أنّ هذا الخطاب يستحضر كلّ مفرادته من عصر النبي (ص) بما في ذلك التسميات أو الكنى التي يُطلقها على أتباعه.

 

 بيد أنّه في الوقت عينه يظلّ أسير الماضي ولا يطلّ على مستجدّات العصر ولا يستطيع أن يواكب الإنسان المعاصر.

 

 

الخلط بين المقدّس وغيره

 

وإنّنا نرى أنّ السبب الرئيس الكامن وراء هذه الثغرات والأخطاء هو عدم إدراك وظيفة الخطاب الإسلامي ودوره في عملية النهوض بالأُمّة، ويكشف عن اختلال المقاييس والموازين التي تجعل المسلم يميّز بين المقدّس وغير المقدّس من التراث، وتمنعه من الخلط بين ما هو تاريخي وما هو عقائدي، أو بين ما هو تاريخي وما هو تشريعي.

 

ومن أمثلة الخلط بين التاريخي والعقائدي: الخَلْط بين منصبَي الإمامة والخلافة الثابتَيْن لأئمّة أهل البيت (ع)- حسب اعتقاد الشيعة- مع فارق رئيسي بين المنصبَين، فالإمامة بما تمثّله من استمرار مهمّ للرسالة دون نبوّة هي منصب ديني يدخل في دائرة المقدّس والعقائدي، بينما الخلافة بما تعنيه من ولاية سياسية وتنفيذية تعنى بحفظ النظام العام، هي مجرّد منصب زمني يمكن انفكاكه عن الإمام، دون أن يضرّ ذلك بإمامته، كما حصل عمليّاً مع معظم أئمّة أهل البيت (ع) حيث أُقصوا عن حقّهم في الخلافة، ولعلّه لذلك، نجد أنّ جُلّ ما ورد عن رسول الله (ص) بشأن عليّ (ع) والأئمّة من وِلْده قد ركّز على إمامتهم ومرجعيّتهم العلميّة والفكريّة أكثر ممّا ركّز على مرجعيّتهم السياسيّة.

 

ويُعتبر الفقيه الكبير السيد البروجردي من أوائل مَنْ تنبّه لهذا الفارق بين الإمامة والخلافة، ولذا كان يرى:

 

"أنّ المطلوب من الشيعة في العصر الحاضر تأكيد المرجعيّة العلمية لأهل البيت (ع) والسكوت عن قضية حقّ عليّ وأولاده في الخلافة"، وكان يقول- كما ينقل بعض تلامذته-: "إنّ الخلافة ليست من القضايا التي يحتاجها المسلمون الآن، بل هي قضية تاريخية ترتبط بالماضي، ولا ضرورة أن يعرف المسلمون مَنْ كان الخليفة في الماضي ومَنْ لم يصل للخلافة، أمّا الذي يجب أن يعرفه المسلمون كافة اليوم وهو مورد احتياجهم، فهو المرجع الذي ينبغي أن يأخذوا أحكام دينهم منه.. "[3].

 

وأمّا أمثلة الخلط بين التاريخي والتشريعي فهي كثيرة جداً، فإنّ الكثيرين يختلط عليهم الأمر ولا يميِّزون بين ما هو تاريخيّ ومرتبط بمستوى التطوّر الحضاري للأُمة، وبين ما هو مولوي تشريعي، وعلى سبيل المثال: لا يزال البعض إلى يومنا هذا يُصرّ على ضرورة ارتداء الرجل ألبسة معيّنة، بكيفيات خاصة اقتداءً برسول الله (ص)، مع أنّ لقائل أن يقول: إنَّ قضية اللباس في شكله ترتبط بالعادات والتقاليد أكثر ممّا ترتبط بالتشريع، ولذا ورد في الحديث عن الإمام الصادق (ع) "خير لباس كلّ زمان لباس أهل زمانه"[4].

 

 

 

 

 

 

 

من كتاب " العقل التكفيري .. قراءة في المنهج الإقصائي "

 

 

 

 



[1]راجع معرفة الإسلام للدكتور شريعتي ص38.

[2]نهج البلاغة ج3 ص41.

[3]نداء الوحدة والتقريب ص235، وراجع الإسلام ومتطلبات العصر للشهيد مطهري ص123.

[4]وسائل الشيعة ج5 ص17، الباب 7 من أبواب أحكام الملابس، الحديث: 7.

 

 






اضافة تعليق

الاسم *

البريد الإلكتروني *

موضوع *

الرسالة *


 


 
  قراءة الكتب
 
    Designed and Developed
       by CreativeLebanon