حوار مع مركز أفاق للدراسات والأبحاث: مشكلة الأديان تتشكل في الخطاب الفقهي    ثمن الحرية    أمثل الأساليب في عمليّة تهذيب النفس    مزايا الشباب    العمل سرّ النجاح    العبادة وعيٌ وانفتاح لا جهل وانغلاق    اقتناء أصنام الأمم البائدة    المفاهيم الدينية بين وجوب الاعتقاد وحرمة الانكار    البناء الاعتقادي بين الاجتهاد والتقليد    
 
بحث
 
تكريم الإنسان
 
س » هل ممكن إثبات وحيانية القرآن وعدم تحريفه من خلال مضمونه؟
ج »

إن الوحي الإلهي في عملية وصوله إلى البشر يحتاج إلى مرحلتين أساسيتين ليصلح كمصدر معصوم وعلى البشر الانقياد له، وهما:

المرحلة الأولى: مرحلة التلقي عن الله تعالى، بمعنى أنه حقاً وحي نزل من قِبل الله تعالى على رسول الله (ص).

المرحلة الثانية: مرحلة الصدور عن النبي (ص) والوصول إلينا سالماً من التحريف.

 

أما بالنسبة إلى المرحلة الثانية، أعني إثبات صحة صدوره عن رسول الله (ص) وعدم تعرضه للتحريف من بعده. فتوجد عشرات الدراسات والكتب والمصادر التي تؤكد على عدم تعرض القرآن الكريم للتحريف، وقد بحثنا هذا الأمر بشكل مفصل وأقمنا أدلة كثيرة على أنّ هذا القرآن هو عين القرآن الذي جمعه النبي (ص) ودونه وانتشر بعد ذلك بين المسلمين جيلاً بعد جيل، راجع كتابنا "حاكمية القرآن الكريم": الرابط  https://al-khechin.com/article/632

 

أما بالنسبة للمرحلة الأولى، أعني إثبات وحيانية الكتاب وأنه ليس مختلقاً من النبي (ص) أو من وحي الخيال، فهو أمر نستطيع التوثق منه بملاحظة العديد من العناصر التي - إذا ضمت إلى بعضها البعض - تورث الإنسان اليقين بأن هذا الكتاب لا يمكن إلا أن يكون وحياً من الله تعالى، وهذه العناصر كثيرة وأهمها:

 

أولاً: ملاحظة المنظومة المعرفية المتكاملة والرؤية الكونية والوجودية المتماسكة التي جاء بها القرآن، ففي عصر عرف بالجاهلية والخواء الفكري، يأتي محمد (ص) بكتاب يمثل منعطفاً تاريخياً بما يتضمنه من تأسيس معرفي لرؤية فكرية جديدة، إن فيما يتصل بالخالق وصفاته وعلاقة المخلوق به، أو رحلة المبدأ والمعاد، أو يتصل بالكون ودور الإنسان فيه، أو ما ما تضمنه من نظام اجتماعي وأخلاقي وروحي، وعلى القارئ الموضوعي للقرآن أن ينظر إليه نظرة واسعة وشمولية ولا يغرق في بعض الجزئيات المتصلة ببعض الآيات المتشابهة التي أشكل عليه فهمها بما يحجب عنه ما رسالة القرآن الحقيقية. وأنصحك بقراءة كتاب "وعود الإسلام" للمفكر والفيلسوف الفرنسي روجيه غارودي في هذا الشأن، وكتاب "الإسلام كبديل" للمفكر الألماني مراد هوفمان.

 

ثانياً: نظم القرآن، فإنّ كل منصف أمعن ويمعن النظر والتأمل والتدبر في آيات القرآن، لا مفر له من الاذعان أنّه أمام نصٍّ عظيم ومتميّز في تماسكه وتناسق موضوعاته وعلو مضامينه، وعمق معانيه، والقوة في حججه وبراهينه، والبلاغة العالية في أسلوبه المتميز عن النثر والشعر، وفي ألفاظه وجمله وتراكيبه مما يأخذ بالألباب والعقول. وسوف لن يتوانى عن الإقرار بأنّ هذا الكتاب هو - كما وصف نفسه - قول فصل: {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} [الطارق 13- 14] خالٍ من التناقض والاختلاف، {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء 82] وأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

 

باختصار: إنّ في آيات القرآن الكريم كيمياءً خاصة وروحاً عجيبة وعذوبة فائقة الجمال وقوة بيانية ومضمونية لا تضاهى، ولا شك أنّ من وطّن النفس على اتباع الحق وأصغى إلى آيات الكتاب بمدارك العقل ومسامع القلب سوف يرى فيها جاذبية ونورانيّة مميزة وروحانية عالية، كما أنّ فيها نُظماً راقية ومتقدمة لا يمكن أن تبلغ قوّتها وعمق مضامينها وتدفق معانيها أي نصوص أخرى. وهذا في الوقت الذي يدل على إعجاز القرآن فهو يدل أيضاً على عدم تعرضه للتحريف.

وإنّ الجاذبيّة المذكورة لآيات القرآن الكريم هي مما اعترف بها البلاغاء العرب وكثير من الحكماء من المسلمين وغيرهم، ولم يجرؤ فطاحلة الشعراء والأدباء من العرب أن يعارضوه بطريقة جديّة ذات قيمة رغم تحديه لهم ودعوتهم إلى معارضته، قال سبحانه: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [الإسراء 88] وما هذا إلا دليل على قوة القرآن وعدم وجود أية ثغرة فيه أو زيادة أو نقيصة.

 

ثالثاً: ملاحظة صفات الشخصية (ص) التي جاءت بهذا الكتاب، فهو شخص أمّي لم يدرس عند أحد ومع ذلك أتى بهذا القرآن بكل ما يتضمنه من تناسق مبدع ومضمون روحي ومعرفي غير مسبوق، وكذلك ملاحظة سيرته وأقواله وسلوكه الشخصي وخصائصه الذاتية التي تؤكد على تمتعه بأعلى درجات النزاهة والصدقية والطهارة، ومعلوم أنّ حياة الإنسان هي أهم مختبر لصدقية طروحاته ومقولاته، ويلي ذلك دراسة مشروعه الثقافي والحضاري وما تتضمنه رسالته من معارف ومفاهيم لم يعرف الإنسان عنها إلا القليل، ويلي ذلك ملاحظة إنجازاته وحجم التأثير والتغيير الذي أحدثه في المجتمع، والمقارنة بين ما جاء به وبين الموروث الثقافي في السائد في مجتمعه أو الذي جاءت به الكتب الأخرى، فإنّ البشر مهما كان عبقرياً لا يتسنى له أن يخرج عن الموروث الثقافي الذي يحكم بيئته الاجتماعية، فعندما ترى شخصا قد أوجد انقلاباً حضارياً معتمداً على منظومة فكرية وثقافية لا تمت بصلة إلى المستوى الثقافي لمجتمعه، فهذه القرائن وسواها قد تورث اليقين بصدقيته، أأسميتها معجزة أم لم تسمها.

 

رابعاً: أما بعض التفاصيل مثل قضية طول عمر الإنسان، أو قضية يأجوج ومأجوج، أو غيرها، فهي قضايا تسهل الإجابة عليها، ولا أعتقد أنها تشكل معضلة كبيرة، إذا أخذنا بعين الاعتبار أمرين:

 الأول: أن التجارب العلمية لا تزال تفاجئنا كل يوم بجديد وأنّ ما قد نخاله اليوم غير معقول قد يصدقه العلم بعد غد. 

 الثاني: إنّ فهم الكتاب وآياته، ليس محكوماً بالقراءة العرفية اللغوية، وأنّ ثمة مجالاً للقراءة الرمزية – على الأقل – بالنسبة لصنف من الآيات القرآنية.


 
س » هل صحيح إن الإسلام الحنيف لم يسمح لغير الفقهاء بالإفتاء الشرعي ، ولكن الكلام في العقيدة والمسائل الثقافية هو حقٌَ للجميع ، ولكن لابد أن يكون الكلام عن علم ومعرفة ؟
ج »
إن الافتاء بغير علم أمر مبغوض عقلا وشرعا، قال تعالى: وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (الإسراء ٣٦) 

 

ولا يفرق الحال في مبغوضية وكراهية الكلام بغير علم بين الفقه والعقيدة والتاريخ وغيرها من العلوم. ولا يجوز للإنسان، في كل ما لا يملك معرفته، أن يتحدث بضرس قاطع فيه. وبالتالي فإن على الجاهل أن يتعلم ويرجع إلى العالم. والرجوع إلى العالم، هو أيضا أمر عقلاني جرت عليه سيرة العقلاء، وقد أرشد إليه الشارع في قوله تعالى:  ۚ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (النحل ٤٣)
 
أجل، إذا كان ثمة فارق بين الحقل الفقهي والحقل العقدي، فليس لانه يحرم في الفقه الإفتاء لغير الفقهاء بينما في العقيدة يجوز ذلك لغير الفقهاء؛ كلا، إن كان ثمة من فارق، فهو أن على الإنسان في المجال العقدي أن يكون مجتهدا في أمهات قضايا العقيدة ولا يجوز له التقليد خلافا للمجال الفقهي حيث يجوز له التقليد، إلى غيرها من فوارق.. والله الموفق

 
 
  مقالات >> اجتماعية
البلوغ والرشد
الشيخ حسين الخشن



البلوغ والرشد

 

        ولا تنتهي مرحلة الطفولة وعالمها الخاص إلّا مع دخول الطفل – ذكراً كان أو أُنثى – مرحلة البلوغ، وهي مرحلة التكليف وتحمّل المسؤولية، لكن ما المراد بالبلوغ؟

 

        والجواب: إنّ الفقه الإسلامي حدّد للبلوغ نوعين من العلامات:

 

        أحدهما: نضوج الغدد التناسلية التي تعبّر عن قدرة جنسية تؤهّل الطرفين – أعني الذكر والأُنثى – للتوالد والإنجاب، ويصطلح القرآن على هذه العلامة بــ "بلوغ النكاح" أو "بلوغ الحُلُم"(1)، والتعبير الجلي عن بلوغ هذه المرحلة هو الاحتلام لدى الذكر، وبدء العادة الشهرية لدى

الأُنثى.

 

        ثانيهما: بلوغ سنّ معيّن، وهو الخامسة عشرة للذكر، وسنّ التاسعة أو الثالثة عشرة للأنثى، على الاختلاف الفقهي في ذلك.

 

        ومع أنّنا في هذا الكتاب لسنا بصدد معالجة القضايا المطروحة وفق آليات المنهج الفقهي الاستدلالي إلّا لُماماً، فإنّنا نستقرب أن يكون العنوان القرآني الذي ينص على عنصر التحديد الجنسي هو الأساس في البلوغ، أمّا التحديد بالسنين فهو بلحاظ التقارب بينه وبين النضوج الجنسي، نقول هذا

مع الالتفات إلى أنّ للسنّ خصوصية مرجحة وهي خاصية الضبط والدقة في التحديد، أيّ أنّه يُقدِّم لنا ضابطاً دقيقاً، الأمر الذي يساوي بين الأفراد في بداية وقت المسؤولية ويحدّ من محاولة التحايل على القانون ومحاولات التهرب من المسؤولية، وهذا ما جعل العلامة المعتبرة عقلائياً هي علامة

السنّ.

 

        وما ذكرناه من التزامن التقريبي بين التحديد بالسنّ والتحديد بالنضج الجنسي يؤيّد أن يكون بلوغ البنت – على أساس السنّ – هو سنّ الثالثة عشرة وليس التاسعة، لأنّ الثالثة عشرة هو الأقرب إلى بدء العادة الشهرية.

 

        وكيف كان فإنّ النضوج الجنسي أو بلوغ السنّ المذكور يأتي مترافقاً – في العادة – مع تغيّرات في البنية الجسدية تعبّر عن قوّة ومتانة بدنية أكثر من ذي قبل، كما ويترافق أيضاً مع نضوج عقلي وشعور بالذات وميل نحو الاستقلال أكثر فأكثر، ولعلّ هذا ما يفسّر اعتبار هذه المرحلة مرحلة

تحمّل المسؤولية وتوجّه التكليف، وعلينا أن لا نقرأ في التكليف جانب الشِّدة والجدّة والكلفة فحسب، وإنّما علينا أن نرى فيه نوعاً من التكريم للإنسان البالغ، إذ يغدو أهلاً لتحمّل الأمانة التي عرضت على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملها وحملها الإنسان، بسبب ما يمتلكه من مؤهّلات

ومقدّرات.

 

 

        حفل تكريم البالغين

 

        ومن هنا فإنّنا نجد فيما درجت عليه بعض المؤسسات الإسلامية من إقامة حفل تكريم للفتيات اللاتي بلغن سنّ التكليف الشرعي عملاً طيّباً وسُنّة حسنة، وندعو إلى تعميم الفكرة إلى الفتيان الذين بلغوا سنّ التكليف أيضاً، وأن لا تبقى حكراً على الفتيات، ويحسن بنا أن نكرِّم البالغ أو البالغة في

هذا اليوم ونقدِّم لهم الهدايا، لتتحوّل هذه المناسبة إلى محطة في تاريخه، ولكن يجدر بنا أن لا نقتصر على الجانب الشكلي الاحتفالي، وذلك بأنْ نعمل على تثقيف البالغ أو البالغة على معنى البلوغ والمسؤوليات المترتبة عليه، وقد وجدنا في سيرة بعض علمائنا وهو السيد الجليل ابن طاووس (رحمه

الله) أنّه كان مهتماً بهذا الأمر، لدرجة اعتباره يوم بلوغ ولده يوم عيد، وأنّه لو أبقاه الله حيّاً فسوف يتصدّق في ذلك اليوم بمائة وخمسين دينار، عن كل سنة عشرة دنانير، وقد حثّ ابنه – فيما أوصاه به – أن يحفظ هذا التاريخ جيداً ليجدّد الشكر لله فيه كل عام، ويحدّثنا (رحمه الله) عن اهتمامه بيوم

بلوغ ابنته أيضاً، وأنّه شرح لها قبل بلوغها معاني البلوغ ودلالاته وما يتضمّنه من تشريف وتكريم إلهي لها(1).

 

 

        بين الإسلام والقوانين الوضعية

 

        هذا موقف الفقه الإسلامي، وأمّا القوانين الوضعية فإنّها تنصّ على اعتبار سنّ الثامنة عشرة نهاية مرحلة الطفولة وبداية مرحلة التكليف والمسؤولية التامة، فقد جاء في اتفاقية حقوق الطفل تعريف الطفل بأنّه "كلّ إنسان لم يتجاوز الثامنة عشرة ما لم يبلغ سنّ الرشد قبل ذلك بموجب القانون

المنطبق عليه"(2).

       

والتعريف المذكور يختلف عمّا نصّ عليه الفقه الإسلامي من جهتين.

 

        إحداهما: تحديده انتهاء مرحلة الطفولة ببلوغ سنّ الثامنة عشرة، بينما الفقه الإسلامي يحدِّد نهايتها إما بالبلوغ الجسدي (احتلام الرجل، العادة الشهرية للمرأة) أو بالسنّ وهو بلوغ الخامسة عشرة للذكر والتاسعة أو الثالثة عشرة في المرأة (على الخلاف الفقهي في ذلك).

 

        الثانية: أنّ التعريف المذكور ومن خلال تأكيده على انتهاء مرحلة الطفولة بسنّ الثامنة عشرة شريطة أن لا يبلغ سنّ الرشد قبل ذلك، يساوي بين الطفل والقاصر، أو قلْ بين البالغ والرشيد، بينما يفكّك الفقه الإسلامي بين الأمرين، فيرى أنّ الإنسان قد يبلغ دون أن يتّصف بالرشد، وقد يتّصف

بالرشد قبل البلوغ، وفي الحالة الثانية – أعني تقدّم الرشد على البلوغ – لا يكون مكلفاً، ربّما تخفيفاً عليه، بينما في الحالة الأولى – أعني تأخّر الرشد عن البلوغ – يكون مكلفاً، إلاّ أنّ شخصيته الحقوقية لا تكتمل بمجرّد البلوغ ما لم ينضم إليها الرشد، فلا يكون غير الرشيد (السفيه) صاحبَ ذمّة

مالية مستقلة، ولذا لا يدفع إليه ماله، قال تعالى: {وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء:6] كما أنه لا يستقل باتّخاذ كافة القرارات، ومن هنا تتوقّف صحّة زواجه – ذكراً أو أُنثى – على استئذانه من الولي.

 

 

        الرشد

 

        وهذا يقودنا إلى التساؤل عن معنى الرشد؟ وعن السبب في عدم اتّخاذه – من قبل المشرِّع الإسلامي – مبدأً للبلوغ وتحمّل المسؤولية؟ وبعبارة أخرى: كيف يتوجّه الخطاب الشرعي إلى غير الراشد حتى لو كان ناضجاً جنسياً؟ ومتى كانت المسؤولية ترتبط بالنضج الجنسي أو الجسدي

وليس بالنضج العقلي؟! أوليس الأجدى والأصح أخذ الرشد في مفهوم البلوغ كما يرى المشرِّع القانوني؟

 

        والجواب على ذلك يتوقّف على تحديد معنى الرشد، والذي نلاحظه في هذا المجال: أنّ الرشد لا يرادف العقل أو يوازيه ليمكن اعتبار مَنْ ليس راشداً فاقداً للعقل أو ناقص العقل، وبالتالي ليكون السفه مرادفاً للجنون، كلا إنّما الرشد – على الأقل فيما نفهمه من التشريع الإسلامي – هو

مستوى من النضج أو الوعي الاجتماعي الذي يكتسبه الإنسان بالتجربة والخبرة بما يخرجه عن حالة السذاجة التي تجعله في معرض الانخداع أكثر من غيره، وهذا المستوى من النضج الاجتماعي ليس هو مناط التكليف في الفقه الإسلامي وإنّما مناطه هو البلوغ، والبلوغ – وإنْ تمّ تعريفه بما

يجعله مرتبطاً بالنضج الجنسي – يترافق مع بدء اكتمال النضج العقلي وسائر المؤهلات الجسدية والذهنية، وإلّا إذا بلغ الإنسان بلوغاً جسدياً ولكنه كان فاسد العقل فلا يكون مكلفاً شرعاً، لأنّ القلم قد رفع عن المجنون كما رفع عن غير البالغ.

 

        وخلاصة القول: إنّ البلوغ بالمعنى الجسدي ما دام مترافقاً مع بدء اكتمال العقل كان من الطبيعي أن يكون هو مبدأ التكليف حتى لو لم يكن البالغ قد وصل إلى مرحلة الرشد التام، ما يعني – بعبارة أخرى – أن السفه لا يمنع من توجّه الخطاب الشرعي إلى السفيه، وإنّما يمنع فقط من

إطلاق يد السفيه في التصرفات المالية، ومن التفرُّد في اختيار الشريك في الحياة الزوجية دون موافقة الولي، وفيما عدا ذلك فإنّا لا نجد في الشرع الإسلامي ما يحدّ من تصرفات السفيه.

 

 

        الرشد لدى الفقهاء

 

        ما ذكرناه في تعريف الرشد قد لا يكون منسجماً مع ما يذكره الفقهاء، حيث تجدهم يتّجهون إلى ربط الرشد بالتصرفات المالية، فالرشيد عندهم مَنْ كان "مصلحاً لماله بحيث يكون له ملكة نفسانية تقتضي إصلاحه وتمنع إفساده وصرفه في غير الوجوه اللائقة بأفعال العقلاء"(1) وما ذكروه

من علامات الرشد في الذكر والأُنثى كلّها تنحو هذا المنحى، فمن علامات رشد الصبي عندهم: نجاحه في اختبارات البيع والشراء ونحوها وعدم انخداعه في ذلك، وعلامة الرشد لدى المرأة هو نجاحها في اختبار الغَزْل والخياطة وشراء آلاتهما المعتادة بغير غبن(2).

 

        وفيما يبدو فإنّ الوجه في ربط الرشد والسفه بإصلاح المال وإفساده هو ورود ذلك في القرآن الكريم، قال تعالى: {فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء:6] وقال أيضاً – في شأن السفه - : {فَإن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ

بِالْعَدْلِ} [البقرة:282].

 

        ولكن الربط المشار إليه لا يخلو من تأمُّل، باعتبار أن مفهوم الرشد – وكذا السفه – أوسع في نظر العرف واللغة من المجال المالي، فربطه بخصوص التصرّفات المالية يعبِّر عن جمودٍ على نص الآيتين، وهو جمود غير موفق، بل ربّما أعاق فتح البحث في قضية الرشد في المدى الأوسع

والأشمل وتحديداً في باب الولايات، فإنّ إناطة الشارع لبعض التصرفات المالية بالرشد من البعيد فَهْمُه بطريقة تعبّدية محضة، وإنّما الوجه في ذلك يكمن في عدم قدرة السفيه على إدارة الأموال بطريقة سليمة، وحينئذٍ يفرض السؤال التالي نفسه: هل أنّ السفيه الذي لا ولاية له على إدارة أمواله

يملك ولاية على عياله وأطفاله مع عدم قدرته على إصلاح أمورهم!؟ ألَا يفترض أن يكون الرشد شرطاً ضرورياً في الولايات الخاصة والعامة؟ ربّما يستقرب الإنسان – كما مال إليه بعض الأعلام – تعميم شرطية الرشد إلى باب الولايات(1)، فمن كان سفيهاً فلا ولاية له على إدارة الأسرة أو

غيرها، لاسيما إذا كان السفه ليس مجرّد مرحلة مؤقتة يمرّ بها المرء من بداية حياته، وإنّما كان صفة ملازمة له بمعنى كونه مرضاً عقلياً يعبّر عنه خفّة العقل، وليس فساده كما في المجنون.

 

 

        ليس للرشد سنّ معيّن

 

        يبقى أن نشير أخيراً إلى أنّه ليس للرشد سن محدَّد، لأنّ القضية تخضع لعوامل عديدة تتّصل بالظروف الزمانية والمكانية وبالمستوى الثقافي العام للأُمّة، ما قد يؤهّل بعض الأفراد ويرفعهم إلى سنّ الرشد مبكراً حتى قبل البلوغ الجسدي، بينما يتأخّر الرشد لدى آخرين لعدم توفّر الأسباب

المشار إليها، ولا مشكلة في عدم تحديد سنّ معيّن للرشد، ولا تترتّب عليه المحاذير المشار إليها في مسألة البلوغ، لأنّ المفروض أنّ السفيه في حال بلوغه مكلف ومسؤول أمام الله والقانون.

 

من كتاب "حقوق الطفل في الإسلام"

 



(1) راجع سورة النور، الآية: 58-59.

(1) كشف المحجّة لثمرة المهجة ص: 142.

(2) اتفاقية حقوق الطفل ص 7.

(1) رياض المسائل: 9/245.

(2) المصدر نفسه.

(1) الاجتهاد والتجديد للشيخ شمس الدين: 270-273.

 






اضافة تعليق

الاسم *

البريد الإلكتروني *

موضوع *

الرسالة *


 


 
  قراءة الكتب
 
    Designed and Developed
       by CreativeLebanon