حوار مع مركز أفاق للدراسات والأبحاث: مشكلة الأديان تتشكل في الخطاب الفقهي    ثمن الحرية    أمثل الأساليب في عمليّة تهذيب النفس    مزايا الشباب    العمل سرّ النجاح    العبادة وعيٌ وانفتاح لا جهل وانغلاق    اقتناء أصنام الأمم البائدة    المفاهيم الدينية بين وجوب الاعتقاد وحرمة الانكار    البناء الاعتقادي بين الاجتهاد والتقليد    
 
بحث
 
تكريم الإنسان
 
س » أنا طالب علم، لدي خوف من أن أتكلم بغير علم.. ما الحل؟
ج »

وعليكم السلام

لا بد لطالب العلم في مساره العلمي أن يتسلح بأمرين أساسيين:
الأول: الاستنفار العلمي وبذل الجهد الكافي لمعرفة قواعد فهم النص واستكناه معناه ودلالاته بما يعينه على التفقه في الدين وتكوين الرأي على أسس صحيحة.
الثاني: التقوى العلمية ويُراد بها استحضار الله سبحانه وتعالى في النفس حذراً من الوقوع في فخ التقوّل على الله بغير علم. ومن الضروري أن يعيش مع نفسه حالة من المحاسبة الشديدة ومساءلة النفس من أن دافعه إلى تبني هذا الرأي أو ذاك: هل هو الهوى والرغبة الشخصية أم أن الدافع هو الوصول إلى الحقيقة ولو كانت على خلاف الهوى.
أعتقد أن طالب العلم إذا أحكم هذين الامرين فإنه سيكون موفقاً في مسيرته العلمية وفيما يختاره من آراء أو يتبناه من موقف.

 
س » كيف علمنا أن الصحيفة السجادية ناقصة؟ وهل ما وجده العلماء من الأدعية صحيح؟؟
ج »

أقول في الإجابة على سؤالكم:

أولاً: إن الصحيفة السجادية في الأصل تزيد على ما هو واصل إلينا وموجود بين أيدينا، قال المتوكل بن هارون كما جاء في مقدمة الصحيفة: " ثم أملى عليّ أبو عبد الله (ع) الأدعية، وهي خمسة وسبعون باباً، سقط عني منها أحد عشر باباً، وحفظت منها نيفاً وستين باباً"، بيد أن الموجود فعلاً في الصحيفة الواصلة إلينا هو أربعة وخمسون دعاء. آخرها دعاؤه في استكشاف الهموم، وهذا آخر دعاء شرحه السيد علي خان المدني في رياض السالكين، وكذا فعل غيره من الأعلام.

ثانياً: إن سقوط عدد من أدعية الصحيفة وضياعها دفع غير واحد من الأعلام للبحث والتتبع في محاولة لمعرفة ما هو الضائع منها، وبحدود اطلاعي فإنهم عثروا على أدعية كثيرة مروية عن الإمام زين العابدين (ع)، لكنهم لم يصلوا إلى نتائج تفيد أن ما عثروا عليه هو من الأدعية الناقصة منها، ولذا عنونوا مؤلفاتهم بعنوان مستدركات على الصحيفة، ولم يجزموا أن ما جمعوه من أدعية هو الضائع من أدعية الصحيفة. وهذا ما تقتضيه الضوابط العلمية والدينية، فما لم يعثر الإنسان على نسخة قديمة موثوقة أو قرائن مفيدة للوثوق بأن هذا الدعاء أو ذاك هو من جملة أدعية الصحيفة فلا يصح له إضافة بعض الأدعية على الصحيفة بعنوان كونها منها.

ثالثاً: لقد ابتُلينا بظاهرة خطيرة، وهي ظاهرة الإضافة على الصحيفة أو غيرها من كتب الأدعية، وهذا العمل هو خلاف الأمانة والتقوى، وقد ترتّب على ذلك الكثير من المفاسد، وأوجب ذلك وهماً للكثيرين، فتوهموا أن بعض الأدعية هي جزء من الصحيفة السجادية المشهورة، ومردّ ذلك بكل أسف إلى أن مجال الأدعية والزيارات شرعة لكل وارد، وتُرك لأصحاب المطابع والمطامع! وأعتقد أن هذا العبث في كتب الأدعية والزيارات ناشئ عن عدم عناية العلماء بالأمر بهذه الكتب كما ينبغي ويلزم، كما نبه عليه المحدث النوري في كتابه "اللؤلؤ والمرجان" مستغرباً صمت العلماء إزاء التلاعب والعبث بنصوص الأدعية والزيارات مما يعدّ جرأة عظيمة على الله تعالى ورسوله (ص)!

رابعاً: أما ما سألتم عنه حول مدى صحة الأدعية الواردة بعد دعاء استكشاف الهموم، فهذا أمر لا يسعنا إعطاء جواب حاسم وشامل فيه، بل لا بدّ أن يدرس كل دعاء على حدة، ليرى ما إذا كانت قرائن السند والمتن تبعث على الحكم بصحته أم لا. فإن المناجاة الخمس عشرة بنظرنا لم تصح وربما كانت من وضع الصوفية، وقد أوضحنا ذلك بشكل مفصل في كتاب الشيع والغلو.


 
س » ابني المراهق يعاني من التشتت، وأنا جدا قلق ولا اعرف التصرف معه، ما هي نصيحتكم؟
ج »

التشتت في الانتباه في سن المراهقة مع ما يرافقه من الصعوبات هو في حدود معينة أمر طبيعي وظاهرة تصيب الكثير من المراهقين ولا سيما في عصرنا هذا.

وعلينا التعامل مع هذه المرحلة بدقة متناهية من الاستيعاب والتفهم والإرشاد والتوجيه وتفهم سن المراهق، وأن هذه المرحلة تحتاج إلى أسلوب مختلف عما سبقها.

فالمراهق ينمو لديه الإحساس بالذات كثيرا حتى ليخيل إليه أنه لم يعد بحاجة إلى الاحتضان والرعاية من قِبل والديه.

وبالتالي علينا أن نتعامل معه بأسلوب المصادقة "صادقه سبعا.." والتنبه جيدا للمؤثرات التي تسهم في التأثير على شخصيته واستقامته وتدينه، ومن هذه المؤثرات: الأصدقاء ووسائل التواصل الاجتماعي، فإن نصيبها ودورها في التأثير على المراهق هو أشد وأعلى من دورنا.

وفي كل هذه المرحلة علينا أن نتحلى بالصبر والأناة والتحمل، وأن نبتدع أسلوب الحوار والموعظة الحسنة والتدرج في العمل التربوي والرسالي.

نسأل الله أن يوفقكم وأن يقر أعينكم بولدكم وأن يفتح له سبيل الهداية. والله الموفق.


 
س » اعاني من عدم الحضور في الصلاة، فهل أحصل على الثواب؟
ج »
 
لا شك أن العمل إذا كان مستجمعا للشرائط الفقهية، فهو مجزئٌ ومبرئٌ للذمة. أما الثواب فيحتاج إلى خلوص النية لله تعالى بمعنى أن لا يدخل الرياء ونحوه في نية المصلي والعبادة بشكل عام.
ولا ريب أنه كلما كان الإنسان يعيش حالة حضور وتوجه إلى الله كان ثوابه أعلى عند الله، لكن لا نستطيع نفي الثواب عن العمل لمجرد غياب هذا الحضور في بعض الحالات بسبب الظروف الضاغطة على الإنسان نفسيا واجتماعيا.
لكن على الإنسان أن يعالج مشكلة تشتت الذهن أثناء العمل العبادي وذلك من خلال السعي الجاد للتجرد والابتعاد عن كل الهواجس والمشكلات أثناء الإقبال على الصلاة، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، باستحضار عظمة الله عز وجل في نفوسنا وأنه لا يليق بنا أن نواجهه بقلب لاهٍ وغافل. والله الموفق.

 
س » أنا إنسان فاشل، ولا أتوفق في شيء، وقد كتب عليّ بالخسارة، فما هو الحل؟
ج »

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

أولاً: التوفيق في الحياة هو رهن أخذ الإنسان بالأسباب التي جعلها الله موصلة للنجاح، فعلى الإنسان أن يتحرك في حياته الشخصية والمهنية والاجتماعية وفق منطق الأسباب والسنن. على سبيل المثال: فالإنسان لن يصل إلى مبتغاه وهو جليس بيته وحبيس هواجسه، فإذا أراد الثروة فعليه أن يبحث عن أسباب الثروة وإذا أراد الصحة فعليه أن يأخذ بالنصائح الطبية اللازمة وإذا أراد حياة اجتماعية مستقرة عليه أن يسير وفق القوانين والضوابط الإسلامية في المجال الاجتماعي وهكذا.

ثانياً: لا بد للإنسان أن يعمل على رفع معوقات التوفيق، وأني أعتقد أن واحدة من تلك المعوقات هي سيطرة الشعور المتشائم على الإنسان بحيث يوهم نفسه بأنه إنسان فاشل وأنه لن يوفق وأنه لن تناله البركة الإلهية.

إن هذا الإحساس عندما يسيطر على الإنسان فإنه بالتأكيد يجعله إنسانا فاشلا ومحبطا ولن يوفق في حياته ولذلك نصيحتي لك أن تُبعد مثل هذا الوهم عن ذهنك وانطلق في الحياة فإن سبيل الحياة والتوفيق لا تعد ولا تحصى.


 
س » ما هو هدف طلب العلم الذي يجب أن يكون؟
ج »

عندما ينطلق المسلم في طلبه للعلم من مسؤوليته الشرعية الملقاة على عاتقه ومن موقع أنه خليفة الله على الأرض، فإن ذلك سوف يخلق عنده حافزاً كبيراً للجد في طلب العلم والوصول إلى أعلى المراتب. أما إذا انطلق في تحصيله من موقع المباهاة أو إثبات ذاته في المجتمع أو من موقع من يريد أن يزين اسمه بالشهادة الجامعية ليُقال له "الدكتور" وما إلى ذلك، فإنه - في الغالب - لن يصل إلى النتيجة المرجوة.

وعلى كل إنسان منا أن يعي أنّنا في هذه الحياة مسؤولون في أن نترك أثراً طيباً، وأن نقوم بواجباتنا قبل أن يطوينا الزمان، إننا مسؤولون عن عمرنا فيما أفنيناه وعن شبابنا فيما أبليناه، وسنُسأل يوم القيامة عن كل هذه الطاقات التي منّ اللهُ بها علينا.

وأضف إلى ذلك، إنه من الجدير بالمسلم، أن لا يفكر في نفسه وما يريحه هو فحسب في طلبه للعلم، بل أن يفكر أيضاً في أمته والنهوض بها ليكون مستقبلها زاهراً، وهذا كله يحتم عليه أن يكون سقف طموحاته عالياً ليتمكن هو وأقرانه من الطلاب والعلماء من ردم الفجوة بيننا وبين الغرب الذي سبقنا على أكثر من صعيد.

باختصار: إن مسؤوليتنا ورسالتنا وانتماءنا لهذه الأمة يفرض علينا أن نعيش حالة طوارئ ثقافية وعلمية.


 
س » ما رأيكم في الاختلاط المنتشر في عصرنا، وكيف نحاربه؟
ج »

إنّ الاختلاط قد أصبح سمة هذا العصر في كثير من الميادين، ومنها الجامعات والطرقات والساحات وكافة المرافق العامة.. والاختلاط في حد ذاته ليس محرماً ما لم يفضِ إلى تجاوز الحدود الشرعية في العلاقة بين الرجل والمرأة الأجنبيين؛ كما لو أدى إلى الخلوة المحرمة بالمرأة أو مصافحتها أو كان المجلس مشوباً بأجواء الإثارة الغرائزية أو غير ذلك مما حرمه الله تعالى.

وفي ظل هذا الواقع، فإنّ العمل على تحصين النفس أولى من الهروب أو الانزواء عن الآخرين بطريقة تشعرهم بأن المؤمنين يعيشون العُقد النفسية. إن على الشاب المسلم أن يثق بنفسه وأن يفرض حضوره ووقاره، وأن يبادر إلى إقناع الآخرين بمنطقه وحججه، وأن يبيّن لهم أن الانحراف والتبرج والفجور هو العمل السيّئ الذي ينبغي أن يخجل به الإنسان، وليس الإيمان ومظاهر التدين.

وأننا ندعو شبابنا عامة وطلاب الجامعات خاصة من الذكور والإناث إلى أن يتزينوا بالعفاف، وأن يحصنوا أنفسهم بالتقوى بما يصونهم من الوقوع في الحرام.


 
س » كيف يمكن التخلص من السلوكيات والعادات السيئة؟
ج »

إن التغلب على السلوكيات الخاطئة أو العادات السيئة – بشكل عام – يحتاج بعد التوكل على الله تعالى إلى:

أولاً: إرادة وتصميم، ولا يكفي مجرد الرغبة ولا مجرد النية وانما يحتاج بالإضافة إلى ذلك إلى العزم والمثابرة وحمل النفس على ترك ما اعتادته.

ثانياً: وضع برنامج عملي يمكّن الإنسان من الخروج من هذه العادة السيئة بشكل تدريجي؛ وأرجو التركيز على مسألة "التدرج" في الخروج من هذه العادات السيئة؛ لأن إدمان النفس على الشيء يجعل الخروج منه صعباً ويحتاج إلى قطع مراحل، وأما ما يقدم عليه البعض من السعي للخروج الفوري من هذه العادة، فهو - بحسب التجربة - سيُمنى في كثير من الأحيان بالفشل. والله الموفق


 
 
  مقالات >> اجتماعية
الأطفال ونزعة العنف
الشيخ حسين الخشن



الأطفال ونزعة العنف

 

        لماذا قد يجنح الطفل أحياناً إلى ممارسة العنف؟ ما هي أسباب ذلك وما هو السبيل لترويض هذه النزعة وتهذيبها؟ وهل صحيح أن الميل إلى العنف والإجرام نزعة متأصّلة لدى النفس الإنسانية؟

 

        الطفل وصفاء الفطرة

 

        لا يسعنا الموافقة على المنطق القائل أن لعنف نزعة فطرية متأصّلة لدى النفس الإنسانية كما يلوح من قول المتنبي:

                        والظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفّة فلعلّة لا يظلم

 

        بل إنّنا نؤمن ونعتقد أن الطفل يحمل في تكوينه فطرة صافية ذات قابليات مختلفة ومتضادة، فهي مؤهلة لاختزان كل ما يلقي إليها من مبادئ الخير أو عناصر الشرّ، تماماً كالأرض الخصبة في قابليتها لتقبّل كل ما يبذر فيها من ورد أو شوك، أو كالعجينة

الليّنة القابلة للتشكّل بصورٍ عديدة ومختلفة، قال رسول الله (ص) فيما روي عنه: "كل مولود يولد على الفطرة وإنّما أبواه يهودّانه أو ينصرانه أو يمجسانه"(1)، وعلى ذلك فنزعة الشرّ لدى الإنسان نزعة مكتسبة وليست فطرية متأصلة، قال تعالى: {إِنَّا

هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان:3]، وما نصّ عليه الكتاب والسنّة أكّدته مسيرة التجربة التربوية، فإنّها قد أثبتت أنه ليس هناك أطفال يستعصون على الترويض والتهذيب.

 

 

        السعيد سعيد في بطن أُمّه

 

        وعلى ضوء ما تقدّم فلا يمكننا الموافقة على إطلاق الحديث عن وجود مجرمين بالفطرة كما يقول بعض الناس، وأما ما قد يتمسك به البعض لتأكيد الفكرة من خلال قول النبيّ (ص) فيما رواه أبو هريرة: "السعيد من سعد في بطن أُمّه والشقي من شقي

في بطن أُمّه"(1)، فهو على فرض صحّته وعدم كونه من الموضوعات كما احتمله بعض الفقهاء(2)، ليس بصدد تأكيد أنّ السعادة أو الشقاء أمر ذاتي للإنسان بل يراد به الإشارة إلى أنّ الله تعالى يعلم بسعادة السعيد وشقاوة الشقي حتى وهما في بطن

أمهما، وهذا التفسير للحديث جاء على لسان الإمام الكاظم (ع) فيما روي عنه، فقد سئل عن معنى قول رسول الله (ص): "الشقي من شقي في بطن أُمّه والسعيد مَن سعد في بطن أُمّه؟ فقال: الشقي من علم الله وهو في بطن أُمّه أنّه سيعمل عمل الأشقياء

والسعيد من علم الله وهو في بطن أُمّه أن سيعمل أعمال السعداء"(3) وعلاوة على ما تقدّم فإنّه لو كانت السعادة والشقاء ذاتيين ولا محيص للإنسان عنهما ولا اختيار له في قبالهما "لزم هدم أساس الشرائع والأديان وغدا بعث الرسل وإنزال الكتب لغواً

ولا تترتّب عليه أيّة فائدة، كما أن الوجدان حاكم باختيار الإنسان وأنه ليس في ذاته ما يجبره على المعصية أو الكفر أو الطاعة والإيمان، ولذا نرى شخصاً واحداً يكون شقياً في أول عمره ثم يصبح سعيداً في آخره أو بالعكس، فلو كانت السعادة والشقاء ذاتيين

فكيف يعقل تغيّرهما؟"(1)، وممّا يؤكد بطلان فكرة ذاتية السعادة والشقاء وجبريتهما أنه لو كان الأمر كذلك لكان تعذيب الكافر والعاصي وإثابة المؤمن الطائع قبيحاً، لعدم اختيار ذاك الكفر والعصيان ولا هذا للإطاعة والإيمان، وكيف يجوز في عدله تعالى

أن يعاقب الإنسان على ما خلقه عليه ولا مفرّ منه؟! إن هذا لا ينسجم مع مبادئ العدل والإنصاف والحكمة.

 

 

        في الأسباب

 

        وإذا ثبت أن نزعة العنف ليست متأصّلة ولا ذاتية لدى الإنسان فيقع السؤال عن كيفية اكتسابها وسرّ جنوحه – لاسيما الطفل – إليها؟

 

        يمكننا القول: إنّ عوامل جنوح الطفل نحو العنف تعود – في الغالب – إلى تأثيرات البيئة وسوء التربية، دون أن نلغي الأسباب السياسية والأمنية والاقتصادية، وإليك التفصيل:

 

        الفقر: يشكّل الفقر عاملاً رئيسياً وراء اندفاع الطفل نحو الجريمة والعنف، إما بدافع السرقة وتأمين لقمة العيش وسدّ الرمق، وإمّا للانتقام من المجتمع بفعل القهر وما يولّده لديه من حنق ويأس يتفجّر في وجه الآخرين، ولهذا شنَّ الإسلام حملة شاملة على

الفقر وصانعيه، وقال عليّ (ع) كلمته الشهيرة: "لو كان الفقر رجلاً لقتلته" وقال رسول الله (ص): "كاد الفقر أن يكون كفراً"(1).

 

        التفكُّك الأسري: والعامل الآخر الذي لا يقل أهمية عن سابقه هو تفكّك الأسرة وتشرذمها، فإنّ الأرقام تشير إلى أنّ النسبة العالية من الأطفال الذين يدخلون إصلاحات الأحداث هم أبناء أُسَرٍ أصابها التفكّك نتيجة الطلاق أو الشقاق أو موت أحد الأبوين،

فالخلافات الأسرية تؤثر سلباً على استقرار الطفل وتخلق لديه الكثير من الاضطرابات النفسية والعقد النفسية وسرعان ما يتحوّل ذلك إلى اضطرابات سلوكية ومشاعر عدائية.

 

        رفاق السوء: من الثابت أن الصحبة تعدي وتُكسب الإنسان طباعاً وأخلاقاً جديدة، ولذا يجدر بالمرء أن لا يتساهل في اختيار صحبته ورفقته، وعليه أن يرشد أبناءه إلى اختيار الطيبين والابتعاد عن رفاق السوء، قال الإمام عليّ (ع): "صحبة الأخيار

تكسب الخير كالريح إذا مرّت بالطيب حملت طيباً، وصحبة الأشرار تكسب الشرّ كالريح إذا مرَّت بالنتن حملت نتناً"(2).

 

        التقليد والمحاكاة: ومن هذه العوامل أيضاً تقليد الطفل للآخرين ومحاكاته لتصرفاتهم ابتداءً من أبويه وأخوته إلى سائر الناس، وإنّ نزوع الطفل نحو تقليد الآخرين ليس بالأمر السيء في حدّ ذاته، بل إنّ ذلك هو سرَّ نمو قدراته وتراكم معارفه، بيد أنّ

المشكلة تكمن في افتقاره أحياناً لقدوة صالحة تأخذ بيده نحو الأخلاق الفاضلة، أو ابتلائه بنماذج سيّئة من حوله كوالدٍ يمارس العنف في بيته تجاه زوجته وأبنائه، أو أخ كبير يضرب إخوته الصغار، فأمام هذه المشاهد فإنّ الطفل سوف يألف العنف ويعتاد

الجريمة ويقوم بممارسة ما رأته عيناه وتجسيده مع أخوته الصغار ومن ثم مع الآخرين، وإنّ لأفلام الجريمة والعنف التي تعرض على شاشات التلفزة أو غيرها من وسائل الإعلام دور كبير في نشر ثقافة العنف وغرسها في أذهان الصغار فهي تساهم في تربية

جيل من الأطفال على الروح العدائية، ومع الأسف فإنّ الطفل في هذه الأيام يمضي قسطاً كبيراً من وقته أمام الشاشة الصغيرة دون رقيب أو حسيب ما جعل لهذه الشاشة تأثيراً مباشراً على سلوكيات الطفل وعاداته أكثر من تأثير ذويه أو مدرسته عليه.

 

 

        ولو عدنا بالذاكرة إلى الوراء قليلاً وبالتحديد إلى سنة 1998م أمكننا استحضار قصة معبرة في هذا المجال، وحاصلها: أنه وبعدما بثّت وسائل الإعلام في نشرات الأخبار مشاهد إعدام رجلين لبنانيين شنقاً في ساحة إحدى البلدات وشاهد ذلك الصغار

والكبار، طالعتنا الصحف في الأيام التالية بخبرين مفادهما: أن بعض الأطفال قاموا – في حادثين منفصلين أحدهما في الجنوب والآخر في البقاع – بتقليد ما شاهدوه وحاولوا شنق رفيق لهم أو زميل في المدرسة(1).

 

 

        في الوقاية

 

        إنّ الخطوة الأولى في وقاية الطفل من نزعة العنف تكمن في العمل الجادّ على محاصرة أسبابها الآنفة وإيجاد بيئة اجتماعية وثقافية ملائمة تغرس في الطفل قِيَم المحبة والرفق، وتُكَرِّه إليه كل أشكال العنف وتوفِّر له الأمن في أسرته وما يحتاجه من

عطف وحنوٍ ليشعر بالأمن ويحمل المحبة للآخرين، وفي هذا الصدد يوصي الإسلام بضرورة اجتناب كل أشكال العنف في المجال التربوي، لأنّ العنف يولِّد العنف والكراهية، ففي الحديث عن أم الفضل – زوجة العباس بن عبد المطلب – وهي مرضعة

الحسين (ع) قالت: أخذ مني رسول الله (ص) حسيناً أيام رضاعه فحمله فأراق ماءً على ثوبه، فأخذته بعنفٍ حتى بكى، فقال (ص): مهلاً يا أم الفضل إنّ هذه الإراقة الماء يطهِّرها فأي شيء يزيل الغبار عن قلب الحسين (ع)؟"(1).

 

 

        ومن الآداب الإسلامية النافعة في هذا المجال ما ورد في النصوص من إبعاد الولد عن بعض المهن التي قد تورث قساوة القلب، كما هو الحال في مهنة الذباحة، ففي الحديث عن الإمام الكاظم (ع) قال: جاء رجل إلى النبيّ (ص) فقال: يا رسول الله قد

علَّمتُ ابني هذا الكتابة، ففي أي شيء أسلمه؟ فقال (ص): أسلمه لله أبوك ولا تسلمه في خمس: وذكر منها أن يجعله قصاباً، وعلِّل إبعاده عن هذه المهنة بالقول: "فإنّه يذبح حتى تذهب الرحمة من قلبه"(2)، وعن إسحاق بن عمار قال: دخلت على أبي

عبد الله (ع) فخبَّرته أنّه ولد لي غلام، قال: ألا سميته محمداً؟ قلت: قد فعلت.. إلى أن قال: "ولا تسلمه جزاراً فإنّ الجزار تسلب منه الرحمة"(1).

 

        وورد هذا المعنى في صحاح أهل السنّة أيضاً(2).

 

        ومن التعاليم ذات الدلالة الرمزية في هذا المجال: ما ورد في الروايات من كراهة وضع الموس أو السكين تحت رقبة الصبي، رفضاً لتقليد جاهلي كان سائداً عند العرب، ففي الحديث عن الإمام الصادق (ع) عن أبيه: أنّ علياً (ع) "رأى صبياً تحت رأسه

موس من حديد فأخذها فرمى بها وكان يكره أن يُلبس الصبي شيئاً من الحديد"(3).

 

من كتاب "حقوق الطفل في الإسلام"

تم نشر المقال على الموقع في 5-3-2015

 

 



(1) راجع صحيح البخاري: 2/104. وقال المفيد بشأن هذه الرواية بأنّ العامة والخاصة تلقوها بالقبول، راجع تصحيح الاعتقاد ص 16.

(1) كنز العمال: 1/107. وصفه العجلوني في كشف الخفاء: 1/452 بالصحة.

(2) نهاية الأفكار: 1/171.

(3) التوحيد للصدوق: 356.

(1) هذا ملخص ما أفاده السيد الخوئي في محاضراته الأصولية كما في تقريرات درسه: 2/109.

(1) الكافي: 2/307.

(2) عيون الحكم والمواعظ ، ص: 304.

(1) راجع أوضاع الأطفال في لبنان: 1993-1998، ص 225.

(1) مستدرك الوسائل: 2/755.

(2) تهذيب الأحكام: 6/362.

(1) المصدر نفسه: 6/362.

(2) راجع سنن أبي داوود: 2/131.

(3) وسائل الشيعة: 21/430، الباب 49 من أبواب أحكام الأولاد الحديث 1.

 






اضافة تعليق

الاسم *

البريد الإلكتروني *

موضوع *

الرسالة *


 


 
  قراءة الكتب
 
    Designed and Developed
       by CreativeLebanon