حوار مع مركز أفاق للدراسات والأبحاث: مشكلة الأديان تتشكل في الخطاب الفقهي    ثمن الحرية    أمثل الأساليب في عمليّة تهذيب النفس    مزايا الشباب    العمل سرّ النجاح    العبادة وعيٌ وانفتاح لا جهل وانغلاق    اقتناء أصنام الأمم البائدة    المفاهيم الدينية بين وجوب الاعتقاد وحرمة الانكار    البناء الاعتقادي بين الاجتهاد والتقليد    
 
بحث
 
تكريم الإنسان
 
س » أنا طالب علم، لدي خوف من أن أتكلم بغير علم.. ما الحل؟
ج »

وعليكم السلام

لا بد لطالب العلم في مساره العلمي أن يتسلح بأمرين أساسيين:
الأول: الاستنفار العلمي وبذل الجهد الكافي لمعرفة قواعد فهم النص واستكناه معناه ودلالاته بما يعينه على التفقه في الدين وتكوين الرأي على أسس صحيحة.
الثاني: التقوى العلمية ويُراد بها استحضار الله سبحانه وتعالى في النفس حذراً من الوقوع في فخ التقوّل على الله بغير علم. ومن الضروري أن يعيش مع نفسه حالة من المحاسبة الشديدة ومساءلة النفس من أن دافعه إلى تبني هذا الرأي أو ذاك: هل هو الهوى والرغبة الشخصية أم أن الدافع هو الوصول إلى الحقيقة ولو كانت على خلاف الهوى.
أعتقد أن طالب العلم إذا أحكم هذين الامرين فإنه سيكون موفقاً في مسيرته العلمية وفيما يختاره من آراء أو يتبناه من موقف.

 
س » كيف علمنا أن الصحيفة السجادية ناقصة؟ وهل ما وجده العلماء من الأدعية صحيح؟؟
ج »

أقول في الإجابة على سؤالكم:

أولاً: إن الصحيفة السجادية في الأصل تزيد على ما هو واصل إلينا وموجود بين أيدينا، قال المتوكل بن هارون كما جاء في مقدمة الصحيفة: " ثم أملى عليّ أبو عبد الله (ع) الأدعية، وهي خمسة وسبعون باباً، سقط عني منها أحد عشر باباً، وحفظت منها نيفاً وستين باباً"، بيد أن الموجود فعلاً في الصحيفة الواصلة إلينا هو أربعة وخمسون دعاء. آخرها دعاؤه في استكشاف الهموم، وهذا آخر دعاء شرحه السيد علي خان المدني في رياض السالكين، وكذا فعل غيره من الأعلام.

ثانياً: إن سقوط عدد من أدعية الصحيفة وضياعها دفع غير واحد من الأعلام للبحث والتتبع في محاولة لمعرفة ما هو الضائع منها، وبحدود اطلاعي فإنهم عثروا على أدعية كثيرة مروية عن الإمام زين العابدين (ع)، لكنهم لم يصلوا إلى نتائج تفيد أن ما عثروا عليه هو من الأدعية الناقصة منها، ولذا عنونوا مؤلفاتهم بعنوان مستدركات على الصحيفة، ولم يجزموا أن ما جمعوه من أدعية هو الضائع من أدعية الصحيفة. وهذا ما تقتضيه الضوابط العلمية والدينية، فما لم يعثر الإنسان على نسخة قديمة موثوقة أو قرائن مفيدة للوثوق بأن هذا الدعاء أو ذاك هو من جملة أدعية الصحيفة فلا يصح له إضافة بعض الأدعية على الصحيفة بعنوان كونها منها.

ثالثاً: لقد ابتُلينا بظاهرة خطيرة، وهي ظاهرة الإضافة على الصحيفة أو غيرها من كتب الأدعية، وهذا العمل هو خلاف الأمانة والتقوى، وقد ترتّب على ذلك الكثير من المفاسد، وأوجب ذلك وهماً للكثيرين، فتوهموا أن بعض الأدعية هي جزء من الصحيفة السجادية المشهورة، ومردّ ذلك بكل أسف إلى أن مجال الأدعية والزيارات شرعة لكل وارد، وتُرك لأصحاب المطابع والمطامع! وأعتقد أن هذا العبث في كتب الأدعية والزيارات ناشئ عن عدم عناية العلماء بالأمر بهذه الكتب كما ينبغي ويلزم، كما نبه عليه المحدث النوري في كتابه "اللؤلؤ والمرجان" مستغرباً صمت العلماء إزاء التلاعب والعبث بنصوص الأدعية والزيارات مما يعدّ جرأة عظيمة على الله تعالى ورسوله (ص)!

رابعاً: أما ما سألتم عنه حول مدى صحة الأدعية الواردة بعد دعاء استكشاف الهموم، فهذا أمر لا يسعنا إعطاء جواب حاسم وشامل فيه، بل لا بدّ أن يدرس كل دعاء على حدة، ليرى ما إذا كانت قرائن السند والمتن تبعث على الحكم بصحته أم لا. فإن المناجاة الخمس عشرة بنظرنا لم تصح وربما كانت من وضع الصوفية، وقد أوضحنا ذلك بشكل مفصل في كتاب الشيع والغلو.


 
س » ابني المراهق يعاني من التشتت، وأنا جدا قلق ولا اعرف التصرف معه، ما هي نصيحتكم؟
ج »

التشتت في الانتباه في سن المراهقة مع ما يرافقه من الصعوبات هو في حدود معينة أمر طبيعي وظاهرة تصيب الكثير من المراهقين ولا سيما في عصرنا هذا.

وعلينا التعامل مع هذه المرحلة بدقة متناهية من الاستيعاب والتفهم والإرشاد والتوجيه وتفهم سن المراهق، وأن هذه المرحلة تحتاج إلى أسلوب مختلف عما سبقها.

فالمراهق ينمو لديه الإحساس بالذات كثيرا حتى ليخيل إليه أنه لم يعد بحاجة إلى الاحتضان والرعاية من قِبل والديه.

وبالتالي علينا أن نتعامل معه بأسلوب المصادقة "صادقه سبعا.." والتنبه جيدا للمؤثرات التي تسهم في التأثير على شخصيته واستقامته وتدينه، ومن هذه المؤثرات: الأصدقاء ووسائل التواصل الاجتماعي، فإن نصيبها ودورها في التأثير على المراهق هو أشد وأعلى من دورنا.

وفي كل هذه المرحلة علينا أن نتحلى بالصبر والأناة والتحمل، وأن نبتدع أسلوب الحوار والموعظة الحسنة والتدرج في العمل التربوي والرسالي.

نسأل الله أن يوفقكم وأن يقر أعينكم بولدكم وأن يفتح له سبيل الهداية. والله الموفق.


 
س » اعاني من عدم الحضور في الصلاة، فهل أحصل على الثواب؟
ج »
 
لا شك أن العمل إذا كان مستجمعا للشرائط الفقهية، فهو مجزئٌ ومبرئٌ للذمة. أما الثواب فيحتاج إلى خلوص النية لله تعالى بمعنى أن لا يدخل الرياء ونحوه في نية المصلي والعبادة بشكل عام.
ولا ريب أنه كلما كان الإنسان يعيش حالة حضور وتوجه إلى الله كان ثوابه أعلى عند الله، لكن لا نستطيع نفي الثواب عن العمل لمجرد غياب هذا الحضور في بعض الحالات بسبب الظروف الضاغطة على الإنسان نفسيا واجتماعيا.
لكن على الإنسان أن يعالج مشكلة تشتت الذهن أثناء العمل العبادي وذلك من خلال السعي الجاد للتجرد والابتعاد عن كل الهواجس والمشكلات أثناء الإقبال على الصلاة، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، باستحضار عظمة الله عز وجل في نفوسنا وأنه لا يليق بنا أن نواجهه بقلب لاهٍ وغافل. والله الموفق.

 
س » أنا إنسان فاشل، ولا أتوفق في شيء، وقد كتب عليّ بالخسارة، فما هو الحل؟
ج »

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

أولاً: التوفيق في الحياة هو رهن أخذ الإنسان بالأسباب التي جعلها الله موصلة للنجاح، فعلى الإنسان أن يتحرك في حياته الشخصية والمهنية والاجتماعية وفق منطق الأسباب والسنن. على سبيل المثال: فالإنسان لن يصل إلى مبتغاه وهو جليس بيته وحبيس هواجسه، فإذا أراد الثروة فعليه أن يبحث عن أسباب الثروة وإذا أراد الصحة فعليه أن يأخذ بالنصائح الطبية اللازمة وإذا أراد حياة اجتماعية مستقرة عليه أن يسير وفق القوانين والضوابط الإسلامية في المجال الاجتماعي وهكذا.

ثانياً: لا بد للإنسان أن يعمل على رفع معوقات التوفيق، وأني أعتقد أن واحدة من تلك المعوقات هي سيطرة الشعور المتشائم على الإنسان بحيث يوهم نفسه بأنه إنسان فاشل وأنه لن يوفق وأنه لن تناله البركة الإلهية.

إن هذا الإحساس عندما يسيطر على الإنسان فإنه بالتأكيد يجعله إنسانا فاشلا ومحبطا ولن يوفق في حياته ولذلك نصيحتي لك أن تُبعد مثل هذا الوهم عن ذهنك وانطلق في الحياة فإن سبيل الحياة والتوفيق لا تعد ولا تحصى.


 
س » ما هو هدف طلب العلم الذي يجب أن يكون؟
ج »

عندما ينطلق المسلم في طلبه للعلم من مسؤوليته الشرعية الملقاة على عاتقه ومن موقع أنه خليفة الله على الأرض، فإن ذلك سوف يخلق عنده حافزاً كبيراً للجد في طلب العلم والوصول إلى أعلى المراتب. أما إذا انطلق في تحصيله من موقع المباهاة أو إثبات ذاته في المجتمع أو من موقع من يريد أن يزين اسمه بالشهادة الجامعية ليُقال له "الدكتور" وما إلى ذلك، فإنه - في الغالب - لن يصل إلى النتيجة المرجوة.

وعلى كل إنسان منا أن يعي أنّنا في هذه الحياة مسؤولون في أن نترك أثراً طيباً، وأن نقوم بواجباتنا قبل أن يطوينا الزمان، إننا مسؤولون عن عمرنا فيما أفنيناه وعن شبابنا فيما أبليناه، وسنُسأل يوم القيامة عن كل هذه الطاقات التي منّ اللهُ بها علينا.

وأضف إلى ذلك، إنه من الجدير بالمسلم، أن لا يفكر في نفسه وما يريحه هو فحسب في طلبه للعلم، بل أن يفكر أيضاً في أمته والنهوض بها ليكون مستقبلها زاهراً، وهذا كله يحتم عليه أن يكون سقف طموحاته عالياً ليتمكن هو وأقرانه من الطلاب والعلماء من ردم الفجوة بيننا وبين الغرب الذي سبقنا على أكثر من صعيد.

باختصار: إن مسؤوليتنا ورسالتنا وانتماءنا لهذه الأمة يفرض علينا أن نعيش حالة طوارئ ثقافية وعلمية.


 
س » ما رأيكم في الاختلاط المنتشر في عصرنا، وكيف نحاربه؟
ج »

إنّ الاختلاط قد أصبح سمة هذا العصر في كثير من الميادين، ومنها الجامعات والطرقات والساحات وكافة المرافق العامة.. والاختلاط في حد ذاته ليس محرماً ما لم يفضِ إلى تجاوز الحدود الشرعية في العلاقة بين الرجل والمرأة الأجنبيين؛ كما لو أدى إلى الخلوة المحرمة بالمرأة أو مصافحتها أو كان المجلس مشوباً بأجواء الإثارة الغرائزية أو غير ذلك مما حرمه الله تعالى.

وفي ظل هذا الواقع، فإنّ العمل على تحصين النفس أولى من الهروب أو الانزواء عن الآخرين بطريقة تشعرهم بأن المؤمنين يعيشون العُقد النفسية. إن على الشاب المسلم أن يثق بنفسه وأن يفرض حضوره ووقاره، وأن يبادر إلى إقناع الآخرين بمنطقه وحججه، وأن يبيّن لهم أن الانحراف والتبرج والفجور هو العمل السيّئ الذي ينبغي أن يخجل به الإنسان، وليس الإيمان ومظاهر التدين.

وأننا ندعو شبابنا عامة وطلاب الجامعات خاصة من الذكور والإناث إلى أن يتزينوا بالعفاف، وأن يحصنوا أنفسهم بالتقوى بما يصونهم من الوقوع في الحرام.


 
س » كيف يمكن التخلص من السلوكيات والعادات السيئة؟
ج »

إن التغلب على السلوكيات الخاطئة أو العادات السيئة – بشكل عام – يحتاج بعد التوكل على الله تعالى إلى:

أولاً: إرادة وتصميم، ولا يكفي مجرد الرغبة ولا مجرد النية وانما يحتاج بالإضافة إلى ذلك إلى العزم والمثابرة وحمل النفس على ترك ما اعتادته.

ثانياً: وضع برنامج عملي يمكّن الإنسان من الخروج من هذه العادة السيئة بشكل تدريجي؛ وأرجو التركيز على مسألة "التدرج" في الخروج من هذه العادات السيئة؛ لأن إدمان النفس على الشيء يجعل الخروج منه صعباً ويحتاج إلى قطع مراحل، وأما ما يقدم عليه البعض من السعي للخروج الفوري من هذه العادة، فهو - بحسب التجربة - سيُمنى في كثير من الأحيان بالفشل. والله الموفق


 
 
  مقالات >> اجتماعية
العلم والمعرفة في خطّ التزكية
الشيخ حسين الخشن



تنصّ المقرّرات والاتفاقيات العالمية حول حقوق الطفل على اعتبار التعليم حقاً من حقوقه التي يلزم توفيرها له، مؤكدة في الوقت عينه على إلزامية التعليم في المرحلة الابتدائية على الأقل، مع تشجيعها على تطوير أشكال التعليم الثانوي سواءً العام أو المهني وإتاحة ذلك لجميع الأطفال.

 

والإسلام من جهته يؤيّد هذه الاتفاقيات الهادفة إلى إنهاء حالة الأُميّة، بل إنّه كان سبَّاقاً إلى اعتبار طلب العلم واجباً وفريضة على كل مسلم ومسلمة في إطار رؤيته الهادفة إلى تطوير مستوى الأُمّة وتحسين ظروفها، الأمر الذي لن يتحقّق دون الأخذ بأسباب العلم ودون العمل الدؤوب في سبيل

اكتشاف أسرار الكون ومجاهيله، وتجدر الإشارة إلى أنّ التطوّر والتقدّم العلمي يعزّز الإيمان بالله ويركّزه على قاعدة متينة، فإنّ الإيمان بالله يمرّ عن طريق العلم، وأمَّا الجهل فهو مدخل وسبب للكفر والابتعاد عن الله سبحانه.

 

وفيما يرتبط بتعليم الأطفال فقد كان الإسلام واضحاً في اعتبار التعليم حقاً للطفل، وذلك فيما روي في الحديث عن رسول الله (ص): "من حقّ الولد على والده ثلاثة: يحسن اسمه، ويعلّمه الكتابة، ويزوّجه إذا بلغ"(1)، فإنّ الكتابة آنذاك كانت الوسيلة الأساسية لخروج الإنسان من سجن الأُميّة

إلى فضاء العلم ورحابته، وتؤكّد الكثير من الروايات المأثورة على أهمية التعليم في الصغر على اعتبار قابلية الصغير لتلقّي المعلومات وحفظها أكثر من الكبير، ففي الحديث عن رسول الله (ص): "مثل الذي يتعلّم في صغره كالنقش في الحجر ومثل الذي يتعلّم في كبره كالذي يكتب على

الماء"(2)، وتؤشّر إلى ذلك الحكمة المعروفة: "العلم في الصغر كالنقش في الحجر" وهي مروية عن عليّ (ع)(3)

 

 

مراتب الأُميّة

 

وفي ضوء ما تقدّم كان للإسلام حساسية خاصة وموقف صارم من كلّ محاولات فرض الأُميّة والتجهيل التي تتعرّض لها الشعوب من قِبَل أنظمة الاستبداد والطغيان التي ترى أنّ أفضل السبل لضمان استمرارها وبقائها على عرش الزعامة والسلطة تكمن في العمل على مصادرة عقول الجماهير

واختصار الأُمّة بشخص الزعيم وحاشيته وذريّته، وتلك كانت القاعدة الفرعونية باستمرار كما عبَّر عنها القرآن على لسان فرعون: {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر:29].

 

ومن الطبيعي أنَّ نجاح أي مشروع في مواجهة الأُميّة وسياسة التجهيل يعتمد على اتّباع خطة محدّدة وواضحة المعالِم تبدأ مع الإنسان في مرحلة الطفولة، باعتبارها مرحلة البناء والتأسيس الفكري والأخلاقي والروحي، شريطة أن لا تقتصر الجهود المبذولة في مواجهة الأُميّة على السعي لتعليم

الطفل مجرّد القراءة والكتابة أو إقامة ما يُعرَف بدورات محو الأُميّة، فإنّ هذا المقدار من التعلُّم لا يكفي ــ حالياً ــ للخروج من حالة الأُميّة، لأنَّ للأُمية مراتب ومستويات عديدة تبعاً لاختلاف الظروف ومتطلّباتها، وفي زماننا وهو زمان الثورة العلمية والتكنولوجية يعتبر هذا المستوى من التعلُّم ــ

أعني مجرّد القراءة والكتابة ــ نحواً من الأُمية إنْ لم يقترن بمواصلة الجهود للأخذ بأسباب العلم والمعرفة وفق المناهج والآليات العلمية الحديثة.

 

ولا نجانب الصواب في القول: إنّ الأخذ بكافة التخصّصات العلمية ممّا تحتاجه الأُمة في رقيها ويتوقّف عليه نظامها الصحي أو الأمني أو الاقتصادي أو العسكري هو واجب كفائي، فإنّ ذلك هو مقتضى القواعد الفقهية التي تحتّم على الأُمة أن لا تدع نقصاً ولا تترك ثغرة بدون أن تعمل على سدّها،

وإلاّ تحمّلت بأجمعها المسؤولية أمام الله وأمام محكمة التاريخ.

 

 

العِلم وسائر الواجبات

 

وعلاوة على ما تقدَّم فإنَّ العِلم كواجب على الأُمة يتجاوز في أهميته الكثير من الواجبات الإسلامية والحدود الشرعية، وعلى سبيل المثال: لو اضطر طالب الطبّ ــ للضرورة العلمية التي يتوقّف عليها نجاحه ومهارته ــ أن ينظر إلى عورة الآخر رجلاً كان أو امرأة ممَّا هو حرام في الحالات

الاعتيادية جاز له النظر والحال هذه، لأنّ مصلحة مداواة المرضى وإنقاذ النفوس أهم من مفسدة النظر إلى عورة الآخر أو جسمه، وهكذا لو اضطرت الفتيات المسلمات إلى خلع حجابهن لمواصلة رحلة العِلم وإلاَّ مُنِعْنَ من الدراسة كما حصل في فرنسا وغيرها من الدول الأوروبية المدعية

والمفاخرة بحقوق الإنسان، ففي هذه الحالة لو أنّنا استنفذنا كافة الجهود والسبل الاحتجاجية والاعتراضية ولكنها لم تجد نفعاً فنكون أمام أمرين: إمّا أن تختار المرأة المسلمة الحفاظ على حجابها وتترك الذهاب إلى المدرسة وتتحوّل بذلك إلى شبه أُميّة لا تملك من العِلم والثقافة حظّاً ولا نصيباً، وإمَّا

أن تترك حجابها داخل المدرسة بمقدار الضرورة في سبيل أن تواصل رحلة العِلم، وقد ذهب بعض الفقهاء إلى ترجيح الخيار الثاني حتى لا تتحوّل المرأة المسلمة إلى إنسان جاهل ممّا يترك آثاراً سلبية على مستقبلها ومستقبل أبنائها وأسرتها وعلى المجتمع الإسلامي برمّته، وهذا لا يلغي ضرورة

العمل الدؤوب وبذل كافة الجهود من قِبَل المرأة المسلمة والرجل المسلم وسائر المرجعيات والمؤسسات الإسلامية من أجل تغيير هذه القوانين الجائرة التي تمنع المرأة المحجّبة من حقّها في التعليم.

 

 

قساوة الأساليب التعليميّة

 

وفي سياق الحديث عن حقّ الطفل في التعليم يجدر بنا التوقّف عند ملاحظة هامة يمكن تسجيلها على بعض الأساليب التعليميّة الحديثة وهي ما نلحظه من اتّجاه عام لدى المدارس التعليميّة لاسيّما ما يُعرف بالمدرسة الخاصة وفي ظلّ أجواء المنافسة المحتدمة بين المدارس لاستقطاب أكبر عدد من

الطلاب، إلى اعتماد برامج تعليميّة مكثّفة تتسّم بالقساوة وتشكّل عبئاً على الطفل وتصادر كلّ أوقاته وتُحمِّله فوق طاعته، ما يحول بينه وبين ممارسة سائر حقوقه ومتطلّباته، ومنها: حقّه في الترفيه واللهو البريء، وهذا ما يجعل ذويه في حالة استنفار وتوتّر، ويخلق لديه نفوراً من المدرسة والتعليم

بشكلٍ عام.

 

وفي ضوء ذلك فإنّنا نرى بأنّ أصحاب المدارس الخاصة ومسؤوليها مدعوون إلى الاستماع إلى هذا التساؤل الذي طرحناه ومتابعة الأمر بالتشاور المستمر مع ذوي الاختصاص والخبرة والمعرفة بشؤون الطفل، ليضعوا برامجهم التعليميّة بالتنسيق مع هؤلاء فتأتي ملاءِمة ومراعِية لقدرات التلميذ

في مختلف مراحله ومستوياته، بعيداً عن العقل التجاري التنافسي الذي يحكم البعض من أصحاب المدارس الخاصة بما لا يتلاءم كليةً مع رسالة العِلم والمعلِّم.

 

 

التعليم والتزكية

 

إنّ الأهمية التي يوليها الإسلام للمسألة التعليميّة لا يجوز أن تحجب عنَّا أمراً أساسياً يوليه الإسلام أيضاً أهمية بالغة لا تقل عن أهمية العلم ذاته، ألاَ وهو ضرورة توجيه المسألة التعليمية لتكون عملية هادفة ومقرونة بالتهذيب والتزكية، فإنّ العِلم إنْ لم يتم تحصينه بالقيم الأخلاقية قد يصبح أداة دمار

ويقود المجتمع إلى الهلاك، فالإسلام ــ على هذا ــ ينشد العلم الذي يُعمِّر لا الذي يُدمِّر، ويتطلّع إلى العلم الهادف لا العابث، ولهذا وجدنا القرآن الكريم يحرص على أن يَقْرن دوماً بين التعليم والتزكية، مقدِّماً في بعض الأحيان التزكية على التعليم ليتحرّك العلم في إطار التزكية والقيم الأخلاقية،

فوظيفة الأنبياء وفق آيات الكتاب هي التزكية والتعليم {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} [الجمعة:2].

 

 

إنّ التعامل المادي الصرف مع المسألة التعليمية وإقصاءها عن القيم الأخلاقية كما هو حاصل في المناهج التعليمية الغربية أدّى إلى انحسار مساحة المبادئ الإنسانية والمعنوية وغلَّب الجانب النفعي والتجاري على الجانب الإنساني، وقد تسلّلت هذه الروحية النفعية إلى مناهجنا التعليمية في العالَم

الإسلامي فغدونا نطلب العلم للتجارة أكثر ممّا نطلبه لذاته، ولذا فإنّنا نلاحظ أنّ الآباء والأمهات يشعرون بالزهو والفخر عندما ينجح أبناؤهم أو يُمنحون شهادات معينة في الطب أو الهندسة أو غيرها حتى لو كان أبناؤهم أشخاصاً أنانيين يوظّفون شهاداتهم ومعارفهم توظيفاً تجارياً نفعياً، بينما يندر أن

يفاخروا بأبنائهم إذا نالوا شهادات في التهذيب وحسن السلوك، إنّ هذا يعبّر عن مأزق في ثقافتنا يحتّم علينا إعادة النظر في مناهجنا التعليمية، ونحن بهذا الكلام لا نريد أن نفصل أو نفاضل بين العلم والأخلاق ونضعهما في خطّين متوازين لا يلتقيان ليكون على الإنسان أن يختار بين العلم أو

الأخلاق، بل إن ما نرومه هو التنبيه على خطورة الفصل المذكور والتأكيد على العلاقة التفاعلية بين العلم والأخلاق، هذه العلاقة التي تجعلهما يتحرّكان في خطٍّ واحد هو خطّ العلم الهادف المرتكز على الأخلاق، والأخلاق الواعية التي لا تنفصل عن العلم والمعرفة.

 

 

الآثار السلبية للثقافة الاستهلاكية

 

وقد لمس العالَم برمّته الآثار السلبية والنتائج المدمرة لعملية الفصل بين العلم والأخلاق، لمسنا ذلك في هذا الجفاف الروحي والتخشّب المعنوي لدى الإنسان المعاصر، وإنَّ ما تعانيه البشرية من توحّش وعنف إلى حد غدا فيه قتل النفس الإنسانية أهون من قتل ذبابة أو حشرة، وما تعانيه من تهتّك

إلى حدّ الشذوذ وانقلاب القيم والموازين، وما ينتاب الإنسان من ضياع ولا هدفية في الحياة تدفع الكثيرين إلى الانتحار. إنّ ذلك كلّه يشكّل تعبيرات واضحة عن حالة التلوّث الأخلاقي والانحطاط الروحي التي تجتاح الإنسان، ولا تزال وسائل الإعلام تفاجئنا بين وقت وآخر بأخبار مروعة عمّا

يحصل في بعض المدارس في أميركا أو غيرها من عنف أو فساد وإدمان على المخدرات، وقد أصبح مألوفاً أن يحمل التلميذ معه سلاحاً ثم يفتح النار عشوائياً على أساتذته وزملائه فيحصد العشرات منهم!

 

 

الحاجة إلى منهج تربوي

 

والسؤال كيف نواجه هذه الظاهرة الشاذّة؟ وما هو السبيل لتلافي مخاطر الثقافة الاستهلاكية؟

 

إنّ أنسنة العِلم والعملية التعليميّة وربطها بالأخلاق هو شرط أساسي للحدّ من المخاطر المذكورة في سبيل بناء المجتمع الصالح، لأنّ الربط المذكور هو الذي سيساعد على ترويض الغريزة المتوحّشة لدى الإنسان، هذه الغريزة التي يزيدها العلم البعيد عن الأخلاق ضراوة وشرراً، وإنّ دراسة

معمّقة بهدف التعرّف على أسباب انتشار السلوك العدواني لدى الأطفال سوف تعطي نتيجة أكيدة بأنّ السبب الجوهري لذلك هو اجتياح الثقافة الماديّة حياة الإنسان المعاصر وحلولها مكان الثقافة الإنسانية.

 

ولن تعود الأمور إلى نصابها الصحيح وتخرج الإنسانية من حالة التخبّط هذه إلاّ بإعداد منهج تربوي متكامل يرتكز على اعتبار الأخلاق حجر الزاوية في صناعة الإنسان والبناء الإنساني برمّته، ولن يستقيم أمر المجتمعات الإنسانية وتشعر بالأمن في سياستها واقتصادها وعلاقاتها الاجتماعية إذا

ظلَّت ممعنة في إغفال وإهمال الجانب الروحي لدى الإنسان، هذا الجانب الذي أولته الرسالات السماوية أهمية كبيرة إلى درجة يلخص فيها النبيّ (ص) هدف بعثته ورسالته بجملة "إنَّما بُعِثْتُ لأُتمِّمَ مكارِمَ الأخلاق"(4) وقد أجاد أمير الشعراء في التعبير عن هذا المعنى عندما قال:

 

        وإِنَّما الأُمم الأخلاق ما بقيت             فإن هُمُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا

 

ولا بدَّ أن نعترف بأنّ إعداد الناشئة إعداداً تربوياً سليماً أضحى وفي ظلّ الهجوم الكاسح للثقافة الاستهلاكية المادية عملية صعبة ومعقّدة، ويحتاج إلى تظافر الجهود والطاقات واستنفار كافة المؤسسات المعنيّة والمتخصّصة وذات الصلة في سبيل وضع البرنامج المتكامل لحماية المجتمع من مخاطر

الثقافة السائدة التي تشوّه الطفولة وتتاجر بالأطفال من خلال أساليبها المتعدّدة وأخطرها أفلام العنف والرعب والإباحيّة التي تلوّث الفطرة النقيّة لدى الأطفال وتفسد أخلاقهم، هذا فضلاً عن دور الأُسرة الأساسي في هذا المضمار وكذلك دور المدرسة التي لا يكفي في إسقاط المسؤولية عنها أن

تخصّص حصّة أسبوعية لمادة التربية عموماً أو التربية الدينية خصوصاً، بل عليها اعتماد خطّة متكاملة ومنهجاً تعليمياً يرتكز على القيم الأخلاقية والمعنوية لتدخّل الأخلاق في روح وجسد العملية التعليمية من خلال الأمثلة التطبيقية لمختلف الدروس الأدبية والعلمية، على أن يتمّ ذلك وفق أساليب

تيسيرية توصل الفكرة بأحدث الطرق وأسلسها.

 

 

نمط الحياة الإسلامية والغربية

 

وعلى هذا الأساس فإنّ ما يصرّح به الكثير من أصحاب الرأي والقادة والزعماء السياسيين الغربيين ومنهم الرئيس الأميركي جورج بوش من أنّ أكثر ما يخيفهم في الإسلام أنّه يهدِّد نمط الحياة الغربية وأسلوب العيش لدى الغربيين، هو كلام واستنتاج صحيح، فإنّ جوهر الخلاف بيننا وبين الغرب

يكمن في نمط الحياة الإنسانية وما ينبغي أن تكون عليه، فالإسلام يرفض الثقافة الاستهلاكية المادية المنتشرة في الغرب، لأنّها أدَّت إلى تسليع الإنسان وإفراغه من القيم والمبادئ المعنوية، إنّ الإسلام يريد للحياة وأنماط العيش أن ترتكز على الإيمان بالله سبحانه واليوم الآخر واعتبار البعد الروحي

أهمَّ بعدٍ في الشخصية الإنسانية، إنّه يريد أن يرفع الإنسان عن الإخلاد إلى الأرض ليتسامى روحياً ومعنوياً، قال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ*وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ

يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف:175ــ176].

 

 

الأخلاق كسلوك

 

وعلى ضوء ما تقدّم يصبح واضحاً أنّ ما يؤكّد عليه الإسلام ويعتبره ركناً أساسياً في صناعة الإنسان وبناء الشخصية الإنسانية ليس هو الأخلاق كعِلم نظري، بل هو الأخلاق كسلوك تطبيقي ونمط حياة، فإنَّ الأخلاق بوصفها علماً نظرياً هي حقل تخصّصي ومن الممكن أن يتعلّمه وقد يبدع فيه

ويُنَظِّر له من هو أبعد الناس عنه عملاً وتجسيداً، وقد رأينا بعض أساتذة التربية والأخلاق لا يحملون من الأخلاق شيئاً، فهم يحذّرونك من مساوئ الحقد مع أنّ قلوبهم تمتلئ بالكراهية والغلّ، ويحدّثونك عن مضار الخمرة وهم من مدمنيها، وهذا النوع من الانفصام في الشخصية الإنسانية بين

المعرفة والسلوك هو مشكلة الإنسان على مرَّ التاريخ، وقد ندَّد القرآن بذلك تنديداً بليغاً معتبراً أنّ حال الشخص الذي يحمل العلم دون أن يجسّده في حياته كحال الحمار الذي يحمل كتباً دون أن ينتفع بها {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً..} [الجمعة:5]، وفي

الحديث المروي عن رسول الله (ص): "إنّ أهل النار ليتأذّون من ريح العالِم التارك لعلمه"(5).

 

 

 

من كتاب "حقوق الطفل في الإسلام"

تم النشر في 28-5-2015

 



(1) روضة الواعظين: 368.

(2) كنز العمال: 10/249.

(3) كنز الفوائد ص: 147، وعنه بحار الأنوار: 1/224.

(4) بحار الأنوار: 16/210.

(5) الكافي: 1/44.

 






اضافة تعليق

الاسم *

البريد الإلكتروني *

موضوع *

الرسالة *


 


 
  قراءة الكتب
 
    Designed and Developed
       by CreativeLebanon