"وأنا أحقّ من غيّر"
الشيخ حسين الخشن
في مستهل كل عام هجري جديد ومع إطلالة ذكرى عاشوراء تتزاحم الأسئلة : من هو الحسين (ع)؟ وما هو مشروع الحسين(ع) ؟
هل قاد الحسين(ع) حركة انتحارية أم حركة استشهادية نضالية واعية؟
هل هي حركة تصحيحية أم حركة تغييرية ؟
هل للحسين (ع) مشروع غير مشروع جدّه المصطفى (ص) ؟
ولك أن تتساءل هنا: أترانا إلى الآن لم نع مشروع الحسين(ع)، حتى نظل نستهلك هذه الأسئلة ونستهلك ونكرر الأجوبة؟
ولكني أعتقد أنّ السؤال – في حدّ ذاته - ظاهرة صحيّة، هذا ناهيك عن أنّ قدر الثورات العظيمة أن تبقى في الضوء، وأن تستقطب الاهتمام، والثورة الحسينية هي واحدة من الثورات المهمة والمؤثرة والمفصلية في التاريخ الإسلامي، ولذا ليس ثمة خطأ في إعادة قراءتها في منطلقاتها وأهدافها
ونتائجها ، لأنّنا أمام ثورة قائدة وملهمة، وثورة كهذه من الضروري أن نستلهمها ونستنطقها وأن نعاود قراءتها باستمرار على ضوء المعطيات المستجدة، فهي كالنص المقدس الذي عليك أن تعاود قراءته واستنطاقه باستمرار
.
1- الإصلاح أو التغيير
ولا يخفى أنّ الإمام الحسين (ع) لم يترك اجتهاداً لمجتهد، فهو قد حدد ببيانات عديدة وخطابات واضحة لا لبس فيها أهداف ثورته وأسباب حركته، ولنترك الكلام للحسين (ع) نفسه ليحدد لنا هذه الأهداف والخطوط العامة لمشروعه، روى الطبري عن أبي مخنف: "إنّ الحسين خطب أصحابه
وأصحاب الحر بالبيضة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيّها الناس إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: من رأى سلطانا جائراً مستحلاً لحرم الله ناكثاً لعهد الله مخالفاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعمل في عباد الله بالاثم والعدوان فلم يغيّر عليه بفعل ولا قول كان حقا
على الله أن يدخله مدخله، ألا وإنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن وأظهروا الفساد وعطلوا الحدود واستأثروا بالفيء وأحلّوا حرام الله وحرّموا حلاله، وأنا أحقّ من غيّر".[1]
هذا النص المعروف هو من أشهر نصوص النهضة الحسينية التي تشرح فلسفة هذه النهضة وتبيّن الأسباب الموجبة لها، كما أنّه يضيئ على طريق مواجهة الانحراف ومعالجته، ويهمني تركيز النظر إلى الفقرة الأخيرة من هذا النص، عنيت بذلك قوله(ع):" ألا وإنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان
وتركوا طاعة الرحمن وأظهروا الفساد وعطلوا الحدود واستأثروا بالفيء وأحلّوا حرام الله وحرّموا حلاله، وأنا أحقّ من غيّر".
وأخال أنّه لم يتم إيلاء هذا المقطع من النصّ حقّه من التحليل والتدبر، فهو نص يتحدث عن حركة تغييريّة، "وأنا أحقّ من غيّر"، فهل أنّ التغيير هو مهمة تصحيحيّة للواقع الفاسد الذي وصلت إليه الأمة، أم أنّه شيء آخر؟ هذا ما سنعرف الإجابة عليه لاحقاً.
ولكن علينا في البدء أن نلفت النظر إلى أنّ الذي يحدد مسار الثورة وطبيعة الحركة وهل تكون حركة تغييرية أو تصحيحيّة، سلميّة أو غير سلميّة إنما هو حجم الانحراف والفساد المستشري في جسم الأمة، تماما كما أنّ طريقة المواجهة والمعالجة لأي ظاهرة مرضيّة على مستوى جسم الإنسان
تكون تابعة لتشخيص المرض وتحديد نوعيّته ومدى انتشاره، فالمرض يعبّر عن حالة اعتلال أو فساد في الأعضاء وهو في بعض مستوياته البسيطة قد يكتفى في معالجته باستخدام بعض المضادات الحيوية لكنه في حال انتشاره في الجسد وتمكنه منه قد يحتاج إلى عمل جراحي استئصالي.
هذا في مرض الجسد وفساد العضو، وكذلك الحال في الفساد الاجتماعي الذي ينتشر في جسم المجتمع، فإنّ هذا الفساد له مستويات ولكل واحد من هذه المستويات طريقة مواجهة ملائمة.
2- الفساد وخصائصه
ونقطة البداية في انتشار الفساد هي في انحراف الإنسان عن المسار الصحيح الذي أريد له أن يسير عليه وهو خط الخلافة وابتعاده عن المنظومة القيمية الحاكمة في المجتمع، ومن الطبيعي أنّ طريق الانحراف هو الطريق الأسهل لوصول الإنسان إلى المآرب والأغراض والغايات الخاصة.
ومن خصائص الفساد أنّه في بداية الأمر يكون صغيراً ومحدوداً، ولكنه مع الوقت يتراكم ويتضاعف ويتزايد شيئاً فشيئاً ويمتد ويتفشى كبقعة الزيت إلى أن يصبح مرضاً عصياً على العلاج بالطرق العادية..
ومن خصائص الفساد أيضاً أنّه يعدي، فهو يبدأ فردياً ولكن إذا لم يوضع له حدٌ فإنّه سينشر شيئاً فشيئاً إلى أن يغدو انحرافاً اجتماعياً لنصبح أمام ظاهرة فساد، وقد يمتد الانحراف ليصبح هو السائد وربما المألوف فلا تستطيع إنكاره وتغييره بسهولة، بل قد تلام وتصبح موضع إدانة في حال مواجهتك
له، إذ في مرحلة معينة من انتشار الفساد واعتياده يغدو الحق غريباً، وكما قال النبي (ص) :" الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً فطوبى للغرباء"[2]، وها نحن في زماننا نشعر بغربة كبيرة للإسلام على مستوى القيم والمبادىء وهذا هو ما يرمي إليه قول النبي الأكرم (ص) فيما روي عنه
: " كيف بكم أيّها الناس إذا طغى نساؤكم وفسق فتيانكم! قالوا: يا رسول الله إنّ هذا لكائن. قال: نعم وأشدّ منه، كيف بكم إذا تركتم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر! قالوا: يا رسول الله إنّ هذا لكائن قال: نعم وأشدّ منه كيف بكم إذا رأيتم المنكر معروفاً والمعروف منكراً"[3]
.
3- فساد الفرد وفساد المجتمع
والإسلام يهتم باستقامة الفرد والمجتمع معاً، وإذا أردنا بناء مجتمع مستقيم تحكمه القيم فعلينا أن نعمل على الخطين معاً، فنبدأ بالفرد لنعمل على إصلاحه وتهذيبه، ولكنّ استقامة الفرد لا تعني استقامة المجتمع، فما أكثر ما يكون الأفراد صالحين لكن المجتمع يكون فاسداً، كما أن استقامة الفرد لا تغني
عن استقامة المجتمع، فالفرد لا يعيش في جزيرة معزولة، ولذا إذا كان المجتمع فاسداً فلا محالة سوف ينعكس ذلك على الفرد عاجلاً أم آجلاً، فينعزل أو يقع تحت تأثير المجتمع الفاسد وينحرف.
ولذا لا يستطيع الفرد المهتم باستقامته واستقامة أبنائه أن يكون غير مبالٍ بشأن المجتمع على طريقة "تبعد عن راسي بسيطة"، بل من الواجب عليه ليحمي نفسه وأسرته أن يعمل على بناء المجتمع المستقيم والصالح، لأنّ فساد المجتمع سيصل إليك عاجلاً أم آجلاً، فحماية بيتك وأسرتك هي جزء
من حماية المجتمع، بتحصينه بمنظومة من القيم والمبادىء التي تعدّ اللبنة الأساس في بناء الاجتماع الإنساني.
المجتمع الصالح هو الذي تحكمه بنية هادفة صالحة، ولو كان فيه أفراد فاسدون، والمجتمع الفاسد هو الذي تحكمه بنية فاسدة، ولو كان فيه أشخاص صالحون، ففساد المجتمع ليس في انحرافات هامشيّة، وليس في مجرد فساد الأفراد، وإنّما هو فساد المنهج، أو " السبيل" كما عبّرالله تعالى: { وقالَ
مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف 142 ]، وفي المقابل فإنّ صلاح المجتمع ليس في وجود أكثرية صالحة من أبنائه. سيظل الأفراد الفاسدون موجودين حتى في دولة المعصوم، كما سيظل الصالحون موجودين حتى في دولة يزيد، وإنّما الفساد أو
الصلاح الاجتماعيان هما الفساد والصلاح في بنية النظام الاجتماعي والأخلاقي والسياسي.
4- الفاسدون والمفسدون
وكما ميّزنا بين الفرد الفاسد والمجتمع الفاسد، فإنّ علينا أن نميّز بين نوعين من الفاسدين وهما: الفاسد العادي، والفاسد المفسد، وتوضيح ذلك: إنّ من ينحرف عن خط النظام العام للتشريع ويتجاوز القانون هو إنسان فاسد، والفاسد قد لا يكون معانداً بل هو معترف بانحرافه، ولا سيما عندما يتمّ
تنبيهه إليه وإرشاده إلى خطأه، بيد أنّه قد يتعلل ببعض الأعذار، أمّا الانحراف الاجتماعي فمن يقوده ليس مجرد إنسان فاسد، وإنّما هو مفسد، الفاسد هو من يتجاوز النظام التشريعي والأخلاقي، وأمّا المفسد فهو الذي يبدّل هذا القانون بغيره، هو الذي يغيّر بنية النظام أو يساهم في تغييرها أو هو الذي
يمسّ انحرافه بنية النظام القيمي الحاكم.
والفرق بين المفسد والفاسد هو - تماماً- كالفرق بين الصالح والمصلح، فقد يكون الفرد صالحاً ولكن قد لا يتسنى له أن يكون مصلحاً، لأنّ المصلح هو شخص صاحب مشروع ودور رسالي، بينما الصالح هو إنسان خيّر متدين وهو قد يكون بركة لمن حوله، ولكن مع ذلك فهو لا يمتلك القدرة على
النهوض والقيام بأعباء عمل إصلاحي نهضوي تغييري.. إنّه لا يمتلك القدرة على أن يحوّل صلاحه إلى مشروع يجتذب الآخرين ويشدهم إليه.
وهذا يدفعني إلى طرح سؤالين:
الأول: كيف يتحول الإنسان إلى شخص مفسد؟
والجواب: إنّ الإنسان لا يولد فاسداً ولا مفسداً، يولد شخصاً نقياً طاهراً كالصفحة البيضاء، أو "كالأرض الخالية ما ألقي فيها من شيء قبلته"، كما قال الإمام علي (ع)"[4]، وإنّما عوامل مثل البيئة الاجتماعية والمصالح الشخصية وسواها من العوامل هي التي تصنع منه إنساناً فاسداً
ومفسداً وطاغية، بحيث إنّه وحيث ما حل فيحل الفساد معه.
الثاني: من هو الشخص المؤهل لقيادة عملية الإصلاح ؟
والجواب: إنّ المصلح وهو منيكون صالحاً في نفسه ويحمل رؤية واضحة حول الإصلاح هو القادر على نشر الصلاح والهدى وتحويله إلى مشروع، وهو قادر على التغيير والتأثير، ولذلك نرى أن نبي الله شعيب لم يقل:"إن أريد إلاّ الصلاح" بل قال: {ِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا
تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}[هود 88 ].
ولن يتسنى للمصلح أن ينشر الصلاح إلاّ بعد أن يقوم بعمليّة رصد لكل جوانب الفساد في جسم الأمة والتي تهددها بالانهيار والسقوط الحضاري، أو تفقدها مناعتها الروحيّة والأخلاقيّة، وبعد عمليّة الرصد هذه فإنّه يعمل على إعداد خطة إصلاحية هادفة.
من الطبيعي أن لا نغفل ونحن نتحدث عن العلاقة بين الصالح والمصلح عن بيان أمر هام يمثل شرطاً لا بدّ من توافره في شخصية المصلح، ليتسنى له النجاح في مهمته الإصلاحية وهو أن يكون صالحاً في نفسه، لأنّ فاقد الشيء لا يعطيه.
ولا بدّ له أيضاً أن يكون إنسانا رسالياً وليس مزاجياً، فالمزاجيون ليس مؤهليه لقيادة عملية الإضلاح، إنّ على المصلح أن يعيش هم الرسالة وينصهر فيها بكل كيانه الروحي والفكري والحركي.
5- مقارنة بين الحسين(ع) ويزيد
ومن هنا نعرف الفارق بين شخصية الحسين وشخصية يزيد، فهو ليس فارقاً بين رجل صالح وآخر فاسد، بل هو فارق بين المصلح والمفسد، فإنّ يزيداً لم يكن مجرد إنسان فاسد بل ومفسد أيضاً، فهو قد عمل على نشر الفساد في الأرض، وكان مصداقاً لقول الحق سبحانه وتعالى: {وإذا تولى سعى
في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحبّ الفساد} [البقرة 205]، إنّ يزيد وكل تلك الجماعة الانقلابية التي وصلت إلى السلطة بعد استشهاد علي(ع) قد عملوا على تغيير وتزوير المفاهيم الأصلية وحاربوا الدين باسم الدين.
ودعونا نرجع إلى كلمة الإمام الحسين(ع) في توصيف هذه الجماعة التي ثار (ع) في وجهها يقول(ع): "وأظهروا الفساد.."، فهؤلاء كانوا أشخاصاً فاسدين دون شك، ويزيد رجل فاسد بلا ريب، وقد وصفه الإمام الحسين (ع) في كلمة أخرى قائلاً: "ويزيد رجل فاسق فاجر قاتل للنفس المحترمة".
لكنه بالإضافة إلى ذلك كان رجلاً مفسداً، فهو فاسد في نفسه ومفسد لغيره، ، وعبارة "وأظهروا الفساد" تشير إلى دورهم الإفسادي، فأنت قد ترتكب المعصية وتمارس الانحراف فيما بينك وبين نفسك، فتكون فاسداً، وأمّا أن تظهر الفساد وتعلنه، فأنت لم تعد حينها مجرد فاسد، بل إنّ مجاهرتك بذلك
ستدرجك في سلك المفسدين، لأنّك من حيث تشعر أو لا تشعر تشجّع الآخرين على الفساد وارتكاب المحرمات وترويج الفساد.
في المقابل فإنّ الإمام الحسين (ع) لم يكن مجرد رجل صالح ولو كان كذلك لجلس في بيته وعبد الله كما يطيب له دون أن يزعجه أحد، الحسين (ع) صاحب رسالة وصاحب مشروع، الحسين(ع) مصلح "إنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي محمد (ص) أريد أن آمر بالمعروف.."[5]،
المصلح هو الذي يريد للصلاح أن ينتشر ويعم، فالحسين (ع) صالح في نفسه ومصلح لغيره، على غرار ما يقال في بعض أنواع الماء أنّه " طاهر في نفسه ومطهر لغيره".
6- الإصلاح كلفته وشروطه
أن تعيش صالحاً فهذا قد لا يكلفك معاناة ولا يؤثر على حياتك ولا يعرّضك للمخاطر، أمّا لو كانت غايتك الإصلاح، فعليك أن تجهز نفسك للتضحية وأن يكون لديك استعداد للمواجهة والمعاناة، لأنّ المفسدين لن يتركوك وشأنك، ولذا فإنّ معركة المصلح الأساسية ليست مع الفاسدين بالدرجة
الأولى، وإن كانوا يدخلون في مشروعه الإصلاحي، لكنّ معركته الأساس هي مع المفسدين ومع البنية الفكريّة الفاسدة التي أرسوها في المجتمع، وما أرسوه في الأمة من أسس قام عليها الفساد، فهو أي المصلح يعمل على دكّ تلك الأسس ولا يستهلك وقته ويفني عمره في التفاصيل إلا بمقدار ما
تتصل بالمشروع العام .
وفي سياق هذه المعركة الإصلاحية لا بدّ لأي مصلح أن يسعى ليجنّد معه الناس الذين يؤمنون بمشروعه، ومن الطبيعي أن يكون الصالحون هم الطليعة في قيادة المشروع، لكن ليس كل صالح مستعداً أو لديه قابلية الانخراط في المشروع الإصلاحي، بل إنّ الصلحاء الذين لا يملكون بصيرة ربما
شكلوا حجر عثرة أمام المشروع وكان ضررهم أكبر من ضرر الفاسدين أنفسهم، لأنهم – أعني الصالحين - قد يعتبرون أنّ الحركة الإصلاحية هي مجازفة غير مضمونة النتائج، وهي تعرّض مصالحهم للخطر، أو أنّها عمل انتحاري وإلقاء للنفس في التهلكة، ألم يشكّل أصحاب الجباه المتورمة من
كثرة السجود عائقاً أمام مشروع علي (ع) حتى قال فيهم كلمته الشهيرة :" ما قصم ظهري إلاّ رجلان عالم متهتك وجاهل متنسك"[6]؟! ألم ينصح بعض الصلحاء الإمام الحسين(ع) بعدم الذهاب إلى العراق؟! لقد حصل ذاك وهذا، ليس عن سوء نية، وإنّما عن حسن نية، إنّ الصلحاء الذين لا
يمتلكون رؤية شاملة وليس لديهم بصيرة نافذة أو ثاقبة قد يعيقون المشروع الإصلاحي.
7- معالم الفساد في زمن الإمام الحسين (ع)
بالعودة إلى كلمة الإمام الحسين (ع) المتقدمة نجده (ع) تنصّ على وجود فساد في الأمة وأنه ثار في مواجهة الفساد والمفسدين، وقد بيّن لنا أهم معالم الفساد المستشري في زمانه، وذلك من خلال ثلاثة عناوين رئيسية:
1- "وعطلوا الحدود"، وتعطيل الحدود هو أحد مظاهر الإفساد، فالمجتمع الذي لا تحكمه الحدود بما تعنيه من نظام المحاسبة هو مجتمع تسوده الفوضى، لأنّه إذا لم يعد هناك حساب ولا عقاب وأصبح هناك أشخاص فوق القانون فهذا مؤشر على انهيار المجتمع، ولذا كان الرسول الأكرم(ص)
واضحاً في أنّه لا أحد فوق القانون، في الحديث أنّ قريشا أهمهم شأن المخزومية التي سرقت فقالوا: من يكلم فيها يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: من يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلّمه أسامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما هلك الذين
من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد! وأيم الله لو سرقت فاطمة بنت محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) لقطعت يدها [7].
2- "واستأثروا بالفيء" والفيء هو المال العام هو مال الأمة وعندما تستأثر طبقة مالكة وحاكمة أو فاسدة بهذا المال فهذا مؤشر خطير على انحراف وفساد بنيوي يؤسس لطبقيّة خطيرة، ويدفع المستأثرين في سبيل الحفاظ على "مكتسباتهم" إلى ممارسة الاستبداد واستعباد الناس وقهرها وإذلالها،
كما أنّه سيؤدي حكماً إلى انتشار المحسوبيات وحالة الاستزلام والانقياد لأصحاب رؤوس المال والمستأثرين بالمال العام، ومن هنا نجد أنّ أمير المؤمنين (ع) قد شنّها حرباً لا هوادة فيها على قضيّة التعدي على المال العام، ولم يستمع لبعض" النصائح" الموجهة إليه والتي تدعوه إلى المهادنة
وغض الطرف عن بعض الانحرافات على الصعيد المالي، لأنّه(ع) قدّر أنّ الانحراف السياسة المالية في الدولة عما هو مرسوم لها ليس أمراً هامشياً وإنّما هو انحراف بنيوي لا يمكن السكوت عليه أو التغاضي عنه، ولهذا نجده مصراً على استرجاع قطائع عثمان، قائلا:" والله لو وجدته قد
تزوج به النساء وملك به الإماء لرددته، فإنّ في العدل سعة ، ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق" [8].
3- "وأحلّوا حرام الله وحرّموا حلاله" وهذا العنصر- باعتقادي - هو الأخطر في عملية الإفساد، وتأملوا ملياً في هذه الكلمة، فالإمام لم يقل إنّهم ارتكبوا الحرام وتجاوزوه، وإنما قال: "إنهم أحلّوا الحرام، وحرموا الحلال" فنحن أمام عملية تشريع – كما يقول العلماء - وبعبارة أكثر وضوحاً : نحن
أمام عملية تزوير للشريعة، والمفسد لن يستقيم له الأمر إلاّ بالعمل على تغليف الفساد بغلاف جميل ومقنع، وهل أجمل من غلاف الدين ولباسه؟! فالدين هو أفضل وسيلة لـ"شرعنة" الفساد وحماية الإنحراف وتعميق العصبيات..
ومن الطبيعي أنّ مهمة تزوير الدين لن يتسنى لأحد القيام بها كما يقوم بها علماء السوء، ولذلك كانوا صنو الحكام وتوأمهم في قيادة عمليّة الإفساد، في الحديث رسول الله صلى الله عليه وآله:" صنفان من أمتي إذا صلحا صلحت أمتي ، وإذا فسدا فسدت أمتي، قيل : يا رسول الله ومن هما ؟ قال :
الفقهاء والأمراء"[9].
إن خطورة فساد العالم أنّه القدوة وإذا استثمر عمله في تغطية الفساد فهذا سيحوّله إلى مفسد وإلى خائن لرسالة العلم.
وأما السلطان أو الحاكم فإنّ فساده هو الآخر يشكل داهية عظمى وطامة كبرى، لأنّ الحاكم الفاسد سيسعى إلى تغيير القيم وتبديل الموازين، قال تعالى: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [ النمل 34].
الإصلاح والتغيير
وأمام هذا الواقع الفاسد الذي وصفته كلمة الإمام (ع) المتقدمة قد تسأل: هل ينفع الإصلاح في ترميم هذا الواقع، فالفساد بلغ حداً قد لا يكفي معه القيام بجهود تصحيحية، وإنّما يحتاج الأمر إلى عملية انقلاب شاملة؟
وهذا الكلام فيما يظهر صحيح، ولذا رأينا أنّ الإمام (ع) في كلمته المذكورة قال: "وأنا أحقّ من غيّر"، وعلينا التأمل ملياً بهذه الكلمة، فهو يتحدث عن عمليّة تغيير وليس عملية إصلاح، عملية تغيير شاملة لكل هذا الواقع، ولذا فالإصلاح عندما ورد في كلامه (ع) في محل آخر "خرجت لطلب
الإصلاح" فهو لا يهدف إلى ترميم الأمور، أو أن يغيّر حاكماً بآخر مع بقاء البنية الفاسدة، إنّه يتحدث عن الإصلاح الشامل الذي يغير البنى التحتية لنظام الجور.
8- أساليب التغيير ووسائله المشروعة
ما هي أساليب التغيير ووسائله المشروعة؟
هل يشرع في عملية التغيير اعتماد الثورة المسلحة أو عسكرة الحراك الجماهيري الاجتماعي المطالب بالحقوق؟
ما نفهم من تعاليم الإسلام وسيرة النبي (ص) والأئمة من أهل بيته (ع) أنّ الأصل في عملية التغيير داخل المجتمع هو في الحراك السلمي الجماهيري والذي يتدرج في أساليبه الاحتجاجية، هذا هو المبدأ والقاعدة الأساس، لأنّ الإسلام يرفض التسرع ويحرص على عدم التسبب بإزهاق الأرواح
وانتهاك الكرامات، قال تعالى: {من قتل نفساً بغير نفس فكأنّما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنّما قتل الناس جميعاً} [ المائدة 32]، ولكن هذا لا يمنع من وصول الحراك في ذورة الصراع وبعد استنفاذ كافة الوسائل السلمية الاحتجاجية إلى العصيان المدني واستخدام القوة. ولكن بشرط أن
يكون التقدير الواعي والدراسة المستوعبة تؤكد نجاح هذه العملية في الوصول إلى الغاية المنشودة، فلا بدّ إذن من أن يكون الأفق السياسي والاجتماعي مفتوحاً حتى لا نغرق في الفوضى العارمة بحجة التغيير، وهذا الأمر يتطلب أيضاً دراسة الأولويات، أولويات الأمة.
والذي أعتقده أنّ الإمام الحسين (ع) قد قدّر أنّ حركة الاحتجاج السلمي التي لا بدّ منها قد لا تجدي نفعاً، لأنّ الفساد بلغ مبلغاً خطيراً لا بدّ معه من ثورة شاملة، والثورة تحتاج إلى صدمة كبيرة تحرّك الواقع الساكن وتوقظ النيام ولو كلّف الأمر أن يقدم نفسه ودمه وعياله في سبيل الإسلام.
الإمام الحسين (ع) لم يكن جاهلاً بالسياسة - حاشاه- ، فهو - على أضعف التقادير وبصرف النظر عن عقيدتنا الخاصة فيه- قارىء جيد للواقع ويمكنه على ضوء مسار الأحداث التي يعايشها أن يقدّر أنّ حركته قد لا تكلل بالنجاح العسكري، ولكنه مع ذلك أقدم على الحركة، لأنّه رأى – ورأيه حق –
أنّه بغير هذا المسار الثوري حتى لو أدّى إلى استشهاده واستشهاد أبناءه، لن تستيقظ النفوس النائمة ولن تتحرك الإرادات الميتة.
لا يعني هذا أنّ الحسين(ع) أرادها حركة انتحارية استشهادية، إنّها حركة تستهدف تغيير الواقع الفاسد ابتداءً من السلطة الظالمة إلى بنية النظام الفاسد، وكان الحسين (ع) مصمماً على خوض المعركة مهما كانت النتائج.
محاضرة عاشورائية ألقيت في 8 محرم الحرام 1436هـ في بلدة سحمر.
[1] تاريخ الطبري ج 4 ص 304.
[2] عيون أخبار الرضا (ع) ج 2 ص 218.
[3] مجمع الزوائد للهيثمي ج 7 ص 281.
[4] نهج البلاغة ج 3 ص 40.
[5] الفتوح لابن أعثم الكوفي ج5 ص21.
[6] عيون الحكم والمواعظ ص 479.
[7] السنن الكبرى للبيهقي ج 4 ص 334.
[9] الخصال للشيخ الصدوق ص 37.