مودّة آل البيت(ع) وأجر الرسالة
الشيخ حسين الخشن
مودّة آل البيت(ع) وأجر الرسالة
قال تعالى: قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ [الشورى 23].
ويلفت نظرنا في الآية المباركة، أنّها استهلّت الدعوة إلى مودّة القربى بمخاطبة النبيّ (ص) بفعل الأمر "قل". ربما في إشارة إيحائية، إلى أنّ هذه الدعوة ليست من عند النبيّ (ص)، وإنّما هي دعوة من عند الله تعالى، وأنّ النبي (ص) مأمور بتبليغ ذلك للأمّة.
ولأهميّة هذه الآية، وما تحمله من مضمون، وتشتمل عليه من دلالة، كان من الضروري والمهمّ أن نتوقّف عندها وقفات عدّة:
1- من هم القربى؟
الوقفة الأولى: ما المراد بالقربى في الآية المباركة؟
ذكر المفسّرون في ذلك عدّة آراء، يمكن إجمالها في اتجاهين أساسيين:
الاتجاه الأول: أنّ المقصود بالقربى، أو بالأحرى مَنْ تُرادُ مودته: هو النبي (ص)، والمطالب بذلك هم قريش. فالآية تطلب منهم أن يودّوا النبيّ (ص) ويحبوه بسبب قرابته منهم. فـالحرف "في" الوارد في الآية، هو بمعنى "بسبب". قال الشيخ الطبرسي في بيان هذا الاحتمال: "إنّ معناه إلاّ أن
تودوني في قرابتي منكم، وتحفظوني لها، عن ابن عباس وقتادة ومجاهد وجماعة. قالوا: وكلّ قريش كانت بينها وبين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قرابة، وهذا لقريش خاصة، والمعنى: إن لم تودّوني لأجل النبوّة ، فودّوني لأجل القرابة التي بيني وبينكم"[1].
ولكنّ هذا الوجه ضعيف، وذلك لاعتبارين:
أولاً: إنّ هذا الوجه لا يقدّم تفسيراً مقنعاً للتعبير بـ"الأجر"، فإنّ الأجر لا يطلب إلاّ ممن وصله نفع معين، فما هو النفع الذي وصل إلى قريش ليطلب منهم الأجر؟ إذ المفروض أنّ قريشاً لم تؤمن بعد ليصلهم نفع الرسالة، فلا وجه لأن يطلب النبي(ص) منهم أجراً على تبليغ الرسالة.
ثانياً: إنّه ليس ثمة معنىً مفهوماً للطلب من قريش، بأنّكم ما دمتم لم تؤمنوا بالنبيّ (ص) فاحملوا له الودّ بسبب قرابته منكم. فما الفائدة من مودّتهم للنبيّ (ص) مع عدم الإيمان به ولا اتباعه، بل ومعاداته ومحاربة دعوته. إنّ المودة التي لا تترافق مع شيء من ذلك، لا تسمن ولا تغني من جوع، ولا
تشكّل فضيلة في حدّ ذاتها ليطلبها الله منهم، بل إنّها في الحقيقة ليست مودّة، فأي مودّة هذه للشخص وأنت تحارب دعوته؟!
الاتجاه الثاني: أنّ المقصود بالقربى أو من تُراد مودتهم هم الأقرباء، فـ"القربى" في الآية بمعنى الأقارب.
لكن أي أقارب هم؟
في الجواب على ذلك يوجد عدة آراء:
الرأي الأول: أَنّ المراد بهم أقرباء الإنسان بشكل عام، فالمسلم مدعوّ ومأمور بأن يودّ أقرباءَه وأرحامه.
الرأي الثاني: أَنّ المراد بالقربى في الآية هم أقارب النبيّ (ص) عامّة[2].
الرأي الثالث: أَن المقصود بهم خصوص أهل بيت النبيّ (ص)، وتحديداً أصحاب الكساء منهم(ع).
وفي تقييمنا لهذه الآراء نقول:
أمّا الرأي الأول منها (الأولى عدّه وجهاً وليس رأياً لأنّي لم أجد من تبناه) فهو لا ينسجم مع ظاهر الآية نفسها؛ لأنّ الآية جعلت مودّة القربى أجراً للرسالة، والذين يُتَصوَّر أن تشكّل مودتهم أجراً على تبليغ الرسالة، هم جماعة يكون لهم دور مهمّ في هذه الرسالة وقيادة مشروعها، وليسوا مجرّد
أشخاص عاديين، قد تكون مودّتهم جزءًا من أحكام الرسالة وليست أجراً عليها.
هذا بصرف النظر عن أنّ هذا التفسير مخالف للروايات الآتية التي تعيّن القربى بجماعة خاصة، وهم أهل بيت النبيّ (ص).
وأمّا الرأي الثاني فهو مستبعد جداً، والأقرب إلى المنطق والمتعين بحسب السياق والنصوص هو الرأي الثالث. ويمكن الاستشهاد لما نقوله من ترجيح القول الثالث واستبعاد القول الثاني بشاهدين:
الشاهد الأول: هو الروايات التفسيرية، والشواهد التاريخية المروية من طرق الفريقين (السنة والشيعة). فعن ابن عباس قال: لما نزلت: قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ قالوا: يا رسول الله من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودتهم؟ قال: عليّ وفاطمة وابناهما"[3].
وعن الإمام الباقر(ع): في قوله تعالى: قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ ؟ قال: هم الأئمة عليهم السلام"[4].
إلى غير ذلك من الأخبار.[5]
الشاهد الثاني: هو القرائن السياقية وغيرها، ويمكننا الإشارة إلى قرينتين:
القرينة الأولى: إنّ في قرابته (ص) المؤمن والفاسق، والعادل والظالم، والبرّ والفاجر، فكيف يُطْلَبُ من الأمّة مودّة القربى جميعاً دون استثناء؟! أيعقل أن يطلب الله تعالى (ص) مودّة من كانوا أعداء الرسالة، كما هو الحال في عمّ النبيّ (ص) أبي لهب؟! إنّ هذا غير معقول، لأنّه يتنافى مع ما
اشتملت عليه تعاليم النبيّ (ص) من تحطيمٍ للاعتبارات العشائرية، ورفض أيّ اعتبار لها في ميزان القيم والرسالة.
القرينة الثانية: إنّ مودّة هؤلاء القربى قد جعلت أجراً على تبليغ الرسالة والصدع بها، مع ما استلزمه تبليغها من معاناة وبذل للجهود وصبر على الأذى. والأشخاص الذين يعقل أن تجعل مودتهم أجراً على تبليغ الرسالة الإسلامية، لا يمكن أن يكونوا أشخاصاً عاديين من أقرباء النبيّ (ص)
وعشيرته، بل يفترض أن يكون لهم منزلة عظيمة لدى مرسل هذه الرسالة، وأن يكون لهم دور كبير في استمرارها وبقائها حيّة في القلوب والنفوس. وليس في أهل بيته (ص) من يتحلّى بهذه المكانة إلاّ من عرفوا بأصحاب الكساء، وهم عليّ والحسنان وأمهما فاطمة الزهراء (عليهم السلام). فهؤلاء
هم الذين شهدت لهم الأمة بالفضل والتميّز العلمي والأخلاقي، كما أنّ سيرتهم حافلة بالعطاء.
2- تسالم المسلمين على ضرورة مودّة آل البيت(ع)
الوقفة الثانية: والحقيقة أنّ مودة أهل البيت (ع) هي من المبادىء المتسالم عليها لدى عامّة المسلمين، ولم يشكّك في ذلك أحد، بل أفتى فقهاء المسلمين بوجوب أو استحباب الصلاة على الآل في التشهد الأخير من الصلاة. وقد عبّر عن ذلك الإمام الشافعي أجمل تعبير بقوله:
يا آلَ بيتِ رسولِ الله حبُّكُمُ * فرضٌ من اللهِ في القرآنِ أنزلَهُ
كفاكمُ من عظيمِ القدْرِ أَنّكُمُ * من لم يُصَلِّ عليكمْ لا صلاَة لَهُ[6]
والظاهر أنّ الإمام الشافعي عندما تحدّث عن أنّ حبّهم (ع) فرض أنزله الله في كتابه، كان ناظراً إلى آية المودة المذكورة؛ لأنّها الآية الوحيدة الدالة صراحة على مودة آل بيت النبيّ (ص).
ويقول الفخر الرازي في هذا المجال: "آل محمّد (صلى الله عليه وسلم) هم الذين يؤول أمرهم إليه، فكلّ من كان أمرهم إليه أشدّ وأكمل كانوا هم الآل ، ولا شكّ أنّ فاطمة وعليّاً والحسن والحسين كان التعلّق بينهم وبين رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أشدّ التعلقات، وهذا كالمعلوم بالنقل المتواتر
فوجب أن يكونوا هم الآل"، ويضيف قائلاً:
"وروى صاحب "الكشّاف" أنّه لما نزلت هذه الآية- يقصد آية المودة - قيل: يا رسول الله من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودتهم؟
فقال: عليّ وفاطمة وابناهما.
فثبت أنّ هؤلاء الأربعة أقارب النبيّ صلى الله عليه وسلم، وإذا ثبت هذا وجب أن يكونوا مخصوصين بمزيد التعظيم، ويدلّ عليه وجوه:
الأول: قوله تعالى: {إلاّ المودة في القربى} [الشورى 23]، ووجه الاستدلال به ما سبق، [سبق في تفسير الفخر الرازي].
الثاني: لا شكّ أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يحبّ فاطمة عليها السلام قال صلى الله عليه وسلم: "فاطمة بضعة منّي يؤذيني ما يؤذيها"[7]، وثبت بالنقل المتواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه كان يحبّ عليّاً والحسن والحسين، وإذا ثبت ذلك وجب على كلّ الأمة مثله، لقوله:
وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [الأعراف 158]، ولقوله تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ [النور 63]، ولقوله: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران 31]، ولقوله سبحانه لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب : 21].
الثالث: أنّ الدعاء للآل منصب عظيم، ولذلك جعل هذا الدعاء خاتمة التشهّد في الصلاة، وهو قوله: "اللّهم صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد وارحم محمّداً وآل محمّد"، وهذا التعظيم لم يوجد في حقّ غير الآل.
فكلّ ذلك يدلّ على أنّ حبّ آل محمّد واجب، وقال الشافعي رضي الله عنه:
يا راكباً قف بالمحصَّبِ مِن مِنَى * واهتف بساكنِ خيِفها والناهضِ
سحراً إذا فاضَ الحجيجُ إلى مِنَى * فيضاً كما نَظْمُ الفراتِ الفائضِ
إن كان رفضاً حبُّ آل محمّدٍ * فليشهدِ الثقلانِ أنّى رافضي"[8].
وينبغي أن يكون واضحاً وجلياً، أنّ القرآن الكريم عندما يؤكّد على مودّة أهل البيت (ع)، معتبراً أنّ مودّتهم هي أجر الرسالة. وكذلك عندما يؤكّد النبيّ (ص) في مناسبات شتى على ضرورة محبتهم (ع) بكلّ هذه التأكيدات المتعددة ممّا أشرنا إليه أو لم نشر، وعندما يجعل الصلاة عليهم (ع) جزءاً
لا يتجزأ من العبادة اليوميّة للمسلمين، فإنّ ذلك لا يمكن تجاهله ولا المرور عليه مرور الكرام، ولا يمكننا أن نقنع بتفسيره باعتباره أمراً ينطلق من اعتبار عشائري أو شخصي أو عاطفي أو من منطلق جزئيّ وخاص. والتفسير المنطقي والمقبول لذلك، هو أنّ محبّة هؤلاء القوم لها اعتبار خاص
في موازين الرسالة وحساباتها، وذلك لما لهؤلاء من دور مميز في مستقبل هذه الرسالة، وهذا ما سوف نزيده توضيحاً في الوقفة الخامسة الآتية.
3- كيف يطلب النبيّ (ص) أجراً على الرسالة؟!
الوقفة الثالثة: إنّه وبموجب ما تقدّم، فإنّ هذه الآية نصّت على أنّ النبيّ (ص) قد طلب أجراً على تبليغ الرسالة، والأجر هو مودّة أهل بيته (ع). وطلب الأجر لا يليق بالنبيّ (ص)، وهو المعروف بأنّه قدّم ما قدّم في سبيل الله (ص)، ولم يُرِدْ من الناس جزاءً ولا شكوراً؟!
ثمّ أيكون الأنبياء السابقون(ع) أفضل حالاً من الحبيب المصطفى محمّد (ص)؟! فهذا نبيّ الله هود (ع) يخاطب قومه قائلاً: يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ [هود 51].
ومن جهة ثالثة، ألا تنافي الآية المذكورة ما جاء في آيات أخرى من نفي الأجر على تبليغ الرسالة والصدع بها، كما في قوله تعالى: قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِيْنَ [الأنعام 90]، فكيف نجمع بينهما؟
ولكنّ الصحيح عدم المنافاة بين الآيات، وعدم ورود تلك الإشكالات، وتوضيح ذلك:
إنّ الأجر الذي أُمر النبيّ (ص) بطلبه من الأمة في آية: {إلاّ المودة في القربى}، هو في واقع الأمر ليس أجراً حقيقياً، ولا شخصياً عائداً على النبيّ (ص)، ليتنافى ذلك مع سائر الآيات التي نصّت على أنّه (ص) لا يطلب أجراً.
وقد تسأل: لماذا لم يكن الأجر المذكور في آية: {إلاّ المودة في القربى}، أجراً حقيقياً عائداً عليه، مع أنّ هذا معنى الأجر عند أهل اللغة والعرف؟
والجواب: إنّ الأجر هو شيء يدفعه الإنسان من حسابه مقابل شيء آخر يحصّل عليه ويربحه، ومن الواضح أنّ مودّة القربى والتي هي الأجر المطلوب من الناس تجاه نبيهم (ص) لا تمثّل غرماً ولا خسارة عليهم، وإنّما هي في حقيقة الأمر شيء يعود نفعه وبركته عليهم؛ لأنّ ارتباط المسلم بقربى
النبيّ (ص) وأهل بيته (ع) هو سبب إضافي في هدايته وفي ارتباطه بالنبيّ (ص) وبرسالة الإسلام.
وإن قلت: إذا كانت مودّة القربى ليست أجراً للرسالة التي صدع بها النبيّ (ص)، فما الوجه - إذًا - في تسميتها بالأجر في الآية المباركة ؟ وكيف يكون ذلك أجراً للنبيّ (ص) مع أنّ نفعه عائد للأمة نفسها؟
قلت: ربّما كانت المناسبة في اعتبار المودة أجراً للنبي (ص)، أنّ من طُلب من الأمة مودتهم هم قربى النبيّ (ص) وخاصته من أهل بيته، فيكون في الارتباط العاطفيّ بهم شيءٌ من الوفاء لرسول الله (ص). وهذا الارتباط في ظاهر الأمر يوحي أنّ في ذلك تعويضاً للنبيّ (ص) على جهده وتعبه في
تبليغ الرسالة، فبهذا الاعتبار الشكلي والمناسبة الصوريّة والظاهرية عبّرت الآية عن ذلك بالأجر، وإلاّ فإنّ الأمّة في العمق وفي واقع الأمر هي المستفيدة والتي يصلها أجر المودّة وبركاتها أكثر ممّا يصل ذلك إلى النبيّ (ص) بشكل شخصي، ومن هنا نفهم مغزى قوله تعالى: قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ
فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [سبأ 47].
ويشير بعض الأعلام[9] إلى وجه آخر، يقتضي تسمية مودة قربى النبيّ (ص) أجراً للرسالة، وهو أنّ هذه المودة التي أمر بها الناس تجاه الرسول (ص) وأهل بيته (ع)، قد تكلّف هؤلاء الناس ثمناً باهظاً، بل إنّ موالاة أهل البيت(ع) ومودتهم قد كلّفتهم فعلاً الكثير من المعاناة والآلام
والتضحيات، ولذلك سمّيت أجراً. فأجر الرسالة هو في هذا العناء والجهد الذي يترتب على مودتهم (ع)، وفي هذا الأذى والصبر في مواجهة التحديّات والصعاب التي ستعترض المسلم المتّبع لنهج النبيّ (ص) والموالي لأهل بيته(ع).
4- الفارق بين المودّة والمحبة
الوقفة الرابعة: الملاحظ أنّ الآية المباركة استخدمت كلمة المودّة وليس المحبّة، فهل هما لفظتان مترادفتان أم أنّ ثمّة فارقاً بين الودّ والحبّ؟
والجواب: أنّه يمكن أن يذكر في المقام فارقين:
الفارق الأول: ما ذكره بعض اللغويين من أنّ "الفرق بين الحبّ والودّ: أنّ الحبّ يكون فيما يوجبه ميل الطباع والحكمة جميعاً، والوداد من جهة ميل الطباع فقط، ألا ترى أنّك تقول: أحبّ فلاناً وأودّه، وتقول أحبّ الصلاة، ولا تقول أودّ الصلاة، وتقول أودّ أنّ ذاك كان لي، إذا تمنّيت وداده، وأودّ
الرجل ودّاً ومودّة "[10].
ولو أننا أخذنا التفرقة اللغويّة المشار إليها بنظر الاعتبار، فإنّ ذلك قد يؤشّر على أمر مهمّ، وهو أنّ مودة آل البيت (ع) – بناءً على أنّهم هم المقصودون بالقربى في الآية كما مرّ – هي ممّا تقتضيه الفطرة والطبيعة البشريّة لو خلّيت ونفسها، ولم تتلوّث بالأجواء والتيارات الفكرية المضادة. ولا
تحتاج مودّتهم إلى مزيد تكلّف أو جهد تثقيفي مضاعف؛ لأنّ لأهل البيت (ع) جاذبيّة خاصة تجعلهم مهوى القلوب والأفئدة، بسبب ما امتازوا به من مكارم الأخلاق ومحامد الصفات، وما بلغوه من كمال روحيّ وقرب معنويّ من الله تعالى. ومن المؤكّد، أنّ من أحبّ الله وتقرّب إليه فإنّ الله تعالى
سيكسبه محبّة عباده.
إلاّ أنّ الملاحظة التي نسجّلها على التفرقة اللغويّة المذكورة، هي أنّ الاستخدامات القرآنية لكلمة "المودة"، لا تساعد كثيراً على ما قيل من أنّ الوداد لا يكون إلاّ من جهة ميل الطباع فقط. فإنّنا نلاحظ أنّها استخدمت في موارد عديدة لا تقتضي الطباع ميل الإنسان إليها، وإنّما اقتضتها التربية
الخاصة ، كما في قوله تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ [ آل عمران 118]، فإنّ مودّتهم وتمنّيهم العنت والمشقة للمؤمنين، ليست ممّا يقتضيه الميل
الطبعي عند الإنسان.
ونظيره قوله تعالى : وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً [النساء 89]، فإنّ مودّتهم وتمنيهم أن يكفر المؤمنون، هو ليس مما تقتضيه الطبيعة أو الفطرة؛ لأنّها مفطورة على الخير لا الشرّ[11]، إلى غير ذلك من الموارد المشابهة لذلك.
الفارق الثاني: أن يقال: إنّ المودّة ليست مجرّد الميل القلبي، كما هو الحال في المحبّة، بل إنّ المودة تختزن شيئاً من الموالاة العمليّة، وتسبطن نوعاً من الحافزية المضاعفة للانقياد العملي على طبق الودّ.
وربّما تشهد لهذا الفارق العديد من الاستخدامات القرآنية لكلمة الموّدة، من قبيل قوله تعالى: وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَىٰ لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ
تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَىٰ أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا [ النساء 102]، فإنّ مودّة الكفار وتمنيهم أن يغفل المسلمون عن أسلحتهم ليميلوا عليهم ميلة واحدة، لم تكن
مجرّد أمنيات باطنية، بل كانت مترافقة مع جاهزيّة عسكريّة، وتحفّز لديهم – أعني الكفار – للانقضاض على المسلمين لدى أدنى غفلة لهم أو تراخٍ في صفوفهم.
وهكذا قوله تعالى: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [ البقرة 109]، فإنّ المرجّح أن لا تكون مودّتهم ورغبتهم هذه مجرّد أمنيات مختزنة داخل النفس،
وإنما هي مودّة تستتبع سعياً تحريضيّاً وتشويهيّاً للدين.
ومن هذا القبيل أيضاً قوله تعالى: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ [البقرة 96]، فإنّ حرص اليهود (وهم المعنيون بهذه الآية بشكل مباشر) وغيرهم من بني الإنسان على الدنيا
وتعلّقهم بها لا ينطلق من مجرّد مشاعر عابرة أو أمنيات حبيسة داخل النفس، بل إنّ ذلك غالباً ما تقترن بخطوات عملية وسعي دؤوب في سبيل حفظ الحياة والفرار من الموت.
وهذا المعنى لكلمة المودّة الذي يجعلها تستبطن شيئاً من الاندفاع العملي لو تمّ استظهاره وترجيحه، فهو يعني أنّ المودّة المطلوبة تجاه ذوي القربى من آل بيت النبي (ص) ليست هي نبضة قلب مجردة بعيدة عن خطّ الاتباع لهم، ولا انفعالات عاطفية عابرة تقف عند حدود المشاعر، بل هي عبارة
عن الحبّ الحركيّ الذي يدفع الإنسان ليجسّد مشاعره على أرض الواقع ويحوّلها إلى موالاة حقيقية تستلهم خطاهم وتقتدي بهديهم.
5- دور المودّة في الارتباط بالقيادة
الوقفة الخامسة: كيف يكون للمودة، حتى لو كانت لأهل البيت (ع) هذه المنزلة العظيمة بحيث تجعل أجراً للرسالة، مع أنّها – أعني المودة- أمر بسيط، لأنّها عبارة عن ميل القلب وهذا أمر سهل ولا يحتاج إلى كثير من العناء والجهد؟
وبعبارة أخرى: لماذا هذا التركيز على عنصر المودّة في العلاقة مع أهل البيت (ع)؟
والجواب على ذلك:
إنّ للمودّة والمحبّة دوراً هامّاً في علاقة الإنسان مع قيادته، ولا سيّما القيادة المعصومة والحكيمة والعادلة. فإنّ بناء العلاقة مع القيادة على أساس المودّة والعاطفة، أدعى للتفاعل معها واستلهام مواقفها والاقتداء بهديها. وقد أولى الإسلام - ولا سيّما فيما جاءت به تعاليم أهل البيت (ع) - هذا الأمر
أهميّة خاصّة، فقد حثّ على التفاعل العاطفي مع القيادة المعصومة حتى بعد موتها، وهذا ما هدف إليه مبدأ الزيارة لقبور الأنبياء والأئمة (ع)، وهدفت إليه فكرة إحياء مناسبات الأنبياء والأئمة (ع). فإنّها ترمي إلى تجديد الارتباط بالقائد المعصوم، وتوثيق عرى التواصل معه، ليبقى القائد حيّاً وفاعلاً
ومؤثّراً في النفوس، وحاضراً في الواقع بكلّ عطاءاته ودروسه، ولا يتحوّل إلى مجرّد شخصيّة تاريخية عابرة نستعيدها بطريقة عقلية جافة وجامدة.
وفي ضوء ذلك، نفهم ما تضمنته الآية المباركة من إشارة إلى دور المودّة في مستقبل الرسالة، ويتضح أيضاً سرّ هذا التأكيد النبوي (ص) في العديد من المناسبات والمواقف على ضرورة محبّة أهل بيته (ع). فالآية المباركة والأحاديث الشريفة المشار إليها، إنّما ترمي بتأكيدها على عنصر المودّة
إلى تأكيد مبدأ الارتباط بأهل بيته (ع)، وبيان أنّ لهم دوراً محورياً في حفظ الرسالة نفسها. وهذا ما استفدناه من جعل مودّتهم أجراً للرسالة. إنّ ما يعنيه ذلك أنّ أهل البيت (ع) هم صمامات أمان في هذه الأمة، يقي اتّباعهم والسير على نهجهم هذه الأمة من الانحراف والزيغ والضلال، كما نصّ
عليه الحديث المشهور والمعروف بحديث الثقلين[12].
[1] مجمع البيان ج 9 ص 48 ، وقد ذكر هذا الاتجاه في العديد من كتب التفسير، أنظر: التفسير الكبير للفخر الرازي ج 27 ص 146.
[2] روي عن ابن عباس، أنظر التفسير الكبير ج 27 ص 164.
[3] انظر: المعجم الكبير للطبراني ج 3 ص 47، وعنه مجمع الزوائد للهيثمي ج 7 ص 103، وشواهد التنزيل لقواعد التفضيل للحاكم الحسكاني ج2 ص 190.
[4] الكافي ج 1 ص 413، وج 8 ص 93
[5] منها ما رواه الشيخ المفيد في حديث أنّ أعرابياً قال: يا محمّد تأخذ على هذا أجراً؟ فقال: لا إلا المودّة في القربى، قال: قرباي أو قرباك؟ قال: بل قرباي، قال: هلم يدك حتى أبايعك، لا خير فيمن لا يودّك، ولا يودّ قرباك"، انظر: الأمالي للمفيد ص 152.
[6] انظر: الصواعق المحرقة لابن حجر ص ، وإعانة الطالبين للبكري الدمياطي ج 1 ص 200.
[7] هذا الحديث مشهور وقد رواه المحدثون من علماء الفريقين، أنظر: صحيح مسلم ج 7 ص 141، وسنن الترمذي ج 5 ص 360، وأمالي الصدوق ص 165، وعلل الشرائع ج1 ص 186.
[8] التفسير الكبير للفخر الرازي ج 27 ص 166.
[9] انظر: معطيات آية المودة للسيد محمود الهاشمي ص15.
[10] الفروق اللغوية لأبي هلال العسكري ص 174.
[11] إلاّ أن يكون النظر إلى طبيعتهم الثانية بعد الكفر، فإنّ÷ا تدفعهم إلى تمني كفر الناس وانحرافهم.
[12] وأسانيد هذا الحديث معروفة ، وأكتفي بذكره مسنداً طبقاً لما جاء في سنن الترمذي، فقد أخرجه بإسناده عن زيد بن أرقم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي ; أحدهما أعظم من الآخر ; كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي ولن يتفرقا حتى يردا على الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما" ، انظر سنن الترمذي ج 5 ص 329.