حوار مع مركز أفاق للدراسات والأبحاث: مشكلة الأديان تتشكل في الخطاب الفقهي    ثمن الحرية    أمثل الأساليب في عمليّة تهذيب النفس    مزايا الشباب    العمل سرّ النجاح    العبادة وعيٌ وانفتاح لا جهل وانغلاق    اقتناء أصنام الأمم البائدة    المفاهيم الدينية بين وجوب الاعتقاد وحرمة الانكار    البناء الاعتقادي بين الاجتهاد والتقليد    
 
بحث
 
تكريم الإنسان
 
س » أنا طالب علم، لدي خوف من أن أتكلم بغير علم.. ما الحل؟
ج »

وعليكم السلام

لا بد لطالب العلم في مساره العلمي أن يتسلح بأمرين أساسيين:
الأول: الاستنفار العلمي وبذل الجهد الكافي لمعرفة قواعد فهم النص واستكناه معناه ودلالاته بما يعينه على التفقه في الدين وتكوين الرأي على أسس صحيحة.
الثاني: التقوى العلمية ويُراد بها استحضار الله سبحانه وتعالى في النفس حذراً من الوقوع في فخ التقوّل على الله بغير علم. ومن الضروري أن يعيش مع نفسه حالة من المحاسبة الشديدة ومساءلة النفس من أن دافعه إلى تبني هذا الرأي أو ذاك: هل هو الهوى والرغبة الشخصية أم أن الدافع هو الوصول إلى الحقيقة ولو كانت على خلاف الهوى.
أعتقد أن طالب العلم إذا أحكم هذين الامرين فإنه سيكون موفقاً في مسيرته العلمية وفيما يختاره من آراء أو يتبناه من موقف.

 
س » كيف علمنا أن الصحيفة السجادية ناقصة؟ وهل ما وجده العلماء من الأدعية صحيح؟؟
ج »

أقول في الإجابة على سؤالكم:

أولاً: إن الصحيفة السجادية في الأصل تزيد على ما هو واصل إلينا وموجود بين أيدينا، قال المتوكل بن هارون كما جاء في مقدمة الصحيفة: " ثم أملى عليّ أبو عبد الله (ع) الأدعية، وهي خمسة وسبعون باباً، سقط عني منها أحد عشر باباً، وحفظت منها نيفاً وستين باباً"، بيد أن الموجود فعلاً في الصحيفة الواصلة إلينا هو أربعة وخمسون دعاء. آخرها دعاؤه في استكشاف الهموم، وهذا آخر دعاء شرحه السيد علي خان المدني في رياض السالكين، وكذا فعل غيره من الأعلام.

ثانياً: إن سقوط عدد من أدعية الصحيفة وضياعها دفع غير واحد من الأعلام للبحث والتتبع في محاولة لمعرفة ما هو الضائع منها، وبحدود اطلاعي فإنهم عثروا على أدعية كثيرة مروية عن الإمام زين العابدين (ع)، لكنهم لم يصلوا إلى نتائج تفيد أن ما عثروا عليه هو من الأدعية الناقصة منها، ولذا عنونوا مؤلفاتهم بعنوان مستدركات على الصحيفة، ولم يجزموا أن ما جمعوه من أدعية هو الضائع من أدعية الصحيفة. وهذا ما تقتضيه الضوابط العلمية والدينية، فما لم يعثر الإنسان على نسخة قديمة موثوقة أو قرائن مفيدة للوثوق بأن هذا الدعاء أو ذاك هو من جملة أدعية الصحيفة فلا يصح له إضافة بعض الأدعية على الصحيفة بعنوان كونها منها.

ثالثاً: لقد ابتُلينا بظاهرة خطيرة، وهي ظاهرة الإضافة على الصحيفة أو غيرها من كتب الأدعية، وهذا العمل هو خلاف الأمانة والتقوى، وقد ترتّب على ذلك الكثير من المفاسد، وأوجب ذلك وهماً للكثيرين، فتوهموا أن بعض الأدعية هي جزء من الصحيفة السجادية المشهورة، ومردّ ذلك بكل أسف إلى أن مجال الأدعية والزيارات شرعة لكل وارد، وتُرك لأصحاب المطابع والمطامع! وأعتقد أن هذا العبث في كتب الأدعية والزيارات ناشئ عن عدم عناية العلماء بالأمر بهذه الكتب كما ينبغي ويلزم، كما نبه عليه المحدث النوري في كتابه "اللؤلؤ والمرجان" مستغرباً صمت العلماء إزاء التلاعب والعبث بنصوص الأدعية والزيارات مما يعدّ جرأة عظيمة على الله تعالى ورسوله (ص)!

رابعاً: أما ما سألتم عنه حول مدى صحة الأدعية الواردة بعد دعاء استكشاف الهموم، فهذا أمر لا يسعنا إعطاء جواب حاسم وشامل فيه، بل لا بدّ أن يدرس كل دعاء على حدة، ليرى ما إذا كانت قرائن السند والمتن تبعث على الحكم بصحته أم لا. فإن المناجاة الخمس عشرة بنظرنا لم تصح وربما كانت من وضع الصوفية، وقد أوضحنا ذلك بشكل مفصل في كتاب الشيع والغلو.


 
س » ابني المراهق يعاني من التشتت، وأنا جدا قلق ولا اعرف التصرف معه، ما هي نصيحتكم؟
ج »

التشتت في الانتباه في سن المراهقة مع ما يرافقه من الصعوبات هو في حدود معينة أمر طبيعي وظاهرة تصيب الكثير من المراهقين ولا سيما في عصرنا هذا.

وعلينا التعامل مع هذه المرحلة بدقة متناهية من الاستيعاب والتفهم والإرشاد والتوجيه وتفهم سن المراهق، وأن هذه المرحلة تحتاج إلى أسلوب مختلف عما سبقها.

فالمراهق ينمو لديه الإحساس بالذات كثيرا حتى ليخيل إليه أنه لم يعد بحاجة إلى الاحتضان والرعاية من قِبل والديه.

وبالتالي علينا أن نتعامل معه بأسلوب المصادقة "صادقه سبعا.." والتنبه جيدا للمؤثرات التي تسهم في التأثير على شخصيته واستقامته وتدينه، ومن هذه المؤثرات: الأصدقاء ووسائل التواصل الاجتماعي، فإن نصيبها ودورها في التأثير على المراهق هو أشد وأعلى من دورنا.

وفي كل هذه المرحلة علينا أن نتحلى بالصبر والأناة والتحمل، وأن نبتدع أسلوب الحوار والموعظة الحسنة والتدرج في العمل التربوي والرسالي.

نسأل الله أن يوفقكم وأن يقر أعينكم بولدكم وأن يفتح له سبيل الهداية. والله الموفق.


 
س » اعاني من عدم الحضور في الصلاة، فهل أحصل على الثواب؟
ج »
 
لا شك أن العمل إذا كان مستجمعا للشرائط الفقهية، فهو مجزئٌ ومبرئٌ للذمة. أما الثواب فيحتاج إلى خلوص النية لله تعالى بمعنى أن لا يدخل الرياء ونحوه في نية المصلي والعبادة بشكل عام.
ولا ريب أنه كلما كان الإنسان يعيش حالة حضور وتوجه إلى الله كان ثوابه أعلى عند الله، لكن لا نستطيع نفي الثواب عن العمل لمجرد غياب هذا الحضور في بعض الحالات بسبب الظروف الضاغطة على الإنسان نفسيا واجتماعيا.
لكن على الإنسان أن يعالج مشكلة تشتت الذهن أثناء العمل العبادي وذلك من خلال السعي الجاد للتجرد والابتعاد عن كل الهواجس والمشكلات أثناء الإقبال على الصلاة، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، باستحضار عظمة الله عز وجل في نفوسنا وأنه لا يليق بنا أن نواجهه بقلب لاهٍ وغافل. والله الموفق.

 
س » أنا إنسان فاشل، ولا أتوفق في شيء، وقد كتب عليّ بالخسارة، فما هو الحل؟
ج »

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

أولاً: التوفيق في الحياة هو رهن أخذ الإنسان بالأسباب التي جعلها الله موصلة للنجاح، فعلى الإنسان أن يتحرك في حياته الشخصية والمهنية والاجتماعية وفق منطق الأسباب والسنن. على سبيل المثال: فالإنسان لن يصل إلى مبتغاه وهو جليس بيته وحبيس هواجسه، فإذا أراد الثروة فعليه أن يبحث عن أسباب الثروة وإذا أراد الصحة فعليه أن يأخذ بالنصائح الطبية اللازمة وإذا أراد حياة اجتماعية مستقرة عليه أن يسير وفق القوانين والضوابط الإسلامية في المجال الاجتماعي وهكذا.

ثانياً: لا بد للإنسان أن يعمل على رفع معوقات التوفيق، وأني أعتقد أن واحدة من تلك المعوقات هي سيطرة الشعور المتشائم على الإنسان بحيث يوهم نفسه بأنه إنسان فاشل وأنه لن يوفق وأنه لن تناله البركة الإلهية.

إن هذا الإحساس عندما يسيطر على الإنسان فإنه بالتأكيد يجعله إنسانا فاشلا ومحبطا ولن يوفق في حياته ولذلك نصيحتي لك أن تُبعد مثل هذا الوهم عن ذهنك وانطلق في الحياة فإن سبيل الحياة والتوفيق لا تعد ولا تحصى.


 
س » ما هو هدف طلب العلم الذي يجب أن يكون؟
ج »

عندما ينطلق المسلم في طلبه للعلم من مسؤوليته الشرعية الملقاة على عاتقه ومن موقع أنه خليفة الله على الأرض، فإن ذلك سوف يخلق عنده حافزاً كبيراً للجد في طلب العلم والوصول إلى أعلى المراتب. أما إذا انطلق في تحصيله من موقع المباهاة أو إثبات ذاته في المجتمع أو من موقع من يريد أن يزين اسمه بالشهادة الجامعية ليُقال له "الدكتور" وما إلى ذلك، فإنه - في الغالب - لن يصل إلى النتيجة المرجوة.

وعلى كل إنسان منا أن يعي أنّنا في هذه الحياة مسؤولون في أن نترك أثراً طيباً، وأن نقوم بواجباتنا قبل أن يطوينا الزمان، إننا مسؤولون عن عمرنا فيما أفنيناه وعن شبابنا فيما أبليناه، وسنُسأل يوم القيامة عن كل هذه الطاقات التي منّ اللهُ بها علينا.

وأضف إلى ذلك، إنه من الجدير بالمسلم، أن لا يفكر في نفسه وما يريحه هو فحسب في طلبه للعلم، بل أن يفكر أيضاً في أمته والنهوض بها ليكون مستقبلها زاهراً، وهذا كله يحتم عليه أن يكون سقف طموحاته عالياً ليتمكن هو وأقرانه من الطلاب والعلماء من ردم الفجوة بيننا وبين الغرب الذي سبقنا على أكثر من صعيد.

باختصار: إن مسؤوليتنا ورسالتنا وانتماءنا لهذه الأمة يفرض علينا أن نعيش حالة طوارئ ثقافية وعلمية.


 
س » ما رأيكم في الاختلاط المنتشر في عصرنا، وكيف نحاربه؟
ج »

إنّ الاختلاط قد أصبح سمة هذا العصر في كثير من الميادين، ومنها الجامعات والطرقات والساحات وكافة المرافق العامة.. والاختلاط في حد ذاته ليس محرماً ما لم يفضِ إلى تجاوز الحدود الشرعية في العلاقة بين الرجل والمرأة الأجنبيين؛ كما لو أدى إلى الخلوة المحرمة بالمرأة أو مصافحتها أو كان المجلس مشوباً بأجواء الإثارة الغرائزية أو غير ذلك مما حرمه الله تعالى.

وفي ظل هذا الواقع، فإنّ العمل على تحصين النفس أولى من الهروب أو الانزواء عن الآخرين بطريقة تشعرهم بأن المؤمنين يعيشون العُقد النفسية. إن على الشاب المسلم أن يثق بنفسه وأن يفرض حضوره ووقاره، وأن يبادر إلى إقناع الآخرين بمنطقه وحججه، وأن يبيّن لهم أن الانحراف والتبرج والفجور هو العمل السيّئ الذي ينبغي أن يخجل به الإنسان، وليس الإيمان ومظاهر التدين.

وأننا ندعو شبابنا عامة وطلاب الجامعات خاصة من الذكور والإناث إلى أن يتزينوا بالعفاف، وأن يحصنوا أنفسهم بالتقوى بما يصونهم من الوقوع في الحرام.


 
س » كيف يمكن التخلص من السلوكيات والعادات السيئة؟
ج »

إن التغلب على السلوكيات الخاطئة أو العادات السيئة – بشكل عام – يحتاج بعد التوكل على الله تعالى إلى:

أولاً: إرادة وتصميم، ولا يكفي مجرد الرغبة ولا مجرد النية وانما يحتاج بالإضافة إلى ذلك إلى العزم والمثابرة وحمل النفس على ترك ما اعتادته.

ثانياً: وضع برنامج عملي يمكّن الإنسان من الخروج من هذه العادة السيئة بشكل تدريجي؛ وأرجو التركيز على مسألة "التدرج" في الخروج من هذه العادات السيئة؛ لأن إدمان النفس على الشيء يجعل الخروج منه صعباً ويحتاج إلى قطع مراحل، وأما ما يقدم عليه البعض من السعي للخروج الفوري من هذه العادة، فهو - بحسب التجربة - سيُمنى في كثير من الأحيان بالفشل. والله الموفق


 
 
  مقالات >> اجتماعية
كيف ندير خلافاتنا؟
الشيخ حسين الخشن



كيف ندير خلافاتنا؟

 

جاء في نهج البلاغة أنّ يهودياً قال للإمام علي (ع) بعد وفاة رسول الله (ص): ما دفنتم نبيّكم حتى اختلفتم فيه! فقال (ع): "إنّما اختلفنا عنه لا فيه، ولكنّكم ما جفّت أرجلكم من البحر حتى قلتم لنبيّكم اجْعَلْ لنا آلهة كما لهم آلهة، قال إنّكم قوم تجهلون"[1].

 

 إنّ هذه الرواية وسواها قد تبعث على التعجّب لجهة هذه السرعة في وقوع الاختلاف بين المسلمين بعد وفاة رسول الله (ص) مباشرة، بيد أنّ الأمر الذي يطمئن ويهوّن الخطب أنّ هذا الاختلاف لم يكن في ذات النبي (ص) بل عنه، وبعبارة أوضح: إنّه– الاختلاف- لم يقع في نبوّته ورسالته وحجّية سُنّته، وإنّما وقع فيما نُقل أو

رُوي عنه من حيث إثباته وتوثيقه، ما يعني أنّ الاختلاف بقي اختلافاً داخل الأمة الواحدة، ولم يجزّئها إلى أمم متعدّدة ومِلَل متباينة، كما أنّ دائرة الاختلاف لم تلامس الأساسيات التي يؤدي المساس بها إلى الخروج عن الدين، وهكذا ظلّت مساحته أضيق بكثير ممّا حصل في بعض الديانات الأخرى، غير أنّ المؤسف حقاً هو أنّ

الهوة بين المسلمين رغم محدودية خلافاتهم قد اتّسعت أكثر ممّا عليه الحال لدى غيرهم رغم شدّة خلافاتهم، فتمزّقت الأمّة إلى مذاهب متناحرة يكفّر بعضها بعضاً ويقتل بعضها بعضاً، ما أدّى إلى كثير من الإخفاقات والنكسات التي ساهمت في تراجع المسلمين وتخلّفهم عن ركب الحضارة.

 

 

 

الإخفاق في إدارة الاختلاف

 

وأحسب أنّ السبب الرئيسي لذلك هو أنّنا لم نُحسن إدارة خلافاتنا المذهبية والسياسية والفكرية وغيرها، أو لنقلْ إنّنا أدرناها بطريقة خاطئة، ممّا أدّى إلى هذا التنازع والتناحر.

 

إنّ اختلاف الناس وتعدّد وجهات نظرهم في قضايا الدين فهماً وممارسة- كاختلافهم في أمور الدنيا وعلومها- أمرٌ لا يدعو إلى القلق ولا يبعث على التوجّس ولا هو أمر منكر، شريطة أن تتمّ إدارة الاختلاف بطريقة حكيمة، فيغدو عنصر ثراء وحيوية، بدل أن يكون عامل تمزّق وتشتّت، ولكن كيف وأنّى ذلك؟

 

 

المرجعية والآليات

 

ثمة مرجعيات إسلامية لحسم النزاع، وآليات- كذلك- لإدارة الاختلاف، وإذا تمّ اللجوء إلى تلك المرجعيات والأخذ بتلك الآليات سيتحول الاختلاف إلى عامل قوة بدل أن يكون عامل ضعف.

 

والمرجعية الأساس لحسم الاختلاف هي التحاكم إلى كتاب الله وسنة نبيه (ص) قال تعالى: {وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ}[البقرة: 213] وقال سبحانه: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ}[الشورى: 10]، وفي آية أخرى يقول عزّ وجلّ: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ}

[النساء: 59].

 

ومرجعيّة القرآن والسُّنّة هذه تشكّل جامعاً يلتقي عليه المسلمون، فالكلّ يُذعن بها وينقاد لها، ولا تعترضنا مشكلة في المقام عندما يكون النص القرآني أو النبويّ واضحاً، بيدّ أنّ المشكلة تطلّ من جديد في حال تعدّدت الآراء في فهم النصّ القرآني، أو في ثبوت السُّنة أو فهمها، فما الحلّ والعلاج حينها؟

 

والجواب: إنّه يحقّ- والحال هذه- لكلِّ طرف اختيار الرأي الذي اهتدى إليه واتّخاذ الموقف الذي ساقه الدليل إليه، وعلى الآخر أن يعذره في ذلك ما دام الاختلاف في دائرة الأمور الاجتهادية النظرية ويتحرّك وفق آليات الاستنباط المعروفة.

 

هذا كلّه في القضايا الفكرية الثقافية، وأمّا في القضايا المتّصلة بنظام الأمّة وتقدير الأصلح لها في مجال السياسة والاقتصاد والأمن، فمرجعية حسم الخلاف فيها هي الاحتكام إلى النظام الإسلامي لما يحقّق مصلحة الأمة.

 

 

حرية الرأي بين الفرض والرفض

 

وأمّا آليات إدارة الاختلاف فهي الحوار والجدل بالتي هي أحسن، والمشاورة مع ذوي الرأي وأهل الخبرة، بعيداً عن كل أشكال العنف والاستبداد في الرأي، وإنّ الأدبيات الإسلامية التي ركّزت على الآليات المذكورة كثيرة ومعروفة، وعندما أخذ بها المسلمون نجحوا وتقدّموا وعندما تخلّوا عنها واستبدلوها بأساليب القمع ومصادرة

الحريات تمزقوا وتخلفوا، وقد شهدنا في تاريخنا الإسلامي الأول وما تلاه، وكانت اختلافات مثمرة، لأنّ المسلمين كانوا يديرونها وفق آلية الحوار والتحاكم إلى كتاب الله وسنة رسوله.

 

وقد طفحت المصادر الإسلامية بالحديث عن اختلافات الرأي بين كبار الصحابة والتابعين، ولكن ما ميّز المرحلة هو أجواء الرحابة وقبول الآخر، ما سمح بوجود تعدّدية فكرية مذهبية أثْرت الفقه وعلم الكلام الإسلاميين، إلى أن بليت الأمة ببعض المدارس المتشدّدة والأنظمة الاستبدادية التي تضيق بالآخر ولا تؤمن بحرية الفكر

ولا تكتفي برفض الرأي الآخر، بل تحاصر صاحب الرأي وتقمعه وترميه بالابتداع أو الضلال أو الكفر.

 

إنّ من حقِّ العالم والفقيه أن يرفض الرأي الآخر لكن ليس من حقّه فرض رأيه على الآخر ما دام الاختلاف في نطاق الأمور الاجتهاية كما أسلفنا.

 

إنّ هؤلاء المتطرّفين كأنّما يقولون للآخر: "من حقّي أن أتكلّم، ومن واجبك أن تسمع.. ومن حقّي أن أقول ومن واجبك أن تتّبع.. رأيي صواب لا يحتمل الخطأ ورأيك خطأ لا يحتمل الصواب.."[2].

 

 

 الاختلاف والتنازع

 

ربما استند البعض إلى القرآن الكريم في تبرير موقفهم السلبي القامع للآخرين، بحجّة أنّه- أعني القرآن- قد ذمّ الاختلاف والتفرّق، لأنّه يؤثر على وحدة الكلمة والصف.

 

بيد أنّ هذا الفهم غير موفّق، لأنّ التعمّق والتدبّر في قراءة الآيات القرآنية الواردة في هذا الصدد تذمّ التنازع والتفرّق لا مجرّد الاختلاف وتعدّد وجهات النظر، فالتنازع مذموم، لأنّه يقود إلى التناحر والتمزّق: {وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}[الأنفال: 46] وفي آية أخرى: {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا

جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ}[آل عمران: 105]، وفي آية ثالثة يقول تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ}[آل عمران: 103].

 

وأمّا مجرد الاختلاف والتعدد في وجهات النظر فهو مصدر قوة وحيوية، لأنّ الحياة التي تُبنى على أساس اللون الفكري الواحد مع إقصاء سائر الأفكار والآراء محكومة بالشلل والجمود، قال تعالى: {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}[هود: 118-119]، فإنّ اعتبار الاختلاف في هذه الآية- كما يرى بعض

المفسّرين- هدفاً للخِلقة ليس إلا من جهة مساهمته في إغناء الحياة لأنّ احتكاك الفكر بالفكر يُنتج التطوّر، ومواجهة العقل بالعقل يُثري الحياة ويُحفّز على الإبداع.

 

نعم لقد ذمّ القرآن الكريم الاختلاف المنطلق من البغي والعدوان، قال تعالى: {فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمْ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ}[الجاثية: 17]، أو المعتمد على الشك دون البرهان، قال سبحانه في شأن اختلاف اليهود في قتل عيسى (ع): {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً}

[النساء: 157].

وهكذا فإنّ الاختلاف مذموم إذا لم يكن هادفاً أو انطلق من موقع العُجُب بالنفس وحب الظهور، أو غير ذلك من الحالات التي لا يرتكز فيها الاختلاف على قاعدة علمية ولا يهدف إلى صالح الإنسان والإنسانية.

 

والخلاصة: إنّ الاختلاف لا يساوي التمزّق والتشتّت ولا يعني أنّ مَنْ ليس معي فهو ضدّي ومَن لا يوافقني الرأي فهو عدوّي، وإذا ما قاد الاختلاف إلى التناحر والتنازع فهو تخلّف وجاهلية، أمّا إذا تحرّك وفق قانون التدافع والتنافس فهو ليس أمراً جائزاً وممدوحاً فحسب، بل هو شرط لديمومة الحياة الاجتماعية والإنسانية كما

يؤكّد علماء الاجتماع، وفي ذلك جاء قوله تعالى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً}[الزخرف: 32].

 

من كتاب "العقل التكفيري - قراءة في المنهج الإقصائي"

نشر على الموقع تاريخ 2-1-2015

 



 [1]نهج البلاغة ج4 ص75.

[2]الصحوة الإسلامية بين الجمود والتطرف ص40، للشيخ القرضاوي.

 






اضافة تعليق

الاسم *

البريد الإلكتروني *

موضوع *

الرسالة *


 


 
  قراءة الكتب
 
    Designed and Developed
       by CreativeLebanon