الطفل والتربية الدينية
الشيخ حسين الخشن
الطفل والتربية الدينية
قد لا يهتم الكثير من الناس بشأن التربية الدينية لأبنائهم بالقدر الذي يولونه للتربية البدنية أو الصحية أو النفسية أو الاجتماعية أو الثقافية، مع أنّ انتماء الإنسان للإسلام أو أي دين آخر يحتّم عليه أن يوائم ويوفّق بين سلوكه الشخصي وتعاليم هذا الدين،
وأن يهيّئ ابنه ويعدّه لتقبّل الدين الذي اقتنع به، أو على الأقل يطلعه على عقائده ومبادئه ورؤيته للعالم، وقد أقرّت بعض المعاهدات الدولية بحق الآباء والأوصياء الشرعيين في تربية الأولاد وفقاً لعقيدتهم الدينية، وإن لم تشر إلى ذلك اتفاقية حقوق الطفل
مقتصرة على احترام دور الوالدين في تربيته.
وصحيح أن الولد قبل البلوغ مرفوع عنه القلم إلاّ أن ذلك لا يعفي ذويه من المسؤولية والعمل على تهذيبه وتحصينه وتزويده بمختلف المعارف وعلى رأسها المعارف الدينية، بل إنّ الإسلام يحمّل المرء مسؤولية شرعية في حفظ نفسه وعياله من
الانحراف والابتعاد عن دين الله سبحانه وخطّ الأنبياء والمرسلين، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6]، ولذا فإنّ التربية الدينية كغيرها من أنحاء التربية يفترض أن تواكب الطفل منذ سني عمره الأولى
التي يأخذ فيها بالتمييز والتعرّف على الأشياء والسؤال عن أسباب وما ورائيات الأحداث والأمور ذات البعد الديني أو التي لها تفسير ديني، من قبيل السؤال عن الخالق أو الموت وما بعده.
-
دور الدين في العملية التربوية
وربّما يتساءل البعض: ما هو دور الدين في المسألة التربوية وتحديداً في تربية الأطفال وتهذيبهم؟ ألاَ يعتبر إدخال الدين في العملية المذكورة إقحاماً للطفل في أمور تتجاوز طاقته وتفوق عقله وفهمه، وربما كان لذلك مضاعفات سلبية على صحّته الجسدية
والنفسية والعقلية وعلى المجتمع من حوله؟
في المقابل يرى الكثيرون أنّ الدين في مفاهيمه المتنوعة ورسالته الأخلاقية يساهم بشكل كبير في تربية الطفل وتهذيبه خلقياً وروحياً دون أن يترك تأثيرات سلبية على وضعه النفسي والعقلي.
هل المفاهيم الدينية خطر على الطفل؟
في البدء نتوقّف عند الرأي القائل: إنّ المفاهيم الدينية – سواءً العقائدية منها كبعض المفاهيم أو التصورات المرتبطة بيوم القيامة وأهوالها والقبر وعقباته، أو الشرعية كتلك المتصلة بالنظرة إلى الآخر مما يدخل في إطار التكفير والتفسيق والتضليل – تمثّل في
حدّ ذاتها وطبيعتها ثقلاً وعبئاً ضاغطاً على عقل الطفل وصحته النفسية والجسدية، كما أنّها تنمّي لديه مشاعر الحقد والكراهية، الأمر الذي يفرض إبعاد تلك المفاهيم والتصورات عن المجال التربوي، وينطلق هؤلاء في تأكيد وجهة نظرهم هذه من بعض
التجارب الخاطئة والنماذج السلبية في أكثر من مجال ويشيرون إلى بعض المناهج التعليمية التي تتضمّن أفكاراً تكفيرية إقصائية.
إلاّ أن تقديم موقف حاسم في هذه القضية مرتبط بتحديد الموقف إزاء دور الدين في الحياة الإنسانية في شتّى أبعادها التربوية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فهل أن دور الدين في هذه المجالات دور هامشي؟ أو أنّه يقع في صلب الحياة ويعتبر المحرّك
الأبرز لها؟
إنّ الذي تعتقده شريحة واسعة من أتباع الرسالات السماوية ومنهم المسلمون أنّ للدين دوراً أساسياً وليس هامشياً في تنظيم الحياة الإنسانية، وأنّ الله أرسل الرسل وأنزل معهم الكتب بغرض هداية الإنسان وسوقه نحو الكمال، فالعملية التربوية هي في
صلب اهتمامات الدين وعلى رأس أولوياته ومقاصده، وقد قال (ص) فيما روي عنه: "إنّما بعثت لأُتمم مكارم الأخلاق"(1)، وعلى ضوء اعتقادهم هذا، فهم يرون أنّ السبيل الأفضل وربما الوحيد وأن الطريقة المثلى وربّما المتعيّنة في العملية التربوية تتمثّل
في اعتماد المناهج المرتكزة على المبادئ الأخلاقية الدينية، لأنّ الدين بنظرهم يشكّل طاقة روحية تربوية وأخلاقية تدفع الإنسان إلى فعل الخيرات وتجنّبه الشرور وتعصمه من الشذوذ والانحراف وتمنحه التعقّل والتصبّر وتنمّي قدراته وطاقاته العقلية والجسدية.
هذا هو رأي واعتقاد جماعة المؤمنين وقد يشاطرهم الرأي نفسه – وإن لم يشاطرهم الاعتقاد عينه – ولو بشكل جزئي الكثير من العلمانيين الذين يقصون الدين عن الساحة السياسية والتشريعية، حيث لا ينكر هؤلاء بأنّ ثمّة دوراً يمكن أن يلعبه الدين في
المجال التربوي والأخلاقي، بل ربّما حصروا نطاق الدين ووظيفته بخصوص الدائرة الأخلاقية.
والاعتقاد المذكور وإنْ لم يكن – بنظرنا – كافياً في نجاح المسيرة التربوية ووصولها إلى غاياتها، لأنّ للنجاح شروطاً أخرى تتجاوز الاعتقاد المجرّد والشعارات الاستهلاكية الفضفاضة، وأهم هذه الشروط هو العمل على ترجمة هذا الاعتقاد إلى برامج
ومناهج تربوية، وهذا بدوره يحتاج إلى جهد تأصيلي فقهي وتربوي يدرس الموضوع من كل جوانبه ويلاحق المستجدات، بيد أنّه ومع غضّ النظر عن القصور الملحوظ في هذا المجال، وبصرف النظر أيضاً عن مسألة إيمانهم أو عدم إيمانهم بالله ورسله وكتبه
واليوم الآخر، فإنّه يفترض بعلماء التربية أخذ الدين بنظر الاعتبار في العملية التربوية، لا لكونه عقيدة يؤمن بها مئات الملايين من البشر فحسب، بل لأنّ بالإمكان – أيضاً – توظيفه بشكلٍ وبآخر في بناء الشخصية الإنسانية وتهذيبها وترويضها من كلّ
النزعات الشريرة؟
وفي اعتقادي، أنه لا ينبغي أن يتردّد علماء التربية والمهتمين بها في الاستفادة من المفاهيم الدينية في هذا المجال بالنظر إلى دورها الكبير وقدرتها على التغيير.
لغة الأرقام تتكلّم
وممّا يعزّز صحة الاعتقاد المتقدّم هو التجربة الإنسانية والواقع العملي، فإنّنا لو أجرينا مقارنة دقيقة بين الآثار والنتائج السلبية للمناهج التربوية التي أبعدت الدين وقيمه عن العملية التربوية، سواء في المدرسة أو الأسرة، وبين النتائج السلبية للمناهج التي
تعتمد التربية الدينية، لوجدنا أنّ الكفّة الأولى هي الراجحة، فهذه هي الوقائع والأرقام تتحدّث بأنّ مستوى الجريمة والانحراف الخلقي في المدارس الغربية التي ترفض اعتماد التربية الدينية مرتفع جداً بالقياس إلى المدارس التي تعتمدها، كما هو الحال في
المدرسة الإسلامية، ولو أنّنا أخذنا العالم الإسلامي مثالاً وراجعنا إحصاءات الجريمة فيه على مدار السنة لوجدنا أنّ نسبة الجريمة تنخفض إلى أدنى مستوياتها في شهر رمضان المبارك، لما للصوم من تأثير معنوي وروحي على نفوس المسلمين، وإذا أخذنا
بنظر الاعتبار أن بالإمكان إصلاح المناهج التربوية الدينية من بعض الشوائب التي علقت بها فسوف ترتفع أسهم الداعين إلى اعتماد التربية الدينية في العملية التربوية.
تطهير البرامج التعليميّة
ولعلّ أولى تلك الشوائب والسلبيات هو ما تمّت الإشارة إليه في مستهل الحديث من احتواء بعض المناهج الدينية التعليمية على لغة التحريض ومنطق التكفير، ممّا لا يمكننا القبول به، فنحن عندما نحثّ وندعو إلى إدخال التربية الدينية في المسألة التعليمية
أو استثمار القِيَم الدينية الأخلاقية في هذا المجال لا ننكر بأنّ ثمّة مناهج دينية معيّنة منتشرة في بعض البلدان الإسلامية بحاجة إلى إصلاح وتغيير، ولا يمكن القبول بها، لأنّها تحضّ على العنف وتنشر ثقافة الحقد والكراهية وتربّي الطلاب على تكفير الآخر
وتضليله وتحليل دمه وماله وعرضه، اعتماداً على رؤية ضيقة في فهم الدين وقراءات مجتزئة وحرفية لبعض نصوصه، بعيداً عن الفهم المتكامل للدين ومقاصده وآفاقه الرحبة.
إنّ هذه الثقافة المذهبية الضيقة عندما يتم غرسها في نفوس الأطفال والتلاميذ فمن الطبيعي أن تنتج أجيالاً من الجماعات التكفيرية الإقصائية التي تنتهج العنف سبيلاً وتعتمد الحقد والكراهية منهجاً وسلوكاً.
إنّ المذهبية الفكرية أو الفقهية لا تمثّل مشكلة بحدّ ذاتها، بل إنّها كانت ولا تزال عامل ثراء وغنى للفكر والفقه الإسلاميين، وإنّما المشكلة في المذهبية عندما تتحوّل إلى عصبية مقيتة وعشائرية جاهلية.
الدين كعنصر أمان
إنّ الدين وفي وسط هذا الفراغ الروحي والقلق النفسي الذي يجتاح الإنسان المعاصر يشكّل في مفاهيمه النقية عنصر أمن وعامل اطمئنان، يمنح الإنسان سلاماً داخلياً واستقراراً نفسياً {أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] كما ويمنحه سلاماً
واستقراراً اجتماعياً من خلال تعاليمه التي تدعو إلى التراحم والتحابّ ونبذ الفرقة والعنف، وتحثّ على التواصل ومدّ يد العون والمساعدة للآخرين، يقول عليّ (ع): "الإيمان أمان"(1) ويقول الفيلسوف الدوس هكسلي: "لا تستريح البشرية حتى يتجرّد
الإنسان من عوائقه ونزعاته ولا يكون متجرّداً إلاّ إذا ارتبط برباط آخر ألاَ وهو الله"(2)، ويرى عالِم النفس السويسري كارل بونج "أن انعدام الشعور الديني يسبّب كثيراً من مشاعر القلق والخوف من المستقبل والشعور بعدم الأمان والنزوع نحو النزعات
المادية البحتة، كما يؤدي إلى فقدان الشعور بمعنى ومغزى هذه الحياة ويؤدي ذلك إلى الشعور بالضياع"(1).
-
كيف تقنع ابنك بالإسلام عقيدة وشريعة؟
يتساءل الكثير من المؤمنين: كيف أقنع ابني بالإسلام والعقائد الإسلامية؟ كيف أُحبِّبه بالصلاة والصيام وارتياد المساجد؟ ما هي الوسيلة الفضلى في إقناع الفتاة بارتداء الحجاب في وسط محيط يضجّ بالسفور؟ كيف وكيف...؟
والجواب إنّ عملية الإقناع ليست بالمسألة السهلة أو اليسيرة كما يخيّل للكثيرين فهي تحتاج إلى مهارات عديدة وكفاءات متنوعة ومواكبة مستمرة لمختلف المستجدات التي تؤثر على عقل وعواطف مَنْ نحاول إقناعه وبخاصة الطفل، ولذلك فهي تستدعي
باستمرار تطوير الأساليب وتجديد الخطاب، وبدون ذلك، فلن يتسنّى للمسألة التربوية أن تؤتي أكلها وتبلغ غاياتها المرجوة، وقد تكلمنا سابقاً بشيء من التفصيل عن أهم القواعد والأساليب التي تلزم مراعاتها في العملية التربوية، ونشير هنا إلى بعض الأساليب
التي ينبغي اعتمادها في مسألة التربية الدينية.
أ – برهان ووجدان:
ويأتي على رأس تلك الأساليب الإقناعية محاولة تقديم العقائد والشعائر بطريقة مبرهنة ومبسطة، بعيداً عن خطاب التعقيد ومنطق التعبّد الذي يقفل باب النقاش الحر، فالطفل مفطور على حبّ المعرفة والسؤال وتفّهم الأمور، وعلى المربي أن يصغي إلى
أسئلته ويتقبّل مناقشاته بصدر مفتوح دون تبرم، مهما كانت – هذه الأسئلة – محرجة وصعبة، فهو قد يسأل عن طبيعة الخالق ومكانه وشكله ومَنْ خلقه؟ إلى غير ذلك من الأسئلة، ووظيفتنا بذل الجهد للإجابة عليها بطريقة إقناعية برهانية لا إسكاتية تعبدية،
ومن الخطأ محاولة تجاهل أسئلته واهتماماته الفكرية ومشاغله الذهنية أو الوقوف من ذلك موقف اللامبالاة، أو محاولة إنكار الوقائع والحقائق التي يصعب مواجهة الطفل بها، لأنّها تدخل في دائرة المحظور الاجتماعي (العيب) أو لغير ذلك من الأسباب.
إنّ المطلوب في مثل هذه الحالات التعامل بحذر ودقّة ومسؤولية مع أسئلة الطفل دون خداع أو كذب أو إنكار للحقائق والوقائع.
ب ــــ الحكمة والتبشير
ومن أهم هذه الأساليب ضرورة اعتماد أسلوب التبشير لا التنفير، خلافاً لما يقع فيه الكثير من المربين والدُعاة المسلمين في أسلوبهم التربوي والوعظي حيث إنّهم يبالغون – ربّما عن حسن نيّة وبدافع الحرص – في تخويف الطفل من عذاب الله وناره
المستعرة التي أعدَّها للعصاة الذين اقترفوا بعض الذنوب، ويملأون ذهنه بصور مرعبة ومخيفة عن الله سبحانه وتعالى حتى ليخاله جزّاراً أو سفّاكاً يتلذّذ بتعذيب خلقه، ومن الطبيعي أن ينفر هذا الطفل – عندما يستمع إلى أوصاف نار جهنم وأهوالها وعقابات
القبر ووحشته وضغطته – من الدين وأهله، وربّما أصيب ببعض العُقَد والأمراض النفسية ممّا يؤثّر بشكل سلبي على استقراره وتوازنه النفسي والاجتماعي، إنّ المشكلة لا تكمن في تلك المفاهيم أو العقائد بل في أسلوب عرضها وتقديمها للطفل، ومع الأسف فقد
وقع بعض الأطفال – كما حدّثنا ذووهم – ضحايا الخطاب التخويفي التهويلي التنفيري وأصيبوا بحالات من الهلع والهستيريا أو الأمراض النفسية، تماماً كما ابتلي بعض الأطفال والشباب بمرض الوسوسة في قضايا الطهارة والنجاسة والصلاة وأذكارها، بفعل
خطأ تربوي منطلق من عقلية الاحتياط التي تبالغ في تحذيرهم من أي خلل في هذه الأمور، وتحملهم على اعتماد الدقة المتناهية والهندسية في هذه المسائل أو سواها وإلاّ بطلت عباداتهم وأعمالهم، وتوجب عليهم إعادتها وقضاءها وإلاّ استحقوا غضب الله
وعقابه!
إنّ الخطاب الديني يمكنه أن يكون خطاباً تربوياً ناجحاً بامتياز، شريطة أن يعتمد أسلوب التبشير لا التنفير وأسلوب الترغيب قبل الترهيب والوعد قبل الوعيد، انطلاقاً من قول الله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ
فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186]، وانسجاماً مع قول النبيّ (ص): "بشّروا ولا تنفروا، يسّروا ولا تعسّروا"(1)، وإذا كان رسول الله (ص) يقول: "إنّا معاشِرَ الأنبياء أُمِرْنا أن نُخاطِبَ الناس على قدر عقولِهم"(2) فعلينا أن
نستفيد من ذلك درساً بليغاً في تربية الأطفال بما يناسب عقولهم وأفهامهم.
إنّ الإسلام يدعونا إلى اعتماد أسلوب الحكمة واللين والتبشير مع كافة الناس، فكيف بالأطفال الذين يملكون حسّاً مرهفاً أكثر من سواهم، الأمر الذي يفرض تحاشي الخطاب التنفيري معهم، لأنّه قد يترك ردات فعل عكسية ويخلق لديهم الكثير من التوترات
النفسية، ولنا في خطاب لقمان لابنه عبرة وموعظة في هذا المجال، حيث قال له وهو يعظه ويحذره من أخطار الشرك: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13] والملحوظ في هذه الآية:
أولاً: إنّ لقمان خاطب ابنه بعبارة "يا بني" وهي عبارة محبَّبة ومحبِّبة، ومشحونة بالعطف والمحبة والرقة، بما يفتح قلب الإبن وعقله للاستماع إلى كلام أبيه ونصيحته ومواعظه.
وثانياً: إنّ نهيه له عن الشرك بالله جاء معلّلاً ومفسَّراً بأنّ الشرك يمثّل ظلماً عظيماً وتعدّياً على حقّ الخالق عز وجلّ، ولم يكن نهياً تعبدياً محضاً.
وإذا كان الله سبحانه قد أمر موسى وهارون (ع) أن يخاطبا فرعون بالكلام الليّن: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى*فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:43 ــــ44]، فالأولى أن يأمرنا بمخاطبة الأطفال ودعوتهم إلى تمثل القيم الدينية بالكلام اللين
المحبّب، كي لا يشعر الطفل أنّ العقائد الدينية والتكاليف الشرعية تمثّل عبئاً عليه يثقل كاهله ويرهق أعصابه.
وفي هذا المجال أرى من الضروري التنبيه على خطأ فادح ترتكبه بعض المؤسسات التعليمية والمدارس عندما تقرّر جعل حصة التربية الدينية أو درس القرآن الكريم في أوقات فراغ التلامذة أو فرصتهم أو بعد الدوام، بحيث يشكّل هذا الدرس عبئاً ثقيلاً
عليهم ويجعلهم من حيث يشعرون أو لا يشعرون ينفرون من المادة نفسها (أي القرآن أو درس التربية الدينية) لأنّها بالنسبة لهم مادة ثقيلة تقتحم عليهم راحتهم وتزعجهم في أوقات فراغهم ولهوهم.
ج ــــ ربط الطفل بالمثل الأعلى الصالح
إنّ الإنسان بشكل عام والطفل بشكل خاص ينشدّ إلى محاكاة الغير وتقليده، ولذا فهو باستمرار يفتّش عن مثل أعلى يحاول الاقتداء به، إنّ هذا ميل فطري ولا يجوز للعملية التربوية تجاهله أو التغاضي عنه، بل عليها استثماره وتوجيهه لربط الطفل بالمثل
الصالح وإبعاده عن النماذج الفاسدة.
وهذا الأمر لا يقع على عاتق العملية التربوية فحسب، وإنّما يحتاج إلى تضافر جهود التربويين والإعلاميين وأهل الفن والأدب وعلماء الدين وغيرهم في سبيل تقديم المثل الأعلى الملائم لأبنائنا، وإبعادهم عن المثل العليا المزيفة التي يعمل الآخرون على
صناعتها وتقديمها للجيل الناشئ من خلال الوسائل الإعلامية والفنية والأدبية وغيرها، إنّ هذه الوسائل التي يديرها الآخرون بحرفية ومهنية عالية تساهم في تكوين ثقافة أجيالنا وبناء شخصيتهم الفكرية من خلال المُثل العليا التي تغرسها في أذهانهم، ممّا لا يمتّ
إلى حضارتنا وثقافتنا بصلة، مع أنّ في تاريخنا وواقعنا الكثير من المثل العليا التي تشكّل نماذج حيّة وصور مشرقة يمكن لأبنائنا أن يستفيدوا منها في الجانب الديني أو الخُلقي أو المعرفي أو النضالي والجهادي أو الأدبي أو غير ذلك من المجالات.
د ــــ اختيار الرفقة
وممّا ينبغي أخذه بعين الاعتبار أيضاً في مهمتنا الهادفة لإقناع الأطفال بالعقائد والشعائر الإسلامية العمل على توجيههم وإرشادهم إلى اختيار الرفقة والأصدقاء المناسبين، وكذلك المدرسة الملائمة، كما نبّهنا على ذلك أكثر من مرة، لأنّ تأثير الأصحاب
والرفاق في المدرسة أو غيرها على الطفل يفوق تأثير والديه، ولذا نلاحظ أنّ كافة الجهود التربوية تتبخّر وتذهب هباءً أما رفقة سوء يرتبط بها الطفل فتجرّه إلى أجواء الانحراف والرذيلة.
فما أكثر الفتيات المسلمات اللاتي يقتنعن بالحجاب الشرعي ويرين فيه صيانة وتكريماً لهن، بيد أنّ البيئة التي يعشن فيها والرفقة التي تحيط بهن تجعلهن يتخليْن عن لبسه، وهكذا فإنّ كثيراُ من الأشخاص أباءً وأمهات يعانون من عدم القدرة على إقناع
ابنتهم بالحجاب ثم تفاجئهم أنّها تطلب منهم ارتداءه لا لشيء سوى أنّها صادقت بعض المحجبات فأقنعنها بذلك، ولم تعد تحسّ بالوحشة والغربة في محيطها ومكان عملها ودراستها.
وما ذكرناه في الحجاب يجري بعينه في سائر الواجبات والعبادات، الأمر الذي يفرض على الأهل اختيار البيئة والمحيط الذي يعيشون فيه مع أبنائهم وانتقاء المدرسة التي يعلّمونهم فيها والرفقة الذين يعاشرونهم، لأنّه وكما ورد في الحديث عن الإمام
الصادق (ع) في ما أوصاه به والده الإمام الباقر (ع): "يا بني من يصحب صاحب السوء لا يسلم، ومن يدخل مداخل السوء يُتَّهم"(1).
3 ــــ التربية الدينية في المجالين العقدي والشرعي
ثمّ إنّ حديثنا عن التربية الدينية يقع على مستويين:
المستوى الأول: ما يرتبط بالجانب العقائدي والتصورات الكلامية.
المستوى الثاني: ما يرتبط بالجانب الشرعي والسلوكي.
أولاً: العقائد وأُسس الإيمان
فيما يرتبط بالجانب العقائدي فإنّ ثمّة مسؤولية كبيرة ملقاة على عاتق الأبوين بالدرجة الأولى تتمثّل بتعليم الولد العقائد الصحيحة وإبعاده وتحذيره من العقائد المنحرفة، وينبغي أن يتمّ ذلك بأسلوب يتّسم بالحكمة ويراعي مدركات الطفل وطاقته العقلية
والذهنية، ويمكن الإشارة إلى أهم المعارف الدينية التي علينا إقناع الطفل بها وتوجيهه نحوها:
1 ــــ معرفة الله ومحبّته: يقول الإمام زين العابدين (ع) فيما روي عنه في رسالة الحقوق وهو يبيّن حقوق الولد على ولده: "... وإنّك مسؤول عمّا وليته من حسن الأدب، والدلالة على ربّه عزّ وجلّ والمعونة على طاعته"(1)، فثمّة مسؤولية ــــ
إذن ــــ على الأب في أن يدلّ ابنه على ربّه وخالقه، بذكر البراهين التي تناسب عقله وعمره دون أن تقدّم له انطباعاً سلبياً أو صورة خاطئة عن الله وصفاته، لأنّ الطفل كثيراً ما يتخيّل الإله بصورة حسيَّة وأنه جسم وله رأس ورجلان ويدان وما إلى ذلك، ما
يفرض تقديم تصوّر مقبول عن الإله يبتعد قدر المستطاع عن أجواء التشبيه والتجسيم، ومن جهة أخرى فإنّ الحكمة تقضي تعريفه على الله سبحانه من خلال صفات الرحمة والمحبة ونحوها من الصفات التي يرتاح الطفل لها وتشدّه نحو خالقه، ومن الخطأ البيّن
أن نبادر إلى تقديم "الله" إليه من خلال صفات الجبروت والقهارية، بطريقة توحي إليه بأنّ خالقه أشبه بكائن جلّاد يُعذِّب ويجلد ويشنق... إلى غير ذلك من صفات القسوة التي يكثر تردادها مع الطفل ومخاطبته بها، في محاولة للحدّ من تصرفاته المزعجة
للأبوين، إنّ المطلوب اجتناب هذا الأسلوب حتى لا تغدو صورة الله جلّ جلاله في ذهنه مرادفة لصور الرعب والخوف، إنَّ المربي مسؤول أن يزرع في الطفل حبّ الله لا الخوف والذعر منه، ليشعر ــــ الطفل ــــ بالارتياح عند ذكر الله والحديث عنه، بدل أن
يشكّل ذكره كابوساً يوتّر أعصابه.
هذا كلّه فيما لو بلغ الطفل مرحلة من الإدراك يصبح معها قادراً على تفهّم مسألة الاعتقاد بالله ودلائل وجوده أو وحدانيّته، إمّا إذا لم يصل بعد إلى تلك المرحلة فإنّ من المناسب حينئذٍ تعليمه كلمة التوحيد ليردّدها ويحفظها وإن لم يدرك معناها في هذه
المرحلة لتكون هذه الكلمة هي أول كلمة يختزنها في ذهنه، ففي الحديث عن رسول الله (ص): "إذا أفصحوا ــــ أولادكم ــــ فعلموهم لا إله إلا الله"(1) وفي رواية أخرى عنه (ص): "افتحوا على صبيانكم أول كلمة: لا إله إلا الله..."(2).
2 ــــ الإيمان بيوم الحساب: وعلينا أن نقرّب فكرة القيامة إلى الطفل بما تمثّله من معنى المحاسبة وإقامة العدل وإحقاق الحقّ ومحاسبة المجرمين وإكرام المحسنين، الأمر الذي يخلق لديه ــــ كما لدى الكبير ــــ شعوراً برقابة إلهية تدفعه للالتزام بكلّ قيم
الصدق والمحبة والرحمة والتعاون... والابتعاد عن الكذب والخداع والظلم، لأنّه ــــ أي الطفل ــــ بعين الله الذي لا تخفى عليه خافية وسوف يحاسب الإنسان يوم القيامة على كلّ صغيرة وكبيرة، وينبغي قدر المستطاع الابتعاد عن الصور المرعبة لنار جهنّم
والتي قد لا يتحملها عقل الطفل وقد تترك لديه انطباعات سلبية عن الخالق أو تخلق له بعض المشاكل النفسية كما أشرنا سابقاً.
3 ــــ محبّة النبيّ (ص) وأهل بيته (ع): ومن مسؤولية التربية الدينية أن تُعرِّف الطفل على رسول الله (ص) بما يمثّل من قيمة إنسانية وأخلاقية سامية وما يحمل من رسالة سماوية خالدة تهدف إلى خير الإنسان وسعادته في الدارين، والأمر عينه ينطبق
على أئمّة أهل البيت (ع) بما يمثّلون من امتداد لرسول الله (ص) واستمرار لمعنى رسالته، ويجدر بنا التركيز على طفولة النبيّ (ص) والأئمة (ع) وعلى سلوكياتهم وأخلاقياتهم في هذه المرحلة، فإنّ ذلك أدعى لارتباط الطفل بهم.
4 ــــ ربطة بالقرآن: وهكذا ينبغي توجيه الطفل نحو القرآن بما يمثّله من غذاء للروح والجسد والعقل وكتاب للحياة يستهدف هداية الإنسان والانتقال به من ظلمات الجهل والظلم والكفر إلى نور العلم والعدل والإيمان، وقد جمع النبيّ (ص) ذلك كلّه في
جملة واحدة فقال ــــ فيما روي عنه ــــ :"أدّبوا أولادكم على ثلاث خصال: حبّ نبيّكم، وحبّ أهل بيته، وقراءة القرآن، فإنَّ حملة القرآن في ظلّ الله يوم لا ظلَّ إلاَّ ظلّه مع أنبيائه وأصفيائه"(1).
ويلاحظ أن الحديث المذكور لم يطلب من الآباء أو الأمهات مجرّد تعريف الولد برسول الله (ص) وأهل بيته، بل دعاهم إلى تأديبه وتربيته على محبّتهم (ع)، والمحبة لا تقوم بغير المعرفة، فالمطلوب ــــ إذن ــــ بذل جهد مزدوج يعمل على إدخال النبيّ
(ص) وأهل بيته (ع) إلى عقل الطفل ثم إلى قلبه، كيلا تكون المعرفة جامدة جافة بل حيوية فاعلة.
وبالعودة إلى تعليم القرآن، فإنّ بعض الروايات تؤكّد بأنّ ذلك حقّ من حقوق الولد على والده(1)، وتتحدّث روايات أخرى عن الأجر العظيم للأبوين إذا ما علّما إبنهما القرآن، فقد ورد عنه (ص): "... ومن علَّمه القرآن دعي بالأبوين فيكسيان
حلتين يضيئ من نورهما وجوه أهل الجنّة"(2).
التحذير من العقائد المنحرفة
ولا تنتهي مسؤولية التربية الدينية والقائمين عليها عند توجيه الطفل نحو العقائد الإيمانية الصحيحة، بل لا بدَّ أن يواكبها عمل آخر يكمّلها ويحصّنها، ألاَ وهو إبعاده أو تحذيره من العقائد المنحرفة والباطلة المتمثّلة بالإلحاد أو الكفر بالله ورسله وكتبه
ونعمه أو غير ذلك، وتعتبر مهمة التحصين أصعب بكثير من مهمة البناء العقائدي، لأنَّ البناء عمل سهل نسبياً يعتمد على أُسس واضحة وأدّلة فطرية، بينما التحصين يستدعي استنفاراً في ردّ الشبهات وملاحقتها بغية تفنيدها قبل أن تأتي على البناء العقائدي
برمّته وتشوّه نقاءه، وتحوّل ــــ في حال استفحالها ــــ المؤمن إلى ملحد عنيد يحارب الدين وأهله، قال الشاعر:
أرى ألف بانٍ لا يقوم بهادم فكيف ببانٍ خلفه ألف هادم؟
ويزداد أمر التحصين صعوبة في زماننا هذا الذي انتشرت فيه الأفكار المنحرفة وتنوّعت، وأضحت تغزو عقول الأطفال وتلوّث فطرتهم الصافية متسللة من خلال وسائل التواصل الحديثة من التلفاز إلى عالم الانترنت وغيره، ووصل الأمر إلى حدّ
انتشار ما يعرف بعبادة الشيطان مع ما يرافق هذه العبادة من أعمال منحرفة تدميريّة، وقد وجدنا في النصوص الإسلامية أن الأئمة من أهل البيت (ع) قد نبّهوا إلى ضرورة متابعة أفكار الأبناء ومعتقداتهم في سبيل توجيههم وتركيز إيمانهم على قاعدة سليمة،
ففي الحديث عن الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع): "بادروا أحداثكم(1) بالحديث (يقصد الحديث عن العقائد الصحيحة) قبل أن يسبقكم إليهم المرجئة"(2)، وفي الحديث المعروف بحديث الأربعمائة الذي رواه الشيخ الصدوق في الخصال بسنده إلى
أبي عبد الله الصادق (ع) عن أبيه (ع) عن جدّه عن عليّ (ع) قال: "علِّموا صبيانكم مِنْ علمنا ما ينفعهم الله به، لا تغلب عليهم المرجئة برأيها"(3)، والمرجئة: فرقة إسلامية لها بعض الآراء الباطلة من أخطرها: أنّ العمل لا أصالة له في الإيمان، وأنّ
القيمة كلّ القيمة هي للنوايا الطيبة فحسب، إنّ فكرة الأرجاء هذه التي تجد لها الكثير من الأنصار في زماننا تشكّل خطراً على استقرار المجتمع وأخلاقه، لأنّها بشكل أو بآخر تشجّع على التحلّل أو التفلُّت الأخلاقي، لأنّ الفهم ــــ وفق هذه الفكرة ــــ أن تكون نيّة
المرء سليمة، وأما فعله وسلوكه فليس بذي شأن أو أهمية، وربّما يكون هذا الاعتقاد الذي عُرفت به هذه الفرقة هو السِّر في تحذير الإمام منها تحديداً على الأحداث، لأنّهم وبحكم فوران الغريزة لديهم أسرع للانسياق وراء الشهوات، لاسيما إذا ما وجدوا مبرّراً
دينياً لذلك.
ثانياً: أطفالنا والتربية العبادية
في الوصايا الإسلامية ثمّة تأكيد وحرص شديدين على ضرورة الاهتمام بالتربية الدينية العبادية للطفل، وتعليمه وتشجيعه وتمرينه قبيل البلوغ على أداء الفرائض من الصلاة أو الصوم أو غيرهما من العبادات حتى إذا بلغ سنّ التكليف الشرعي كان على
معرفة بهذه العبادات ومهيّئاً لها دون أن يشعر بعبء التكليف أو ثقله.
صحيح أنّ الطفل غير مكلّف بالعبادات ولا يعاقب على تركها إلى حين البلوغ: "رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم" إلاَّ أنّ أهله وذويه مسؤولون ومدعوون إلى الاهتمام بتعليمه وتربيته وإعداده وتهيئته لأداء الواجبات واجتناب المحرّمات: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]، وفي الحديث عن الإمام الصادق (ع): "لما نزلت هذه الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ} جلس رجل من
المؤمنين يبكي، وقال: أنا عجزت عن نفسي وكُلّفت أهلي! فقال رسول الله (ص): "حسبك أن تأمرهم بما تأمر به نفسك وتنهاهم عمّا تنهى عنه نفسك"(1).
إذن ثمّة مسؤولية على الإنسان بأن يهتم بالمستقبل الديني والإيماني لأبنائه كما يهتم بمستقبلهم الدنيوي، وأن يعتني بنظافتهم الروحية كما يعتني بنظافتهم أو صحّتهم الجسدية والنفسية، إلاَّ أنّنا ومع الأسف الشديد نجد أنّ الكثير من الآباء والأُمهات يتعاطون
مع هذا الأمر بشيءٍ من اللامبالاة والاستخفاف كما نبّه على ذلك رسول الله (ص) فيما روي عنه: "ويلٌ لأطفال آخر الزمان من آبائهم: يا رسول الله من آبائهم المشركين؟! قال: لا، من آبائهم المؤمنين، لا يعلّمونهم شيئاً من الفرائض، وإذا تعلَّموا منعوهم،
ورضوا منهم بعرض يسيرٍ من الدنيا، فأنا منهم بريء وهم مني براء"(2).
وفيما يبدو فإنّ هذه النبؤة لرسول الله (ص) قد تحقّقت، فها نحن نرى بأُمّ العين أنّ الكثير من الناس يمنعون أبناءهم من ارتياد المساجد، ولا يهتمون بتربيتهم الدينية ولا يعنيهم مستقبلهم الإيماني شيئاً! إنّ على الإنسان المؤمن أن يعيش همَّ تربية أبنائه تربية
صالحة، كما كان خليل الله إبراهيم (ع) يعيش هذا الهمّ، ولذا نراه لا يكتفي بدعوتهم وتشجيعهم على الصلاة، وإنّما يدعو الله باستمرار أن يوفّقهم لإقامة الصلاة {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء} [إبراهيم:40].
مشروعية عبادات الطفل
وثمّة سؤال يفرض نفسه هنا بإلحاح وهو: أنّ الطفل هل يؤجَر ويُثاب على ما يأتي به من أعمال عباديّة، أو أنّ عبادته لا تعدو كونها مجرّد تمارين تدريبية ولا يستحقّ عليها شيئاً من الثواب؟
الأقرب إلى الصحة والأكثر ملاءمة لكرم الله وحكمته وعدالته القول: بأنّ عبادات الطفل ليست مجرّد تمارين بل هي مشروعة ويثاب عليها وتدوّن في سجل حسناته، شريطة أن يكون مميّزاً يفقه ما يفعل، وقد استدلّ الفقهاء لذلك ــــ أعني مشروعية
عبادات الطفل المميّز ــــ بالقاعدة القائلة: "إنَّ الأمر بالأمر بالشيء هو أمر بذلك الشيء"(1) والمراد بهذه القاعدة: إنّ ثمّة أمراً استحبابياً متوجّهاً إلى الطفل بأداء العبادات فإذا امتثله كان مستحقاً للثواب، أما من أين نستكشف وجود أمر متوجّه إلى الطفل
المميّز؟
فالجواب: إنَّا نستكشف ذلك من خلال الأمر المتوجه إلى والده بأن يأمره بالصلاة أو غيرها من العبادات، فإنّ الأمر بالأمر بالشيء هو أمر بذلك الشيء.
وممّا استدلّ به على المشروعية أيضاً: أنّ الأدلة الواردة في الكتاب أو السنّة والدالة على ترتّب الثواب على من صلَّى أو صام أو حجَّ أو زكَّى وتصدّق عامة وشاملة للبالغ وغيره، ولا وجه لانصرافها إلى غير البالغ(2)، إلى غير ذلك من الوجوه التي
ذكرت لإثبات شرعية عبادات الصبي، ويمكن مراجعتها في الكتب المعدَّة لذلك.
الصلاة أولاً
وتأتي عبادة الصلاة على رأس العبادات التي يجدر بنا أن نهتم بتعليمها للأطفال ونشجّعهم عليها ونعاتبهم بل نؤدّبهم على تركها، ومردّ ذلك بطبيعة الحال إلى أهمية الصلاة فهي عامود الدين ومعراج المؤمنين وصلة الوصل بين العبد وربّه، وتشير جملة
من الروايات إلى أنَّ السّن الذي يُشجَّع ويدعى فيه الطفل إلى الصلاة هو سنّ السابعة، وفي بعضها هو الثامنة، ففي الحديث عن الإمام الصادق (ع): "إنا ــــ أي آل البيت (ع) ــــ نأمر صبياننا بالصلاة إذا كانوا بني خمس سنين، فمروا صبيانكم إذا كانوا بني
سبع سنين"(1)، وعن أمير المؤمنين (ع): "علّموا صبيانكم الصلاة وخذوهم بها إذا بلغوا ثماني سنين"(2) ولا تنافي بين الروايتين، وإنّما هما في صدد الإشارة إلى مرحلتين من مراحل التدرّج التربوي الآخذ بالتصاعد من الأدنى إلى الأعلى.
والصوم
والعبادة الأخرى التي يجدر بنا تشجيع الطفل وتعويده عليها هي عبادة الصوم، والصوم بطبيعته يحتاج إلى تمرين لصعوبته على الكبير فضلاً عن الصغير، ولذا فإنّ علينا أن لا نرهقه بصوم اليوم كاملاً، بل بمقدار ما يطيق، وقد ورد في الحديث عن
الإمام الصادق (ع) وقد سئل عن العمر الذي يُحمل فيه الولد على الصيام؟ (ع): "ما بينه وبين خمسة عشر سنة وأربع عشرة سنة، فإن هو صام قبل ذلك فدعه، ولقد صام ابني فلان قبل ذلك فتركته"(1).
العبادة وإرهاق الطفل
وربّما يعترض البعض كما ذكرنا سابقاً على فكرة التربية الدينية من رأس على اعتبار أنّها تتضمن إرهاقاً للطفل وإقحاماً له فيما يصعب عليه تحمله وأداؤه!
وفي الجواب على ذلك نقول: إنَّ التزامنا بالإسلام يفرض علينا ــــ كما أسلفنا ــــ العمل على تربية أبنائنا طبقاً لتعاليم الإسلام، تماماً كما يفعل الآخرون من أتباع الأديان أو غيرهم، فإنّهم يعملون على تربية أبنائهم على القيم التي يؤمنون بها، والتربية في
الصغر تكتسب أهمية كبيرة، فإنّها أبلغ تأثيراً من التربية في سنّ متأخرة، وهذا من البديهيات التربوية، وقد قيل "العِلْم في الصِغَر كالنقش في الحجر"، وكذا الحال في التربية، فعندما يتوجّه الإنسان إلى الصلاة ــــ مثلاً ــــ وهو لا يزال في مرحلة عمرية مبكرة
قريبة من نقاء الفطرة وبعيدة عن التعقيدات والوساوس والانشغالات التي تواجه الكبير فسوف تنشأ بينه وبين الصلاة علاقة خاصة ومميّزة، فتراه يتشوّق إليها وربّما يصعب عليه تركها، ولو تركها فإنّه قد يشعر بتأنيب الضمير، خلافاً للشاب البالغ فإنّ مرحلته
العمرية تشدّه نحو الملاهي وتجذبه إلى انشغالات أخرى، ولذا قد لا يتحمَّس ولا ينجذب كثيراً للخطاب الديني والوعظي، وإذا تجاوز الإنسان مرحلة الشباب وأصبح كهلاً دون التزام ديني، فإنّ التزامه بالعبادة في هذا السنّ يغدو أكثر صعوبة وثقلاً، قال تعالى:
{وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة:45].
وأمّا الحديث عن إرهاق الطفل بالعبادة فهذا قد يكون صحيحاً، لكنّه ناتج عن سوء الأساليب التربوية وتشدّدها في أمر التربية الدينية، وهو تشدُّد غير مبرّر على الإطلاق كما لاحظنا وسنلاحظ.
الاقتصاد في العبادة
وممّا نلاحظه في المقام أن الوصايا الإسلامية التي تحثّ الوالدين على الاهتمام بعبادة أبنائهم تتّسم بقدرٍ كبير من المرونة، وتراعي عمر الطفل وطاقته على التحمّل، فإنّ للطفل ميلاً غريزياً نحو اللعب واللهو، كما أنّه بطبيعته يفرّ من المسؤوليات التي
تقيّده ببرنامج محدّد، الأمر الذي يفرض التعامل معه بدقة متناهية وحكمة بالغة، بعيداً عن التشدُّد والقساوة، فإنّ التشدّد في أمر العبادة قد يخلق لديه ردّة فعل عكسية، فبينما يكون هدف المربّي نبيلاً وهو تعويده على عبادة الله فإذا بقساوة الأسلوب وشدّته تجعله
يتهرّب من العبادة ويشعر بثقلها وربّما تغدو ساعة العبادة همّاً وعبئاً بالنسبة إليه، وقد يدفعه ذلك ــــ أقصد التشدُّد ــــ إلى الكذب على والديه فيزعم أنّه قد صلّى وهو لم يصلِّ.
إن أسلوب اللين والرِفق في الدعوة إلى الإسلام، وأسلوب المرونة والتدرّج في تطبيق التكاليف الشرعية مطلوب في التعامل مع البالغين، فما بالك بالأطفال الصغار! وقد مرّ علينا في الحديث المروي عن رسول الله (ص): "إنّ هذا الدين متين فأوغلوا
فيه برفق ولا تكرهوا عبادة الله إلى عباد الله فتكونوا كالراكب المنبت الذي لا سفراً قطع ولا ظهراً أبقى"(1). ولذا وجدنا أنَّ الأئمة من أهل البيت (ع) في الوقت الذي يوصون فيه بضرورة تربية الأطفال على عبادة الله سبحانه، فإنّهم يدعون إلى اعتماد
المرونة والابتعاد عن التشدُّد، ففي الحديث عن الإمام الصادق (ع): "نحن نأمر صبياننا بالصوم إذا كانوا بني سبع سنين بما أطاقوا من صيام اليوم، إنْ كان إلى نصف النهار أو أكثر من ذلك أو أقل فإذا غلبهم العطش والغرث (أي الجوع) أفطروا حتى
يتعوَّدوا الصوم ويطيقوه، فمروا صبيانكم إذا كانوا بني تسع سنين بالصوم ما استطاعوا من صيام اليوم فإذا غلبهم العطش أفطروا"(2).
وفي إشارة أخرى إلى ضرورة الابتعاد عن التشدُّد في التربية الدينية للطفل نجد أنّ الإمام الصادق (ع) يوصي بأن يُدعى الأطفال إلى الجمع بين صلاتي المغرب والعشاء، والظهر والعصر، بينما يَسْتحِبُّ للبالغين التفريق، ففي الخبر عنه (ع): "إنّا نأمر
الصبيان أن يجمعوا بين الصلاتين: الأولى والعصر، وبين المغرب والعشاء الآخرة، ما داموا على وضوء قبل أن يشتغلوا"(3).
وفي إشارة ثالثة إلى هذا المعنى يحدّثنا الإمام الصادق (ع) فيما روي عنه قال (ع): "مرّ بي أبي ــــ أي الإمام الباقر (ع) ــــ وأنا معه في الطواف وأنا حَدَث (يافع) وقد اجتهدت في العبادة، فرآني وأنا أتصبَّب عرَقاً، فقال لي: يا جعفر يا بني: إنّ الله إذا
أحبّ عبداً أدخله الجنّة ورضي عنه باليسر"(1).
انتخاب أفضل الأساليب
إنّ علينا ونحن نعمل على تربية أطفالنا ونشجّعهم على العبادات والفرائض الدينية أن ننتخب أفضل الأساليب التي تول الفكرة وتحقّق الهدف دون أن تترك نتائج سلبية، ولعلّ من أفضل هذه الأساليب هو أسلوب الترغيب والتبشير، ــــ كما مرّ سابقاً ــــ،
وفي هذا السياق فالأجدى أن يتمّ التركيز على ثواب المصلّين وما أعدَّه الله لهم من نعيمٍ دائم ومرافقة الأنبياء والأولياء، وهكذا يُستحسن الحديث عن حبّ الله للمصلّين، ولا مانع من اعتماد أسلوب الحوافز والمكافآت سواءً المادية فيقدّم هدية للطفل في حال
مواظبته على الصلاة، أو المعنوية من قبيل إشعاره بأنَّ حبّنا له يتضاعف كلّما كان أكثر مواظبة على العبادة.
التعليم بالتطبيق
ومن أنجع الأساليب التربوية وأجداها نفعاً في المقام أسلوب التعليم بالتطبيق، فلا يكتفي المربّي بالتعليم النظري ولا بالترغيب والتشجيع على الصلاة وسواها من العبادات، وإنَّما يجد ربه أن يُعلِّم الطفل على الصلاة من خلال تجربة عمليّة، بأنْ ندعوه إلى
الوقوف بجانبنا نحن الكبار ليحاكي تصرّفاتنا ركوعاً وسجوداً وقياماً وقعوداً، ولنحاول إسماعه كلمات الذكر وآيات القرآن في الصلاة ليردِّد خلفنا. فإنّ ذلك يساعده على حفظ الآيات والأذكار، وفي سيرة النبيّ (ص) ما يشهد لاعتماده هذا الأسلوب، وذلك في
تعليم الإمام الحسين (ع) وهو طفل صغير كيفية الصلاة، ففي الحديث عن الإمام الصادق (ص): إنَّ رسول الله (ص) كان في الصلاة وإلى جانبه الحسين بن عليّ (ع) فكبَّر رسول الله (ص) فلم يُحرْ الحسين بالتكبير (أي لم يقدر عليه)، ثم كبَّر رسول الله (ص)
فلم يحر الحسين بالتكبير، ثم كبَّر رسول الله (ص) فلم يحر الحسين بالتكبير، فلم يزل رسول الله (ص) يكبّر ويعالج الحسين بالتكبير، فلم يحر الحسين (ع) حتى أكمل سبع تكبيرات، فأحار الحسين التكبير في السابعة، فقال أبو عبد الله (ع): فصارت سنة"(1) أي صار التكبير سبعاً سنة.
إنّ هذا الحديث يدلّ بوضوح على أنّ رسول الله (ص) كان بصدد تعليم الإمام الحسين بطريقة تجسيدية عملية، ولأنّ الإمام الحسين (ع) كان فيما يبدو لا يزال طفلاً صغيراً فلم يستطع التلفُّظ بتكبيرة الإحرام، لذا ظلّ النبيّ (ص) يكرّر التكبير على مسمعه
حتى استطاع ذلك.
من كتاب "حقوق الطفل في الإسلام"
نُشر على الموقع 10-4-2015
(1) بحار الأنوار: 16/210، كنز العمال: 3/16.
(1) عيون الحكم والمواعظ: 37.
(2) نحو إنسانية سعيدة الدكتور محمد المبارك ص 135، دار الفكر/ بيروت 1389 هــ .
(1) دراسات في تفسير السلوك الإنساني، الدكتور عبد الرحمن العيسوي: ص 193، دار الراتب الجامعية بيروت 1419 هــ .
(1) الجامع الصغير: 2/323.
(1) الخصال للشيخ الصدوق: 169.
(1) من لا يحضره الفقيه: 2/622.
(2) المصدر السابق: 16/441.
(2) مستدرك الوسائل: 15/164.
(1) راجع كتاب الصلاة من تقريرات السيد الخوئي ج5/228.
(2) راجع القواعد الفقهية للبجنوردي: 4/115.
(1) علل الشرائع للشيخ الصدوق: ج2/331.