حوار مع مركز أفاق للدراسات والأبحاث: مشكلة الأديان تتشكل في الخطاب الفقهي    ثمن الحرية    أمثل الأساليب في عمليّة تهذيب النفس    مزايا الشباب    العمل سرّ النجاح    العبادة وعيٌ وانفتاح لا جهل وانغلاق    اقتناء أصنام الأمم البائدة    المفاهيم الدينية بين وجوب الاعتقاد وحرمة الانكار    البناء الاعتقادي بين الاجتهاد والتقليد    
 
بحث
 
تكريم الإنسان
 
س » أنا طالب علم، لدي خوف من أن أتكلم بغير علم.. ما الحل؟
ج »

وعليكم السلام

لا بد لطالب العلم في مساره العلمي أن يتسلح بأمرين أساسيين:
الأول: الاستنفار العلمي وبذل الجهد الكافي لمعرفة قواعد فهم النص واستكناه معناه ودلالاته بما يعينه على التفقه في الدين وتكوين الرأي على أسس صحيحة.
الثاني: التقوى العلمية ويُراد بها استحضار الله سبحانه وتعالى في النفس حذراً من الوقوع في فخ التقوّل على الله بغير علم. ومن الضروري أن يعيش مع نفسه حالة من المحاسبة الشديدة ومساءلة النفس من أن دافعه إلى تبني هذا الرأي أو ذاك: هل هو الهوى والرغبة الشخصية أم أن الدافع هو الوصول إلى الحقيقة ولو كانت على خلاف الهوى.
أعتقد أن طالب العلم إذا أحكم هذين الامرين فإنه سيكون موفقاً في مسيرته العلمية وفيما يختاره من آراء أو يتبناه من موقف.

 
س » كيف علمنا أن الصحيفة السجادية ناقصة؟ وهل ما وجده العلماء من الأدعية صحيح؟؟
ج »

أقول في الإجابة على سؤالكم:

أولاً: إن الصحيفة السجادية في الأصل تزيد على ما هو واصل إلينا وموجود بين أيدينا، قال المتوكل بن هارون كما جاء في مقدمة الصحيفة: " ثم أملى عليّ أبو عبد الله (ع) الأدعية، وهي خمسة وسبعون باباً، سقط عني منها أحد عشر باباً، وحفظت منها نيفاً وستين باباً"، بيد أن الموجود فعلاً في الصحيفة الواصلة إلينا هو أربعة وخمسون دعاء. آخرها دعاؤه في استكشاف الهموم، وهذا آخر دعاء شرحه السيد علي خان المدني في رياض السالكين، وكذا فعل غيره من الأعلام.

ثانياً: إن سقوط عدد من أدعية الصحيفة وضياعها دفع غير واحد من الأعلام للبحث والتتبع في محاولة لمعرفة ما هو الضائع منها، وبحدود اطلاعي فإنهم عثروا على أدعية كثيرة مروية عن الإمام زين العابدين (ع)، لكنهم لم يصلوا إلى نتائج تفيد أن ما عثروا عليه هو من الأدعية الناقصة منها، ولذا عنونوا مؤلفاتهم بعنوان مستدركات على الصحيفة، ولم يجزموا أن ما جمعوه من أدعية هو الضائع من أدعية الصحيفة. وهذا ما تقتضيه الضوابط العلمية والدينية، فما لم يعثر الإنسان على نسخة قديمة موثوقة أو قرائن مفيدة للوثوق بأن هذا الدعاء أو ذاك هو من جملة أدعية الصحيفة فلا يصح له إضافة بعض الأدعية على الصحيفة بعنوان كونها منها.

ثالثاً: لقد ابتُلينا بظاهرة خطيرة، وهي ظاهرة الإضافة على الصحيفة أو غيرها من كتب الأدعية، وهذا العمل هو خلاف الأمانة والتقوى، وقد ترتّب على ذلك الكثير من المفاسد، وأوجب ذلك وهماً للكثيرين، فتوهموا أن بعض الأدعية هي جزء من الصحيفة السجادية المشهورة، ومردّ ذلك بكل أسف إلى أن مجال الأدعية والزيارات شرعة لكل وارد، وتُرك لأصحاب المطابع والمطامع! وأعتقد أن هذا العبث في كتب الأدعية والزيارات ناشئ عن عدم عناية العلماء بالأمر بهذه الكتب كما ينبغي ويلزم، كما نبه عليه المحدث النوري في كتابه "اللؤلؤ والمرجان" مستغرباً صمت العلماء إزاء التلاعب والعبث بنصوص الأدعية والزيارات مما يعدّ جرأة عظيمة على الله تعالى ورسوله (ص)!

رابعاً: أما ما سألتم عنه حول مدى صحة الأدعية الواردة بعد دعاء استكشاف الهموم، فهذا أمر لا يسعنا إعطاء جواب حاسم وشامل فيه، بل لا بدّ أن يدرس كل دعاء على حدة، ليرى ما إذا كانت قرائن السند والمتن تبعث على الحكم بصحته أم لا. فإن المناجاة الخمس عشرة بنظرنا لم تصح وربما كانت من وضع الصوفية، وقد أوضحنا ذلك بشكل مفصل في كتاب الشيع والغلو.


 
س » ابني المراهق يعاني من التشتت، وأنا جدا قلق ولا اعرف التصرف معه، ما هي نصيحتكم؟
ج »

التشتت في الانتباه في سن المراهقة مع ما يرافقه من الصعوبات هو في حدود معينة أمر طبيعي وظاهرة تصيب الكثير من المراهقين ولا سيما في عصرنا هذا.

وعلينا التعامل مع هذه المرحلة بدقة متناهية من الاستيعاب والتفهم والإرشاد والتوجيه وتفهم سن المراهق، وأن هذه المرحلة تحتاج إلى أسلوب مختلف عما سبقها.

فالمراهق ينمو لديه الإحساس بالذات كثيرا حتى ليخيل إليه أنه لم يعد بحاجة إلى الاحتضان والرعاية من قِبل والديه.

وبالتالي علينا أن نتعامل معه بأسلوب المصادقة "صادقه سبعا.." والتنبه جيدا للمؤثرات التي تسهم في التأثير على شخصيته واستقامته وتدينه، ومن هذه المؤثرات: الأصدقاء ووسائل التواصل الاجتماعي، فإن نصيبها ودورها في التأثير على المراهق هو أشد وأعلى من دورنا.

وفي كل هذه المرحلة علينا أن نتحلى بالصبر والأناة والتحمل، وأن نبتدع أسلوب الحوار والموعظة الحسنة والتدرج في العمل التربوي والرسالي.

نسأل الله أن يوفقكم وأن يقر أعينكم بولدكم وأن يفتح له سبيل الهداية. والله الموفق.


 
س » اعاني من عدم الحضور في الصلاة، فهل أحصل على الثواب؟
ج »
 
لا شك أن العمل إذا كان مستجمعا للشرائط الفقهية، فهو مجزئٌ ومبرئٌ للذمة. أما الثواب فيحتاج إلى خلوص النية لله تعالى بمعنى أن لا يدخل الرياء ونحوه في نية المصلي والعبادة بشكل عام.
ولا ريب أنه كلما كان الإنسان يعيش حالة حضور وتوجه إلى الله كان ثوابه أعلى عند الله، لكن لا نستطيع نفي الثواب عن العمل لمجرد غياب هذا الحضور في بعض الحالات بسبب الظروف الضاغطة على الإنسان نفسيا واجتماعيا.
لكن على الإنسان أن يعالج مشكلة تشتت الذهن أثناء العمل العبادي وذلك من خلال السعي الجاد للتجرد والابتعاد عن كل الهواجس والمشكلات أثناء الإقبال على الصلاة، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، باستحضار عظمة الله عز وجل في نفوسنا وأنه لا يليق بنا أن نواجهه بقلب لاهٍ وغافل. والله الموفق.

 
س » أنا إنسان فاشل، ولا أتوفق في شيء، وقد كتب عليّ بالخسارة، فما هو الحل؟
ج »

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

أولاً: التوفيق في الحياة هو رهن أخذ الإنسان بالأسباب التي جعلها الله موصلة للنجاح، فعلى الإنسان أن يتحرك في حياته الشخصية والمهنية والاجتماعية وفق منطق الأسباب والسنن. على سبيل المثال: فالإنسان لن يصل إلى مبتغاه وهو جليس بيته وحبيس هواجسه، فإذا أراد الثروة فعليه أن يبحث عن أسباب الثروة وإذا أراد الصحة فعليه أن يأخذ بالنصائح الطبية اللازمة وإذا أراد حياة اجتماعية مستقرة عليه أن يسير وفق القوانين والضوابط الإسلامية في المجال الاجتماعي وهكذا.

ثانياً: لا بد للإنسان أن يعمل على رفع معوقات التوفيق، وأني أعتقد أن واحدة من تلك المعوقات هي سيطرة الشعور المتشائم على الإنسان بحيث يوهم نفسه بأنه إنسان فاشل وأنه لن يوفق وأنه لن تناله البركة الإلهية.

إن هذا الإحساس عندما يسيطر على الإنسان فإنه بالتأكيد يجعله إنسانا فاشلا ومحبطا ولن يوفق في حياته ولذلك نصيحتي لك أن تُبعد مثل هذا الوهم عن ذهنك وانطلق في الحياة فإن سبيل الحياة والتوفيق لا تعد ولا تحصى.


 
س » ما هو هدف طلب العلم الذي يجب أن يكون؟
ج »

عندما ينطلق المسلم في طلبه للعلم من مسؤوليته الشرعية الملقاة على عاتقه ومن موقع أنه خليفة الله على الأرض، فإن ذلك سوف يخلق عنده حافزاً كبيراً للجد في طلب العلم والوصول إلى أعلى المراتب. أما إذا انطلق في تحصيله من موقع المباهاة أو إثبات ذاته في المجتمع أو من موقع من يريد أن يزين اسمه بالشهادة الجامعية ليُقال له "الدكتور" وما إلى ذلك، فإنه - في الغالب - لن يصل إلى النتيجة المرجوة.

وعلى كل إنسان منا أن يعي أنّنا في هذه الحياة مسؤولون في أن نترك أثراً طيباً، وأن نقوم بواجباتنا قبل أن يطوينا الزمان، إننا مسؤولون عن عمرنا فيما أفنيناه وعن شبابنا فيما أبليناه، وسنُسأل يوم القيامة عن كل هذه الطاقات التي منّ اللهُ بها علينا.

وأضف إلى ذلك، إنه من الجدير بالمسلم، أن لا يفكر في نفسه وما يريحه هو فحسب في طلبه للعلم، بل أن يفكر أيضاً في أمته والنهوض بها ليكون مستقبلها زاهراً، وهذا كله يحتم عليه أن يكون سقف طموحاته عالياً ليتمكن هو وأقرانه من الطلاب والعلماء من ردم الفجوة بيننا وبين الغرب الذي سبقنا على أكثر من صعيد.

باختصار: إن مسؤوليتنا ورسالتنا وانتماءنا لهذه الأمة يفرض علينا أن نعيش حالة طوارئ ثقافية وعلمية.


 
س » ما رأيكم في الاختلاط المنتشر في عصرنا، وكيف نحاربه؟
ج »

إنّ الاختلاط قد أصبح سمة هذا العصر في كثير من الميادين، ومنها الجامعات والطرقات والساحات وكافة المرافق العامة.. والاختلاط في حد ذاته ليس محرماً ما لم يفضِ إلى تجاوز الحدود الشرعية في العلاقة بين الرجل والمرأة الأجنبيين؛ كما لو أدى إلى الخلوة المحرمة بالمرأة أو مصافحتها أو كان المجلس مشوباً بأجواء الإثارة الغرائزية أو غير ذلك مما حرمه الله تعالى.

وفي ظل هذا الواقع، فإنّ العمل على تحصين النفس أولى من الهروب أو الانزواء عن الآخرين بطريقة تشعرهم بأن المؤمنين يعيشون العُقد النفسية. إن على الشاب المسلم أن يثق بنفسه وأن يفرض حضوره ووقاره، وأن يبادر إلى إقناع الآخرين بمنطقه وحججه، وأن يبيّن لهم أن الانحراف والتبرج والفجور هو العمل السيّئ الذي ينبغي أن يخجل به الإنسان، وليس الإيمان ومظاهر التدين.

وأننا ندعو شبابنا عامة وطلاب الجامعات خاصة من الذكور والإناث إلى أن يتزينوا بالعفاف، وأن يحصنوا أنفسهم بالتقوى بما يصونهم من الوقوع في الحرام.


 
س » كيف يمكن التخلص من السلوكيات والعادات السيئة؟
ج »

إن التغلب على السلوكيات الخاطئة أو العادات السيئة – بشكل عام – يحتاج بعد التوكل على الله تعالى إلى:

أولاً: إرادة وتصميم، ولا يكفي مجرد الرغبة ولا مجرد النية وانما يحتاج بالإضافة إلى ذلك إلى العزم والمثابرة وحمل النفس على ترك ما اعتادته.

ثانياً: وضع برنامج عملي يمكّن الإنسان من الخروج من هذه العادة السيئة بشكل تدريجي؛ وأرجو التركيز على مسألة "التدرج" في الخروج من هذه العادات السيئة؛ لأن إدمان النفس على الشيء يجعل الخروج منه صعباً ويحتاج إلى قطع مراحل، وأما ما يقدم عليه البعض من السعي للخروج الفوري من هذه العادة، فهو - بحسب التجربة - سيُمنى في كثير من الأحيان بالفشل. والله الموفق


 
 
  مقالات >> فكر ديني
كيف نواجه التطرّف؟
الشيخ حسين الخشن



 

كيف نواجه التطرّف؟

 

كيف نواجه حركات التطرّف والجماعات التكفيرية المنتشرة في شرق عالمنا الإسلامي وغربه، وهي تزداد ضراوة وشراسة كلّما ازداد الهجوم الاستكباري والعدواني على أُمّتنا؟ هل نواجه التطرّف بتطرّف آخر

والتكفير بتكفير مضادّ أم أنّ هناك أسلوباً آخر أكثر فاعلية وتأثيراً؟

 

التكفير لا يواجه بالتكفير

 

إنّ أوّل نقطة يلزمنا التنبيه عليها هي أن لا نواجه التكفير بتكفير مضاد، لأنّ ذلك لا يحلّ مشكلة ولا يغيّر قناعة، بل ربّما زاد المشكلة تعقيداً والقناعة رسوخاً، ومن جهة أخرى، فإنّ الخُلق الإسلامي يأبى عن مواجهة

الشتيمة بمثلها والسيئة بأختها، وإنّما يدعونا إلى الإغضاء والصفح والدفع بالتي هي أحسن {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}[فصلت: 34]، ولنا في أمير المؤمنين (ع) أُسوة

حَسَنة فقد شَتَمه الخوارج وكفّروه لكنّه رفض أن يقابلهم بالمثل، فهذه كتب التاريخ  وغيرها تحدّثنا أنّه كان ذات يوم جالساً مع أصحابه، إذ مرّت بهم امرأة جميلة فرمقها القوم بأبصارهم فقال (ع): "إنّ أبصار هذه الفحول

طوامح وإنّ ذلك سبب هبابها فإذا نظر أحدكم إلى امرأة تعجبه فليلامس أهله فإنّما هي امرأة كامرأة" وقد هزّت هذه الكلمات رجلاً خارجياً كان جالساً، فقال قاصداً الإمام (ع): قاتله الله كافراً ما أفقهه! فوثب القوم ليقتلوه

فقال (ع): "رويداً إنّما هو سبّ بسبّ أو عفو عن ذنب"[1].

 

 

ويحدّثنا الإمام الصادق (ع)- فيما رُوِيَ عنه- عن أبيه (ع): "أنّ عليّاً (ع) لم يكن ينسب أحداً من أهل حربه إلى الشرك ولا إلى النفاق ولكنّه كان يقول: إخواننا بغوا علينا"[2]، وفي المصنّف لابن أبي شيبة (ت235

ه) روى بسنده عن أبي البختري قال: سُئل عليّ عن أهل الجمل، قيل: أمشركون هم؟ قال: من الشرك فرّوا، قيل: أفمنافقون هم؟ قال: إنّ المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً، قيل: فما هم؟ قال: إخواننا بغوا علينا"[3]

 

وفي الحديث عن الإمام الصادق (ع) عن أبيه (ع): "أنّ علياً (ع) كان يقول لأهل حربه، أنا لم نقاتلهم على التكفير لهم ولم نقاتلهم على التكفير لنا، ولكن رأينا أنّا على حق ورأوا أنّهم على حقّ"[4]

 

تلك هي تعاليم الإسلام وأخلاقه التي جسدها عليّ (ع)، وما أوسع الهوة بين واقعنا وبين تلك الآداب والوصايا الأخلاقية، حيث يعمد بعضنا إلى تكفير البعض الآخر لمجرّد اختلاف في الرأي أو تنوّع في المذهب.

 

 

وأمّا تبرير مواجهة التكفير بالتكفير المضادّ بما ورد في مضمون الأحاديث الواردة عن رسول الله (ص) "من كفّر مسلماً فقد كفر"[5]، فلا يخلو من ملاحظة وهي أنّ هذه الروايات لو صحّت سنداً فهي واردة في

سياق النهي عن التكفير لا التشجيع عليه، ولذا يكون المراد بكفر المكفِّر كفره من الناحية العملية لا العَقَديّة، كيف وقد عرفت أنّ أمير المؤمنين (ع) لم يحكم بكفر الخوارج رغم تكفيرهم له.

 

 

 

رفع أسباب التكفير

 

 

والخطوة الثانية اللازمة في هذا السبيل هي دراسة أسباب التكفير ومعرفة منطلقاته كمقدمة ضرورية لمعالجتها والتخلّص منها، فربّما كانت الأجواء الاقتصادية والأمنية والاجتماعية والسياسية مؤثرة في نمو الأفكار

التكفيرية، وطريق المعالجة في هذه الحالة ينحصر برفع تلك الموانع وإزالة تلك الأسباب، وأمّا لو كانت أسباب التكفير ثقافية، والمشكلة هنا صعبة وعلاجها أشدّ صعوبة، ففي هذه الحالة يكون لزاماً علينا مواجهة الفكر

التكفيري ومقارعته بالحجّة والبرهان لا بالسجن والسنان، لأنّ دروس التاريخ علمتنا أنّ السيف يَقْمَع ولا يُقنع والسّجن يحبس الجسد ولكنه لا يخرس اللسان، إنّه يعالج المشكلة من الخارج لا من الداخل.

 

 

لذا، فإنّ المطلوب إحداث زلزال في البنى التحتيّة والركائز الأساسية للفكر التكفيري بإثبات وهنه من الناحية الإسلامية وابتعاده عن أُسس الشرعية الدينية، وأخال أنّنا في هذا الكتاب قد قدّمنا ما يكفي من الضوابط الكفيلة

بمحاصرة ظاهرة التكفير بوصفها ظاهرة شاذّة عن المناخ العام، وبهذا الأسلوب يتم تجفيف منابع الإرهاب والتطرّف لا بأسلوب العنف وملاحقة الأشخاص لمجرّد ميولهم الإسلامية أو انتسابهم إلى بعض الحركات

السلفية وقمعهم وزجّهم في زنازين المعتقلات، لأنّ ذلك سيزيد من ضراوتهم ويحوّلهم إلى قنابل موقوتة تهدّد الأُمة برمّتها وتشوّه صورتها في أرجاء المعمورة، كما أنّ هذا الأسلوب سيجعل منهم أبطالاً ورموزاً ويزيد

من تعاطف الأُمة معهم عندما تراهم معلّقين على أعواد المشانق، ونعود إلى عليّ (ع) لأنّه الإمام والحجّة ولأنّ تجربته مع خصومه الخوارج غنية بالدروس والعِبَر في كيفية مواجهة هذه الجماعات، فنراه يرفض

محاربة مكفّريه من الخوارج وزجّهم في السجون أو حصارهم اقتصادياً وملاحقتهم أمنياً بل بقوا- في عهده- مواطنين لهم كافة حقوق المواطنة والحرية الكاملة في التعبير عن أفكارهم، ويصلهم حقّهم من بيت المال

كاملاً غير منقوص، نعم قارعهم بالحجّة وواجههم بالمنطق وفنّد أفكارهم بالبرهان وبقيت سيرته معهم على هذا المنوال إلى أن تحوّلوا إلى قطّاع طرق يفسدون في الأرض ويعبثون بأمن الأُمة، فنهض حينها لمواجهتهم وَوَضْعِ حدٍّ لغيّهم وعتوهم[6].

 

 

 

تعزيز ثقافة التسامح ومنطق الاختلاف

 

 

والخطوة الثالثة في هذا السبيل هي تعزيز ثقافة التسامح ونشر رسالة المحبة والتأكيد على احترام الآخر في نفسه وماله وعرضه، ورعاية حقوقه وحفظ إنسانيته وكفّ الأذى عنه ما دام لا يتحرّك بالظلم والعدوان قال

تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}[الممتحنة: 8].

 

وأخال أنّ أهمّ قيمة يجدر بنا التبشير بها والدعوة إليها بعد تأصيلها وتنظيمها هي "حقّ الاختلاف" بين بني البشر، لأنّ التكفير ينبت وينمو في أجواء القمع والاستبداد ويتحرّك في ظلّ أحادية الرأي والفهم التي يُراد

فرضها على الآخرين ومصادرة حقّهم في الاختلاف.

 

 

إنّ الاختلاف لا يساوي التمزّق والتشتّت ولا يعني أنَّ مَن ليس معي فهو ضدّي ومن لا يوافقني الرأي فهو عدوي، وإذا ما قاد الاختلاف إلى التناحر والتنازع فهو تخلّف وجاهلية قال تعالى: {وَلا تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ

وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}[الأنفال: 46]، أمّا إذا تحرّك وفق قانون التدافع والتنافس فهو ليس أمراً جائزاً وممدوحاً فحسب، بل هو شرط لديمومة الحياة الاجتماعية والإنسانية كما يؤكّد علماء الاجتماع، وفي ذلك جاء قوله تعالى:

{نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً}[الزخرف: 32].

 

 

 

فلننظر إلى الإيجابيّات

 

 

ثم أخيراً لماذا لا نحدّق إلاّ في سلبيّات ومعايب الجماعات التكفيرية ونعمل على تكبيرها وتضخيمها؟ أليس لديهم إيجابيّات تستحقّ الثناء؟ أليس في قلوبهم وعقولهم بصيص أمل ونافذة نور يمكن النفاذ من خلالها إلى

داخلهم في محاولة للأخذ بأيديهم ومحاورتهم؟! أم أنّه الشنآن يعمي ويصمّ ويبدل الحسنات سيئات كما قال الشاعر:

 

 

وعين الرضا عن كلِّ عيبٍ كليلةٌ     ولكن عين السخط تبدي المساويا

 

لقد مرّ المسيح (ع) ذات يوم مع حواريه وأنصاره على جيفة كلب فقال الحواريون: ما أنتن ريح هذا الكلب؟ فقال عيسى (ع): "ما أشدّ بياض أسنانه!"[7].

 

ولم تمنع عداوة الخوارج وسوء فعالهم عليّاً (ع) أن يُنصفهم ويتحدّث عن إخلاص نيّتهم عندما قال في كلمته الشهيرة: "لا تقاتلوا الخوارج بعدي فليس من طلب الحقّ فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه"[8].

 

إنَّ في ذلك لعبرة لمن اعتبر وموعظة لمن فكّر ونظر.

 

 

 

"مقتبس من مقالة "كيف نواجه التطرف" - من كتاب "العقل التكفيري .. قراءة في المنهج الإقصائي 

 


[1] نهج البلاغة ج4 ص99.

 [2]الوسائل ج15 ص83، الباب 26 من أبواب جهاد العدو، الحديث10.

[3] المصنف ج8 ص77، ورواه البيهقي في السنن الكبرى ج8 ص173، ونظيره ما رواه القاضي نعمان المصري في شرح الأخبار ج1 ص399.

[4] قرب الإسناد للحميري القيمي ص93.

[5] راجع كنز العمال ج3 ص635 وما بعدها.

 [6]راجع حول سيرته معهم: كتاب الجمل وصفّين والنهروان لابن مخنف ص 414 – 420 – 437.

[7]بحار الأنوار ج14 ص327.

[8]نهج البلاغة ج1 ص108.

 






اضافة تعليق

الاسم *

البريد الإلكتروني *

موضوع *

الرسالة *


 


 
  قراءة الكتب
 
    Designed and Developed
       by CreativeLebanon