الشذوذ الجنسي
الشيخ حسين الخشن
الشذوذ الجنسي
وردتني في أوقات مختلفة الكثير من الأسئلة حول موضوع الشذوذ الجنسي ببعديه المعروفين، أعني علاقة الرجل بالرجل (اللواط) وعلاقة المرأة بالمرأة (السحاق)، فثمة من سأل ويسأل عن دليل التحريم؟ وربما قال بعضهم: إنّ الله تعالى إنّما حرّم اللواط في القرآن ولم يحرّم السحاق؟
وهناك من سأل أو يسأل عن السرّ في تحريم هذا العلاقة ؟ وربما اعترض البعض على التحريم بأنّه كيف يحرّم الله تعالى أمراً قد أوجد مقدماته في الإنسان، باعتبار أنّ الميول الشاذة ليست إختيارية، وإنما هي مخلوقة مع صاحبها؟
إلى غير ذلك من الأسئلة التي تطرح في هذا المجال، والتي تتزايد يوماً بعد يوم، وقد كنت أجيب على هذه الأسئلة تارة بإجابات كتبيّة، وأخرى بإجابات شفاهية، وقد قابلت بعض من ابتلى بهذا العادة وامتلك الجرأة على أن يفصح عن مشكلته ويتحدث عن معاناته ويقول ما عنده، وحاولت قدر
المستطاع ثنيه عن ذلك بشتى الحجج الإقناعية، وهذه المقالة هي حصيلة تلك الأجوبة.
1- تفاقم المشكلة
وبادىء ذي بدء أجد أنّ من الضروري الإضاءة على أمر حساس ويشكّل مدخلاً منهجياً لا مفرّ منه في تناول المسألة المبحوث عنها وبيان أهميتها، وهو يتصل بتوصيف هذه القضية، فهل نحن أمام حالة مرضيّة تحتاج إلى معالجة أم أنّنا أمام ظاهرة عادية وطبيعية وعلينا تفهم الأمر والتكيّف
معه؟
لا يخفى أن هناك اتجاهاً يصرّ على إخراج المسألة من دائرة التساؤل الإشكالي، ويعتبر أنّ الميل المثلي هو ميل طبيعي واعتيادي ولا يفترض التعامل معه باعتباره مرضاً أو مشكلة، بل لا بدّ من الاعتراف به وإظهاره وعدم كبته، ومن الواضح أنّ هذا الموقف ينطلق من خلفيّة ثقافيّة خاصة تقوم
على رؤيّة معينة فيما يتصل بالإنسان وحريته في التعبيرعن ذاته وحقه في إشباع غرائزه كما يحلو له، وهي رؤيّة سادت مؤخراً في بلاد الغرب وتمّ تحشيد الكثير من مراكز القوى للدفاع عنها والانتصار لها.
ولكننا نختلف اختلافاً جوهرياً مع هذه الرؤية الراميّة إلى تسويغ ما هو واقع ولا يسعنا الموافقة عليها، ونرى أنّ ميزان الحق والباطل في مثل هذه الأمور لا يتحدد في ضوء ما هو كائن وواقع، بل في ضوء ما ينبغي أن يكون، وما لا بدّ أن يقع، وذلك بحسب ما يحكم به العقل السليم ويؤيده
المنطق وتشهد له الفطرة المستقيمة والوجدان غير الملوث، فما أكثر الأمور الواقعة والمنتشرة بين الناس وهي من أوضح مصاديق الباطل، وأجلى أفراد الرذيلة والانحراف.
في المقابل فإنّ علينا الاعتراف بوجود المشكلة أو الحالة المرضية وعدم تجاهلها أو انكارها ، لأن ذلك هو المدخل الأساس لمعالجتها، ولا يخفى أنّ ثمّة شريحةً من النّاس قلّ أفرادها أم كثروا مبتلون بهذا البلاء، وبالتالي فإنّ علينا أن لا ندفن رؤسنا في الرمال ونتجاهل وجود هذه المشكلة الآخذة بالتفاقم يوماً بعد يوم.
ويلاحظ أنّ هناك العديد من العوامل المساعدة على تفاقم المشكلة، وأهمّها وجود جماعات عالمية منظمة ومعظم أعضائها من الأفراد الشاذين جنسياً قد أخذت على عاتقها مهمة الدفاع عن حقوق الشواذ، وقد باتت هذه الجماعات تشكّل ما يعرف بـ "اللوبي" وهي تعمل عبر شتى الوسائل الإعلامية
وكذا وسائل التواصل الاجتماعي ليس على اجتذاب الأشخاص ذوي الميول المثلية وتشجيعهم على الإعلان عن أنفسهم فحسب، بل وتسعى للضغط على الأحزاب السياسية ومراكز القرار والتشريع في العديد من الدول ولا سيما الغربية منها للاعتراف بحقّهم في الزواج كغيرهم من الناس، وهكذا
تدفع هذه الجماعات - مستعينة بكافة وسائل الإعلام والدعاية - باتجاه الإقرار بواقع قانوني جديد تُلغي فيه تلك الدول المادة القانونية المعروفة لدى كافة الشرائع السماوية والوضعية والتي تنصّ على أنّ الزواج الشرعي هو الزواج القائم بين الجنسين (الرجل بالمرأة) فقط، وتستبدل بفقرة جديدة تنصّ
على أنّ بالمرةلتغدوا أصناف الزواج ثلاثة: زواج المختلفين بالجنس، أعني زواج الرجل من المرأة، وزواج المتماثلين في الجنس، وهذا الأخير ينشطر إلى قسمين: زواج المرأة من المرأة ، وزواج الرجل من الرجل، وهذا ما حصل فعلاً حيث أقرّت بعض القوانين بذلك.
وقد استطاعت هذه الجماعات انتزاع الكثير من الاعترافات بها حتى من قبل بعض رجال الدين المسيحيين أو اليهود ويعمل البعض على تسجيل اختراق في الفضاء الإسلامي الذي لا يزال رافضاّ لهذا الأمر رفضاً قاطعاً.
2- وقفة مع التسمية
بعد هذه الإضاءة على المشكلة أجدني ملزماً بالتنبيه على أمر آخر يتصل بتسمية هذه العلاقة وتوصيفها اللفظي، حيث يسعى البعض إلى استبدال التسمية الشائعة لهذا النوع من العلاقة الجنسية القائمة بين شخصين من جنس واحد وهي تسمية "الشذوذ"، بتسمية جديدة وهي "العلاقة المثليّة"، على
اعتبار أنّ كلمة "الشذوذ" تحمل في ثناياها إدانة لهؤلاء أو توحي بالتحقير لهم وانتقاصهم.
ونحن وإن كنا لا نمانع من إطلاق أو استخدام التسميات الجديدة، ونعتقد أنّ تغيير المصطلحات لا يغيّر من الواقع شيئاً، ولا سيّما أنّ مصطلح "الشذوذ" ليس هو المصطلح المستخدم في النص الإسلامي ولم يعتمد أيضاً الفقه الإسلامي، وإنّما المعروف في فقهنا مصطلحا: اللواط والسحاق، كما
أنّنا في العمق ليست لدينا مشكلة مع الذي يمارس هذا العمل كإنسان، وإنّما المشكلة هي مع ممارسته للعمل نفسه، لما نرى في هذه الممارسة من مخاطر شتى ليس على هؤلاء الأشخاص فحسب، بل وعلى غيرهم من أفراد المجتمع أيضاً، وهذا نظير ما نقوله في الكافر، فإنّنا لا نعادي فيه شخصه بل
كفره.
مع ذلك فإني أعتقد أنّ تغيير المصطلحات عندما ينطلق من خلفيّة ثقافية معينة لها رؤيتها الخاصة في موضوع القيم والممارسات فلا بدّ حينها من التوقف عنده جيداً، لأنّه قد يشكل مدخلاً يراد من خلاله التبشير بقيم جديدة مبنية على ثقافة أخرى لها رؤيتها للأمور، وهي وانطلاقاً من هذه الرؤية
تسعى - فيما نحن فيه - للتخفيف من وطأة العمل نفسه وتصوير أنّه عمل طبيعي وغير مستقبح ولا مدان، وهذا ما لا يمكننا الموافقة عليه مع احترامنا للآخرين، ولهذا فلنسمِّ الأشياء بأسمائها، فالعلاقة المثليّة هي حالة شذوذ، لأنّ القاعدة الأساس والحالة السويّة في العلاقات الجنسيّة هي العلاقة بين
الذكور والأناث، وهي الحالة التي فطر الله الإنسان عليها وهداهم إليها بشكل تلقائي، كما فطرت سائر المخلوقات المتناسلة على ذلك أيضاً ، أعني الميل إلى الجنس الآخر.
3- في الأسباب
وأمّا في الحديث عن الأسباب الكامنة وراء هذه الظاهرة فلا يزال الجدل قائماً حول ذلك، وهل أنّ المشكلة هي تعبيرعن انحرافات نفسية، أو أنّها تتصل بخلل عضوي هرموني معين؟
وفي حين يرى بعض الاشخاص ويؤكد على أنّ التفسير العلمي لهذه الظاهرة يعيد المسألة إلى خلل جيني أو غيره حصل مع الأبوين في فترة انعقاد النطفة، أو حصل مع الطفل في المرحلة الجنينية، ما أدى إلى أن يخلق هذا الطفل – ذكراً كان أو أنثى - وهو يحمل الميل إلى جنسه، تماماً كما هو
الحال في الكثير من الحالات الوراثية - مرضية كانت أو غيرها – في المقابل فإنّ بعض الآراء العلميّة الموثوقة لا تزال تنفي كون المسألة في العمق ذات صلة بالجانب التكويني والوراثي ولا تقبل هذه الآراء ربطها بخلل هرموني، وإنما تربطها بعوامل مردّها إلى اختيار الإنسان وميله الإرادي
إلى هذا العمل .
4- في الدليل على الحرمة
إنّ بيان الموقف الشرعي من هذه الظاهرة مهم للغاية، لما له من دور فاعل في محاصرة الظاهرة أو التخفيف من آثارها ونتائجها، كما أنّ بيان الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة سوف يساهم في ردّ بعض الوساوس ودفع بعض التشكيكات التي تثار إزاء هذا الحكم.
أولاً: دليل حرمة اللواط
لا أعتقد أنّ حرمة اللواط في الشريعة الإسلامية قابلة للتشكيك، فهذا أمر بديهي قد نصّت عليه العديد من الآيات القرآنية، ولا سيما ما يتصل بقضيّة قوم لوط الذين عرف عنهم أنّهم كانوا يمارسون هذا الفعل، وقد نهاهم نبي الله لوط (ع) عن ذلك وحذرهم من أنّه في حال الاستمرار في هذا العمل
فسوف يصيبهم عذاب من الله تعالى على عدوانهم وتجاوزهم لكل الحدود الأخلاقية والضوابط الشرعية، قال تعالى مندداً بهم حاكياً عن لسان نبيهم لوط: أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ [الشعراء 165- 166 ].
والملاحظ أنّ الآيات المباركة إنّما نددت بالعمل نفسه واعتبرته عدواناً، والظاهر منها أنّ العقوبة الإلهية التي طالتهم إنّما هي على الانحراف السلوكي نفسه، بصرف النظر عن عقيدتهم في هذا المجال وما إذا كانوا يرونه عملاً مشروعاً أو محرماً، بل لا يبدو من الآيات القرآنية التي تحدثت عن
قوم لوط أنّهم كانوا يرون شرعيّة لهذا العمل ويسندون ذلك إلى الله تعالى، ليرد احتمال أنّ تكون العقوبة التي طالتهم هي على اعتقادهم وتشريعهم وتقوّلهم على الله تعالى، كما توهم بعض الأشخاص من المبتلين بهذا العمل.
ثانياً: دليل حرمة المساحقة
وأمّا الشذوذ الجنسي الحاصل بين النساء أنفسهن (السحاق) فما يمكن أن يستدل به على حرمته :
أولاً : قوله تعالى وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ[المؤمنون 5- 7]، وذلك بتقريب أنّ الآية المباركة دلّت على أنّ العلاقة الجنسيّة المشروعة تنحصر بأحد طريقين: وهما الزواج وملك اليمين، وأمّا
ما عدا ذلك، ومنه العلاقة الجنسية داخل الجنس الواحد فهي عدوان فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ، والعدوان هو تجاوز الحدود الشرعية وهو محرم، وينبغي تحصين الفرج عنه، وفي ضوء هذا البيان فلا يصح الاعتراض بأنّ الآية واردة في شأن الرجال، وذلك لأنّ القاعدة المستفادة منها عامة.
ثانياً: ورد في الروايات الكثيرة المرويّة من طرق المسلمين سنة وشيعة ما يؤكد على حرمة الممارسة المذكورة ( السحاق) بشكل لا لبس فيه:
فمن طريق السنة روي عن النبي (ص) أنّه قال: "السحاق بين النساء زنا بينهن"[1].
وأما من طرق الشيعة فالروايات في هذا المجال كثيرة جداً[2]:
1- فبعضها دلت على حرمة ذلك بشكل صريح، كما في الحديث المروي عن الإمام الصادق (ع) وقد سئل عن اللواتي مع اللواتي ما حدّه ؟ قال: "حد الزنا"[3].
2- وبعضها دلت على ذلك بطريق الأولوية، فقد حرّمت بعض الروايات[4] أن تنام امرأتان في لحاف واحد مجردتين من الثياب، فكيف هو الحال فيما لو تعدّت المسألة حالة النوم! كما أنّ روايات أخرى قد حرمت نظر المرأة إلى عورة نظيرتها، ففي حديث المناهي عن رسول الله (ص):
"ونهى أن تنظر المرأة إلى عورة المرأة"[5]، فإذا كان نظر المرأة إلى عورة المرأة - ولا سيما إذا كان بشهوة وريبة - محرماً فكيف تباح الممارسة المذكورة ؟!
3- وبعضها دلّت على أنّ هذا العمل حرمّه الله في القرآن، ففي الرواية الصحيحة أنه دخل على الإمام(ع) الصادق نسوة، فسألته إمرأة منهن عن السحق؟ فقال: حدّها حدّ الزنا.
فقالت المرأة : ما ذكر الله عزّ وجل ذلك في القرآن؟
فقال: "بلى هنّ أصحاب الرس"[6].
ثالثاً: وقد تستفاد حرمة هذا العمل من حرمة اللواط نفسه، إذ أنّ التشريع الإسلامي إنّما حرّم اللواط باعتباره خروجاً عن الطبيعة التي فطر الله الناس عليها وانحرافاً عن السنة الإلهية في هذا المجال، وهي سنة التزاوج بين الذكور والإناث، فكل انحراف عن هذه الفطرة يكون مبغوضاً للمولى
تعالى سواء كان بين الذكران أنفسهم أو بين الإناث أنفسهن.
ومن هنا كانت حرمة العمل المذكور ( السحاق) مورد تسالم عند علماء المسلمين وعامتهم، بحيث يمكن القول: إنّها من الضرورات الدينية.
5- فلسفة تحريم الشذوذ
ومع أنّ الدليل على الحرمة تام ولا غبار عليه، بيد أنني أعتقد أنّه لا ينبغي أن نكتفي في مواجهة هذه الظاهرة بذكر دليل الحرمة ، وإنّما علينا أن نبيّن فلسفة هذا الحكم الشرعي الرافض لهذه العلاقة، ليجتنبها الإنسان عن وعي وقناعة، ولا سيما أنّه قد كثرت في زماننا الشبهات التي تثار في وجه
هذا الحكم.
وغير خافٍ أنّ الإسلام عندما اتخذ هذا الموقف المتشدد والصارم من هذه الممارسة الشاذة ببعديها (اللواط والسحاق) وكان حازماً في رفضها ومنعه من التساهل إزاءها، لاعتبارات منطقية وعقلائية، ولم ينطلق المشرع الإسلامي في تشدده هذا من منطلق الانتقام من هذه الشريحة ولا من منطلقات
مزاجية أو عشوائية أو عبثية، فالمشرّع حكيم وعاقل بل هو سيد العقلاء، وأحكامه التشريعية - كما هو معلوم - تابعة للمصالح والمفاسد الكامنة في متعلقات الأحكام، ولا تبنى على أساس الأهواء والأغراض الخاصة، ولذا فإننا على يقين أنّه قد انطلق من هذا المبدأ، ليحرّم هذا العمل ويمنع منه،
ويمكننا أن نشير إلى اعتبارين أساسيين في هذا المجال في بيان فلسفة الحكم بالحرمة:
أولاً : أنّ في هذا الفعل الشاذ ببعديه المعروفين الكثير من المضار والمفاسد الاجتماعية والنفسية والأخلاقية والروحية وربما الصحية، وقد كُتب في هذا المجال العديد من الكتب ونشرت الكثير من الدراسات من قبل أهل التخصص ما كفانا مؤنة الإسهاب في الحديث عنه، مع الإشارة هنا إلى
ضرورة أن تطرح المضار المذكورة على نحو الحكمة لا العلة ، ما يعني أنّ هذا وجه محتمل للتحريم ولا يبتّ في الأمر، بل تبقى القضية موضع متابعة ورصد لكل جديد، لأنّ العلم في حالة تطور مستمر ويأتينا كل يوم بجديد.
ثانياً: لا يخفى أنّ ثمة قانوناً إلهياً (أو سنة إلهية) يحكم جميع المخلوقات الحيّة المتناسلة، وهو قانون الزوجيّة، فتزاوج الذكور من الإناث هو الذي يضمن استمرار النسل البشري، وهو المبدأ الذي ينسجم مع الفطرة الإنسانية، التي تقوم على أنّ الذكر يميل إلى الأنثى وبالعكس، ومن أهم مزايا
الإسلام أنّ أحكامه التشريعية تنسجم وتتماهى مع السنن التكوينيّة، فهو ينسجم مع الفطرة ولا يلغيها.
أجل يبقى أنّ لكل قاعدة تكوينية استثناءات معينة تجري على خلاف القاعدة، لأسباب معينة مردّها إلى خلل معين، وهذه الاستثناءات قد لا يجد المشرِّع أنّ من المصلحة أن يسمح لها بالتمادي حتى لا تنتهك القاعدة ويتحول الاستثناء إلى قاعدة، وإنّما يدعوها إلى أن تكيّف نفسها مع القانون العام
وتتماشى مع الظاهرة العامة، وهذا أمر - رغم صعوبته - ميسور، ومفاسد هذا التكيّف وضحاياه هي أقل بكثير من مفاسد تشريع الشذوذ.
6- هل ظلم الشرع الشاذين؟
وربما يقال: أليس من الظلم دعوة الشاذين إلى التكيّف مع الوضعيّة الطبيعيّة والتزوّج من الجنس الآخر مع أنّهم لا يجدون ميولاً أو رغبة في ذلك؟ ثم أليس من الظلم معاقبة إنسان على أمر ليس في اختياره، لأنّ ميل هؤلاء هو إلى جنسهم، أعني ميل الذكر إلى الذكر والأنثى إلى الأنثى وهذا أمر
لا إرادي ولد معهم فكيف يعاقبون على تجاوبهم وتماهيهم مع أمر غرسه الله فيهم؟
وإن شئت القول: إنّ الشاذين قد ظُلموا مرتين، مرة عندما خلقوا وهم يحملون ميولاً شاذة على خلاف سائر الناس، ومرّة أخرى عندما طَلَبَ منهم خالقهم أنّ يكبتوا ميولهم، محرِّماً عليهم الانسياق معها، فثمة ظلم تكويني لحق به وآخر تشريعي.
والجواب على ذلك:
أولاً: إنّنا لا نوافق على أنّ ثمة ظلماً تكوينياً (من قبل الخالق تعالى) لهؤلاء، والوجه في ذلك:
أ- إنّ الميول المثليّة ليس ثمّة ما يثبت بشكل حاسم وكلي أنّها ناشئة عن خلل جيني تكويني، بل إنّ الكثير منها ينطلق من حالة انحراف وقع فيه الشاذ باختياره أو أوقع فيه من خلال اعتداء جنسي عليه، فإنّ بعض الأشخاص قد ساروا إلى هذا العمل بأرجلهم وكامل إرادتهم ، كما أنّ البعض
الآخر ربما انجرّ إليه نتيجة هوس جنسي لديهم، بمعنى أنّهم يرغبون في تجرّبة كل أشكال العلاقات الجنسية ! وهنا تقع المسؤلية دون شك على عاتق الإنسان نفسه، لأنّه اختار الانحراف عن خط الفطرة وخط التشريع، كما أنّ البعض الآخر من ذوي الميول المثليّة قد ابتلوا بذلك نتيجة عارض معين
كما لو حصل اعتداء جنسي عليهم وهم في سنّ الطفولة، فأصبحوا يميلون إلى هذا النوع من العلاقات المنحرفة، نتيجة الاعتياد على ذلك، وفي هذه الحالة فإنّ هذا الانحراف إنّما يتحمل مسؤليته الإنسان نفسه بتجاوزه الحدود الشرعية واعتدائه على هذا الطفل الذي أدخله في بوتقة الانحراف، ولا
مجال أن يُنسب الأمر إلى الله تعالى، ولا سيّما أن مشيئة الله تعالى جرت على أن يكون هذا العالم محكوماً لمبدأ السنن والقوانين، فمن وضع إصبعه في النار فلا بدّ أن تحترق، ومن سقى غيره السمّ فلا بدّ أن يتسبب في قتله.. وإذا حصل شيء من ذلك فالمعتدي هو من يتحمل المسؤولية وليس
خالق القوانين.
ب- إنّ الميول المثليّة لو سلمنا أنها أو بعضها على الأقل ناتجة عن خلل جيني، ولكن على أي حال لا يتسنى لنا القول: إنّها تمثل ظلماً للشخص من قبل الخالق باعتباره القادر على منع ذلك، والوجه في ذلك: إنّ الله تعالى قد أجرى هذا الكون على أساس القوانين الحاكمة، ولا يتدخل سبحانه بشكل
مباشر في تعديل بعض المسارات التكوينيّة الطارئة حتى لو علم بذلك، والقوانين وإن كان من ميزتها عدم التخلف، لكن هذا إذا لم يحصل تخلّف في الأسباب والمقدمات والموانع، والتخلّف المذكور قد يحصل نتيجة خطأ ما أدى إلى الانحراف في مسار القانون الذي يحكم الظاهرة، وهذا الخطأ قد
يتسنى لنا اكتشافه وفي هذه الحال ربما يستطيع الإنسان نتيجة تقدّم العلم أن يتلافاها كما تلافى الكثير من الأمراض الوراثية، وقد لا يتسنى لنا اكتشافه، وعلى التقديرين فالله تعالى ليس هو علته المباشرة، وإن كان ينسب إليه باعتباره خالق هذا النظام الكوني بقوانينه وظواهره.
ثانياً: إنّ منع ذوي الميول المثليّة من الانسياق مع ميولهم ليس فيه ظلم تشريعي (من قبل المشرّع) لهم، وذلك:
أ- إنّ هذا الميل لا يبلغ حدّ الإلجاء والقسر وانتفاء قدرتهم على السيطرة على إرادتهم، فرغم وجود هذا الميل لدى الإنسان فإنّه يظل قادراً على عدم الانجراف معه، تماماً كما يقدر الإنسان ذو الميل الطبيعي عن السقوط تحت ضغط الغريزة والارتباط الجنسي المحرّم بالجنس الآخر، وذلك فيما
لو لم يتسنَ له إقامة علاقة شرعية معه لسبب أو لآخر، وكما لا نبرر لهذا الشخص (صاحب الميل الطبيعي) إقدامه على الزنا، فإننا لا نبرر لذاك إقدامه على ممارسة الشذوذ، ولا سيما أنّ الميول الشاذة قد يمكننا التغلب عليها ولو بمشقة ومعاناة من خلال العلاجات النفسية أو غيرها.
ب- إنّ المشرع الحكيم – كما قلنا – يراعي في تشريعاته المصلحة النوعية للإنسان، وقد قدّر أنّ المصلحة النوعيّة هي في إقرار مبدأ التزاوج بين الجنسين، وأمّا العلاقات المثليّة فلأنّه يترتب عليها الكثير من المضار النفسيّة والصحيّة والاجتماعيّة - كما قلنا - لذا فقد أصدر حكماً عاماً بمنعها
وحظرها، حرصاً منه على مصلحة النوع حتى لو ذهب ضحية ذلك بعض الأشخاص ممن سيضطرهم الحظر المذكور إلى التكيّف مع الوضع الطبيعي.
ت- وهذا الأمر لا يختص به المشرّع الإسلامي دون سواه، بل إننا نلاحظ في هذا المجال أنّ كافة المشرّعين حتى الوضعيين منهم لا يسمحون للرغبات الشاذة أن تعبر عن نفسها في مختلف الأحوال والظروف، ألا ترى أنّ بعض الناس قد يكون لديه ميل إلى الممارسة الجنسية مع القاصرين من
الذكور أو الإناث، أو مع البهائم، أو مع الأرحام، ولا تسمح كافة القوانين لهؤلاء أن يظهروا رغباتهم ويمارسوا مشتهياتهم، ولا يصغى إلى مزاعمهم وادعاءاتهم بأنّ تلك الميول هي ميول لا إرادية بالنسبة إليهم.
7- سبل العلاج.. واجبنا وواجبهم
وفي بيان سبل العلاج والمواجهة فإنّ هناك مستويين من المسؤوليات: مسؤليات تقع على عاتق الفرد المبتلى بهذا العمل، ومسؤليات تقع على عاتق المجتمع والجهات المختصة والمسؤولة، وسوف أبيّن هذه المسؤوليات ضمن النقاط التالية :
أولاَ: الخطاب الجاذب
علينا أن ندرس جيداً الأسلوب الأجدى في خطاب الشاذين، لأنّ غايتنا ليست هي رجمهم ولا قتلهم، لا قتلاً مادياً ولا معنوياً، وإنّما غايتنا هي إحياؤهم روحياً ومعنوياً وإنقاذهم من براثن الشذوذ ومخالب الانحراف، والأسلوب الجاذب والمحبب هو الذي يمكن أن يفتح قلوب هؤلاء على الاستماع إلينا،
ويجعلهم على استعداد لتقبّل كلامنا وأدلتنا، لأنّ المشكلة أنّ من كان مبتلى بهذا الأمر فإنّه لا يصغي لمنطق الأدلة بقدر ما يصغي إلى أحاسيسه الخاصة ورغباته الملحة، ويحاول أن يفتش عن مبرر أو غطاء شرعي لعمله. ولهذا لا أعتقد أننا نخطأ إذا ما قلنا: إنّ المطلوب أن نتفهم وضع هؤلاء
ونقدّر معاناتهم، والتفهم لا يعني أن نبرر لهم ذلك أو نعطيهم شرعية لعملهم.
ثانياً: تضافر الجهود
ومن الضروري أن تتسارع البحوث التخصصيّة المتصلة بمسألة الشذوذ الجنسي، سواء ما يتصل منها بالعلاج النفسي أو العلاج العضوي، ليتم بذلك إيجاد حلول عمليّة لمعاناة هذه الفئة من الناس الذين يشعرون لسبب أو لآخر بميول غريزية إلى جنسهم لا إلى الجنس الآخر، وإنّ المساعدة في
إيجاد حلول لهؤلاء هي من أفضل الأعمال التي ينبغي العناية بها والتشجيع عليها، لأنّه لا يكفي أن ندين الشذوذ الجنسي ونجرّم الشاذين جنسياً دون أن نسعى لإيجاد حلول لمشاكلهم وأن نعينهم على التخلص من معاناتهم وأن ننفتح عليهم، لنقدم لهم النصائح التربوية والأخلاقية التي تشدّ من أزرهم
وتمنحهم الثبات أمام إغراءات النفس الأمارة بالسوء، ونبيّن لهم أنّ مجاهدتهم لهذه النفس وعدم الانسياق مع الغريزة في شذوذها وانحرافها هو عمل فيه ثواب كثير وأجر جزيل عند الله تعالى، بل إنّ هذا في حقيقة الأمر هو أحد ميادين مجاهدة النفس، والتي هي الجهاد الأكبر كما عبر الحديث النبوي
الشريف.
ثالثاً: العمل المؤسسي المتخصص
وإنّي أعتقد أنّ عدم توجّه المؤسسات الإسلامية وعدم عنايتها بهذه الفئة القليلة من الناس وترك الأمر لغير الملتزمين دينياً ليتابعوا مشكلة هؤلاء سوف يزيد من تفاقم المشكلة في مجتمعاتنا، ولهذا ندعو إلى إنشاء مؤسسات تُعنى بأمثال هؤلاء وتعمل على تحصينهم روحياً وتربوياً وتدرس أوضاعهم
بشكل علمي في سبيل الأخذ بأيديهم إلى برّ الأمان، تماماً كما أن علينا العمل أيضاً على إنشاء مؤسسات تُعنى بمعالجة مشاكل الإدمان على المخدرات أو غيرها من المشاكل.
في ضوء هذه النظرة فإنّ معالجة المشاكل الاجتماعية والعادات الشاذة والمنحرفة يعني أنّ من الضروري أن تتضافر الجهود ويستعان بشتى الخبرات الدينيّة والنفسيّة والاجتماعيّة والتربويّة والإعلاميّة في سبيل محاصرة هذه العادات والحدّ من تأثيرها، وذلك بمواجهتها على مستوى المقدمات
والأجواء التي تهيئ الأرضية الخصبة للانحراف وتساعد عليه..
رابعاً : النظر إلى القضية باعتبارها ابتلاءً
ويجدر بنا في أسلوب الخطاب الديني أن ندرح هذا العمل في نطاق ما يعرف بالابتلاء، والابتلاء يعني الامتحان والاختبار، وعندما يبتلى العبد بشيء مرضي أو نحوه فإنّ ذلك لا يعني الاستسلام للأمر الواقع، بل يجدر بنا السعي للتغلب على المشكلة بشتى الوسائل، ومن ذلك اللجوء إلى أهل
الخبرة والاختصاص، كما أنّ تصنيفه في عداد الابتلاء لا يعني الاعتراف بأنّ الله تعالى هو الفاعل المباشر لذلك، فقد ذكرنا سابقاً أنّ الإنسان هو المسؤول عن معظم حالات الشذوذ بشكل أو بآخر، ولكن ذلك لا يلغي ولا ينفي حقيقة أن المسألة تقع في دائرة القضاء والتقدير الإلهيين، والله تعالى كما
يبتلي العبد بما يفعله به بشكل مباشر أو بواسطة الأسباب، فإنه قد يبتليه بما يجنيه العبد على نفسه. وإنّ تفسير هذه الظاهرة باعتبارها ابتلاءً إلهياَ يعني:
1- أنّ على العبد أن لا يتعامل مع الموضوع بنوع من الإحباط واليأس، أو ينظر إلى ذلك باعتباره "انتقاماً إلهياً" منه، وإنّما هو اختبار له يراد من خلاله صقل شخصيّته واختبار صبره وإيمانه، وعليه أن يلتفت إلى حقيقة وهي أنّه إذا كان قد ابتلي بمثل هذا الابتلاء (الميل إلى العلاقة مع أبناء
جنسه) فإنّ هناك من يبتلون بأشكال وأنواع أخرى من الابتلاء، فمنهم من يبتلى في صحته، ومنهم من يبتلى في ماله، ومنهم من يبتلى في ولده، وما إلى ذلك من أشكال الابتلاء، وإذا تعاملنا مع هذه المشكلة بعنوان أنّها ابتلاء فهذا سيخفف من وطأتها على أنفسنا ويدفعنا للتوجه إلى الله تعالى ليساعدنا
على التخلص منها.
2- كما أنّ درج المسألة في نطاق الابتلاء سيدفع نحو القناعة والرضا بما قسمه الله تعالى للإنسان، وهذه فضيلة مطلوبة، وأهميتها أنّها ستحول دون أن يقع الشخص المبتلى بفخ الاحتجاج أو الاعتراض على إرادة الله أو التحرك في أسلوب معالجة المشكلة إلى الطرق الخاطئة، وإنّي على يقين
بأنّ صبر المبتلى بهذا البلاء وعدم انسياقه مع هوى النفس الأمارة بالسوء وعدم خضوعه لشتى الإغراءت المحيطة به هو نوع جهاد في سبيل الله تعالى، وأنّه وإذا توكل على الله وانفتح عليه بكل مشاعره وكيانه معتمداً أسلوباً خاصاً في المجاهدة الروحيّة، مع الابتعاد عن رفقاء السوء الذين يزينون
له الأمور أو يهونون له الخطب، فإنّه سيصل بعون الله إلى خاتمة سعيدة لمشكلته، ولا ريب أنّ الله تعالى لن يتخلى عمن توّجه إليه، بل سيمدّه بالمساعدة والعون، قال تعالى: الَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت 69].
خامساً: تهيئة الأجواء
ومن الضروري أن يهتم الشخص المبتلى بهذا الابتلاء - بالإضافة إلى ما تقدم من أهمية الاستعانة بالله تعالى والتوكل عليه – باختيار أصدقائه وانتقائهم، فإنه لن يتسنى له الخروج من هذا المأزق إذا كان أصدقاؤه من الشاذين جنسياً أو المنحطين أخلاقياً وروحياً، وإذا كانت رفقة السوء تعدي وهي
إحدى مداخل الانحراف والفساد الأخلاقي، فإنّ التخلي عن هذه الرفقة هي الشرط الأساس لنجاح الإنسان في الخروج من بوتقة الانحراف، ومن هنا يجدر به أن يبادر وبكل جرأة إلى مقاطعة هذه البيئة السيئة واستبدالها ببيئة صالحة ورفقة خيرين، ففي الحديث عن أمير المؤمنين(ع): " صحبة
الأخيار تكسب الخير كالريح إذا مرّت بالطيب حملت طيباً ، وصحبة الأشرار تكسب الشر كالريح إذا مرّت بالنتن حملت نتناً ".[7]
وهكذا فإنّ من المفترض بالشخص المبتلى أن يعمل على سدّ كافة المنافذ المؤدية إلى الانحراف والمساعدة على ارتكاب الفاحشة، من قبيل النظر إلى الأفلام التي تروج للانحراف أو تشتمل على مشاهد ممارسة الشذوذ، ويشتغل بدلاً عن ذلك بما ينمي مناعته الروحية أو يثري عقله وفكره ويشغل
أوقات فراغه بالعمل النافع.
ومن المهم والمفيد أيضاً أن يعمل الأشخاص المعالجون والتربويون - بالإضافة إلى تنمية القيم الأخلاقية لدى المبتلى ولا سيما قيمة الحياء والتي تدفع تلقائياً إلى احتناب العلاقة الجنسية الشاذة - على تطوير إحساس تنفيري من هذا العمل القبيح لدى الشخص المبتلى بذلك، بحيث يستحضر عندما
تعتريه الوساوس بعض الصور والمشاهد المنفرة منه أو الزاجرة عنه كاستحضار مشاهد القيامة والحساب أو ما إلى ذلك.
[2] يراجع وسائل الشيعة للحر العاملي ج٢٠ ص٣٤٤ فقد أورد ما يزيد على عشر روايات تدل على ذلك.
[4] انظر: وسائل الشيعة ج 20 ص 342، الباب 25 من أبواب النكاح المحرّم.
[5] انظر: من لا يحضره الفقيه ج 4 ص 9.
7عيون الحكم والمواعظ ص 304
11 - 11 - 2014