صحة الطفل الجسدية والنفسية
الشيخ حسين الخشن
صحة الطفل الجسدية والنفسية
من موقع اهتمامه بإعداد المجتمع الصالح والأمثل اهتم الإسلام اهتماماً بيّناً بصحة الإنسان وسلامته الجسدية والنفسية، وحثّ على كل ما من شأنه التخفيف من الأمراض وكل أشكال الإعاقة والتشوّهات، ولم يسمح لأحد من الناس أن يترك المرض يفتك به دون مداواة، معتبراً أنّ ذلك نوع من إلقاء
النفس في التهلكة وهو من كبائر الذنوب، ولأنّ الذي خلق الداء خلق الدواء فإنّ علينا بذل كافة الجهود العلمية المتخصّصة بغية اكتشاف أسباب المرض وطرق العلاج ووسائله، وهكذا حارب الإسلام ونبذ كلّ الأوضاع والأسباب المنتجة للأمراض كالجهل والفقر وإهمال النظافة وغيرها، لأنّ هذه
الأجواء هي موئل الفساد ومرتع الشيطان.
الاهتمام بصحة الطفل
والرعاية الصحية لا بدَّ أن تبدأ مع الإنسان منذ أن يبصر النور ويفتح عينيه على الدنيا، لأنّ المرض في هذه السنّ له آثار سلبية وعواقب وخيمة على مستقبل الطفل، هذا إن لم يودِ بحياته، ولذا فإنَّ الحقّ الطبيعي للطفل على ذويه ومجتمعه الحفاظ على صحته وسلامته والقيام بتمريضه ومداواته
إذا أصابه المرض، وتأمين الغذاء الملائم لصحّته لينمو بشكل طبيعي، وفي هذا الصدد فإنّه ــــ أعني الإسلام ــــ يحبّذ تغذية الطفل الرضيع من لبن أُمّه ــــ كما سيأتي ذلك بالتفصيل ــــ لأنّ حليب الأُم أنفع وأجدى للطفل كما تؤكد على ذلك معطيات العلم الحديث، ففي الحديث عن رسول الله (ص):
"ليس للصبي لبن خير من لبن أُمّه"(1).
بل يمكننا القول: إنّ الإرشادات والتعاليم الإسلامية تدعو للاهتمام بصحة الطفل حتى قبل أن يولَد، من خلال ابتعاد الأبوين أثناء المعاشرة عن كل ما قد يترك تأثيراً سلبياً على صحة الجنين أو الطفل المتوقّع انعقاد نطفته، ومن هنا ورد في الأخبار إرشاد الأبوين إلى الابتعاد عن العلاقة بينهما في
الظروف العصيبة أو المخيفة كحالة الخسوف أو الكسوف أو غيرها من الظواهر الكونية المخيفة فعلاً، أو التي كان يخاف الإنسان عند وقوعها، معلّلة ــــ أعني الأخبار ــــ ذلك بأنّ الحمل لو تمّ في هذه الأثناء فقد يأتي الولد مشوّهاً وغير طبيعي، وهذا المبدأ يؤكّد عليه العلم الحديث وأهل
الاختصاص في هذا الشأن على اعتبار أنّ الاستقرار النفسي للزوجين أثناء انعقاد النطفة له تأثير على سلامة وصحّة الطفل.
وعلى ضوء ذلك فإنّ إجراء بعض الفحوصات الطبية ــــ ممّا تعارف في زماننا ــــ للزوجين قبل اقترانهما هو أمر مطلوب وراجح عقلاً وشرعاً، كونه يهدف للتعرف على بعض الخصائص الوراثية للزوجين والتي قد يؤثّر اختلالها على صحة الطفل الموعود ويحول تلافيها دون ابتلائه ببعض
الأمراض والتشوّهات.
اهتمام الحامل بغذائها
وتؤكّد الوصايا والإرشادات الإسلامية على ضرورة اهتمام الحامل بنوعية غذائها، حفظاً لجنينها ولنفسها من التعرّض للمخاطر أو الأمراض، ومن هذه الإرشادات دعوتها إلى تناول التمر أو الرطب أثناء الحمل وحين الولادة وبعدها، لما للتمر من فوائد طبيّة للمرأة الحامل أو النفساء(1) قال
تعالى مخاطباً السيدة مريم (ع) {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً*فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً} [مريم:25ــــ26] وفي الحديث عن الإمام الصادق (ع): "إذا ولدت المرأة فليكن أول ما تأكل الرطب فإن لم يكن رطب فتمر، فإنّه لو كان شيء أفضل منه أطعمه الله مريم (ع) حين
ولدت عيسى (ع)"(2) وتحثّ الروايات على إطعام الحبالى بعض الأطعمة التي لها تأثير إيجابي على صحة الأطفال وكمالاتهم النفسية والعقلية(3).
صراخ الصبي يؤلم رسول الله (ص)
إنّ للأبوة والأُمومة ضريبة كبيرة تتمثّل برعاية الطفل والعناية به وتحسّس آلامه وأوجاعه وعدم التضجّر منه ومن متطلباته، فالطفل كثيراً ما يزعج أباه أو أُمه بصراخه وبكائه وكثرة متطلباته، وربمّا خرَّب عليهما الكثير من خططهما وبرامجهما الخاصة، وقد يكون بكاؤه نتيجة ألم أو مرض وهو
لا يستطيع أو لا يحسن التعبير عن ذلك، وعلى الأبوين تفهّم ذلك ومواجهته بالصبر والتحمُّل، كما تحمَّل أبواهما من قبل عناء تربيتهما وسهرا الليالي حرصاً على راحتهما، ولا شكّ أن في تحمّل الأبوين أذى الطفل وصبرهما على ذلك فيه أجر وثواب كبير، وكفارة لذنوبهما كما تؤكّد
الروايات(1)، والتي تشير أيضاً إلى أنّ الاستجابة لاحتياجات الطفل تسوّغ حتى التخفيف في الصلاة، كما فعل رسول الله (ص) ذات يوم عندما صلّى بالناس الظهر مخففاً في الركعتين الأخيرتين، فلما انصرف قال له الناس: هل حدث في الصلاة حدث؟ قال: وما ذاك؟ قالوا خففت في الركعتين
الأخيرتين، فقال لهم: "أما سمعتم صراخ الصبي"(2)، وهكذا يجوز للأم إرضاع طفلها أثناء الصلاة كما تؤكّد ذلك الروايات ويفتي به الفقهاء، وإذا خشيت عليه من بعض الأخطار يجوز لها قطع الصلاة، لحمايته ودرأ الخطر عنه.
الأطفال واستهلاك التبغ والكحول
إنّ من علامات سوء التربية أن يتغاضى الآباء والأمهات عن تناول أبنائهم للأشياء المضرّة بالصحة، ومن ذلك استهلاك التبغ أو الكحول، وربّما شجّع بعضهم الطفل على ذلك أو فرح به، مع ما لإدمان الطفل على الكحول أو التبغ من مضاعفات سلبية وعواقب وخيمة على صحّته ونشاطه العلمي
واستقامته الأخلاقية، مضافاً إلى أنّ ذلك قد يجرّ الطفل ويدفعه إلى ما هو أسوأ عنيت بذلك الإدمان على المخدرات، الآفة التي تمثّل تحدّي العصر، وتشير الإحصاءات إلى أنّ نسبةً مرتفعة من ضحايا المخدرات هم من الأطفال والقاصرين.
ومع الأسف فإن التساهل القانوني في بعض الدول وضعف الإجراءات العقابية إزاء الأشخاص الذين ينشرون المواد المخدّرة أو الكحول أو التبغ بين الأطفال أو يساعدون على امتلاكها إنّ ذلك يساهم في انتشار هذه الظاهرة واستفحالها، فالغرامة المفروضة في لبنان ــــ مثلاً ــــ على من يُقدِّم
الكحول للقاصر زهيدة جداً تتراوح بين عشرة آلاف وعشرين ألف ليرة لبنانية(1)، بينما نجد الإسلام متشدّداً في هذا الأمر فهو لم يكتفِ بتحريم تناول الكحول ونحوها على البالغين الراشدين، بل منع من تمكين الآخرين وبخاصة الأطفال منها، وحذّر من مغبّة ذلك ووضع عقوبات صارمة، ففي
الحديث عن أبي عبد الله الصادق (ع): "إن الله يقول: من شرب مسكراً أو سقاه صبيّاً لا يَعْقل سقيته من ماء الحميم مغفوراً له أو معذّباً.."(2) وفي خبر آخر: قلت لأبي عبد الله (ع): المولود يولد فنسقيه الخمر؟ فقال: لا، منْ سقى مولوداً خمراً أو قال: مسكراً سقاه الله عزّ وجلّ من الحميم وإنْ
غفر له"(3).
النظافة والختان
وفي سياق الاهتمام بصحة الطفل جاءت السنَّة المتوارثة عن نبيّ الله إبراهيم الخليل (ع) وهي سنة ختان الصبي، فإنّ الختان يُعبِّر عن حرص أكيد على صحة الطفل الذكر، لأنّه ــــ وكما تشير الدراسات العلمية الطبية ــــ يساهم في حماية الطفل من بعض الجراثيم التي تتجمّع في محل الختان،
وهذا ما تحدّثت عنه الروايات فعن رسول الله (ص): "طهّروا أولادكم يوم السابع فإنّه أطيب وأطهر"(1)، إلى غير ذلك من النصوص التي تؤكّد على أنّ الختان نوع من الطهور، وربّما لهذا شاع بين العامّة التعبير عن الختان بالطهور. وتذكر بعض النصوص الطهور في جملة حقوق الولد
على والده، ففي الحديث عن أبي عبد الله (ع) قال: قال رسول الله (ص) حقّ الولد على والده إذا كان ذكراً... ويطهّره ويعلّمه السباحة"(2) وهكذا تؤكّد الروايات على ضرورة تنظيف الولد، ففي الحديث عن الإمام الرضا (ع) قال: قال النبيّ (ص): "إغسلوا صبيانكم من الغمر فإنّ الشيطان
يشمّ الغمر فيفزع الصبي من رقاده ويتأذّى به الكائنات.."(3) والغمر هو دسومة اللحم وريحه(4).
التأهيل الجسدي للطفل
ولا يقف حقّ الطفل في الرعاية الصحية عند توفير الغذاء والدواء له والاهتمام بنظافته، بل إنّ من حقّه على ذويه إعداده جسدياً ليتحلّى باللياقة البدنية، بما يسهم في تكوين مجتمع قوي متماسك تتوافر فيه كلّ الطاقات والمهارات ممّا تحتاجه الأُمة لحفظ أُمّتها والدفاع عن كرامتها وأرضها، ومن هذه
المهارات التي أكّدت عليه النصوص الإسلامية فن السباحة والرماية، فقد جاء في الحديث عن أمير المؤمنين (ع) قال: قال النبيّ (ص): "علِّموا أولادكم السباحة والرماية"(1)، وفي حديث آخر عنه (ص): "أنّ تعليم الصبي السباحة هي من جملة حقوقه على والده"(2).
الاهتمام بجمال الطفل
يتطلّع غالب الآباء والأُمهات أن يرزقوا بأبناء وبنين يتمتّعون بجمال جسدي ولياقة بدنية، وهذا التطلُّع مشروع، لأنّ الإنسان بطبيعته يعش الجمال ويأنس به، والإسلام ليس فقط لا يرفض تطلّع الإنسان نحو الجمال في شأن الأولاد، بل نجد في الروايات بعض الإرشادات التي تحثّ على تخيّر بعض
الفواكه والمأكولات وتناولها من قبل الأبوين أو الأُم تحديداً، لأنّ لها تأثيراً معيّناً على جمال الأطفال، ومن ذلك دعوة المرأة الحامل إلى أكل السفرجل، لأنّ "الولد يكون أطيب ريحاً وأصفى لوناً"(3).
وهذه الرواية وغيرها على تقدير صحّتها وواقعيتها تؤشّر وتوحي بما قلناه من تشجيع الإسلام على الاهتمام بجمال الولد، ما يمكن أن يستفاد منه جواز الأخذ بالأساليب العلميّة الحديثة، بما فيها تقنية الاستنساخ، بغية تحسين الجانب الجمالي لدى الأجنّة، هذا مع الالتفات إلى أنّ القيمة الكبرى تبقى في
الجمال الروحي ــــ كما أسلفنا في مستهل الفصل الثاني ــــ فهو الأساس في إنسانية الإنسان، ويلزم العناية به أكثر من العناية بالجمال الظاهري والشكلي.
الأطفال واللعب
وإدراكاً منه لحاجة الطفل الجسدية والنفسية إلى اللعب وميله الطبيعي إلى المرح واللهو حثَّ الإسلام على إتاحة الفرصة أمام الطفل ليعبّر عن طفولته بكلّ أشكال المرح واللهو البريء، خلافاً لما يفعله بعض الناس في حمل الأطفال على السلوك الجديّ ومنعهم من اللعب والمرح، وينطلق ذلك ــــ
في الغالب ــــ من الجهل بالطبيعة البشرية ومتطلّباتها، أو الغفلة عن قواعد التربية ومقتضياتها، إنّ حمل الأطفال على الجدية في كلّ تصرفاتهم يعتبر خطأً تربوياً بل خطيئة تربوية بحق الطفل، وهو مرفوض بكلّ الموازين التربوية والدينية، فقد ورد في الحديث عن الإمام الصادق (ع): "دع ابنك
يلعب سبعاً وألزمه نفسك سبعاً.."(1)، وفي الحديث المعروف عن رسول الله (ص): "من كان عنده صبي فليتصاب له"(2)، وقد ذكرت المصادر الحديثة والتاريخية أنّ رسول الله (ص) كان يلاعب الحسنين (ع) ويركبهما على عاتقه ويلاطفهما، روى جابر قال: دخلت على النبيّ (ص)
والحسن والحسين (ع) على ظهره وهو يجثو لهما ويقول: نعم الجمل جملكما ونعم العدلان أنتما"(1)، وفي حديث آخر أنّه (ص): "كان يرقص الحسن أو الحسين ويقول: حزقة حزقة، ترّق عين بقة، فترقى الظلام حتى وضع قدميه على صدره (ص)"(2) والحزقة: هو الضعيف
المتقارب في خطواته، وترّق، بمعنى إصعد، وعين بقة كناية عن صغر العين، وهذا الكلام يقال على سبيل المداعبة.
إنّ حاجة الطفل إلى اللعب واللهو والمرح تفرض توفير الفرص والأماكن والوسائل المناسبة والملائمة لذلك، ولا يحقّ للكبار أن يمنعوا الطفل من ممارسة حقّه في اللعب والمرح بكافة الأشكال التي لا تؤذي الطفل ولا تضرّ بالآخرين، ولذلك فإنّا نعتبر أنّ إنشاء ما يسمى بـــ "مدن الملاهي" بغية
ترفيه الأطفال أمر محبّذ شرعاً، ويشمله قول النبيّ (ص): "ومَنْ فرَّحه ــــ يعني الطفل ــــ فرَّحه الله يوم القيامة"(3)، ومع الأسف فإنّ الكثير من الناس لا يدرك أهمية اللعب بالنسبة للأطفال، ولذا لا يهتم بهذا الأمر، مع أنّ اللعب للطفل ليس مجرّد وسيلة ترفيهية، بل هو مضافاً إلى ذلك
وسيلة تربوية وتثقيفية تساهم في تخفيف حالات التوتّر والإحباط والضغط النفسي لديه، وتجدّد نشاطه وحيويّته.
من كتاب "حقوق الطفل في الإسلام"
تم نشر المقال في 6-5-2015
(1) عيون أخبار الرضا (ع): 1/38.
(1) راجع كتاب الإعجاز الطبي في القرآن: ص 194.
(1) راجع: أوضاع الأطفال في لبنان 1993 ــــ 1998، ص 241.
(1) تهذيب الأحكام: 8/112.
(3) عيون أخبار الرضا 1/74 وفي علل الشرائع ج2/557 رواه عن عليّ (ع)، ورواه في الخصال ص 632 عن عليّ (ع) في حديث الأربعمائة إلى غير ذلك من المصادر.
(4) راجع غريب الحديث، إبراهيم بن إسحاق الحربي ج3/107، وقد استدل صاحب الوسائل ج4/190 بهذا الحديث على استحباب غسل المولود، لكنّ ذلك غير دقيق، ولذا اعترضه غير واحد، بل اعتبر صاحب الحدائق ذلك من غفلاته. راجع الحدائق الناضرة: 4/190 وجواهر الكلام: 5/71.
(3) كما جاء في الخبر (الكافي 6/22).
(2) من لا يحضره الفقيه: 3/483، كنز العمال: 16/457.
(1) بحار الأنوار: 43/285.