العبادات ودورها في تهذيب الخطاب الإنساني
الشيخ حسين الخشن
العبادات ودورها في تهذيب الخطاب الإنساني
إنّ واحدة من مزايا الإسلام في تخطيطه لنظم الحياة، أنّه قنّن حركة اللسان وجعل لها ضوابط وحدوداً، ولم يُرخِ العنان للمرء في أن يُطلِق لسانه كيفما أحبّ وأراد، لما في ذلك من مفاسد على الفرد والجماعة. وما تحريم الكذب والبهتان والسبّ والفحش والقذف والغيبة والنميمة وغير ذلك ممّا يلهج
ويتحرّك به اللسان، إلا خير شاهد على إحساس المشرّع الإسلامي بخطورة دور اللسان في تشويه وزلزلة العلاقات الاجتماعية والأمن الاجتماعي للأمة، وخلق العداوة والبغضاء بين أفراد المجتمع، ومن هنا وردت تحذيرات شديدة اللهجة عن النبي (ص) وأهل بيته عليهم السلام بشأن ما يلهج به
اللسان ممّا حرّمه الله، فقد ورد في الحديث عن رسول الله (ص) أنّه قال وهو يوصي أبا ذر: "يا أبا ذر: مَنْ ملك ما بين فخذيه وما بين لحييه دخل الجنّة، قلت: وإنّا لنؤاخذ بما تنطلق به ألسنتنا؟ فقال: وهل يكبّ الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم، إنّك لا تزال سالماً ما سكت فإذا
تكلّمت كتب الله لك أو عليك.. "[1].
وعن أمير المؤمنين (ع): كلامك محفوظ عليك، فاجعله في ما يُزلفك، وإياك أن تُطلقه في ما يُوبقك". وقال (ع) في كلمة أخرى: "مَنْ قلّ كلامه قلّت آثامه، ومَنْ كَثُر كلامه كَثُر ملامه"[2].
لين الكلام عبادة
للعبادة في النظرة الإسلامية أبعاد متعدّدة، قد يكون البُعد الروحي أهمّها، لكنّه بالتأكيد ليس البُعد الوحيد، فهناك الأبعاد الاجتماعية والأخلاقية والسياسية والاقتصادية والمعرفية، فالحج مثلاً جمع كل هذه الأبعاد، كم أشارت إلى ذلك الآية الكريمة: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ}[الحج: 28].
ومن جملة أبعاد العبادة ومراميها، دورها في تهذيب الخطاب وصيانة اللسان، لأنّ العبادة ليست مجرد طقس ديني وتقليد جامد ينتهي مفعولها بانتهاء المراسم الخاصة به، بل إنّ لها انعكاساً على مسيرة الإنسان في الحياة كلها، وتأثيراً مباشراً على كلّ تصرّفاته وأقواله وأفعاله، كما
إنّ نفس مفهوم العبادة في الإسلام لا يتجمّد على العبادات الشعائرية المعروفة كما يتخيّل البعض، وإنّما يتّسع ليشمل كلّ عمل من أعمال البرِّ والمعروف، بما في ذلك الخطاب الليّن مع الآخر، أو إفشاء السلام أو الإصلاح بين الناس أو نحوه، ممّا يكون للسان دور فيه، يقول تعالى: {قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ
وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى}[البقرة: 263]، ويقول عليّ (ع) فيما يُروى عنه: "إنّ من العبادة لين الكلام وإفشاء السلام"[3]، وفي وصيّته للإمامين الحسنين (ع): "أوصيكما وجميع ولدي وأهلي ومَنْ بلغه كتابي بتقوى الله ونظم أمركم وصلاح ذات بينكم، فإنّي سمعت جدكما رسول
الله (ص) يقول: صلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصيام"[4].
وفي ما يلي، نشير إلى العلاقة الوطيدة بين العبادات الإسلامية وبين الخطاب:
الحجّ وضبط اللسان
فلو تأمّلنا في معنى الحجّ ومراميه وما يحرم على الإنسان بعد شروعه فيه من خلال ارتدائه ثوبَي الإحرام، لأدركنا بوضوح علاقته بالخطاب، ونستطيع القول: إنّ الحجّ يشكّل دورة تدريبية ترمي إلى تحقيق أهداف شتّى أهمّها ما يرتبط بالجانب السلوكي، ويعنينا منها ما له علاقة بالخطاب وضبط
حركة اللسان، حيث نجد أنّ من محرّمات الإحرام الفسوق والجدال، قال تعالى: {فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ}[البقرة: 197]. والمصداق الأبرز للفسوق- كما تنصّ الروايات- هو الكذب والسباب والمفاخرة، وأما الجدال فواضح، ولئن ورد في بعض
الروايات[5] أنّه قول "لا والله" و"بلى والله" لكن وكما يذكر بعض الفقهاء المعاصرين[6]، فإنّ قول ذلك محرم عندما يكون صادراً في مقام المخاصمة والجدال.
وعلى أية حال، فإنّ تحريم الفسوق في الحج واضح المغزى، إلا أنّ تحريم الجدال قد لا يبدو مغزاه واضحاً. إلا أننا لو عدنا إلى معنى الجدال وحقيقته، فقد يرتفع هذا الغموض، لأنّ الجدال كما يقول الراغب الأصفهاني "هو المفاوضة على سبيل المنازعة والمغالبة، وأصله من "جدلت الحبل" أي
أحكمت فتله... فكأنّ المتجادليْن يفتل كل واحد الآخر عن رأيه، وقيل الأصل في الجدال الصراع وإسقاط الإنسان صاحبه على الجدالة وهي الأرض الصلبة"[7]. وعليه، فالجدال يحمل بذور الخصام، وهو مدعاةٌ للنزاع، وذلك لا يتناسب مع أجواء الحج الروحية، ولا مع كونه موسماً للتلاقي
والتقارب والتعارف، وقد ورد في الحديث عن الإمام الصادق (ع): "إذا أحرمت فعليك بتقوى الله وذكر الله وقلة الكلام إلا بخير، فإنّ تمام الحج والعمرة أن يحفظ المرء لسانه إلا من خير"، ثم استشهد (ع) بالآية المتقدمة[8].
الصلاة والنهي عن الفحشاء
والصلاة وهي أمّ العبادات الإسلامية وعمود الدين، هي الأخرى ذات علاقة وطيدة بالخطاب، ولها دور في تهذيب اللسان وصيانته عن اللغو والفحش، فالمصلّي إذا ما افتتح الصلاة بتكبيرة الإحرام، يلزمه الانشغال بالأذكار والقراءات المحدّدة واجتناب كلّ أحاديث الدنيا، وعندما يدخل إلى المسجد،
فينبغي أن يترك الكلام الذي يُلهيه عن ذكر الله وما لا ينسجم مع روحية المسجد، لأنّه في بيت الله، وعليه أن يتأدّب في محضر الله وبيته. ومن هنا أفتى الفقهاء بكراهة أحاديث اللهو في المسجد وكذلك المناداة على الأشياء الضائعة، وهو ما يُعرف بـ"إنشاد الضوالّ".
وبالإضافة إلى ذلك، فإنّ أهمَّ أثر لا بدّ أن تتركه الصلاة على سلوك الفرد المصلّي، هو الابتعاد عن الفحشاء والمنكر، وعلى رأس ذلك الكلام البذيء والسوقيّ، وكذلك الكذب والغيبة والنميمة والسبّ والشتيمة وغيرها من آفات اللسان.
الصوم ليس من الطعام
وفي شهر الله، وهو شهر رمضان، يضاعف الإسلام من الاهتمام بحركة اللسان وضرورة ضبطه، ويعتبر أنّ الصوم ليس صوم البطن والفرج وهجر الطعام والشراب والعلاقات الجنسية فحسب، بل ينبغي أن يظهر أثر الصوم على اللسان أيضاً، ليدرس الإنسان كلمته قبل أن يُطلِقها في الهواء
الطلق، فإنّ الكلام في وثاق المرء فإذا تكلّم به صار في وثاقه، كما قال علي (ع)[9]، ومن هنا، نجد تأكيداً في الأحاديث الشريفة على صوم اللسان، يقول أمير المؤمنين (ع)- كما مرّ سابقاً–: "صوم القلب خير من صيام اللسان، وصيام اللسان خير من صيام البطن"[10].
وقد مرّ أيضا ًأنّ رسول الله (ص) سمع امرأة تسبّ جاريتها وهي صائمة، فدعا (ص) بطعام وقال لها: كُلِي، فقالت: إنّي صائمة فقال: كيف تكونين صائمة، وقد سببت جاريتك؟!! إنّ الصوم ليس من الطعام والشراب"[11].
وخلاصة القول: إنّ العبادات الإسلامية تعلّمنا أن نضبط لساننا وندقّق في كلامنا ونتأدّب في أحاديثنا وحواراتنا، لأنّ مَن يتأدّب مع الله لا بدّ أن يتأدّب مع الناس، وبذلك يكسب ودّهم ويأمن شرّهم، ومن كلمات الإمام عليّ (ع) المرويّة عنه في هذا المجال: "مَنْ حسن كلامه كان النجاح أمامه" و"ربَّ
لسان أتى على إنسان"، و"كم من دمٍ سفكه فم"، و"كم من كلمة سلبت نعمة"[12].
من كتاب: العقل التكفيري .. قراءة في المنهج الإقصائي
[1]وسائل الشيعة ج12 ص251، الباب 140 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 4، ونظيره ما في سنن ابن ماجة ج2 ص1314 وسنن الترمذي ج4 ص124.
[6] مناسك الحج للسيد فضل الله ص116.
[7] المفردات في غريب القرآن، مادة جدل.
[8]وسائل الشيعة ج12 ص463، الباب 32 من ترك الإحرام، الحديث 1.
[10]الحكم من كلام أمير المؤمنين (ع) ج1 ص564.
[12]تصنيف الغرر ص210 وما بعدها.