حوار مع مركز أفاق للدراسات والأبحاث: مشكلة الأديان تتشكل في الخطاب الفقهي    ثمن الحرية    أمثل الأساليب في عمليّة تهذيب النفس    مزايا الشباب    العمل سرّ النجاح    العبادة وعيٌ وانفتاح لا جهل وانغلاق    اقتناء أصنام الأمم البائدة    المفاهيم الدينية بين وجوب الاعتقاد وحرمة الانكار    البناء الاعتقادي بين الاجتهاد والتقليد    
 
بحث
 
تكريم الإنسان
 
س » هل ممكن إثبات وحيانية القرآن وعدم تحريفه من خلال مضمونه؟
ج »

إن الوحي الإلهي في عملية وصوله إلى البشر يحتاج إلى مرحلتين أساسيتين ليصلح كمصدر معصوم وعلى البشر الانقياد له، وهما:

المرحلة الأولى: مرحلة التلقي عن الله تعالى، بمعنى أنه حقاً وحي نزل من قِبل الله تعالى على رسول الله (ص).

المرحلة الثانية: مرحلة الصدور عن النبي (ص) والوصول إلينا سالماً من التحريف.

 

أما بالنسبة إلى المرحلة الثانية، أعني إثبات صحة صدوره عن رسول الله (ص) وعدم تعرضه للتحريف من بعده. فتوجد عشرات الدراسات والكتب والمصادر التي تؤكد على عدم تعرض القرآن الكريم للتحريف، وقد بحثنا هذا الأمر بشكل مفصل وأقمنا أدلة كثيرة على أنّ هذا القرآن هو عين القرآن الذي جمعه النبي (ص) ودونه وانتشر بعد ذلك بين المسلمين جيلاً بعد جيل، راجع كتابنا "حاكمية القرآن الكريم": الرابط  https://al-khechin.com/article/632

 

أما بالنسبة للمرحلة الأولى، أعني إثبات وحيانية الكتاب وأنه ليس مختلقاً من النبي (ص) أو من وحي الخيال، فهو أمر نستطيع التوثق منه بملاحظة العديد من العناصر التي - إذا ضمت إلى بعضها البعض - تورث الإنسان اليقين بأن هذا الكتاب لا يمكن إلا أن يكون وحياً من الله تعالى، وهذه العناصر كثيرة وأهمها:

 

أولاً: ملاحظة المنظومة المعرفية المتكاملة والرؤية الكونية والوجودية المتماسكة التي جاء بها القرآن، ففي عصر عرف بالجاهلية والخواء الفكري، يأتي محمد (ص) بكتاب يمثل منعطفاً تاريخياً بما يتضمنه من تأسيس معرفي لرؤية فكرية جديدة، إن فيما يتصل بالخالق وصفاته وعلاقة المخلوق به، أو رحلة المبدأ والمعاد، أو يتصل بالكون ودور الإنسان فيه، أو ما ما تضمنه من نظام اجتماعي وأخلاقي وروحي، وعلى القارئ الموضوعي للقرآن أن ينظر إليه نظرة واسعة وشمولية ولا يغرق في بعض الجزئيات المتصلة ببعض الآيات المتشابهة التي أشكل عليه فهمها بما يحجب عنه ما رسالة القرآن الحقيقية. وأنصحك بقراءة كتاب "وعود الإسلام" للمفكر والفيلسوف الفرنسي روجيه غارودي في هذا الشأن، وكتاب "الإسلام كبديل" للمفكر الألماني مراد هوفمان.

 

ثانياً: نظم القرآن، فإنّ كل منصف أمعن ويمعن النظر والتأمل والتدبر في آيات القرآن، لا مفر له من الاذعان أنّه أمام نصٍّ عظيم ومتميّز في تماسكه وتناسق موضوعاته وعلو مضامينه، وعمق معانيه، والقوة في حججه وبراهينه، والبلاغة العالية في أسلوبه المتميز عن النثر والشعر، وفي ألفاظه وجمله وتراكيبه مما يأخذ بالألباب والعقول. وسوف لن يتوانى عن الإقرار بأنّ هذا الكتاب هو - كما وصف نفسه - قول فصل: {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} [الطارق 13- 14] خالٍ من التناقض والاختلاف، {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء 82] وأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

 

باختصار: إنّ في آيات القرآن الكريم كيمياءً خاصة وروحاً عجيبة وعذوبة فائقة الجمال وقوة بيانية ومضمونية لا تضاهى، ولا شك أنّ من وطّن النفس على اتباع الحق وأصغى إلى آيات الكتاب بمدارك العقل ومسامع القلب سوف يرى فيها جاذبية ونورانيّة مميزة وروحانية عالية، كما أنّ فيها نُظماً راقية ومتقدمة لا يمكن أن تبلغ قوّتها وعمق مضامينها وتدفق معانيها أي نصوص أخرى. وهذا في الوقت الذي يدل على إعجاز القرآن فهو يدل أيضاً على عدم تعرضه للتحريف.

وإنّ الجاذبيّة المذكورة لآيات القرآن الكريم هي مما اعترف بها البلاغاء العرب وكثير من الحكماء من المسلمين وغيرهم، ولم يجرؤ فطاحلة الشعراء والأدباء من العرب أن يعارضوه بطريقة جديّة ذات قيمة رغم تحديه لهم ودعوتهم إلى معارضته، قال سبحانه: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [الإسراء 88] وما هذا إلا دليل على قوة القرآن وعدم وجود أية ثغرة فيه أو زيادة أو نقيصة.

 

ثالثاً: ملاحظة صفات الشخصية (ص) التي جاءت بهذا الكتاب، فهو شخص أمّي لم يدرس عند أحد ومع ذلك أتى بهذا القرآن بكل ما يتضمنه من تناسق مبدع ومضمون روحي ومعرفي غير مسبوق، وكذلك ملاحظة سيرته وأقواله وسلوكه الشخصي وخصائصه الذاتية التي تؤكد على تمتعه بأعلى درجات النزاهة والصدقية والطهارة، ومعلوم أنّ حياة الإنسان هي أهم مختبر لصدقية طروحاته ومقولاته، ويلي ذلك دراسة مشروعه الثقافي والحضاري وما تتضمنه رسالته من معارف ومفاهيم لم يعرف الإنسان عنها إلا القليل، ويلي ذلك ملاحظة إنجازاته وحجم التأثير والتغيير الذي أحدثه في المجتمع، والمقارنة بين ما جاء به وبين الموروث الثقافي في السائد في مجتمعه أو الذي جاءت به الكتب الأخرى، فإنّ البشر مهما كان عبقرياً لا يتسنى له أن يخرج عن الموروث الثقافي الذي يحكم بيئته الاجتماعية، فعندما ترى شخصا قد أوجد انقلاباً حضارياً معتمداً على منظومة فكرية وثقافية لا تمت بصلة إلى المستوى الثقافي لمجتمعه، فهذه القرائن وسواها قد تورث اليقين بصدقيته، أأسميتها معجزة أم لم تسمها.

 

رابعاً: أما بعض التفاصيل مثل قضية طول عمر الإنسان، أو قضية يأجوج ومأجوج، أو غيرها، فهي قضايا تسهل الإجابة عليها، ولا أعتقد أنها تشكل معضلة كبيرة، إذا أخذنا بعين الاعتبار أمرين:

 الأول: أن التجارب العلمية لا تزال تفاجئنا كل يوم بجديد وأنّ ما قد نخاله اليوم غير معقول قد يصدقه العلم بعد غد. 

 الثاني: إنّ فهم الكتاب وآياته، ليس محكوماً بالقراءة العرفية اللغوية، وأنّ ثمة مجالاً للقراءة الرمزية – على الأقل – بالنسبة لصنف من الآيات القرآنية.


 
س » هل صحيح إن الإسلام الحنيف لم يسمح لغير الفقهاء بالإفتاء الشرعي ، ولكن الكلام في العقيدة والمسائل الثقافية هو حقٌَ للجميع ، ولكن لابد أن يكون الكلام عن علم ومعرفة ؟
ج »
إن الافتاء بغير علم أمر مبغوض عقلا وشرعا، قال تعالى: وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (الإسراء ٣٦) 

 

ولا يفرق الحال في مبغوضية وكراهية الكلام بغير علم بين الفقه والعقيدة والتاريخ وغيرها من العلوم. ولا يجوز للإنسان، في كل ما لا يملك معرفته، أن يتحدث بضرس قاطع فيه. وبالتالي فإن على الجاهل أن يتعلم ويرجع إلى العالم. والرجوع إلى العالم، هو أيضا أمر عقلاني جرت عليه سيرة العقلاء، وقد أرشد إليه الشارع في قوله تعالى:  ۚ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (النحل ٤٣)
 
أجل، إذا كان ثمة فارق بين الحقل الفقهي والحقل العقدي، فليس لانه يحرم في الفقه الإفتاء لغير الفقهاء بينما في العقيدة يجوز ذلك لغير الفقهاء؛ كلا، إن كان ثمة من فارق، فهو أن على الإنسان في المجال العقدي أن يكون مجتهدا في أمهات قضايا العقيدة ولا يجوز له التقليد خلافا للمجال الفقهي حيث يجوز له التقليد، إلى غيرها من فوارق.. والله الموفق

 
 
  مقالات >> فكر ديني
الخطاب الإسلامي بين جمود الفكر وجنوح العاطفة
الشيخ حسين الخشن



الخطاب الإسلامي

بين جمود الفكر وجنوح العاطفة

 

يلاحظ المتأمّل في أسلوب الكثيرين من الدعاة إلى الإسلام تغليباً للخطاب العاطفي على الخطاب العقلاني، وتركيزاً على الثقافة الوجدانية بدل الثقافة البرهانية. ويلقى الخطاب العاطفي رواجاً كبيراً وله أنصار كثيرون، وعلى سبيل المثال: لو أنّنا دعونا المؤمنين إلى المشاركة في مجلس عزاء حسيني لواحد من القرّاء العاديين، وفي الوقت عينه دُعينا إلى محاضرة دينية يتناول فيها عالِم كبير قضية الثورة الحسينية بالدرس والتحليل، لرأينا أنّ المشاركين في مجلس العزاء أكثر بنسبة عالية من المشاركين في المحاضرة الفكرية.

 

وفي المقابل، ينشط اتجاه آخر له أتباعه ومنظِّروه في الدعوة إلى الثقافة العقلية البرهانية التي تتناول القضايا بالتحليل الفكري الجادّ بعيداً عن العاطفة والمشاعر.

ويجدر بنا أمام هذين الاتجاهين أن نبحث عن الموقف الإسلامي إزاء ذلك، لمعرفة أنَّ الصواب هل هو في أحدهما أو أنّه في اتجاه ثالث؟

 

الإنسان عقلٌ وقلب

 

والذي نعتقده، أنّ طبيعة الخطاب الثقافي الإسلامي يجب أن تتلاءم وتتكيّف مع طبيعة المخاطَب به وهو الإنسان نفسه وأن تتحدَّد على ضوئها، لأنّ هذا الخطاب موجَّه للإنسان، والإنسان- كما نعلم- عقل وقلب، والقلب مركز العاطفة والشعور، والعقل مركز التفكير والإبداع، قال عليّ (ع)– فيما رُوِي عنه -: "الرجل بجنانه"[1].

وفي الحديث عن رسول الله (ص): "العقل عقال من الجهل، والنفس مثل أخبث الدواب فإن لم تعقل حارت، وإنّ الله تعالى خلق العقل فقال له: أقبِل فأقبَل، وقال له: أدبِر فأدبَر فقال: وعزَّتي وجلالي، ما خلقتُ خلقاً أعظم منك ولا أطوع منك، بك أبدأ وبك أُعيد، لك الثواب وعليك العقاب.."[2].

 

وليست إنسانيّة الإنسان فقط هي التي تتقوّم وتتحدّد على أساس قلبه وعقله، بل إنّ تديّنه أيضاً لا يكتمل إلا باكتمال عقله وصفاء قلبه، أمّا علاقة الدين بالعقل فواضحة، فالعقل هو ميزان التديّن، قال أحدهم للإمام الصادق (ع): "فلان في دينه وفضله؟ فقال (ع): فكيف عقله؟ فقال السائل: لا أدري، فقال: "إنّ الثواب على قدر العقل"[3]، وعن علاقة الدين بالقلب قال رسول الله (ص)– فيما رُوِيَ عنه -: "لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه"[4].

 

وكما أنّ الإنسان قد يُصاب في جسده، فإنّه قد يُصاب في عقله وقلبه، فكما أنّ للجسد أمراضاً، فإنّ لكلّ من العقل والقلب أمراضاً ومصارع.

 

مصارع العقل

 

1-  فمن أمراض العقل الهوى، عن الإمام عليّ (ع): "كم من عقل أسير تحت هوى أمير"[5].

2-  ومن أمراض العقل أيضاً: المطامع، يقول علي (ع)- فيما رُوِيَ عنه-: "أكثر مصارع الرجال تحت بروق المطامع"[6].

3-  ومنها العجب: في الحديث عن علي (ع): "عجب المرء بنفسه أحد حساد عقله"[7].

وليس الجسد فقط هو الذي ينام، بل إنّ نومة العقل أعمق وأخطر، ومن هنا قال عليّ (ع): "نعوذ بالله من سبات العقل وقبح الزلل"[8].

 

 

أمراض القلب

 

يقول عليّ (ع): "ألا إنّ من البلاء الفاقة وأشدّ من الفاقة مرض البدن، وأشدّ من مرض البدن مرض القلب"[9].

ومن أمراض القلب:

1-  العمى وهو أخطرها: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}[الحج: 46].

2-  السآمة والملل: فعن أمير المؤمنين (ع): "إنّ هذه القلوب تملّ كما تملّ الأبدان، فابتغوا لها طرائف الحكم"[10].

3-  الفراغ، وعنه (ع): "القلب الفارغ يبحث عن السوء، واليد الفارغة تنازع إلى الإثم"[11].

 

إلى غير ذلك من أمراض القلب والعقل التي يجب أن يتوجّه الخطاب الإسلامي إلى مداواتها ومعالجتها، ولذا فمن اللازم أن يقدِّم هذا الخطاب:

 أولاً: غذاءً للعقل، فيلبّي حاجياته ويجيب على أسئلته ويُشْبِع تطلّعاته، "فإنّ العاقل يتّعظ بالآداب والبهائم لا تتّعظ إلا بالضرب"[12]، كما قال عليّ (ع).

 

ثانياً: لا بدّ من أن يقدِّم غذاءً ودواءً للروح والقلوب يروي ظمأها ويتألف وحشتها، لأنّ "قلوب الرجال وحشية فمن تألفها أقبلت عليه" كما روي عن علي (ع)[13]، ومن الضروري أن ندرك هذه القلوب بالتوعية قبل أن تلوثّها الأفكار الفاسدة وتقسو بفعل تراكم الذنوب ورتابة الحياة، ولذا يقول الإمام عليّ (ع) مخاطباً ابنه الحسن (ع): "إنّما قلب الحدث كالأرض الخالية ما أُلقي فيها من شيء قَبِلته، فبادرتك بالأدب قبل أن يقسو قلبك ويشتغل لبّك"[14].

 

 

الخطاب القرآني: مزاوجة بين العقل والقلب

 

وخيرُ دليلٍ على ضرورة مراعاة الخطاب الإسلامي لحاجيّات العقل والقلب معاً، أنّا نجد الأسلوب القرآنيّ قد راعى ذلك في عملية تثقيف الأُمّة، فهو من جهة يطرح الحجج والبراهين العقلية في قضايا الفكر والدين وما يرتبط بوجود الله ووحدانيّته والمعاد وغير ذلك، ومن جهة أخرى، فإنّه يلامس المشاعر ويحرّك العواطف ويدغدغ الوجدان في قضايا الإيمان وعلاقة الإنسان بخالقه أو بأخيه الإنسان.

 

ويمتزج في الثقافة القرآنية خطاب العقل مع خطاب القلب في سياق واحد، فتنطلق الآية مخاطبة العقل ومحاولة إقناعه بالبرهان الساطع، ثم تسير في خطّ تحويل القناعة العقلية إلى قناعة وجدانية، لأنّ القناعة لا ينبغي أن تقف عند حدود العقل، بل لا بدّ أن تتجاوز أسوار القلب وتدخله ليطمئن ويشعر ببرد الإيمان كما شعر العقل بساطع البرهان، ولذا رأينا شيخ الأنبياء إبراهيم (ع)، وعلى الرغم من توفر القناعة التامة لديه بقدرة الله على إحياء الموتى، يطلب برهاناً حسيّاً على ذلك، لتتحوّل قناعته العقلية إلى قناعة وجدانية قلبية، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}[البقرة: 260].

 

 

التوازن بين خطاب العقل والقلب

 

وهكذا يتّضح أنّ على الخطاب الإسلامي أن يكون متوازناً فيما يقدّمه للإنسان، فيراعي حاجيات القلب والعقل، ويقدّم الغذاء النافع لهما، ويتجنّب الإفراط والتفريط، فلا يطغى حساب العاطفة على حساب العقل ولا العكس أيضاً، بل يوازن بين الاثنين، فلكلٍّ نصيبٌ ومقدار، وكلٌ يوضع في ميزانه ويُؤتى من بابه.

 

1-  فالقلب في الإيمان له دور القاعدة والأساس، ولكن في الخطاب له دور الأسلوب والوسيلة، فهو مفتاح العقل وبابه، لأنّ أقرب طريق إلى عقل الإنسان قلبُه، فلا يجوز أن تتحوّل الوسيلة إلى غاية وهدف، كما في قضية البكاء على الإمام الحسين (ع)، فإنّ البعض يقدّمه كغاية وهدف مطلوب في نفسه، مع أنّه وسيلة وأسلوب من وسائل نشر أهداف الثورة الحسينية وثقافة أهل البيت (ع).

 

2-  والعقل هو الضابط لحركة القلب وانفعالاته العاطفية والمحرّك والحاكم للمسيرة الإنسانية، قال عليّ (ع): "للقلوب خواطر سوء، والعقول تزجر عنها"[15]، وعنه (ع): "لحظ الإنسان رائد قلبه"[16]. وعليه، فلا يجوز أن يكون نصيب العقل في الخطاب الإسلامي هامشياً.

 

 

الخطاب العاطفي: محاذيره وسلبيّاته

 

قد يستطيع الخطاب العاطفي أن يجد له جمهوراً واسعاً في الأُمّة الإسلامية، لاسيّما في الأوساط التي تعيش القهر والمعاناة، ما يجعلها تأنس للخطاب العاطفي كونه يدغدغ مشاعرها وينفّس عن غيظها وكربها، وكذلك في الأوساط التي تعيش السطحية والسذاجة، ما يجعلها تشعر بثقل الخطاب الفكري ولا ترتاح له.

ولكن الخطاب العاطفي له سلبياته ومحاذيره المتعدّدة:

 

أولاً: هو يسهم في بناء شخصية عاطفية لا ترتكز على قاعدة عقلية متينة، وهذه الشخصية ستكون بطبيعة الحال عرضةً للاهتزاز أمام التيّارات المتصارعة والرياح العاتية، ويكون حالها كحال الأمواج التي ما إنْ تتوقف حركتها حتى تنتهي وتضمحل، ولهذا يكون من الضروري في عملية بناء الشخصية الإسلامية تأصيل العاطفة وبناؤها على ركيزة فكرية متينة، كي لا تبقى مجرّد وهج ينطفئ بزوال مسبّباته، أو يخبو لأدنى شبهة تعترضه، وربّما يلمّح إلى هذا المعنى كلام أمير المؤمنين (ع): "رأي الشيخ أحبّ إليّ من جلد الغلام"[17].

فإنّ رأي الشيخ ينطلق من خبرة وتجربة، بينما جلد الغلام وقوّة بأسه تنطلق من عاطفة وانفعالات لا ترتكز على قاعدة.

 

ثانياً: إنّ الخطاب العاطفي قد يُستغلّ من قِبَل الكثيرين من ذوي المصالح والمطامع، لحجب الحقيقة عن الأُمة في محاولة لتجهيلها وتعمية الأمور عليها، كما هو واقع الحال في أُمتنا العربية التي يحرّكها شعور أو شعار ويخدّرها شعور أو شعار، ولذا تندفع مع هذا الزعيم مهلّلة باسمه، وتنكفئ عن ذاك الزعيم وهي تلعنه، وكلّ ذلك على أساس عاطفي من دون قاعدة واضحة للاندفاع أو الانكفاء، بل كلّ ما في الأمر أنّها وقعت أسيرة لبريق الشعارات ووهج المشاعر.

 

ثالثاً: إنّ الشخصية الإنسانية عندما تُبنى على أساس عاطفي لا على أساس فكري، فإنّ ذلك يجعلها شخصية متلقية تستقبل كلّ ما يُلقى إليها ممّا يصبّ في تعزيز هدفها العاطفي، ولو كان يحمل في طيّاته مفاهيم قلقة وغير موزونة، بل لا يعود السؤال- بعد استبعاد العقل الذي هو بمثابة المصفاة لِمَا يُلْقَى إلى السمع عن دائرة البناء الفكري- عن عقلانية الفكرة وتوازن الصورة مطروحاً ووارداً.

 

فمثلاً: عندما يصبح الهدف من إحياء عاشوراء هو البكاء والتباكي، فإنّ المستمع سيتلقّى من قارئ العزاء كل ما يَستدرُّ دمعته ويثير عاطفته، ولو كان يحمل أو يعكس صورة مشوّهة ومسيئة أو غير موثّقة، وهذا من قبيل الصورة التي يُقدّم بها الإمام الحسين (ع) رجلاً هزيلاً يستغيث فلا يُغاث، وتكون آخر كلمات يتمتم بها لسانه هي قوله "وحقّ جدي إنّي عطشان"، أو قوله: "يا قوم اسقوني جرعة من الماء فقد تفتّت كبدي من الظمأ"، وهكذا الصورة الشعرية أو النثرية التي تُقدَّم بها السيدة زينب (ع) إنسانة هزيلة ضعيفة فاقدة لتوازنها وثباتها التي عُرِفَت به، فإنّ هاتين الصورتين وأمثالهما تُتْليان على المنابر باستمرار، وقلّما تجد مَنْ يتساءل عن صدقيّة هذه الصور ومعقوليّتها وانسجامها مع شخصية الإمام الحسين (ع) أو شخصية العقيلة زينب (ع)، وما ذلك إلاّ لأنّ عاشوراء قد ترسّخت في الذهن العام على أساس أنّها موسم للبكاء، فكلّ ما يُبكي مقبول ولو كان غير معقول.

 

رابعاً: إنّ الخطاب العاطفي لكونه خطاباً معلَّباً ومقولباً، سيُسهم في إنتاج وتكوين شخصيّات مغلقة ترفض النقد لآرائها ومواقفها أو مواقف قادتها الذين سيتحوّلون بفعل الثقافة العاطفية إلى رموز مقدّسة فوق درجة النقد والمساءلة، وتتحوّل أخطاؤهم ومساوئهم إلى حسنات لا بدّ أن يُدافع عنها وتساق لها التبريرات المتعدّدة بدل أن تنتقد وتصوّب، وهكذا ستضيق هذه الشخصية المنغلقة بالآخر وفكره، وستعمل على قمعه وقتله معنوياً وربّما جسدياً بفعل تنامي حسّ الانتقام ضده، وهذا ما نلمسه في قصيدة السيد حيدر الحلي التي يستنهض "غيرة الله"، فيقول:

يا غيرة الله اهتفي بحمية الدين المنيعة

واستأصلي حتّى الرضيع لآل حرب والرضيعه[18]

يعلِّق المرجع الراحل السيد محمد حسين فضل الله على هذه الجملة قائلاً: "فنحن نجد أمامنا دعوة صارخة مثيرة لاستئصال بني أُمية، حتى الرضيع منهم من الذكور والإناث، لنصطدم بهذا القول الذي لا يتناسب مع القيمة الإسلامية الإنسانية في خطّ العدالة التي جاء بها القرآن الكريم في قوله تعالى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الإسراء: 15]"[19].

 

 

الابتعاد عن جمود الفكر

 

وما ذكرناه لا يعني إقصاء اللمسة العاطفية عن الخطاب الثقافي والفكري، فإنّ من يتنكّر للعاطفة ولا يحسب لها حساباً، فهو يتنكّر لطبيعة الإنسان التي تحتاج في ما تحتاجه إلى غذاء للروح والقلب كما تحتاج إلى غذاء للعقل. أضف إلى ذلك، أنَّ تقديم الفكرة بطريقة عقلية جافة، مع عدم إضفاء أيّة مسحة أو لمسة عاطفية عليها قد يحول دون اختراقها جدار السمع، فضلاً عن تحوّلها إلى قناعة راسخة يتبعها سلوك عملي. ولهذا كلّما أضفينا على خطابنا العقلي لمسة روحية، كان أكثر إيقاعاً وإقناعاً.

 

ومن هنا وجدنا أنّ الله سبحانه وتعالى يأمر نبيه موسى وأخاه هارون عليهما السلام بأن يخاطبا فرعون خطاباً ليّناً يحرّك الإحساس ويستثير الضمير قال تعالى: {اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي * اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}[طه: 42- 44].

وحاصل الكلام: إنّ على الخطاب الثقافي الإسلامي كي يتجنّب الوقوع في مزالق العاطفة وانفعالاتها، ويتخلّص من جمود العقل وقسوته، أن يتوازن ليكون خطاباً أساسه العقل والبرهان، ورداؤه العاطفة والوجدان.

 

من كتاب: العقل التكفيري .. قراءة في المنهج الإقصائي    

 


[1]تصنيف غرر الحكم ص66.

[2] تحف العقول ص15 ومستدرك الوسائل ج1 ص83، الباب 3 من أبواب مقدمة العبادات، الحديث 7.

 [3]الكافي ج1 ص11.

[4] مسند أحمد ج3 ص198، ونهج البلاغة ج2 ص94، وعوالي اللئالي ج1 ص278.

[5] نهج البلاغة ج4 ص48.

 [6]نهج البلاغة ج4 ص49.

 [7]نهج البلاغة ج4 ص49.

[8] المصدر نفسه ج2 ص219.

[9] المصدر نفسه ج4 ص93.

 [10]نهج البلاغة ج4 ص20.

 [11]شرح نهج البلاغة ج20 ص303.

 [12]نهج البلاغة ج3 ص55.

 [13]المصدر نفسه ص477.

[14] نهج البلاغة ج3 ص40.

[15] تصنيف غرر الحكم ص66.

[16] المصدر نفسه  ص67.

[17]نهج البلاغة ص482.

[18] ديوان السيد حيدر الحلي ص37.

[19]راجع حديث عاشوراء، ص: 23.

 






اضافة تعليق

الاسم *

البريد الإلكتروني *

موضوع *

الرسالة *


 


 
  قراءة الكتب
 
    Designed and Developed
       by CreativeLebanon