حوار مع مركز أفاق للدراسات والأبحاث: مشكلة الأديان تتشكل في الخطاب الفقهي    ثمن الحرية    أمثل الأساليب في عمليّة تهذيب النفس    مزايا الشباب    العمل سرّ النجاح    العبادة وعيٌ وانفتاح لا جهل وانغلاق    اقتناء أصنام الأمم البائدة    المفاهيم الدينية بين وجوب الاعتقاد وحرمة الانكار    البناء الاعتقادي بين الاجتهاد والتقليد    
 
بحث
 
تكريم الإنسان
 
س » أنا طالب علم، لدي خوف من أن أتكلم بغير علم.. ما الحل؟
ج »

وعليكم السلام

لا بد لطالب العلم في مساره العلمي أن يتسلح بأمرين أساسيين:
الأول: الاستنفار العلمي وبذل الجهد الكافي لمعرفة قواعد فهم النص واستكناه معناه ودلالاته بما يعينه على التفقه في الدين وتكوين الرأي على أسس صحيحة.
الثاني: التقوى العلمية ويُراد بها استحضار الله سبحانه وتعالى في النفس حذراً من الوقوع في فخ التقوّل على الله بغير علم. ومن الضروري أن يعيش مع نفسه حالة من المحاسبة الشديدة ومساءلة النفس من أن دافعه إلى تبني هذا الرأي أو ذاك: هل هو الهوى والرغبة الشخصية أم أن الدافع هو الوصول إلى الحقيقة ولو كانت على خلاف الهوى.
أعتقد أن طالب العلم إذا أحكم هذين الامرين فإنه سيكون موفقاً في مسيرته العلمية وفيما يختاره من آراء أو يتبناه من موقف.

 
س » كيف علمنا أن الصحيفة السجادية ناقصة؟ وهل ما وجده العلماء من الأدعية صحيح؟؟
ج »

أقول في الإجابة على سؤالكم:

أولاً: إن الصحيفة السجادية في الأصل تزيد على ما هو واصل إلينا وموجود بين أيدينا، قال المتوكل بن هارون كما جاء في مقدمة الصحيفة: " ثم أملى عليّ أبو عبد الله (ع) الأدعية، وهي خمسة وسبعون باباً، سقط عني منها أحد عشر باباً، وحفظت منها نيفاً وستين باباً"، بيد أن الموجود فعلاً في الصحيفة الواصلة إلينا هو أربعة وخمسون دعاء. آخرها دعاؤه في استكشاف الهموم، وهذا آخر دعاء شرحه السيد علي خان المدني في رياض السالكين، وكذا فعل غيره من الأعلام.

ثانياً: إن سقوط عدد من أدعية الصحيفة وضياعها دفع غير واحد من الأعلام للبحث والتتبع في محاولة لمعرفة ما هو الضائع منها، وبحدود اطلاعي فإنهم عثروا على أدعية كثيرة مروية عن الإمام زين العابدين (ع)، لكنهم لم يصلوا إلى نتائج تفيد أن ما عثروا عليه هو من الأدعية الناقصة منها، ولذا عنونوا مؤلفاتهم بعنوان مستدركات على الصحيفة، ولم يجزموا أن ما جمعوه من أدعية هو الضائع من أدعية الصحيفة. وهذا ما تقتضيه الضوابط العلمية والدينية، فما لم يعثر الإنسان على نسخة قديمة موثوقة أو قرائن مفيدة للوثوق بأن هذا الدعاء أو ذاك هو من جملة أدعية الصحيفة فلا يصح له إضافة بعض الأدعية على الصحيفة بعنوان كونها منها.

ثالثاً: لقد ابتُلينا بظاهرة خطيرة، وهي ظاهرة الإضافة على الصحيفة أو غيرها من كتب الأدعية، وهذا العمل هو خلاف الأمانة والتقوى، وقد ترتّب على ذلك الكثير من المفاسد، وأوجب ذلك وهماً للكثيرين، فتوهموا أن بعض الأدعية هي جزء من الصحيفة السجادية المشهورة، ومردّ ذلك بكل أسف إلى أن مجال الأدعية والزيارات شرعة لكل وارد، وتُرك لأصحاب المطابع والمطامع! وأعتقد أن هذا العبث في كتب الأدعية والزيارات ناشئ عن عدم عناية العلماء بالأمر بهذه الكتب كما ينبغي ويلزم، كما نبه عليه المحدث النوري في كتابه "اللؤلؤ والمرجان" مستغرباً صمت العلماء إزاء التلاعب والعبث بنصوص الأدعية والزيارات مما يعدّ جرأة عظيمة على الله تعالى ورسوله (ص)!

رابعاً: أما ما سألتم عنه حول مدى صحة الأدعية الواردة بعد دعاء استكشاف الهموم، فهذا أمر لا يسعنا إعطاء جواب حاسم وشامل فيه، بل لا بدّ أن يدرس كل دعاء على حدة، ليرى ما إذا كانت قرائن السند والمتن تبعث على الحكم بصحته أم لا. فإن المناجاة الخمس عشرة بنظرنا لم تصح وربما كانت من وضع الصوفية، وقد أوضحنا ذلك بشكل مفصل في كتاب الشيع والغلو.


 
س » ابني المراهق يعاني من التشتت، وأنا جدا قلق ولا اعرف التصرف معه، ما هي نصيحتكم؟
ج »

التشتت في الانتباه في سن المراهقة مع ما يرافقه من الصعوبات هو في حدود معينة أمر طبيعي وظاهرة تصيب الكثير من المراهقين ولا سيما في عصرنا هذا.

وعلينا التعامل مع هذه المرحلة بدقة متناهية من الاستيعاب والتفهم والإرشاد والتوجيه وتفهم سن المراهق، وأن هذه المرحلة تحتاج إلى أسلوب مختلف عما سبقها.

فالمراهق ينمو لديه الإحساس بالذات كثيرا حتى ليخيل إليه أنه لم يعد بحاجة إلى الاحتضان والرعاية من قِبل والديه.

وبالتالي علينا أن نتعامل معه بأسلوب المصادقة "صادقه سبعا.." والتنبه جيدا للمؤثرات التي تسهم في التأثير على شخصيته واستقامته وتدينه، ومن هذه المؤثرات: الأصدقاء ووسائل التواصل الاجتماعي، فإن نصيبها ودورها في التأثير على المراهق هو أشد وأعلى من دورنا.

وفي كل هذه المرحلة علينا أن نتحلى بالصبر والأناة والتحمل، وأن نبتدع أسلوب الحوار والموعظة الحسنة والتدرج في العمل التربوي والرسالي.

نسأل الله أن يوفقكم وأن يقر أعينكم بولدكم وأن يفتح له سبيل الهداية. والله الموفق.


 
س » اعاني من عدم الحضور في الصلاة، فهل أحصل على الثواب؟
ج »
 
لا شك أن العمل إذا كان مستجمعا للشرائط الفقهية، فهو مجزئٌ ومبرئٌ للذمة. أما الثواب فيحتاج إلى خلوص النية لله تعالى بمعنى أن لا يدخل الرياء ونحوه في نية المصلي والعبادة بشكل عام.
ولا ريب أنه كلما كان الإنسان يعيش حالة حضور وتوجه إلى الله كان ثوابه أعلى عند الله، لكن لا نستطيع نفي الثواب عن العمل لمجرد غياب هذا الحضور في بعض الحالات بسبب الظروف الضاغطة على الإنسان نفسيا واجتماعيا.
لكن على الإنسان أن يعالج مشكلة تشتت الذهن أثناء العمل العبادي وذلك من خلال السعي الجاد للتجرد والابتعاد عن كل الهواجس والمشكلات أثناء الإقبال على الصلاة، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، باستحضار عظمة الله عز وجل في نفوسنا وأنه لا يليق بنا أن نواجهه بقلب لاهٍ وغافل. والله الموفق.

 
س » أنا إنسان فاشل، ولا أتوفق في شيء، وقد كتب عليّ بالخسارة، فما هو الحل؟
ج »

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

أولاً: التوفيق في الحياة هو رهن أخذ الإنسان بالأسباب التي جعلها الله موصلة للنجاح، فعلى الإنسان أن يتحرك في حياته الشخصية والمهنية والاجتماعية وفق منطق الأسباب والسنن. على سبيل المثال: فالإنسان لن يصل إلى مبتغاه وهو جليس بيته وحبيس هواجسه، فإذا أراد الثروة فعليه أن يبحث عن أسباب الثروة وإذا أراد الصحة فعليه أن يأخذ بالنصائح الطبية اللازمة وإذا أراد حياة اجتماعية مستقرة عليه أن يسير وفق القوانين والضوابط الإسلامية في المجال الاجتماعي وهكذا.

ثانياً: لا بد للإنسان أن يعمل على رفع معوقات التوفيق، وأني أعتقد أن واحدة من تلك المعوقات هي سيطرة الشعور المتشائم على الإنسان بحيث يوهم نفسه بأنه إنسان فاشل وأنه لن يوفق وأنه لن تناله البركة الإلهية.

إن هذا الإحساس عندما يسيطر على الإنسان فإنه بالتأكيد يجعله إنسانا فاشلا ومحبطا ولن يوفق في حياته ولذلك نصيحتي لك أن تُبعد مثل هذا الوهم عن ذهنك وانطلق في الحياة فإن سبيل الحياة والتوفيق لا تعد ولا تحصى.


 
س » ما هو هدف طلب العلم الذي يجب أن يكون؟
ج »

عندما ينطلق المسلم في طلبه للعلم من مسؤوليته الشرعية الملقاة على عاتقه ومن موقع أنه خليفة الله على الأرض، فإن ذلك سوف يخلق عنده حافزاً كبيراً للجد في طلب العلم والوصول إلى أعلى المراتب. أما إذا انطلق في تحصيله من موقع المباهاة أو إثبات ذاته في المجتمع أو من موقع من يريد أن يزين اسمه بالشهادة الجامعية ليُقال له "الدكتور" وما إلى ذلك، فإنه - في الغالب - لن يصل إلى النتيجة المرجوة.

وعلى كل إنسان منا أن يعي أنّنا في هذه الحياة مسؤولون في أن نترك أثراً طيباً، وأن نقوم بواجباتنا قبل أن يطوينا الزمان، إننا مسؤولون عن عمرنا فيما أفنيناه وعن شبابنا فيما أبليناه، وسنُسأل يوم القيامة عن كل هذه الطاقات التي منّ اللهُ بها علينا.

وأضف إلى ذلك، إنه من الجدير بالمسلم، أن لا يفكر في نفسه وما يريحه هو فحسب في طلبه للعلم، بل أن يفكر أيضاً في أمته والنهوض بها ليكون مستقبلها زاهراً، وهذا كله يحتم عليه أن يكون سقف طموحاته عالياً ليتمكن هو وأقرانه من الطلاب والعلماء من ردم الفجوة بيننا وبين الغرب الذي سبقنا على أكثر من صعيد.

باختصار: إن مسؤوليتنا ورسالتنا وانتماءنا لهذه الأمة يفرض علينا أن نعيش حالة طوارئ ثقافية وعلمية.


 
س » ما رأيكم في الاختلاط المنتشر في عصرنا، وكيف نحاربه؟
ج »

إنّ الاختلاط قد أصبح سمة هذا العصر في كثير من الميادين، ومنها الجامعات والطرقات والساحات وكافة المرافق العامة.. والاختلاط في حد ذاته ليس محرماً ما لم يفضِ إلى تجاوز الحدود الشرعية في العلاقة بين الرجل والمرأة الأجنبيين؛ كما لو أدى إلى الخلوة المحرمة بالمرأة أو مصافحتها أو كان المجلس مشوباً بأجواء الإثارة الغرائزية أو غير ذلك مما حرمه الله تعالى.

وفي ظل هذا الواقع، فإنّ العمل على تحصين النفس أولى من الهروب أو الانزواء عن الآخرين بطريقة تشعرهم بأن المؤمنين يعيشون العُقد النفسية. إن على الشاب المسلم أن يثق بنفسه وأن يفرض حضوره ووقاره، وأن يبادر إلى إقناع الآخرين بمنطقه وحججه، وأن يبيّن لهم أن الانحراف والتبرج والفجور هو العمل السيّئ الذي ينبغي أن يخجل به الإنسان، وليس الإيمان ومظاهر التدين.

وأننا ندعو شبابنا عامة وطلاب الجامعات خاصة من الذكور والإناث إلى أن يتزينوا بالعفاف، وأن يحصنوا أنفسهم بالتقوى بما يصونهم من الوقوع في الحرام.


 
س » كيف يمكن التخلص من السلوكيات والعادات السيئة؟
ج »

إن التغلب على السلوكيات الخاطئة أو العادات السيئة – بشكل عام – يحتاج بعد التوكل على الله تعالى إلى:

أولاً: إرادة وتصميم، ولا يكفي مجرد الرغبة ولا مجرد النية وانما يحتاج بالإضافة إلى ذلك إلى العزم والمثابرة وحمل النفس على ترك ما اعتادته.

ثانياً: وضع برنامج عملي يمكّن الإنسان من الخروج من هذه العادة السيئة بشكل تدريجي؛ وأرجو التركيز على مسألة "التدرج" في الخروج من هذه العادات السيئة؛ لأن إدمان النفس على الشيء يجعل الخروج منه صعباً ويحتاج إلى قطع مراحل، وأما ما يقدم عليه البعض من السعي للخروج الفوري من هذه العادة، فهو - بحسب التجربة - سيُمنى في كثير من الأحيان بالفشل. والله الموفق


 
 
  مقالات >> فكر ديني
كيف يحبنا ثم يعذبنا ؟
الشيخ حسين الخشن



كيف يحبنا ثمّ يعذبنا ؟!

 

وقد يسأل البعض: إذا كان الله تعالى يحبنا كما قلتم وأسهبتم في الحديث عنه وكان خلق النار لا ينافي محبته لنا كما ذكرتم، لكن لماذا خلقنا وهو يعلمنا أنه سيعذب البعض منا؟! أليس ذلك منافياً للحبّ؟

 

 

والحقيقة أنّ الأسئلة التي يمكن أن تطرح على هذا الصعيد هي ثلاثة:

 

 أولاً: لماذا خلقنا الله؟ أو ما هو هدف الخلق؟

 

 ثانياً: ألا يعدّ خلقه لنا مع علمه بأنّه سيعذبنا ظلماً لنا ومنافياً لعدله تعالى؟

 

ثالثاً: ألا يعدّ خلقه للعباد الذين يعلم بأنهم سوف يعصونه ويستحقون العقاب منافياً لمحبته، فلو كنت حقاً تحبّ ابنك وانت تعلم

 

 

  1. هدف الخلق

 

وفي الإجابة على السؤال الأول نقول: إن هناك عدة نظريات في تفسير وتوجيه هدف الخلق:

 

  • فهناك النظرية العرفانية التي ترى أنّ السؤال لا يصحّ ولا ينبغي أن يطرح عن سبب الخلق، بل إنّه لو يخلقنا لحقّ أن نسأل لماذا لم يخلقنا؟ وذلك لأنّ الخلق هو تعبير عن فيض الله ولطفه، والفيّاضيّة هي من كنهه تعالى، ولا نتصور الله تعالى إلاّ فياضاً، ولذا – وطبقاً لهذه  النظرية – فلا يتصور وجود مرحلة ينقطع فيها الفيض الإلهي، فمنذ كان الله تعالى في الأزل كان فياضاً ومعطاءً.

 

باختصار: إنك لا تسأل الكريم: لماذا أنت كريم، لأن الكرم طبع فيه وصفة ذاتية وملازمة له ولا تنفك عنه، فلا يستطيع إلاَ أن يكون كريماً، وإنّما تسأل الكريم عن بخله ومنعه، والله تعالى هو الكريم الذي لا يحد كرمه ولا يوصف، فخلقه للعباد هو من تجليات كرمه وحبه.

 

ب-وهناك النظرية الفلسفية التي تبرر الخلق باعتباره إيجاداً، والوجود خير من العدم، إنّه خير محض، وهذا الكون بكل عناصره هو مظهر من مظاهر الحكمة الإلهية في الإيجاد والخلق، لما فيه من وإتقان وإبداع وروعة وجمال قال تعالى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} [السجدة 7]، ولخلوه من

النقص والخلل، قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا  مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فارجع البصر هل ترى من فطور} [الملك 3].

 

 

ج-وفي الرؤية القرآنية، فإنّ هدف الخلق يتحدد بالمعرفة، فقد خلقهم الله تعالى ليعرفوه ويتكاملوا بمعرفته فيصلوا إلى أعلى درجات الكمال، وإذا عرفوه عبدوه {وما خلقت الإنس والجن إلاّ ليعبدون} [الذاريات 58]، وعبادته لا تنحصر بخصوص الأعمال العبادية المعهودة من صلاة وصيام وحج ..

فهذه على أهميتها لا تختصر العبادة، بل إنّ مفهوم العبادة أوسع من ذلك بكثير، فهو يشمل كل الأنشطة والأعمال الإنسانية التي لا يراد بها إلاّ وجه الله أو خدمة عيال الله، بمعنى آخر: إنّ انخراط الإنسان في مشروع الخلافة (خلافة الله على الأرض) بإعمار الأرض إعماراً مادياً وروحياً، كما أراد

الله تعالى وخطط هو عمل لا يبتعد أبداً عن عبادة الله تعالى. 

 

 

وتذكر بعض الآيات القرآنية سبباً آخر للخلق وهو في العمق لا يبتعد عن سابقه، وهو ما جاء في قوله تعالى : { ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم } [هود 118 - 119]، وينقسم المفسرون[1] في تحديد المراد باسم الإشارة "لذلك" في الآية، فينما يرى بعضهم أنّ مرجع اسم

الإشارة إلى الرحمة، ليكون المعنى أن الله تعالى إنما خلقهم لأجل الرحمة، يرى آخرون أن المرجع هو الاختلاف، ليكون المقصود أن الاختلاف هو سبب الخلق وغايته، فاختلاف الناس بمعنى تنوع مشاربهم وتعدد طاقاتهم واختلاف أمزجتهم وألوانهم هو هدف الخلق، لأنّ هذا التنوع هو الذي يثري

الحياة ويغنيها ويعيها جماليتها، لأنه يحفّز على التنافس ويحرض على تقديم الأفضل.

 

ويمكن تقديم رأي جامع بين الرأيين المذكورين، وذلك بالقول: إن هدف الخلقة الأقصى والأسمى هو الرحمة، ولكن الرحمة لا تأتي اعتباطاً أو مجاناً، وإنما تتوقف على انخراط الإنسان في مشروع الخلافة والذي يلعب الاختلاف والتنوع دوراً محورياً في وصوله إلى غايته المنشودة.

 

 

 

  1. لماذا خلقنا مع علمه بعاقبتنا؟

 

وأما السؤال الثاني، وهو السؤال عن مدى ملائمة خلقه تعالى للعصاة مع عدله سبحانه وتعالى، وهذا نظير ما يقال من أنّ الأبوين سيكونان ظالمين لو أنهما أقدما على إنجاب طفل مع علمهما المسبق بأنه سوف يكون ولداً مشوهاً تشويهاً تاماً وأنه سيعيش حياة ملؤها المعاناة والألم، فمع علمهما

بذلك وقدرتهما على تجنّب حصوله أقدما على الزواج والإنجاب.

 

والإجابة على ذلك هي أنّه تعالى إذ خلقنا فقد أحسن إلينا، لأنّ الوجود خير محض، كما قدّمنا، وعلمه بأننا سنكون من أهل المعصية والتمرد لا ينافي عدله ولا حكمته إطلاقاً، لأنّ المفروض أنّه خلقنا وأعطانا حرية الاختيار وهدانا لما فيه مصلحتنا، ولم يجبرنا على معصيته، فإن عصيناه فبإرادتنا

وسوء اختيارنا، وإن أطعناه فبإرادتنا وحسن اختيارنا، فليس في خلقه إيانا مع علمه بأننا سنختار طريق المعصية أي ظلم لنا، بل نحن من ظلمنا أنفسنا، قال تعالى: {وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} [الزخرف 76].

 

 

  1. كيف يحبّنا ولا يجنبنا العذاب؟!

 

وأما السؤال الثالث، فيقول: إننا نسلّم بأنّ خلقه تعالى إيانا مع علمه بأننا سنتختار طريق الانحراف لا ينافي عدله، لكن ينافي رحمانيته ومحبته، لأنّ عدم خلقه للعصاة هو رحمة بهم دون شك، لأنّ ذلك سيحول دون وقوعهم في العذاب، فلماذا خلق الله العصاة إذن وهو يعلم بمآلهم؟ ألم يكن ترك خلقهم

هو الأكثر انسجاماً مع لطفه ورحمته ومحبته؟

 

 

ويمكن الجواب على ذلك:

 

أولا: إنّ من خصائص هذه الدنيا أنّها تجري طبقاً لمجموعة من السنن والقوانين الإلهية والحاكمة، ومن أهمها أنّ هذه الدنيا تشكّل ميداناً لاختبار الإنسان ومضماراً للسباق وجسر عبور نحو العالم الآخر، وفي هذا الاختبار يجدّ أناس ويجتهدون في خط طاعة الله تعالى، فيكون التقدم حليفهم والفوز

نصيبهم، ويتراخى أناس آخرون ويركنون للغرائز وينقادون للشهوات، فيكون مصيرهم هو التأخر والرسوب، وفي ضوء هذه السّنة الإلهية فلا وجه للاعتراض المذكور لأنّه يعني باختصار أن هذه الدنيا ستخرج عن طبيعتها وقوانينها، بحيث لا يخلق الله فيها إلاّ الصالحين الذين يضمن صلاحهم

وإيمانهم واستقامتهم، وحينئذٍ يكون الأجدى في التساؤل أن يقال : لمَ لم يخلقنا الله ملائكة أو كالملائكة الذين لا يعرفون المعصية ولا يستطيعون التمرد على الله، قال تعالى: {لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون} [التحريم 6].

 

وطبيعي أنّ الإجابة على تساؤل من هذا النوع واضحة، فإنّ الملائكة بحكم أنّهم لا يعرفون المعصية ليسوا أفضل من الإنسان بشكل مطلق، بل إنّ الإنسان هو المخلوق الأفضل من حيث المبدأ، وذلك بحكم إرادته واختياره وقدرته على التمرد، فهو يطيع مختاراً ويعصي مختاراً، ولذا لم يكن عبثاً

أن يختاره الله تعالى من بين سائر خلقه ليكون خليفته على الأرض طبقاً للرؤية القرآنية الستفادة من قوله تعالى: {وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون} [البقرة 31]، ومن

الطبيعي أنّ الإنسان عندما يسير في خط الخلافة كما خطط له الله تعالى، فسيكون عندئذٍ أفضل من الملائكة لأنه وصل إلى ذلك باختياره وإرادته رغم الصعاب والتحديات، وعندما ينحدر خلقياً وينحرف عن الصراط المستقيم فيفسد في الأرض ويسفك الدماء كما قدر الملائكة أنفسهم، فإنه والحال لن

يسامي الملائكة دون شك ولن يصل إلى مقامهم، بل سينحط إلى ما دون مستوى الحيوان.

 

 

 ثانياً: من قال بأن الله سيعذّب العاصي جزماً ويقيناً، صحيح أنّه توعّده بذلك، ولكنّ القبيح هو الخلف بالوعد، وأما الخلف بالوعيد[2] فليس قبيحاً صدوره من العاقل الحكيم فكيف بسيد الحكماء، ولذا من الممكن أن يعفو الله تعالى عن العصاة، فالأمر إليه فقد يعفو وقد يعاقب ولا نملك أن نحتّم

عليه بشيء من ذلك، أجل ليس من الحكمة في شيء أن يتمّ تجاوز قانون "ولا يكونن المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء"، فتكون منزلة العاصي والمطيع واحدة عند الله في ميزان الحساب الأخروي، فهذا ليس منطقياً ولا يفعله الحكيم، لأنّ " في ذلك تزهيداً لأهل الإحسان في الإحسان وتدريباً

لأهل الإساءة على الإساءة"[3]، ولذا قد يتجاوز الله تعالى عن العصاة، ولكنّه بالتأكيد لن يجعلهم عنده في رتبة العاملين المطيعين، فضلاً عن رتبة الأولياء والصديقين والشهداء، ومن هنا فإنه تعالى إذا شاء العفو عن العاصي فإنه قد يحرمه من بعض مراتب القرب المعنوي من عزّ وجلّ لكون

هذا العبد ليس أهلاً لذلك. وهذا في حدّ ذاته قد يكون عقاباً أليماً له.

 

 

ثالثاً: ولا ننسى التذكير بما سلف من أنّ العذاب الأخروي بناءً على نظرية "تجسم الأعمال" ليست انتقاماً إلهياً ولا عقوبة تشريعية أقرّها الله تعالى على تجاوز حدوده، ليرد الإشكال بمنافاة ذلك لحبّه تعالى لعباده، وإنّما هي نتيجة طبيعيّة تترتب بشكل تكويني على المعصية.



[1] مجمع البيان للطبرسي ج 5 ص 350- 351.

[2] "الوعد هو الإخبار بوصول نفع إلى الموعود له، والوعيد عبارة عن الإخبار بوصول ضرر إليه". أنظر: كتاب الاقتصاد للشيخ الطوسي ص108.

[3] نهج البلاغة ج 3 ص 89.

 






اضافة تعليق

الاسم *

البريد الإلكتروني *

موضوع *

الرسالة *


 


 
  قراءة الكتب
 
    Designed and Developed
       by CreativeLebanon