حوار مع مركز أفاق للدراسات والأبحاث: مشكلة الأديان تتشكل في الخطاب الفقهي    ثمن الحرية    أمثل الأساليب في عمليّة تهذيب النفس    مزايا الشباب    العمل سرّ النجاح    العبادة وعيٌ وانفتاح لا جهل وانغلاق    اقتناء أصنام الأمم البائدة    المفاهيم الدينية بين وجوب الاعتقاد وحرمة الانكار    البناء الاعتقادي بين الاجتهاد والتقليد    
 
بحث
 
تكريم الإنسان
 
س » أنا طالب علم، لدي خوف من أن أتكلم بغير علم.. ما الحل؟
ج »

وعليكم السلام

لا بد لطالب العلم في مساره العلمي أن يتسلح بأمرين أساسيين:
الأول: الاستنفار العلمي وبذل الجهد الكافي لمعرفة قواعد فهم النص واستكناه معناه ودلالاته بما يعينه على التفقه في الدين وتكوين الرأي على أسس صحيحة.
الثاني: التقوى العلمية ويُراد بها استحضار الله سبحانه وتعالى في النفس حذراً من الوقوع في فخ التقوّل على الله بغير علم. ومن الضروري أن يعيش مع نفسه حالة من المحاسبة الشديدة ومساءلة النفس من أن دافعه إلى تبني هذا الرأي أو ذاك: هل هو الهوى والرغبة الشخصية أم أن الدافع هو الوصول إلى الحقيقة ولو كانت على خلاف الهوى.
أعتقد أن طالب العلم إذا أحكم هذين الامرين فإنه سيكون موفقاً في مسيرته العلمية وفيما يختاره من آراء أو يتبناه من موقف.

 
س » كيف علمنا أن الصحيفة السجادية ناقصة؟ وهل ما وجده العلماء من الأدعية صحيح؟؟
ج »

أقول في الإجابة على سؤالكم:

أولاً: إن الصحيفة السجادية في الأصل تزيد على ما هو واصل إلينا وموجود بين أيدينا، قال المتوكل بن هارون كما جاء في مقدمة الصحيفة: " ثم أملى عليّ أبو عبد الله (ع) الأدعية، وهي خمسة وسبعون باباً، سقط عني منها أحد عشر باباً، وحفظت منها نيفاً وستين باباً"، بيد أن الموجود فعلاً في الصحيفة الواصلة إلينا هو أربعة وخمسون دعاء. آخرها دعاؤه في استكشاف الهموم، وهذا آخر دعاء شرحه السيد علي خان المدني في رياض السالكين، وكذا فعل غيره من الأعلام.

ثانياً: إن سقوط عدد من أدعية الصحيفة وضياعها دفع غير واحد من الأعلام للبحث والتتبع في محاولة لمعرفة ما هو الضائع منها، وبحدود اطلاعي فإنهم عثروا على أدعية كثيرة مروية عن الإمام زين العابدين (ع)، لكنهم لم يصلوا إلى نتائج تفيد أن ما عثروا عليه هو من الأدعية الناقصة منها، ولذا عنونوا مؤلفاتهم بعنوان مستدركات على الصحيفة، ولم يجزموا أن ما جمعوه من أدعية هو الضائع من أدعية الصحيفة. وهذا ما تقتضيه الضوابط العلمية والدينية، فما لم يعثر الإنسان على نسخة قديمة موثوقة أو قرائن مفيدة للوثوق بأن هذا الدعاء أو ذاك هو من جملة أدعية الصحيفة فلا يصح له إضافة بعض الأدعية على الصحيفة بعنوان كونها منها.

ثالثاً: لقد ابتُلينا بظاهرة خطيرة، وهي ظاهرة الإضافة على الصحيفة أو غيرها من كتب الأدعية، وهذا العمل هو خلاف الأمانة والتقوى، وقد ترتّب على ذلك الكثير من المفاسد، وأوجب ذلك وهماً للكثيرين، فتوهموا أن بعض الأدعية هي جزء من الصحيفة السجادية المشهورة، ومردّ ذلك بكل أسف إلى أن مجال الأدعية والزيارات شرعة لكل وارد، وتُرك لأصحاب المطابع والمطامع! وأعتقد أن هذا العبث في كتب الأدعية والزيارات ناشئ عن عدم عناية العلماء بالأمر بهذه الكتب كما ينبغي ويلزم، كما نبه عليه المحدث النوري في كتابه "اللؤلؤ والمرجان" مستغرباً صمت العلماء إزاء التلاعب والعبث بنصوص الأدعية والزيارات مما يعدّ جرأة عظيمة على الله تعالى ورسوله (ص)!

رابعاً: أما ما سألتم عنه حول مدى صحة الأدعية الواردة بعد دعاء استكشاف الهموم، فهذا أمر لا يسعنا إعطاء جواب حاسم وشامل فيه، بل لا بدّ أن يدرس كل دعاء على حدة، ليرى ما إذا كانت قرائن السند والمتن تبعث على الحكم بصحته أم لا. فإن المناجاة الخمس عشرة بنظرنا لم تصح وربما كانت من وضع الصوفية، وقد أوضحنا ذلك بشكل مفصل في كتاب الشيع والغلو.


 
س » ابني المراهق يعاني من التشتت، وأنا جدا قلق ولا اعرف التصرف معه، ما هي نصيحتكم؟
ج »

التشتت في الانتباه في سن المراهقة مع ما يرافقه من الصعوبات هو في حدود معينة أمر طبيعي وظاهرة تصيب الكثير من المراهقين ولا سيما في عصرنا هذا.

وعلينا التعامل مع هذه المرحلة بدقة متناهية من الاستيعاب والتفهم والإرشاد والتوجيه وتفهم سن المراهق، وأن هذه المرحلة تحتاج إلى أسلوب مختلف عما سبقها.

فالمراهق ينمو لديه الإحساس بالذات كثيرا حتى ليخيل إليه أنه لم يعد بحاجة إلى الاحتضان والرعاية من قِبل والديه.

وبالتالي علينا أن نتعامل معه بأسلوب المصادقة "صادقه سبعا.." والتنبه جيدا للمؤثرات التي تسهم في التأثير على شخصيته واستقامته وتدينه، ومن هذه المؤثرات: الأصدقاء ووسائل التواصل الاجتماعي، فإن نصيبها ودورها في التأثير على المراهق هو أشد وأعلى من دورنا.

وفي كل هذه المرحلة علينا أن نتحلى بالصبر والأناة والتحمل، وأن نبتدع أسلوب الحوار والموعظة الحسنة والتدرج في العمل التربوي والرسالي.

نسأل الله أن يوفقكم وأن يقر أعينكم بولدكم وأن يفتح له سبيل الهداية. والله الموفق.


 
س » اعاني من عدم الحضور في الصلاة، فهل أحصل على الثواب؟
ج »
 
لا شك أن العمل إذا كان مستجمعا للشرائط الفقهية، فهو مجزئٌ ومبرئٌ للذمة. أما الثواب فيحتاج إلى خلوص النية لله تعالى بمعنى أن لا يدخل الرياء ونحوه في نية المصلي والعبادة بشكل عام.
ولا ريب أنه كلما كان الإنسان يعيش حالة حضور وتوجه إلى الله كان ثوابه أعلى عند الله، لكن لا نستطيع نفي الثواب عن العمل لمجرد غياب هذا الحضور في بعض الحالات بسبب الظروف الضاغطة على الإنسان نفسيا واجتماعيا.
لكن على الإنسان أن يعالج مشكلة تشتت الذهن أثناء العمل العبادي وذلك من خلال السعي الجاد للتجرد والابتعاد عن كل الهواجس والمشكلات أثناء الإقبال على الصلاة، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، باستحضار عظمة الله عز وجل في نفوسنا وأنه لا يليق بنا أن نواجهه بقلب لاهٍ وغافل. والله الموفق.

 
س » أنا إنسان فاشل، ولا أتوفق في شيء، وقد كتب عليّ بالخسارة، فما هو الحل؟
ج »

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

أولاً: التوفيق في الحياة هو رهن أخذ الإنسان بالأسباب التي جعلها الله موصلة للنجاح، فعلى الإنسان أن يتحرك في حياته الشخصية والمهنية والاجتماعية وفق منطق الأسباب والسنن. على سبيل المثال: فالإنسان لن يصل إلى مبتغاه وهو جليس بيته وحبيس هواجسه، فإذا أراد الثروة فعليه أن يبحث عن أسباب الثروة وإذا أراد الصحة فعليه أن يأخذ بالنصائح الطبية اللازمة وإذا أراد حياة اجتماعية مستقرة عليه أن يسير وفق القوانين والضوابط الإسلامية في المجال الاجتماعي وهكذا.

ثانياً: لا بد للإنسان أن يعمل على رفع معوقات التوفيق، وأني أعتقد أن واحدة من تلك المعوقات هي سيطرة الشعور المتشائم على الإنسان بحيث يوهم نفسه بأنه إنسان فاشل وأنه لن يوفق وأنه لن تناله البركة الإلهية.

إن هذا الإحساس عندما يسيطر على الإنسان فإنه بالتأكيد يجعله إنسانا فاشلا ومحبطا ولن يوفق في حياته ولذلك نصيحتي لك أن تُبعد مثل هذا الوهم عن ذهنك وانطلق في الحياة فإن سبيل الحياة والتوفيق لا تعد ولا تحصى.


 
س » ما هو هدف طلب العلم الذي يجب أن يكون؟
ج »

عندما ينطلق المسلم في طلبه للعلم من مسؤوليته الشرعية الملقاة على عاتقه ومن موقع أنه خليفة الله على الأرض، فإن ذلك سوف يخلق عنده حافزاً كبيراً للجد في طلب العلم والوصول إلى أعلى المراتب. أما إذا انطلق في تحصيله من موقع المباهاة أو إثبات ذاته في المجتمع أو من موقع من يريد أن يزين اسمه بالشهادة الجامعية ليُقال له "الدكتور" وما إلى ذلك، فإنه - في الغالب - لن يصل إلى النتيجة المرجوة.

وعلى كل إنسان منا أن يعي أنّنا في هذه الحياة مسؤولون في أن نترك أثراً طيباً، وأن نقوم بواجباتنا قبل أن يطوينا الزمان، إننا مسؤولون عن عمرنا فيما أفنيناه وعن شبابنا فيما أبليناه، وسنُسأل يوم القيامة عن كل هذه الطاقات التي منّ اللهُ بها علينا.

وأضف إلى ذلك، إنه من الجدير بالمسلم، أن لا يفكر في نفسه وما يريحه هو فحسب في طلبه للعلم، بل أن يفكر أيضاً في أمته والنهوض بها ليكون مستقبلها زاهراً، وهذا كله يحتم عليه أن يكون سقف طموحاته عالياً ليتمكن هو وأقرانه من الطلاب والعلماء من ردم الفجوة بيننا وبين الغرب الذي سبقنا على أكثر من صعيد.

باختصار: إن مسؤوليتنا ورسالتنا وانتماءنا لهذه الأمة يفرض علينا أن نعيش حالة طوارئ ثقافية وعلمية.


 
س » ما رأيكم في الاختلاط المنتشر في عصرنا، وكيف نحاربه؟
ج »

إنّ الاختلاط قد أصبح سمة هذا العصر في كثير من الميادين، ومنها الجامعات والطرقات والساحات وكافة المرافق العامة.. والاختلاط في حد ذاته ليس محرماً ما لم يفضِ إلى تجاوز الحدود الشرعية في العلاقة بين الرجل والمرأة الأجنبيين؛ كما لو أدى إلى الخلوة المحرمة بالمرأة أو مصافحتها أو كان المجلس مشوباً بأجواء الإثارة الغرائزية أو غير ذلك مما حرمه الله تعالى.

وفي ظل هذا الواقع، فإنّ العمل على تحصين النفس أولى من الهروب أو الانزواء عن الآخرين بطريقة تشعرهم بأن المؤمنين يعيشون العُقد النفسية. إن على الشاب المسلم أن يثق بنفسه وأن يفرض حضوره ووقاره، وأن يبادر إلى إقناع الآخرين بمنطقه وحججه، وأن يبيّن لهم أن الانحراف والتبرج والفجور هو العمل السيّئ الذي ينبغي أن يخجل به الإنسان، وليس الإيمان ومظاهر التدين.

وأننا ندعو شبابنا عامة وطلاب الجامعات خاصة من الذكور والإناث إلى أن يتزينوا بالعفاف، وأن يحصنوا أنفسهم بالتقوى بما يصونهم من الوقوع في الحرام.


 
س » كيف يمكن التخلص من السلوكيات والعادات السيئة؟
ج »

إن التغلب على السلوكيات الخاطئة أو العادات السيئة – بشكل عام – يحتاج بعد التوكل على الله تعالى إلى:

أولاً: إرادة وتصميم، ولا يكفي مجرد الرغبة ولا مجرد النية وانما يحتاج بالإضافة إلى ذلك إلى العزم والمثابرة وحمل النفس على ترك ما اعتادته.

ثانياً: وضع برنامج عملي يمكّن الإنسان من الخروج من هذه العادة السيئة بشكل تدريجي؛ وأرجو التركيز على مسألة "التدرج" في الخروج من هذه العادات السيئة؛ لأن إدمان النفس على الشيء يجعل الخروج منه صعباً ويحتاج إلى قطع مراحل، وأما ما يقدم عليه البعض من السعي للخروج الفوري من هذه العادة، فهو - بحسب التجربة - سيُمنى في كثير من الأحيان بالفشل. والله الموفق


 
 
  مقالات >> اجتماعية
قواعد العملية التربوية وأساليبها
الشيخ حسين الخشن



 

قواعد العملية التربوية وأساليبها

 

        يخال الكثير من الناس أن تربية الأطفال أمر في غاية السهولة واليسر، وأنّها لا تحتاج سوى إلى القليل من الممارسة التجريبية بلا حاجة إلى تعلُّم أو تخصّص أو تلقّي الدروس واستماع المحاضرات والندوات التي تعقد لبيان مراحل الطفولة

وخصائصها... ومن المؤكّد أنّ هذه النظرة ساذجة وسطحية للغاية، فإنّ التربية تمثّل المدخل الأساسي والعمود الفقري لصناعة الإنسان وتربيته، وهي – أعني تربية الإنسان – أعقد "الصناعات" وأخطرها وأدقّها.

       

وإنّه لمؤسف جداً أن لا يُعنى غالب الآباء في مجتمعاتنا بأمر التربية وشأنها، بل ربّما يرى البعض منهم أنّ ذلك لا يتناسب ومكانته، وهكذا الحال في بعض الأُمهات، فإنّها لا تهتم بأمر التربية كاهتمامها بفنون الطبخ وأصناف المأكولات – مثلاً – حيث

نراها تلاحق مختلف الكتب أو البرامج المعنية بذلك، لكنها لا تبذل جهداً كافياً لمعرفة أُسس التربية وقواعدها الكفيلة ببناء جيل صالح. وفيما يلي نشير إلى جملة قواعد تربوية تتّصل بالجانب العملي للتربية:

 

1-  التدرّج في العمل التربوي

        من جملة هذه القواعد التربوية الأساسية والتي لن يُكتب النجاح لأي نشاط تربوي دون مراعاتها، قاعدة التدرّج في العمل التربوي، والذي يفرض ذلك هو أنّ الإنسان بطبيعته يميل إلى الراحة والدعة واللهو والمرح، بينما التربية المبنية على القيم

والمبادئ تفرض تحميله قسطاً من المسؤولية، بما قد يستلزم تقييد حريّته في إطلاق العنان لنزواته وشهواته، وانطلاقاً من ذلك يتعيّن اتّباع أسلوب التدرّج والتأنّي في العمل التربوي بما يتناسب مع عقله ومرحلته العمرية، ويوازن بين ميوله ورغباته ومتطلبات

التربية، فكما يحتاج الإنسان إلى التدرّج بغية الحصول على المهارات البدنية كحمل الأثقال ونحوها، فإنّه يحتاج إلى التدرّج بغية الحصول على الكفاءات المعنوية والفكرية.

 

        ومبدأ التدرّج هذا لا بدّ من مراعاته واتّباعه في التربية الدينية، بل إنّها أشد حاجة لاعتماد هذا المبدأ، لما تتضمّنه من مفاهيم حسّاسة وعقائد معمّقة فيما يرتبط بالمبدأ والمعاد، مضافاً إلى ما تستتبعه من تكاليف شرعية لا تخلو من كلفة لمن لم يتعوّد عليها،

وإنّ إلقاء المعارف والعقائد الدينية إلى الطفل بشكل دفعي وحمله على التكاليف الشرعية بشكل فوري ليس أسلوباً سليماً، بل قد يؤدي إلى نفوره من الدين وتمرّده عليه، ومن هنا ورد في الحديث عن رسول الله (ص): "إنّ هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق ولا

تكرهوا عبادة الله إلى عباد الله فتكونوا كالراكب المنبت (الذي انقطع في السفر وعطبت راحلته) الذي لا سفراً قطع ولا ظهراً أبقى"(1).

 

        وفي الحديث عن أبي عبد الله (ع) قال: "قال رسول الله (ص) رحم الله مَن أعان ولده على برّه، قال قلت: كيف يعينه على برّه؟ قال: يقبل ميسوره ويتجاوز عن معسوره ولا يرهقه ولا يخرق به"(2)، والخرق هو الحمق والجهل، أي لا ينسب إليه

الحمق.

 

        وترشد الروايات الواردة عن النبيّ (ص) والأئمة من أهل البيت (ع) – ممّا سيأتي الحديث عنها لاحقاً – إلى ضرورة مراعاة الليونة والتدرّج في حمل الطفل وتمرينه على العبادات، ولذا يُوجَّه إلى الجمع بين الصلاتين، ويؤذن له بالصوم قدر استطاعته

وطاقته، فإذا غلبه الجوع أو العطش يؤمر بالإفطار، وهكذا ينبغي ترغيبه وتشجيعه على تلاوة القرآن وارتياد المساجد دون ضغط أو إكراه مبالغ فيه.

 

 

2- المبادرة إلى الأدب

       

إلا أن الدعوة إلى التدرّج والتساهل مع الطفل لا ينبغي أن تفهم – خطأ – بأنّها دعوة إلى إهماله من الناحية التربوية وتركه على هواه، ليفعل ما يحلو له دون ضوابط أو معايير، فهذا الإهمال يعتبر خطأ فادحاً من الناحية التربوية، ولذا تنبغي المبادرة

والمسارعة – عقيب المرحلة العمرية الأولى التي تنتهي بسن السابعة – إلى تهذيب الطفل وتأديبه وحمله على القيم والمبادئ، لأنّه في هذه المرحلة وبحكم فطرته الصافية النقيّة المتعطّشة إلى اكتساب المعارف والمائلة إلى التقليد ومحاكاة الآخرين يكون مهيّئاً

ومستعداً استعداداً لا نظير له لتقبّل ما يلقى إليه من مفاهيم وتصوّرات وقيم – صالحة كانت أو فاسدة، محقّة أو باطلة – لذا يكون لزاماً على الأهل والمربين اغتنام مرحلة الطفولة لتوجيه الطفل لما فيه صالحه في الدنيا والآخرة، أما إذا تجاوز هذه المرحلة

وأصبح شاباً فإنّ اهتماماته تتبدّل وتكثر همومه ومشاغله وتضغط عليه الغريزة ومتطلّبات الحياة، ما يجعل من الصعب استصلاح حاله أو تجاوبه مع أساليب التربية والتزكية، ومن هنا ورد في وصية أمير المؤمنين (ع) لابنه الإمام الحسن (ع): "إنّما قلب

الحدث كالأرض الخالية ما ألقي فيها من شيء قبلته، فبادرتك بالأدب قبل أن يقسو قليل ويشتغل بك، إي بني: إنّي وإن لم أكن عُمِّرت عُمر مَن كان قبلي فقد نظرت في أعمالهم، وفكرت في أخبارهم، وسرت في آثارهم حتى عدت كأحدهم، إلى أن يقول:

ورأيت حيث عناني من أمرك ما يعني الوالد الشفيق وأجمعت عليه من أدبك أن يكون ذلك وأنت مقبل العمر ومقتبل الدهر ذو نيّة سليمة ونفسٍ صافية"(1)، وفي الحديث أنّ الإمام الصادق (ع) سأل بعض أصحابه وهو أبو جعفر الأحول: أتيت البصرة؟

فقال: نعم، قال: كيف رأيت مسارعة الناس إلى هذا الأمر ودخولهم فيه؟ (يقصد بذلك دخول الناس في خطّ أهل البيت (ع) قال: والله إنّهم لقليل، ولقد فعلوا وإنّ ذلك لقليل، فقال (ع): "عليك بالأحداث فإنّهم أسرع إلى كلّ خير"(1)

 

3-  التأديب بالسلوك

        ومن القواعد أو الأساليب التي لا بدّ للعملية التربوية أن تعتمدها وتأخذ بها قاعدة التأديب بالسلوك باعتبار أنّ غرس القِيَم الأخلاقية – كالصدق، والتواضع والإيثار وحفظ الأمانة واحترام الآخر وسواها – في نفوس الأطفال لا يُكتفى فيه بالوعظ والإرشاد

وامتداح هذه القيم وتمجيدها، بل لا بدّ أن يتمثّلها الواعظ في سلوكه ويجسّدها في حياته، فإنّ أسلوب التربية بالسلوك أبلغ تأثيراً من أسلوب التربية بالوعظ المجرّد، كما ورد في الحديث الشريف: "ومعلم النفس ومؤدّبها أحقّ بالإجلال من معلم الناس ومؤدّبهم"(

2)، فالأب أو المعلّم الذي يُحبَّ لابنه أو تلميذه أن يكون صادقاً لا يكفيه أن يأمره بالصدق ويمتدحه له أو ينهاه عن الكذب ويذمّه، بل عليه أن يقرن القول بالفعل، فيكون هو صادقاً في وعوده مع الطفل وفي أحاديثه التي ينطلق بها على مرأى ومسمع منه

فهذا أفضل واعظ ومؤدّب للطفل.

 

        إنَّ الكثير من الآباء والأمهات يرتكبون خطيئة كبيرة ومضاعَفة عندما يكذبون في حضور أبنائهم الصغار، لأنّهم بذلك لا يفعلون القبيح ويعصون الخالق فحسب، بل إنّهم يعلّمون – بسلوكهم الخاطئ - هذا الطفل على الكذب، أوليس الكثير منّا عندما يطرق

بابهم شخص معيّن ممّن لا يرغبون بالحديث معه يقولون لطفلهم: قل لفلان: إنّ والدي ليس في البيت، أو أنّه نائم أو ما إلى ذلك من الأكاذيب! ثم بعد ذلك إذا ما رأينا الطفل يكذب علينا نثور في وجهه ونؤنّبه أو نضربه! وقد قال المثل الفرنسي: "الأولاد بحاجة

إلى نماذج أكثر ممّا هم بحاجة إلى نقّاد".

 

        وإذا أردنا لأطفالنا أن يوقّرونا ويوقّروا سائر الكبار أو المسنين فهل نعمل نحن على توقير آبائنا ومن هم أكبر سنّاً منا بمحضر هؤلاء الأطفال؟ لأنّه لو رآنا الطفل لا نحترم مَن هو أكبر منّا سنّاً فكيف نتوقّع منه أن يحترمنا؟! ولهذا ورد في الحديث عن

عليٍّ (ع): "وقّروا كباركم يوقّركم صغاركم"(1).  

       

وإنّ الأب الذي يشتم أو يسبّ الآخرين في محضر ابنه كيف يأمل أن لا يكون ابنه سبّاباً؟! ومع الأسف، فإنّنا نرى أن بعض الآباء والأمهات عندما يسمعون طفلهم الصغير يتلفَّظ ببعض كلمات الفحش أو السبّ يأنسون بذلك ويفرحون له، غافلين أو متغافلين أنّهم

يرتكبون خطأً تربوياً في تعويده على خصلة سيّئة قد تصعب معالجتها فيما بعد.

       

إنّ هذه الممارسات ونحوها لا تشكّل مجرّد أخطاء تربوية، بل إنّها تعتبر خيانة للأمانة والمسؤولية الملقاة على عاتق الأهل إزاء أبنائهم.

 

4-  زجر المسيء بإكرام المحسن

       

ومن القواعد التربوية التي تفرضها الحكمة ويقتضيها منطق العدل ضرورة مراعاة الإنصاف في إكرام المحسن أو معاتبة المسيء من الأطفال، فكما لا يحقّ لنا أن نقلّل من جهود المحسن وإنّما يجدر بنا التنويه بإحسانه والإشادة بجهده، فإنّه ليس من الصحيح

تربوياً المبالغة في مدحه وإطرائه، لأنّ كثرة المدح تبعث على العجب بالنفس والغرور ما قد يؤدي إلى التكبّر على الآخرين وتحقيرهم، كما أنّ ذلك يضعف الهمّة والحافز في مواصلة النشاط واكتساب المعالي، وما نقوله في المحسن نقوله في المسيء أيضاً فإنّه

من غير الصحيح تركه دون لوم أو عتاب أو تأنيب، ولا المبالغة في عتابه كما سيأتي، لأنّ في كلا هذين السلوكين مفسدة تربوية غير خافية على البصير.

       

هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنّ المطلوب من الأهل والمربّين التعامل مع الطفل وفق مبدأ "زجر المسيء بإكرام المحسن"، ويستهدف هذا المبدأ التحذير من أخذ المحسن بجريرة المسيء أو مساواته به، كما هو يدين بعض الآباء والأمهات أو المربين الذين

يساوون بين المحسن والمسيء في الإكرام والاهتمام، أو التأديب والتأنيب، فلو أساء طفل من الأطفال فإنّهم يعمدون إلى ضرب الجميع ومعاقبتهم، وإذا أحسن أحدهم فإنّهم يكرمون المحسن والمسيء معاً، مع أنّ هذا التصرّف خاطئ في الحالتين، لأنّه يؤدي إلى

تشجيع المسيء على الإساءة وتزهيد المحسن في الإحسان، وهذا المبدأ التربوي ورد على لسان الإمام عليّ (ع) في عهده إلى مالك الأشتر لما ولاه مصر، قال (ع): "ولا يكوننَّ المحسن والمسيء عندك بمنزلةٍ سواء، فإنّ في ذلك تزهيداً لأهل الإحسان في

الإحسان، وتدريباً لأهل الإساءة على الإساءة وألزم كلاً منهم ما ألزم نفسه"(1)، وقال (ع) في نفس المضمون: "إزجر المسيء بثواب المحسن"(1) وعن الإمام الجواد (ع): "استصلاح الأخيار بإكرامهم والأشرار بتأديبهم"(2).

       

ولا يخفى أنّ لهذه القاعدة مدلولاً واسعاً يشمل الموظفين والإداريين والعمال وغيرهم.

 

5-  حزم في لين

        والمبدأ التربوي الآخر الذي يشكّل قاعدة تميّزت بها التربية الإسلامية وهي تعكس وسطية الإسلام واعتداله هو: مبدأ المزاوجة أو الموازنة بين الحزم واللين، فلا أسلوب التراخي مع الطفل والتغاضي الكلّي عن أخطائه أو الاستجابة لكل متطلّباته صحيح

من الناحية التربوية، ولا أسلوب التشدّد والصرامة والمحاسبة الدقيقة والمعاتبة المستمرة على كل صغيرة وكبيرة صحيح هو الآخر، بل أمر بين أمرين: فالطفل لا يُترك لشأنه ولا يهمل، بل لا بدّ أن يحاسب ويعاتب على أخطائه ويلام على تقصيره ويؤنّب على

تكاسله، فإنّ الإنسان لا يصلحه إلاّ الأدب ولا ينال المعلي أو يكسب الأخلاق الفاضلة إلاّ بالتهذيب والتنبيه والتوجيه، ولذا يجدر بالمربي والمعلّم الناجح أن يأخذ بالحزم، ويحافظ على مهابته، فلا يبتذل نفسه أمام الطفل أو التلميذ، ولا يرتكب ما يسقط توازنه

وتماسك شخصيته، وإلّا فَقَدَ دوره المؤثّر في النشاط التربوي، إلاّ أنّ هذا الحزم لا بدّ أن يكون مشوباً باللين والمداراة فلا يبلغ – أي الحزم – المستوى الذي يجعل من المربي أو الأب أو المعلّم شخصية حديدية ترتعد لرؤيته فرائص الطفل أو التلميذ، أو يغدو

مجرّد تذكره بمثابة كابوس مزعج يؤرق الطفل ويوتّر أعصابه.

 

6- عدم الإكثار من الإعتاب

       

وفي ضوء ذلك فإنّ من الحكمة بمكان تجنّب الإمعان في العتاب وترك الإكثار من اللوم والتأنيب في كل شاردة وواردة، فعندما يرتكب الطفل خطأ معيّناً فعلينا تنبيهه ومعاتبته لكن ليس من الصحيح أن نستمر في معاتبته وتذكيره وتعييره بالذنب أيّاماً وأسابيع،

فإنّ هذا قد يؤدي إلى عكس المطلوب، وقد أرشدت الروايات الواردة عن الأئمّة من أهل البيت (ع) إلى سلبيات هذا الأسلوب ومحاذيره، ففي الحديث عن عليّ (ع): "لا تكثرنَّ العتاب فإنّه يورث الضغينة ويجرّ إلى البغضة وكثرته من سوء الأدب واستعتب من

رجوت إعتابه"(1)، فالحديث – كما نلاحظ – لم ينه عن مبدأ العتاب بل عن الإكثار منه، معتبراً أنّ ذلك من سوء الأدب، وقد تنبّه الإمام الغزالي إلى هذا المعنى فقال: "إذا أخطأ الطفل مرة أو مرتين فليتغافل عنه كيلا يمتهن بردّ الفعل، خاصة إذا أخفى

ذلك، لأنّ كثرة اللوم قد تؤدي إلى اجترائه وقيامه بذلك الخطأ علناً"(2)، وهذا المبدأ قد سبق إلى التأكيد عليه أمير المؤمنين (ع) في الحكمة المنسوبة إليه: "إذا عاتبت الحَدَث فاترك له موضعاً من ذنبه، لئلا يحمله الإخراج على المكابرة"(3).

 

 

7- العتاب بين التصريح والتلويح

       

وينبغي أن يتنوّع أسلوب العتاب ويتناسب مع نوعية الخطأ وحجمه ومع طبيعة الولد المعاتب، فالخطأ الكبير يستدعي عتاباً مختلفاً عن الخطأ الصغير، والطفل الهادئ الحسّاس يكفيه التلويح بينما الطفل الشرس والمشاغب قد لا يكفيه التصريح، فلا يصحّ تربوياً

أن نتعامل مع الجميع بأسلوب واحد، ورد في الخبر عن أمير المؤمنين (ع): "إذا لوَّحت للعاقل فقد أوجعته عتاباً"(1)، وعنه (ع): "عقوبة العقلاء التلويح، وعقوبة الجهال التصريح"(2).

       

ومن روائع وصاياه في هذا المجال ما ورد عنه (ع) في وصيته لابنه الإمام الحسن (ع): "وأحسن للمماليك الأدب، وأقلل الغضب، ولا تكثر العتب في غير ذنب، فإذا استحق أحد منهم ذنباً فأحسن العدل، فإنّ العدل مع العفو أشدّ من الضرب لمن كان له عقل"(3).

 

8-  ترك التأديب عند الغضب

       

ومن القواعد الهامّة في الميدان التربوي ترك التأديب بكلّ أشكاله عند الغضب، لأنّه لا يؤمن والحال هذه من تجاوز الحدّ والوقوع في المحذور، فإنّ الإنسان لدى فورة الغضب يفقد توازنه وقدرته على السيطرة على نفسه أو التحكّم بأقواله وأفعاله، فربّما شتم

وضرب وأساء لنفسه وللآخرين من حوله وارتكب ما لا يمكن تداركه من الأخطاء ولا ينفع معه الندم، ولذا اعتبر الغضب واحداً من مصادر الخطأ في الشخصية الإنسانية في الفكر والعاطفة والسلوك، وفي هذا الصدد ورد في الحديث: "نهى رسول الله (ص)

عن الأدب عند الغضب"(1) وعن أمير المؤمنين (ع): "لا أدب مع غضب"(2).

       

إذن ينبغي للمربي والمعلّم أن يتجنّب التأديب في حالة الغضب، كما أنّ عليه أن لا يتسرَّع أو يتعجَّل في اتّخاذ قرار التأديب أو غيره، لأنّ العجلة أيضاً تشكّل مصدراً آخر من مصادر الخطأ لدى الإنسان، قال عليّ (ع): "المتأنّي مصيب وإنْ هلك والعجول مخطئ

وإنْ مَلَك"(3).

 

 

9- المبالغة في الرعاية مَفْسَدة

       

في الوقت الذي تعتبر رعاية الطفل والحنو عليه وملاحقته ومتابعته في كل حركاته علامة صحّة ودليل عافية ووعي، بل لا نبالغ بالقول: إنّها شرط أساسي في بلوغ العملية التربوية غاياتها المرجوة إلاّ أنّه لا بدّ من التنبيه إلى أنّه من غير السليم أن تتجاوز هذه

الرعاية الحدود المألوفة وإلاّ شكّلت عامل إعاقة أمام نموّ شخصية الطفل المستقلة المعتمدة على الذات، ليغدو إنساناً اتّكالياً ضعيف الثقة بنفسه وقدراته وغير قادر على مواجهة تحدّيات الحياة وصعوباتها، الأمر الذي يحتم على الأهل والمربين التعامل بوعي

وحكمة مع هذا الأمر، فليس من المجدي تربوياً الاستجابة لكلّ متطلبات الطفل أو تنفيذ كل رغباته، كما أنّه ليس من الصحيح غضّ الطرف عن كل أخطائه وسيّئاته لتمرّ دون عتاب أو حساب، ولعلّ من الضروري تكليفه ببعض الأعمال ليتحسّس المسؤولية

ويعتمد على نفسه بعيداً عن ذويه، ولعلّ هذا ما يشير إليه الحديث المروي عن الإمام الكاظم (ع): "تستحب عرامة الطفل في صغره ليكون حليماً في كبره"(1) فإنّ العرامة – على ما قيل – حمله على بعض الأمور الشاقة.

 

من كتاب: حقوق الطفل في الإسلام

تم نشر المقال في 2-2-2015

 



(1) الكافي: 2/86 ونحوه في السنن الكبرى للبيهقي: 3/18.

(2) الكافي: 6/50.

(1) نهج البلاغة: 3/41.

(1) الكافي: 8/93.

(2) بحار الأنوار: 2/56.

(1) عيون الحكم والمواعظ: ص 504.

(1) نهج البلاغة: 3/88.

(1) م.ن. ج4/42.

(2) كشف الغمة: ج3/142.

(1) بحار الأنوار: 17/166.

(2) كيمياء السعادة: 3/28-29 نقلاً عن تربية الطفل ص 80.

(3) عيون الحكم والمواعظ: 136.

(1) م.ن. ص: 339.

(2) تحف العقول لابن شعبة الحراني: 87.

(3) بحار الأنوار: 79/102.

(1) الكافي: 7/260.

(2) عيون الحكم والمواعظ: 531.

(3) المصدر نفسه ص 29.

(1) الكافي: 6/51.

 






اضافة تعليق

الاسم *

البريد الإلكتروني *

موضوع *

الرسالة *


 


 
  قراءة الكتب
 
    Designed and Developed
       by CreativeLebanon