حوار مع مركز أفاق للدراسات والأبحاث: مشكلة الأديان تتشكل في الخطاب الفقهي    ثمن الحرية    أمثل الأساليب في عمليّة تهذيب النفس    مزايا الشباب    العمل سرّ النجاح    العبادة وعيٌ وانفتاح لا جهل وانغلاق    اقتناء أصنام الأمم البائدة    المفاهيم الدينية بين وجوب الاعتقاد وحرمة الانكار    البناء الاعتقادي بين الاجتهاد والتقليد    
 
بحث
 
تكريم الإنسان
 
س » أنا طالب علم، لدي خوف من أن أتكلم بغير علم.. ما الحل؟
ج »

وعليكم السلام

لا بد لطالب العلم في مساره العلمي أن يتسلح بأمرين أساسيين:
الأول: الاستنفار العلمي وبذل الجهد الكافي لمعرفة قواعد فهم النص واستكناه معناه ودلالاته بما يعينه على التفقه في الدين وتكوين الرأي على أسس صحيحة.
الثاني: التقوى العلمية ويُراد بها استحضار الله سبحانه وتعالى في النفس حذراً من الوقوع في فخ التقوّل على الله بغير علم. ومن الضروري أن يعيش مع نفسه حالة من المحاسبة الشديدة ومساءلة النفس من أن دافعه إلى تبني هذا الرأي أو ذاك: هل هو الهوى والرغبة الشخصية أم أن الدافع هو الوصول إلى الحقيقة ولو كانت على خلاف الهوى.
أعتقد أن طالب العلم إذا أحكم هذين الامرين فإنه سيكون موفقاً في مسيرته العلمية وفيما يختاره من آراء أو يتبناه من موقف.

 
س » كيف علمنا أن الصحيفة السجادية ناقصة؟ وهل ما وجده العلماء من الأدعية صحيح؟؟
ج »

أقول في الإجابة على سؤالكم:

أولاً: إن الصحيفة السجادية في الأصل تزيد على ما هو واصل إلينا وموجود بين أيدينا، قال المتوكل بن هارون كما جاء في مقدمة الصحيفة: " ثم أملى عليّ أبو عبد الله (ع) الأدعية، وهي خمسة وسبعون باباً، سقط عني منها أحد عشر باباً، وحفظت منها نيفاً وستين باباً"، بيد أن الموجود فعلاً في الصحيفة الواصلة إلينا هو أربعة وخمسون دعاء. آخرها دعاؤه في استكشاف الهموم، وهذا آخر دعاء شرحه السيد علي خان المدني في رياض السالكين، وكذا فعل غيره من الأعلام.

ثانياً: إن سقوط عدد من أدعية الصحيفة وضياعها دفع غير واحد من الأعلام للبحث والتتبع في محاولة لمعرفة ما هو الضائع منها، وبحدود اطلاعي فإنهم عثروا على أدعية كثيرة مروية عن الإمام زين العابدين (ع)، لكنهم لم يصلوا إلى نتائج تفيد أن ما عثروا عليه هو من الأدعية الناقصة منها، ولذا عنونوا مؤلفاتهم بعنوان مستدركات على الصحيفة، ولم يجزموا أن ما جمعوه من أدعية هو الضائع من أدعية الصحيفة. وهذا ما تقتضيه الضوابط العلمية والدينية، فما لم يعثر الإنسان على نسخة قديمة موثوقة أو قرائن مفيدة للوثوق بأن هذا الدعاء أو ذاك هو من جملة أدعية الصحيفة فلا يصح له إضافة بعض الأدعية على الصحيفة بعنوان كونها منها.

ثالثاً: لقد ابتُلينا بظاهرة خطيرة، وهي ظاهرة الإضافة على الصحيفة أو غيرها من كتب الأدعية، وهذا العمل هو خلاف الأمانة والتقوى، وقد ترتّب على ذلك الكثير من المفاسد، وأوجب ذلك وهماً للكثيرين، فتوهموا أن بعض الأدعية هي جزء من الصحيفة السجادية المشهورة، ومردّ ذلك بكل أسف إلى أن مجال الأدعية والزيارات شرعة لكل وارد، وتُرك لأصحاب المطابع والمطامع! وأعتقد أن هذا العبث في كتب الأدعية والزيارات ناشئ عن عدم عناية العلماء بالأمر بهذه الكتب كما ينبغي ويلزم، كما نبه عليه المحدث النوري في كتابه "اللؤلؤ والمرجان" مستغرباً صمت العلماء إزاء التلاعب والعبث بنصوص الأدعية والزيارات مما يعدّ جرأة عظيمة على الله تعالى ورسوله (ص)!

رابعاً: أما ما سألتم عنه حول مدى صحة الأدعية الواردة بعد دعاء استكشاف الهموم، فهذا أمر لا يسعنا إعطاء جواب حاسم وشامل فيه، بل لا بدّ أن يدرس كل دعاء على حدة، ليرى ما إذا كانت قرائن السند والمتن تبعث على الحكم بصحته أم لا. فإن المناجاة الخمس عشرة بنظرنا لم تصح وربما كانت من وضع الصوفية، وقد أوضحنا ذلك بشكل مفصل في كتاب الشيع والغلو.


 
س » ابني المراهق يعاني من التشتت، وأنا جدا قلق ولا اعرف التصرف معه، ما هي نصيحتكم؟
ج »

التشتت في الانتباه في سن المراهقة مع ما يرافقه من الصعوبات هو في حدود معينة أمر طبيعي وظاهرة تصيب الكثير من المراهقين ولا سيما في عصرنا هذا.

وعلينا التعامل مع هذه المرحلة بدقة متناهية من الاستيعاب والتفهم والإرشاد والتوجيه وتفهم سن المراهق، وأن هذه المرحلة تحتاج إلى أسلوب مختلف عما سبقها.

فالمراهق ينمو لديه الإحساس بالذات كثيرا حتى ليخيل إليه أنه لم يعد بحاجة إلى الاحتضان والرعاية من قِبل والديه.

وبالتالي علينا أن نتعامل معه بأسلوب المصادقة "صادقه سبعا.." والتنبه جيدا للمؤثرات التي تسهم في التأثير على شخصيته واستقامته وتدينه، ومن هذه المؤثرات: الأصدقاء ووسائل التواصل الاجتماعي، فإن نصيبها ودورها في التأثير على المراهق هو أشد وأعلى من دورنا.

وفي كل هذه المرحلة علينا أن نتحلى بالصبر والأناة والتحمل، وأن نبتدع أسلوب الحوار والموعظة الحسنة والتدرج في العمل التربوي والرسالي.

نسأل الله أن يوفقكم وأن يقر أعينكم بولدكم وأن يفتح له سبيل الهداية. والله الموفق.


 
س » اعاني من عدم الحضور في الصلاة، فهل أحصل على الثواب؟
ج »
 
لا شك أن العمل إذا كان مستجمعا للشرائط الفقهية، فهو مجزئٌ ومبرئٌ للذمة. أما الثواب فيحتاج إلى خلوص النية لله تعالى بمعنى أن لا يدخل الرياء ونحوه في نية المصلي والعبادة بشكل عام.
ولا ريب أنه كلما كان الإنسان يعيش حالة حضور وتوجه إلى الله كان ثوابه أعلى عند الله، لكن لا نستطيع نفي الثواب عن العمل لمجرد غياب هذا الحضور في بعض الحالات بسبب الظروف الضاغطة على الإنسان نفسيا واجتماعيا.
لكن على الإنسان أن يعالج مشكلة تشتت الذهن أثناء العمل العبادي وذلك من خلال السعي الجاد للتجرد والابتعاد عن كل الهواجس والمشكلات أثناء الإقبال على الصلاة، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، باستحضار عظمة الله عز وجل في نفوسنا وأنه لا يليق بنا أن نواجهه بقلب لاهٍ وغافل. والله الموفق.

 
س » أنا إنسان فاشل، ولا أتوفق في شيء، وقد كتب عليّ بالخسارة، فما هو الحل؟
ج »

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

أولاً: التوفيق في الحياة هو رهن أخذ الإنسان بالأسباب التي جعلها الله موصلة للنجاح، فعلى الإنسان أن يتحرك في حياته الشخصية والمهنية والاجتماعية وفق منطق الأسباب والسنن. على سبيل المثال: فالإنسان لن يصل إلى مبتغاه وهو جليس بيته وحبيس هواجسه، فإذا أراد الثروة فعليه أن يبحث عن أسباب الثروة وإذا أراد الصحة فعليه أن يأخذ بالنصائح الطبية اللازمة وإذا أراد حياة اجتماعية مستقرة عليه أن يسير وفق القوانين والضوابط الإسلامية في المجال الاجتماعي وهكذا.

ثانياً: لا بد للإنسان أن يعمل على رفع معوقات التوفيق، وأني أعتقد أن واحدة من تلك المعوقات هي سيطرة الشعور المتشائم على الإنسان بحيث يوهم نفسه بأنه إنسان فاشل وأنه لن يوفق وأنه لن تناله البركة الإلهية.

إن هذا الإحساس عندما يسيطر على الإنسان فإنه بالتأكيد يجعله إنسانا فاشلا ومحبطا ولن يوفق في حياته ولذلك نصيحتي لك أن تُبعد مثل هذا الوهم عن ذهنك وانطلق في الحياة فإن سبيل الحياة والتوفيق لا تعد ولا تحصى.


 
س » ما هو هدف طلب العلم الذي يجب أن يكون؟
ج »

عندما ينطلق المسلم في طلبه للعلم من مسؤوليته الشرعية الملقاة على عاتقه ومن موقع أنه خليفة الله على الأرض، فإن ذلك سوف يخلق عنده حافزاً كبيراً للجد في طلب العلم والوصول إلى أعلى المراتب. أما إذا انطلق في تحصيله من موقع المباهاة أو إثبات ذاته في المجتمع أو من موقع من يريد أن يزين اسمه بالشهادة الجامعية ليُقال له "الدكتور" وما إلى ذلك، فإنه - في الغالب - لن يصل إلى النتيجة المرجوة.

وعلى كل إنسان منا أن يعي أنّنا في هذه الحياة مسؤولون في أن نترك أثراً طيباً، وأن نقوم بواجباتنا قبل أن يطوينا الزمان، إننا مسؤولون عن عمرنا فيما أفنيناه وعن شبابنا فيما أبليناه، وسنُسأل يوم القيامة عن كل هذه الطاقات التي منّ اللهُ بها علينا.

وأضف إلى ذلك، إنه من الجدير بالمسلم، أن لا يفكر في نفسه وما يريحه هو فحسب في طلبه للعلم، بل أن يفكر أيضاً في أمته والنهوض بها ليكون مستقبلها زاهراً، وهذا كله يحتم عليه أن يكون سقف طموحاته عالياً ليتمكن هو وأقرانه من الطلاب والعلماء من ردم الفجوة بيننا وبين الغرب الذي سبقنا على أكثر من صعيد.

باختصار: إن مسؤوليتنا ورسالتنا وانتماءنا لهذه الأمة يفرض علينا أن نعيش حالة طوارئ ثقافية وعلمية.


 
س » ما رأيكم في الاختلاط المنتشر في عصرنا، وكيف نحاربه؟
ج »

إنّ الاختلاط قد أصبح سمة هذا العصر في كثير من الميادين، ومنها الجامعات والطرقات والساحات وكافة المرافق العامة.. والاختلاط في حد ذاته ليس محرماً ما لم يفضِ إلى تجاوز الحدود الشرعية في العلاقة بين الرجل والمرأة الأجنبيين؛ كما لو أدى إلى الخلوة المحرمة بالمرأة أو مصافحتها أو كان المجلس مشوباً بأجواء الإثارة الغرائزية أو غير ذلك مما حرمه الله تعالى.

وفي ظل هذا الواقع، فإنّ العمل على تحصين النفس أولى من الهروب أو الانزواء عن الآخرين بطريقة تشعرهم بأن المؤمنين يعيشون العُقد النفسية. إن على الشاب المسلم أن يثق بنفسه وأن يفرض حضوره ووقاره، وأن يبادر إلى إقناع الآخرين بمنطقه وحججه، وأن يبيّن لهم أن الانحراف والتبرج والفجور هو العمل السيّئ الذي ينبغي أن يخجل به الإنسان، وليس الإيمان ومظاهر التدين.

وأننا ندعو شبابنا عامة وطلاب الجامعات خاصة من الذكور والإناث إلى أن يتزينوا بالعفاف، وأن يحصنوا أنفسهم بالتقوى بما يصونهم من الوقوع في الحرام.


 
س » كيف يمكن التخلص من السلوكيات والعادات السيئة؟
ج »

إن التغلب على السلوكيات الخاطئة أو العادات السيئة – بشكل عام – يحتاج بعد التوكل على الله تعالى إلى:

أولاً: إرادة وتصميم، ولا يكفي مجرد الرغبة ولا مجرد النية وانما يحتاج بالإضافة إلى ذلك إلى العزم والمثابرة وحمل النفس على ترك ما اعتادته.

ثانياً: وضع برنامج عملي يمكّن الإنسان من الخروج من هذه العادة السيئة بشكل تدريجي؛ وأرجو التركيز على مسألة "التدرج" في الخروج من هذه العادات السيئة؛ لأن إدمان النفس على الشيء يجعل الخروج منه صعباً ويحتاج إلى قطع مراحل، وأما ما يقدم عليه البعض من السعي للخروج الفوري من هذه العادة، فهو - بحسب التجربة - سيُمنى في كثير من الأحيان بالفشل. والله الموفق


 
 
  مقالات >> عقائدية
مودّة آل البيت(ع) وأجر الرسالة
الشيخ حسين الخشن



مودّة آل البيت(ع) وأجر الرسالة

 

قال تعالى: قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ [الشورى 23].

 

ويلفت نظرنا في الآية المباركة، أنّها استهلّت الدعوة إلى مودّة القربى بمخاطبة النبيّ (ص) بفعل الأمر "قل". ربما في إشارة إيحائية، إلى أنّ هذه الدعوة ليست من عند النبيّ (ص)، وإنّما هي دعوة من عند الله تعالى، وأنّ النبي (ص) مأمور بتبليغ ذلك للأمّة.

 

ولأهميّة هذه الآية، وما تحمله من مضمون، وتشتمل عليه من دلالة، كان من الضروري والمهمّ أن نتوقّف عندها وقفات عدّة:

 

1- من هم القربى؟

 

الوقفة الأولى: ما المراد بالقربى في الآية المباركة؟

 

ذكر المفسّرون في ذلك عدّة آراء، يمكن إجمالها في اتجاهين أساسيين:

 

الاتجاه الأول: أنّ المقصود بالقربى، أو بالأحرى مَنْ تُرادُ مودته: هو النبي (ص)، والمطالب بذلك هم قريش. فالآية تطلب منهم أن يودّوا النبيّ (ص) ويحبوه بسبب قرابته منهم. فـالحرف "في" الوارد في الآية، هو بمعنى "بسبب". قال الشيخ الطبرسي في بيان هذا الاحتمال: "إنّ معناه إلاّ أن

تودوني في قرابتي منكم، وتحفظوني لها، عن ابن عباس وقتادة ومجاهد وجماعة. قالوا: وكلّ قريش كانت بينها وبين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قرابة، وهذا لقريش خاصة، والمعنى: إن لم تودّوني لأجل النبوّة ، فودّوني لأجل القرابة التي بيني وبينكم"[1].

 

ولكنّ هذا الوجه ضعيف، وذلك لاعتبارين:

 

أولاً: إنّ هذا الوجه لا يقدّم تفسيراً مقنعاً للتعبير بـ"الأجر"، فإنّ الأجر لا يطلب إلاّ ممن وصله نفع معين، فما هو النفع الذي وصل إلى قريش ليطلب منهم الأجر؟ إذ المفروض أنّ قريشاً لم تؤمن بعد ليصلهم نفع الرسالة، فلا وجه لأن يطلب النبي(ص) منهم أجراً على تبليغ الرسالة. 

 

ثانياً: إنّه ليس ثمة معنىً مفهوماً للطلب من قريش، بأنّكم ما دمتم لم تؤمنوا بالنبيّ (ص) فاحملوا له الودّ بسبب قرابته منكم. فما الفائدة من مودّتهم للنبيّ (ص) مع عدم الإيمان به ولا اتباعه، بل ومعاداته ومحاربة دعوته. إنّ المودة التي لا تترافق مع شيء من ذلك، لا تسمن ولا تغني من جوع، ولا

تشكّل فضيلة في حدّ ذاتها ليطلبها الله منهم، بل إنّها في الحقيقة ليست مودّة، فأي مودّة هذه للشخص وأنت تحارب دعوته؟!  

 

الاتجاه الثاني: أنّ المقصود بالقربى أو من تُراد مودتهم هم الأقرباء، فـ"القربى" في الآية بمعنى الأقارب.

 

 لكن أي أقارب هم؟

 

في الجواب على ذلك يوجد عدة آراء:

 

الرأي الأول: أَنّ المراد بهم أقرباء الإنسان بشكل عام، فالمسلم مدعوّ ومأمور بأن يودّ أقرباءَه وأرحامه.

 

الرأي الثاني: أَنّ المراد بالقربى في الآية هم أقارب النبيّ (ص) عامّة[2].

 

الرأي الثالث: أَن المقصود بهم خصوص أهل بيت النبيّ (ص)، وتحديداً أصحاب الكساء منهم(ع).

 

وفي تقييمنا لهذه الآراء نقول:

 

أمّا الرأي الأول منها (الأولى عدّه وجهاً وليس رأياً لأنّي لم أجد من تبناه) فهو لا ينسجم مع ظاهر الآية نفسها؛ لأنّ الآية جعلت مودّة القربى أجراً للرسالة، والذين يُتَصوَّر أن تشكّل مودتهم أجراً على تبليغ الرسالة، هم جماعة يكون لهم دور مهمّ في هذه الرسالة وقيادة مشروعها، وليسوا مجرّد

أشخاص عاديين، قد تكون مودّتهم جزءًا من أحكام الرسالة وليست أجراً عليها.

هذا بصرف النظر عن أنّ هذا التفسير مخالف للروايات الآتية التي تعيّن القربى بجماعة خاصة، وهم أهل بيت النبيّ (ص).

 

وأمّا الرأي الثاني فهو مستبعد جداً، والأقرب إلى المنطق والمتعين بحسب السياق والنصوص هو الرأي الثالث. ويمكن الاستشهاد لما نقوله من ترجيح القول الثالث واستبعاد القول الثاني بشاهدين:

 

الشاهد الأول: هو الروايات التفسيرية، والشواهد التاريخية المروية من طرق الفريقين (السنة والشيعة). فعن ابن عباس قال: لما نزلت: قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ  قالوا: يا رسول الله من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودتهم؟ قال: عليّ وفاطمة وابناهما"[3].

وعن الإمام الباقر(ع): في قوله تعالى: قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ ؟ قال: هم الأئمة عليهم السلام"[4].

 إلى غير ذلك من الأخبار.[5]

 

الشاهد الثاني: هو القرائن السياقية وغيرها، ويمكننا الإشارة إلى قرينتين:

 

القرينة الأولى: إنّ في قرابته (ص) المؤمن والفاسق، والعادل والظالم، والبرّ والفاجر، فكيف يُطْلَبُ من الأمّة مودّة القربى جميعاً دون استثناء؟! أيعقل أن يطلب الله تعالى (ص) مودّة من كانوا أعداء الرسالة، كما هو الحال في عمّ النبيّ (ص) أبي لهب؟! إنّ هذا غير معقول، لأنّه يتنافى مع ما

اشتملت عليه تعاليم النبيّ (ص) من تحطيمٍ للاعتبارات العشائرية، ورفض أيّ اعتبار لها في ميزان القيم والرسالة. 

 

القرينة الثانية: إنّ مودّة هؤلاء القربى قد جعلت أجراً على تبليغ الرسالة والصدع بها، مع ما استلزمه تبليغها من معاناة وبذل للجهود وصبر على الأذى. والأشخاص الذين يعقل أن تجعل مودتهم أجراً على تبليغ الرسالة الإسلامية، لا يمكن أن يكونوا أشخاصاً عاديين من أقرباء النبيّ (ص)

وعشيرته، بل يفترض أن يكون لهم منزلة عظيمة لدى مرسل هذه الرسالة، وأن يكون لهم دور كبير في استمرارها وبقائها حيّة في القلوب والنفوس. وليس في أهل بيته (ص) من يتحلّى بهذه المكانة إلاّ من عرفوا بأصحاب الكساء، وهم عليّ والحسنان وأمهما فاطمة الزهراء (عليهم السلام). فهؤلاء

هم الذين شهدت لهم الأمة بالفضل والتميّز العلمي والأخلاقي، كما أنّ سيرتهم حافلة بالعطاء.

 

2- تسالم المسلمين على ضرورة مودّة آل البيت(ع)

 

الوقفة الثانية: والحقيقة أنّ مودة أهل البيت (ع) هي من المبادىء المتسالم عليها لدى عامّة المسلمين، ولم يشكّك في ذلك أحد، بل أفتى فقهاء المسلمين بوجوب أو استحباب الصلاة على الآل في التشهد الأخير من الصلاة. وقد عبّر عن ذلك الإمام الشافعي أجمل تعبير بقوله:

 

يا آلَ بيتِ رسولِ الله حبُّكُمُ  *  فرضٌ من اللهِ في القرآنِ أنزلَهُ

كفاكمُ من عظيمِ القدْرِ أَنّكُمُ  *  من لم يُصَلِّ عليكمْ لا صلاَة لَهُ[6]

 

والظاهر أنّ الإمام الشافعي عندما تحدّث عن أنّ حبّهم (ع) فرض أنزله الله في كتابه، كان ناظراً إلى آية المودة المذكورة؛ لأنّها الآية الوحيدة الدالة صراحة على مودة آل بيت النبيّ (ص).

 

ويقول الفخر الرازي في هذا المجال: "آل محمّد (صلى الله عليه وسلم) هم الذين يؤول أمرهم إليه، فكلّ من كان أمرهم إليه أشدّ وأكمل كانوا هم الآل ، ولا شكّ أنّ فاطمة وعليّاً والحسن والحسين كان التعلّق بينهم وبين رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أشدّ التعلقات، وهذا كالمعلوم بالنقل المتواتر

فوجب أن يكونوا هم الآل"، ويضيف قائلاً:

"وروى صاحب "الكشّاف" أنّه لما نزلت هذه الآية- يقصد آية المودة -  قيل: يا رسول الله من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودتهم؟

فقال: عليّ وفاطمة وابناهما.

 

 فثبت أنّ هؤلاء الأربعة أقارب النبيّ صلى الله عليه وسلم، وإذا ثبت هذا وجب أن يكونوا مخصوصين بمزيد التعظيم، ويدلّ عليه وجوه:

 

 الأول: قوله تعالى: {إلاّ المودة في القربى} [الشورى 23]، ووجه الاستدلال به ما سبق، [سبق في تفسير الفخر الرازي].

 

 الثاني: لا شكّ أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يحبّ فاطمة عليها السلام قال صلى الله عليه وسلم: "فاطمة بضعة منّي يؤذيني ما يؤذيها"[7]، وثبت بالنقل المتواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه كان يحبّ عليّاً والحسن والحسين، وإذا ثبت ذلك وجب على كلّ الأمة مثله، لقوله:

وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [الأعراف 158]، ولقوله تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ [النور 63]، ولقوله: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران 31]، ولقوله سبحانه لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب : 21].

 

 الثالث: أنّ الدعاء للآل منصب عظيم، ولذلك جعل هذا الدعاء خاتمة التشهّد في الصلاة، وهو قوله: "اللّهم صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد وارحم محمّداً وآل محمّد"، وهذا التعظيم لم يوجد في حقّ غير الآل.

 

 فكلّ ذلك يدلّ على أنّ حبّ آل محمّد واجب، وقال الشافعي رضي الله عنه:

 

يا راكباً قف بالمحصَّبِ مِن مِنَى * واهتف بساكنِ خيِفها والناهضِ

سحراً إذا فاضَ الحجيجُ إلى مِنَى * فيضاً كما نَظْمُ الفراتِ الفائضِ

إن كان رفضاً حبُّ آل محمّدٍ * فليشهدِ الثقلانِ أنّى رافضي"[8].

 

 وينبغي أن يكون واضحاً وجلياً، أنّ القرآن الكريم عندما يؤكّد على مودّة أهل البيت (ع)، معتبراً أنّ مودّتهم هي أجر الرسالة. وكذلك عندما يؤكّد النبيّ (ص) في مناسبات شتى على ضرورة محبتهم (ع) بكلّ هذه التأكيدات المتعددة ممّا أشرنا إليه أو لم  نشر، وعندما يجعل الصلاة عليهم (ع) جزءاً

لا يتجزأ من العبادة اليوميّة للمسلمين، فإنّ ذلك لا يمكن تجاهله ولا المرور عليه مرور الكرام، ولا يمكننا أن نقنع بتفسيره باعتباره أمراً ينطلق من اعتبار عشائري أو شخصي أو عاطفي أو من منطلق جزئيّ وخاص. والتفسير المنطقي والمقبول لذلك، هو أنّ محبّة هؤلاء القوم لها اعتبار خاص

في موازين الرسالة وحساباتها، وذلك لما لهؤلاء من دور مميز في مستقبل هذه الرسالة، وهذا ما سوف نزيده توضيحاً في الوقفة الخامسة الآتية. 

 

 

3- كيف يطلب النبيّ (ص) أجراً على الرسالة؟!

 

الوقفة الثالثة: إنّه وبموجب ما تقدّم، فإنّ هذه الآية نصّت على أنّ  النبيّ (ص) قد طلب أجراً على تبليغ الرسالة، والأجر هو مودّة أهل بيته (ع). وطلب الأجر لا يليق بالنبيّ (ص)، وهو المعروف بأنّه قدّم ما قدّم في سبيل الله (ص)، ولم يُرِدْ من الناس جزاءً ولا شكوراً؟!

 ثمّ أيكون الأنبياء السابقون(ع) أفضل حالاً من الحبيب المصطفى محمّد (ص)؟! فهذا نبيّ الله هود (ع) يخاطب قومه قائلاً: يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ [هود 51].

 

ومن جهة ثالثة، ألا تنافي الآية المذكورة ما جاء في آيات أخرى من نفي الأجر على تبليغ الرسالة والصدع بها، كما في قوله تعالى: قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِيْنَ [الأنعام 90]، فكيف نجمع بينهما؟

 

ولكنّ الصحيح عدم المنافاة بين الآيات، وعدم ورود تلك الإشكالات، وتوضيح ذلك:

 

 إنّ الأجر الذي أُمر النبيّ (ص) بطلبه من الأمة في آية: {إلاّ المودة في القربى}، هو في واقع الأمر ليس أجراً حقيقياً، ولا شخصياً عائداً على النبيّ (ص)، ليتنافى ذلك مع سائر الآيات التي نصّت على أنّه (ص) لا يطلب أجراً.

 

وقد تسأل: لماذا لم يكن الأجر المذكور في آية: {إلاّ المودة في القربى}، أجراً حقيقياً عائداً عليه، مع أنّ هذا معنى الأجر عند أهل اللغة والعرف؟

 

والجواب: إنّ الأجر هو شيء يدفعه الإنسان من حسابه مقابل شيء آخر يحصّل عليه ويربحه، ومن الواضح أنّ مودّة القربى والتي هي الأجر المطلوب من الناس تجاه نبيهم (ص) لا تمثّل غرماً ولا خسارة عليهم، وإنّما هي في حقيقة الأمر شيء يعود نفعه وبركته عليهم؛ لأنّ ارتباط المسلم بقربى

النبيّ (ص) وأهل بيته (ع) هو سبب إضافي في هدايته وفي ارتباطه بالنبيّ (ص) وبرسالة الإسلام. 

 

وإن قلت: إذا كانت مودّة القربى ليست أجراً للرسالة التي صدع بها النبيّ (ص)، فما الوجه - إذًا - في تسميتها بالأجر في الآية المباركة ؟ وكيف يكون ذلك أجراً للنبيّ (ص) مع أنّ نفعه عائد للأمة نفسها؟

 

قلت: ربّما كانت المناسبة في اعتبار المودة أجراً  للنبي (ص)، أنّ من طُلب من الأمة مودتهم هم قربى النبيّ (ص) وخاصته من أهل بيته، فيكون في الارتباط العاطفيّ بهم شيءٌ من الوفاء لرسول الله (ص). وهذا الارتباط في ظاهر الأمر يوحي أنّ في ذلك تعويضاً للنبيّ (ص) على جهده وتعبه في

تبليغ الرسالة، فبهذا الاعتبار الشكلي والمناسبة الصوريّة والظاهرية عبّرت الآية عن ذلك بالأجر، وإلاّ فإنّ الأمّة في العمق وفي واقع الأمر هي المستفيدة والتي يصلها أجر المودّة وبركاتها أكثر ممّا يصل ذلك إلى النبيّ (ص) بشكل شخصي، ومن هنا نفهم مغزى قوله تعالى: قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ

فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [سبأ 47].

 

 ويشير بعض الأعلام[9] إلى وجه آخر، يقتضي تسمية مودة قربى النبيّ (ص) أجراً للرسالة، وهو أنّ هذه المودة التي أمر بها الناس تجاه الرسول (ص) وأهل بيته (ع)، قد تكلّف هؤلاء الناس ثمناً باهظاً، بل إنّ موالاة أهل البيت(ع) ومودتهم قد كلّفتهم فعلاً الكثير من المعاناة والآلام

والتضحيات، ولذلك سمّيت أجراً. فأجر الرسالة هو في هذا العناء والجهد الذي يترتب على مودتهم (ع)، وفي هذا الأذى والصبر في مواجهة التحديّات والصعاب التي ستعترض المسلم المتّبع لنهج النبيّ (ص) والموالي لأهل بيته(ع).

 

 

4- الفارق بين المودّة والمحبة

 

الوقفة الرابعة: الملاحظ أنّ الآية المباركة استخدمت كلمة المودّة وليس المحبّة، فهل هما لفظتان مترادفتان أم أنّ ثمّة فارقاً بين الودّ والحبّ؟

 

والجواب: أنّه يمكن أن يذكر في المقام فارقين:

 

الفارق الأول: ما ذكره بعض اللغويين من أنّ "الفرق بين الحبّ والودّ: أنّ الحبّ يكون فيما يوجبه ميل الطباع والحكمة جميعاً، والوداد من جهة ميل الطباع فقط، ألا ترى أنّك تقول: أحبّ فلاناً وأودّه، وتقول أحبّ الصلاة، ولا تقول أودّ الصلاة، وتقول أودّ أنّ ذاك كان لي، إذا تمنّيت وداده، وأودّ

الرجل ودّاً ومودّة "[10].

 

ولو أننا أخذنا التفرقة اللغويّة المشار إليها بنظر الاعتبار، فإنّ ذلك قد يؤشّر على أمر مهمّ، وهو أنّ مودة آل البيت (ع) – بناءً على أنّهم هم المقصودون بالقربى في الآية كما مرّ – هي ممّا تقتضيه الفطرة والطبيعة البشريّة لو خلّيت ونفسها، ولم تتلوّث بالأجواء والتيارات الفكرية المضادة. ولا

تحتاج مودّتهم إلى مزيد تكلّف أو جهد تثقيفي مضاعف؛ لأنّ لأهل البيت (ع) جاذبيّة خاصة تجعلهم مهوى القلوب والأفئدة، بسبب ما امتازوا به من مكارم الأخلاق ومحامد الصفات، وما بلغوه من كمال روحيّ وقرب معنويّ من الله تعالى. ومن المؤكّد، أنّ من أحبّ الله وتقرّب إليه فإنّ الله تعالى

سيكسبه محبّة عباده.

 

إلاّ أنّ الملاحظة التي نسجّلها على التفرقة اللغويّة المذكورة، هي أنّ الاستخدامات القرآنية لكلمة "المودة"، لا تساعد كثيراً على ما قيل من أنّ الوداد لا يكون إلاّ من جهة ميل الطباع فقط. فإنّنا نلاحظ أنّها استخدمت في موارد عديدة لا تقتضي الطباع ميل الإنسان إليها، وإنّما اقتضتها التربية

الخاصة ، كما في قوله تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ [ آل عمران 118]، فإنّ مودّتهم وتمنّيهم العنت والمشقة للمؤمنين، ليست ممّا يقتضيه الميل

الطبعي عند الإنسان.

 

 ونظيره قوله تعالى : وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً [النساء 89]، فإنّ مودّتهم وتمنيهم أن يكفر المؤمنون، هو ليس مما تقتضيه الطبيعة أو الفطرة؛ لأنّها مفطورة على الخير لا الشرّ[11]، إلى غير ذلك من الموارد المشابهة لذلك.   

 

 

الفارق الثاني: أن يقال: إنّ المودّة ليست مجرّد الميل القلبي، كما هو الحال في المحبّة، بل إنّ المودة تختزن شيئاً من الموالاة العمليّة، وتسبطن نوعاً من الحافزية المضاعفة للانقياد العملي على طبق الودّ.

 

 وربّما تشهد لهذا الفارق العديد من الاستخدامات القرآنية لكلمة الموّدة، من قبيل قوله تعالى: وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَىٰ لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ

تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَىٰ أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا [ النساء 102]، فإنّ مودّة الكفار وتمنيهم أن يغفل المسلمون عن أسلحتهم ليميلوا عليهم ميلة واحدة، لم تكن

مجرّد أمنيات باطنية، بل كانت مترافقة مع جاهزيّة عسكريّة، وتحفّز لديهم – أعني الكفار – للانقضاض على المسلمين لدى أدنى غفلة لهم أو تراخٍ في صفوفهم.

 

وهكذا قوله تعالى: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ  إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [ البقرة 109]، فإنّ المرجّح أن لا تكون مودّتهم ورغبتهم هذه مجرّد أمنيات مختزنة داخل النفس،

وإنما هي مودّة تستتبع سعياً تحريضيّاً وتشويهيّاً للدين.

 

 ومن هذا القبيل أيضاً قوله تعالى: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ [البقرة 96]، فإنّ حرص اليهود (وهم المعنيون بهذه الآية بشكل مباشر) وغيرهم من بني الإنسان على الدنيا

وتعلّقهم بها لا ينطلق من مجرّد مشاعر عابرة أو أمنيات حبيسة داخل النفس، بل إنّ ذلك غالباً ما تقترن بخطوات عملية وسعي دؤوب في سبيل حفظ الحياة والفرار من الموت. 

 

وهذا المعنى لكلمة المودّة الذي يجعلها تستبطن شيئاً من الاندفاع العملي لو تمّ استظهاره وترجيحه، فهو يعني أنّ المودّة المطلوبة تجاه ذوي القربى من آل بيت النبي (ص) ليست هي نبضة قلب مجردة بعيدة عن خطّ الاتباع لهم، ولا انفعالات عاطفية عابرة تقف عند حدود المشاعر، بل هي عبارة

عن الحبّ الحركيّ الذي يدفع الإنسان ليجسّد مشاعره على أرض الواقع ويحوّلها إلى موالاة حقيقية تستلهم خطاهم وتقتدي بهديهم.

 

 

5- دور المودّة في الارتباط بالقيادة      

 

الوقفة الخامسة: كيف يكون للمودة، حتى لو كانت لأهل البيت (ع) هذه المنزلة العظيمة بحيث تجعل أجراً للرسالة، مع أنّها – أعني المودة- أمر بسيط، لأنّها عبارة عن ميل القلب وهذا أمر سهل ولا يحتاج إلى كثير من العناء والجهد؟

 

وبعبارة أخرى: لماذا هذا التركيز على عنصر المودّة في العلاقة مع أهل البيت (ع)؟

 

والجواب على ذلك:

 

 إنّ للمودّة والمحبّة دوراً هامّاً في علاقة الإنسان مع قيادته، ولا سيّما القيادة المعصومة والحكيمة والعادلة. فإنّ بناء العلاقة مع القيادة على أساس المودّة والعاطفة، أدعى للتفاعل معها واستلهام مواقفها والاقتداء بهديها. وقد أولى الإسلام - ولا سيّما فيما جاءت به تعاليم أهل البيت (ع) - هذا الأمر

أهميّة خاصّة، فقد حثّ على التفاعل العاطفي مع القيادة المعصومة حتى بعد موتها، وهذا ما هدف إليه مبدأ الزيارة لقبور الأنبياء والأئمة (ع)، وهدفت إليه فكرة إحياء مناسبات الأنبياء والأئمة (ع). فإنّها ترمي إلى تجديد الارتباط بالقائد المعصوم، وتوثيق عرى التواصل معه، ليبقى القائد حيّاً وفاعلاً

ومؤثّراً في النفوس، وحاضراً في الواقع بكلّ عطاءاته ودروسه، ولا يتحوّل إلى مجرّد شخصيّة تاريخية عابرة نستعيدها بطريقة عقلية جافة وجامدة.

 

 وفي ضوء ذلك، نفهم ما تضمنته الآية المباركة من إشارة إلى دور المودّة في مستقبل الرسالة، ويتضح أيضاً سرّ هذا التأكيد النبوي (ص) في العديد من المناسبات والمواقف على ضرورة محبّة أهل بيته (ع). فالآية المباركة والأحاديث الشريفة المشار إليها، إنّما ترمي بتأكيدها على عنصر المودّة

إلى تأكيد مبدأ الارتباط بأهل بيته (ع)، وبيان أنّ لهم دوراً محورياً في حفظ الرسالة نفسها. وهذا ما استفدناه من جعل مودّتهم أجراً للرسالة. إنّ ما يعنيه ذلك أنّ أهل البيت (ع) هم صمامات أمان في هذه الأمة، يقي اتّباعهم والسير على نهجهم هذه الأمة من الانحراف والزيغ والضلال، كما نصّ

عليه الحديث المشهور والمعروف بحديث الثقلين[12].

 



[1] مجمع البيان ج 9 ص 48 ، وقد ذكر هذا الاتجاه في العديد من كتب التفسير، أنظر: التفسير الكبير للفخر الرازي ج 27 ص 146.

[2] روي عن ابن عباس، أنظر التفسير الكبير ج 27 ص 164.

[3] انظر: المعجم الكبير للطبراني ج 3 ص 47، وعنه مجمع الزوائد للهيثمي ج 7 ص 103، وشواهد التنزيل لقواعد التفضيل للحاكم الحسكاني ج2 ص 190.

[4] الكافي ج 1 ص 413، وج 8 ص 93

[5] منها ما رواه الشيخ المفيد في حديث أنّ أعرابياً قال: يا محمّد تأخذ على هذا أجراً؟ فقال: لا إلا المودّة في القربى، قال: قرباي أو قرباك؟ قال: بل قرباي، قال: هلم يدك حتى أبايعك، لا خير فيمن لا يودّك، ولا يودّ قرباك"، انظر: الأمالي للمفيد ص 152.

 

[6] انظر: الصواعق المحرقة لابن حجر ص ، وإعانة الطالبين للبكري الدمياطي ج 1 ص 200.

[7] هذا الحديث مشهور وقد رواه المحدثون من علماء الفريقين، أنظر: صحيح مسلم ج 7 ص 141، وسنن الترمذي ج 5 ص 360، وأمالي الصدوق ص 165، وعلل الشرائع ج1 ص 186.

[8] التفسير الكبير للفخر الرازي ج 27 ص 166.

 

[9] انظر: معطيات آية المودة للسيد محمود الهاشمي ص15.

[10] الفروق اللغوية لأبي هلال العسكري ص 174.

[11] إلاّ أن يكون النظر إلى طبيعتهم الثانية بعد الكفر، فإنّ÷ا تدفعهم إلى تمني كفر الناس وانحرافهم.

[12] وأسانيد هذا الحديث معروفة ، وأكتفي بذكره مسنداً طبقاً لما جاء في سنن الترمذي، فقد أخرجه بإسناده عن زيد بن أرقم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي ; أحدهما أعظم من الآخر ; كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي ولن يتفرقا حتى يردا على الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما" ، انظر سنن الترمذي ج 5 ص 329.

 






اضافة تعليق

الاسم *

البريد الإلكتروني *

موضوع *

الرسالة *


 


 
  قراءة الكتب
 
    Designed and Developed
       by CreativeLebanon