حوار مع مركز أفاق للدراسات والأبحاث: مشكلة الأديان تتشكل في الخطاب الفقهي    ثمن الحرية    أمثل الأساليب في عمليّة تهذيب النفس    مزايا الشباب    العمل سرّ النجاح    العبادة وعيٌ وانفتاح لا جهل وانغلاق    اقتناء أصنام الأمم البائدة    المفاهيم الدينية بين وجوب الاعتقاد وحرمة الانكار    البناء الاعتقادي بين الاجتهاد والتقليد    
 
بحث
 
تكريم الإنسان
 
س » أنا طالب علم، لدي خوف من أن أتكلم بغير علم.. ما الحل؟
ج »

وعليكم السلام

لا بد لطالب العلم في مساره العلمي أن يتسلح بأمرين أساسيين:
الأول: الاستنفار العلمي وبذل الجهد الكافي لمعرفة قواعد فهم النص واستكناه معناه ودلالاته بما يعينه على التفقه في الدين وتكوين الرأي على أسس صحيحة.
الثاني: التقوى العلمية ويُراد بها استحضار الله سبحانه وتعالى في النفس حذراً من الوقوع في فخ التقوّل على الله بغير علم. ومن الضروري أن يعيش مع نفسه حالة من المحاسبة الشديدة ومساءلة النفس من أن دافعه إلى تبني هذا الرأي أو ذاك: هل هو الهوى والرغبة الشخصية أم أن الدافع هو الوصول إلى الحقيقة ولو كانت على خلاف الهوى.
أعتقد أن طالب العلم إذا أحكم هذين الامرين فإنه سيكون موفقاً في مسيرته العلمية وفيما يختاره من آراء أو يتبناه من موقف.

 
س » كيف علمنا أن الصحيفة السجادية ناقصة؟ وهل ما وجده العلماء من الأدعية صحيح؟؟
ج »

أقول في الإجابة على سؤالكم:

أولاً: إن الصحيفة السجادية في الأصل تزيد على ما هو واصل إلينا وموجود بين أيدينا، قال المتوكل بن هارون كما جاء في مقدمة الصحيفة: " ثم أملى عليّ أبو عبد الله (ع) الأدعية، وهي خمسة وسبعون باباً، سقط عني منها أحد عشر باباً، وحفظت منها نيفاً وستين باباً"، بيد أن الموجود فعلاً في الصحيفة الواصلة إلينا هو أربعة وخمسون دعاء. آخرها دعاؤه في استكشاف الهموم، وهذا آخر دعاء شرحه السيد علي خان المدني في رياض السالكين، وكذا فعل غيره من الأعلام.

ثانياً: إن سقوط عدد من أدعية الصحيفة وضياعها دفع غير واحد من الأعلام للبحث والتتبع في محاولة لمعرفة ما هو الضائع منها، وبحدود اطلاعي فإنهم عثروا على أدعية كثيرة مروية عن الإمام زين العابدين (ع)، لكنهم لم يصلوا إلى نتائج تفيد أن ما عثروا عليه هو من الأدعية الناقصة منها، ولذا عنونوا مؤلفاتهم بعنوان مستدركات على الصحيفة، ولم يجزموا أن ما جمعوه من أدعية هو الضائع من أدعية الصحيفة. وهذا ما تقتضيه الضوابط العلمية والدينية، فما لم يعثر الإنسان على نسخة قديمة موثوقة أو قرائن مفيدة للوثوق بأن هذا الدعاء أو ذاك هو من جملة أدعية الصحيفة فلا يصح له إضافة بعض الأدعية على الصحيفة بعنوان كونها منها.

ثالثاً: لقد ابتُلينا بظاهرة خطيرة، وهي ظاهرة الإضافة على الصحيفة أو غيرها من كتب الأدعية، وهذا العمل هو خلاف الأمانة والتقوى، وقد ترتّب على ذلك الكثير من المفاسد، وأوجب ذلك وهماً للكثيرين، فتوهموا أن بعض الأدعية هي جزء من الصحيفة السجادية المشهورة، ومردّ ذلك بكل أسف إلى أن مجال الأدعية والزيارات شرعة لكل وارد، وتُرك لأصحاب المطابع والمطامع! وأعتقد أن هذا العبث في كتب الأدعية والزيارات ناشئ عن عدم عناية العلماء بالأمر بهذه الكتب كما ينبغي ويلزم، كما نبه عليه المحدث النوري في كتابه "اللؤلؤ والمرجان" مستغرباً صمت العلماء إزاء التلاعب والعبث بنصوص الأدعية والزيارات مما يعدّ جرأة عظيمة على الله تعالى ورسوله (ص)!

رابعاً: أما ما سألتم عنه حول مدى صحة الأدعية الواردة بعد دعاء استكشاف الهموم، فهذا أمر لا يسعنا إعطاء جواب حاسم وشامل فيه، بل لا بدّ أن يدرس كل دعاء على حدة، ليرى ما إذا كانت قرائن السند والمتن تبعث على الحكم بصحته أم لا. فإن المناجاة الخمس عشرة بنظرنا لم تصح وربما كانت من وضع الصوفية، وقد أوضحنا ذلك بشكل مفصل في كتاب الشيع والغلو.


 
س » ابني المراهق يعاني من التشتت، وأنا جدا قلق ولا اعرف التصرف معه، ما هي نصيحتكم؟
ج »

التشتت في الانتباه في سن المراهقة مع ما يرافقه من الصعوبات هو في حدود معينة أمر طبيعي وظاهرة تصيب الكثير من المراهقين ولا سيما في عصرنا هذا.

وعلينا التعامل مع هذه المرحلة بدقة متناهية من الاستيعاب والتفهم والإرشاد والتوجيه وتفهم سن المراهق، وأن هذه المرحلة تحتاج إلى أسلوب مختلف عما سبقها.

فالمراهق ينمو لديه الإحساس بالذات كثيرا حتى ليخيل إليه أنه لم يعد بحاجة إلى الاحتضان والرعاية من قِبل والديه.

وبالتالي علينا أن نتعامل معه بأسلوب المصادقة "صادقه سبعا.." والتنبه جيدا للمؤثرات التي تسهم في التأثير على شخصيته واستقامته وتدينه، ومن هذه المؤثرات: الأصدقاء ووسائل التواصل الاجتماعي، فإن نصيبها ودورها في التأثير على المراهق هو أشد وأعلى من دورنا.

وفي كل هذه المرحلة علينا أن نتحلى بالصبر والأناة والتحمل، وأن نبتدع أسلوب الحوار والموعظة الحسنة والتدرج في العمل التربوي والرسالي.

نسأل الله أن يوفقكم وأن يقر أعينكم بولدكم وأن يفتح له سبيل الهداية. والله الموفق.


 
س » اعاني من عدم الحضور في الصلاة، فهل أحصل على الثواب؟
ج »
 
لا شك أن العمل إذا كان مستجمعا للشرائط الفقهية، فهو مجزئٌ ومبرئٌ للذمة. أما الثواب فيحتاج إلى خلوص النية لله تعالى بمعنى أن لا يدخل الرياء ونحوه في نية المصلي والعبادة بشكل عام.
ولا ريب أنه كلما كان الإنسان يعيش حالة حضور وتوجه إلى الله كان ثوابه أعلى عند الله، لكن لا نستطيع نفي الثواب عن العمل لمجرد غياب هذا الحضور في بعض الحالات بسبب الظروف الضاغطة على الإنسان نفسيا واجتماعيا.
لكن على الإنسان أن يعالج مشكلة تشتت الذهن أثناء العمل العبادي وذلك من خلال السعي الجاد للتجرد والابتعاد عن كل الهواجس والمشكلات أثناء الإقبال على الصلاة، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، باستحضار عظمة الله عز وجل في نفوسنا وأنه لا يليق بنا أن نواجهه بقلب لاهٍ وغافل. والله الموفق.

 
س » أنا إنسان فاشل، ولا أتوفق في شيء، وقد كتب عليّ بالخسارة، فما هو الحل؟
ج »

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

أولاً: التوفيق في الحياة هو رهن أخذ الإنسان بالأسباب التي جعلها الله موصلة للنجاح، فعلى الإنسان أن يتحرك في حياته الشخصية والمهنية والاجتماعية وفق منطق الأسباب والسنن. على سبيل المثال: فالإنسان لن يصل إلى مبتغاه وهو جليس بيته وحبيس هواجسه، فإذا أراد الثروة فعليه أن يبحث عن أسباب الثروة وإذا أراد الصحة فعليه أن يأخذ بالنصائح الطبية اللازمة وإذا أراد حياة اجتماعية مستقرة عليه أن يسير وفق القوانين والضوابط الإسلامية في المجال الاجتماعي وهكذا.

ثانياً: لا بد للإنسان أن يعمل على رفع معوقات التوفيق، وأني أعتقد أن واحدة من تلك المعوقات هي سيطرة الشعور المتشائم على الإنسان بحيث يوهم نفسه بأنه إنسان فاشل وأنه لن يوفق وأنه لن تناله البركة الإلهية.

إن هذا الإحساس عندما يسيطر على الإنسان فإنه بالتأكيد يجعله إنسانا فاشلا ومحبطا ولن يوفق في حياته ولذلك نصيحتي لك أن تُبعد مثل هذا الوهم عن ذهنك وانطلق في الحياة فإن سبيل الحياة والتوفيق لا تعد ولا تحصى.


 
س » ما هو هدف طلب العلم الذي يجب أن يكون؟
ج »

عندما ينطلق المسلم في طلبه للعلم من مسؤوليته الشرعية الملقاة على عاتقه ومن موقع أنه خليفة الله على الأرض، فإن ذلك سوف يخلق عنده حافزاً كبيراً للجد في طلب العلم والوصول إلى أعلى المراتب. أما إذا انطلق في تحصيله من موقع المباهاة أو إثبات ذاته في المجتمع أو من موقع من يريد أن يزين اسمه بالشهادة الجامعية ليُقال له "الدكتور" وما إلى ذلك، فإنه - في الغالب - لن يصل إلى النتيجة المرجوة.

وعلى كل إنسان منا أن يعي أنّنا في هذه الحياة مسؤولون في أن نترك أثراً طيباً، وأن نقوم بواجباتنا قبل أن يطوينا الزمان، إننا مسؤولون عن عمرنا فيما أفنيناه وعن شبابنا فيما أبليناه، وسنُسأل يوم القيامة عن كل هذه الطاقات التي منّ اللهُ بها علينا.

وأضف إلى ذلك، إنه من الجدير بالمسلم، أن لا يفكر في نفسه وما يريحه هو فحسب في طلبه للعلم، بل أن يفكر أيضاً في أمته والنهوض بها ليكون مستقبلها زاهراً، وهذا كله يحتم عليه أن يكون سقف طموحاته عالياً ليتمكن هو وأقرانه من الطلاب والعلماء من ردم الفجوة بيننا وبين الغرب الذي سبقنا على أكثر من صعيد.

باختصار: إن مسؤوليتنا ورسالتنا وانتماءنا لهذه الأمة يفرض علينا أن نعيش حالة طوارئ ثقافية وعلمية.


 
س » ما رأيكم في الاختلاط المنتشر في عصرنا، وكيف نحاربه؟
ج »

إنّ الاختلاط قد أصبح سمة هذا العصر في كثير من الميادين، ومنها الجامعات والطرقات والساحات وكافة المرافق العامة.. والاختلاط في حد ذاته ليس محرماً ما لم يفضِ إلى تجاوز الحدود الشرعية في العلاقة بين الرجل والمرأة الأجنبيين؛ كما لو أدى إلى الخلوة المحرمة بالمرأة أو مصافحتها أو كان المجلس مشوباً بأجواء الإثارة الغرائزية أو غير ذلك مما حرمه الله تعالى.

وفي ظل هذا الواقع، فإنّ العمل على تحصين النفس أولى من الهروب أو الانزواء عن الآخرين بطريقة تشعرهم بأن المؤمنين يعيشون العُقد النفسية. إن على الشاب المسلم أن يثق بنفسه وأن يفرض حضوره ووقاره، وأن يبادر إلى إقناع الآخرين بمنطقه وحججه، وأن يبيّن لهم أن الانحراف والتبرج والفجور هو العمل السيّئ الذي ينبغي أن يخجل به الإنسان، وليس الإيمان ومظاهر التدين.

وأننا ندعو شبابنا عامة وطلاب الجامعات خاصة من الذكور والإناث إلى أن يتزينوا بالعفاف، وأن يحصنوا أنفسهم بالتقوى بما يصونهم من الوقوع في الحرام.


 
س » كيف يمكن التخلص من السلوكيات والعادات السيئة؟
ج »

إن التغلب على السلوكيات الخاطئة أو العادات السيئة – بشكل عام – يحتاج بعد التوكل على الله تعالى إلى:

أولاً: إرادة وتصميم، ولا يكفي مجرد الرغبة ولا مجرد النية وانما يحتاج بالإضافة إلى ذلك إلى العزم والمثابرة وحمل النفس على ترك ما اعتادته.

ثانياً: وضع برنامج عملي يمكّن الإنسان من الخروج من هذه العادة السيئة بشكل تدريجي؛ وأرجو التركيز على مسألة "التدرج" في الخروج من هذه العادات السيئة؛ لأن إدمان النفس على الشيء يجعل الخروج منه صعباً ويحتاج إلى قطع مراحل، وأما ما يقدم عليه البعض من السعي للخروج الفوري من هذه العادة، فهو - بحسب التجربة - سيُمنى في كثير من الأحيان بالفشل. والله الموفق


 
 
  مقالات >> اجتماعية
العدل بين الأولاد
الشيخ حسين الخشن



يمثّل العدل القيمة الكبيرة والعنوان الأساسي الذي يلخّص كل تطلّعات الأنبياء وأهداف الرسالات، وهو المبدأ الذي يؤكّد هدفية الحياة ومعناها، ويوضّح سرّ القيامة وفلسفة يوم الحساب، وهو القانون الذي أراد الله له أن يحكم المجتمع في كل علاقاته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.. بما يكفل

تحقيق الأمن والاستقرار وإعطاء كلّ ذي حقٍّ حقّه، ولذا فإنّ قانون العدل قانون مطرد لا يقبل الاستثناء، لأنّه يستمد حسنه من العقل، وأحكام العقل لا تقبل التخصيص والتقييد.

 

 

العدل بين الأبناء

 

ومن المساحات أو المجالات التي يرى العقل ضرورة أن يحكمها قانون العدل: المجال التربوي سواء في نطاق المدرسة أو الأسرة، وتحديداً في مجال علاقة الآباء بالأبناء، فاللازم على الآباء والأمهات أن لا يحيدوا عن خطّ العدل في تربية أبنائهم، ولا يفاضلوا بينهم، لأنّ المُفاضلة بغير وجه حق

تعبّر عن سوء التربية وتسهم في زرع الأحقاد والعداوات بين الأخوة، ولذا جاء الأمر النبوي الإرشادي بضرورة مراعاة العدل بين الأبناء، مقروناً بالأمر بالتقوى، باعتبار أنّ هذا المعنى لا يقف عنده إلاّ المتّقون ولا يوفّق له إلاَّ من شرح الله صدره للهداية وأمدَّه بالبصرة النافذة، قال (ص) ــ فيما

روي عنه: "إتّقوا الله واعدلوا بين أولادكم"(1).

 

وتنصّ بعض الروايات على أنّ العدل بين الأبناء هو حق من حقوقهم على الآباء والأولياء، ففي الحديث المروي عنه (ص): "إنّ لهم عليك من الحقّ أن تعدل بينهم، كما أنّ لك من الحقّ أن يبرّوك"(2).

 

ثمّ إنّ العدل بين الأبناء لا بدَّ أن يتحرّك على مختلف المستويات المادية والمعنوية ودونما فرق بين جنس الولد أو لونه، وفيما يلي نشير إلى بعض هذه المجالات.

 

 

1 ــ العدل على المستوى المادي

 

إنّ المطلوب والمفترض بالآباء أن يعدلوا بين أبنائهم في النفقة، لجهة المأكل والمشرب والملبس والمسكن والعلاج، فلا يحقّ لهم أن يفاضلوا بين ولدٍ وآخر بغير حق، لاسيّما بين الذكور  والإناث، كما يفعله الكثيرون ممّن لا تزال العقلية الجاهلية الذكورية تتحكَّم بهم، فيهتمون بالذكر أكثر من الأنثى

ويوفِّرون له كلّ متطلّباته دونها، إنّ هذا السلوك والتصرّف قبيح عقلاً ومذموم شرعاً، ويعبّر عن واقع مختلف، وقد روي في الحديث عن ابن عباس قال: قال رسول الله (ص): "ساووا بين أولادكم في العطيّة فلو كنت مفضَّلاً أحداً لفضّلت النساء"(3)، إنّ الأب الذي يتحلّى بالوعي والحكمة لا

يفاضل بين أبنائه في الهدايا والعطايا، وكذا الأم الحكيمة، حرصاً على نقاء العلاقة بين الأبناء وكسب مودّتهم، قال (ص) ــ فيما روي عنه: ــ "أعدلوا بين أولادكم في النِّحل (جمع نحلة وهي الهدية) كما تحبُّون أن يعدلوا بينكم في البِّر  واللطف"(4).

 

وإرشاداً منه إلى أهمية المساواة بين الأبناء فقد رفض النبيّ (ص) أن يشهد على وثيقة أو وصية لا تراعي مبدأ العدالة، ففي الخبر عن النعمان بن بشير قال: سَأَلَتْ أمي أبي بعض الموهبة لي فأخذ أبي بيدي، وأنا غلام، فأتى رسول الله (ص)، فقال: يا رسول الله إنّ أم هذا ابنة رواحة طلبت مني

بعض الموهبة، وقد أعجبها أن أشهدك على ذلك، قال (ص): يا بشير ألكَ ابن غير هذا؟ قال: نعم، قال: فوهبت له ما وهبت لهذا؟ قال: لا، قال (ص): فلا تشهدني إذاً، فإنّي لا أشهد على جور"(5).

 

 

2 ــ العدل على المستوى العاطفي

 

ربّما كان العدل على المستوى العاطفي أبلغ أثراً وفعالية من العدل على الصعيد المادي، لما له من إسهام مباشر في خلق مناخات الثقة بين الأخوة، الأمر الذي يحتّم على الوالدين أن يوزّعا عاطفتهما على الأبناء بشكلٍ مساوٍ.

 

ولكن لا بدَّ أن يُعلم أنّنا لا نقصد بالعدالة على المستوى العاطفي المساواة بين الأبناء في الميل القلبي الباطني، فهذا أمر ربّما كان خارجاً عن القدرة في الأعمّ الأغلب، لأنّ الإنسان قد لا يملك أمر عاطفته في المطلق، فيميل قلبياً إلى أحد أبنائه بشكل لا إرادي أكثر ممّا يميل إلى البقيّة، تماماً كما هو

ميل الرجل عاطفياً إلى إحدى زوجتيه مثلاً، ولذا فإنّ العدل القلبي بين الأبناء ليس مطلوباً، كما أنّه ليس مطلوباً بين الزوجتين، وقد أشار الله إلى عدم قدرة الإنسان على التحكُّم بعواطفه فقال: {وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} [النساء:129]

وإنّما المطلوب هو العدل في إظهار المشاعر وإبراز الميل القلبي، فربّما يحتلّ أحد الأبناء مكانة خاصة في قلب الأب أو الأم، وهذا أمرٌ لا حرج فيه، بيد أن مقتضى الحكمة أن لا يظهرا هذا الميل فينحازا إلى هذا الطفل دون ذاك، سواءً في القبلة أو الملاعبة أو النظرة، ففي الحديث عن رسول الله

(ص): "إنّ الله تعالى يحبّ أن تعدلوا بين أولادكم حتى في القُبَلْ"(6)، وفي رواية أخرى: "نظر رسول الله (ص) إلى رجل له إبنان فقبَّل أحدهما وترك الآخر، فقال له النبيّ (ص): فهلاّ واسيت بينهما"(7).

 

 

إنَّ القبلة التي يطبعها الأب أو الأم على وجنة ابنه ــ في الوقت الذي ينظر ابنه الآخر إليه نظرة غيرة وحسد ــ قد تشعل فتيل العداوة بين الأخوة وتزرع الأحقاد فيما بينهم، ولذا فالأجدر به تقبيل الاثنين أو ترك تقبيلهما معاً، نعم قد تقتضي الحكمة ــ أحياناً ــ أن يظهر الأب أو الأم الاهتمام بأحد الأبناء

في محاولة لتخفيف غلواء الغيرة والحسد التي يحملها اتّجاه أخوته وبذلك يحميهم من محاولات شرّه وكيده، وهذا ما ورد في الخبر عن الإمام الصادق (ع) قال: قال والدي (ع): والله إنّي لأصانع بعض وُلدي وأجلسه على فخذي وأُكْثِرُ له من المحبّة وأُكْثِرُ له من الشكر وإنّ الحق لغيره من ولدي،

ولكن محافظة عليه منه ومن غيره، لئلا يصنعوا به ما فُعل بيوسف وأخوته، وما أنزل الله سورة يوسف إلاّ أمثالاً، لكي لا يحسد بعضنا بعضاً كما حسد يوسفَ أخوتُه"(8).

 

 

3 ــ العدل في الثواب والعقاب

 

وهكذا لا بدَّ أن تمتد المساواة والعدالة بين الأبناء إلى المجال التربوي والتأديبي، فيوازن ويساوي الأب أو المربّي بين الأطفال في المدح والثناء، أو في المؤاخذة والعقاب، فإذا أدّى الأبناء عملاً جيداً يستحقون عليه الثناء والإثابة فلا بدَّ من الثناء على الجميع، وإذا ارتكبوا خطأ يستوجب التأنيب،

فليؤنِّب الجميع، وأمّا إذا أحسن البعض وأساء البعض الآخر فلا بدّ من المفاضلة بينهم وإعطاء كلّ ذي حقٍّ حقّه، ولا يجوز والحال هذه المساواة بين الفريقين، بل إنّه لظلم بيِّنٌ أن يُعاقب الجميع أو يؤنّبهم على خطأ لم يرتكبوه وإنّما ارتكبه بعضهم، قال تعالى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}

[الأنعام:164].

 

 

5 ــ المعلّم والعدل مع الطلاّب

 

وكما يطلب الإسلام من الأبوين أن يسيرا على أساس العدل في تعاملهما مع الأبناء، فإنّه يطلب أيضاً من المعلّم والمربّي أن يجعل العدل منهاجه في تعامله مع التلامذة، وإذا كان العدل يعني وضع الأمور في مواضعها وإعطاء كلّ ذي حقٍّ حقّه، فإنّ ذلك يفرض على المعلّم (الموظّف أو المستأجر

للتعليم) أن يساوي بين طلاّبه في الشرح والتفهيم ولو على مستوى النظرة والابتسامة، فلا يهتم بطالب على حساب الآخرين حتى لو كان هذا الطالب من أقربائه أو تربطه به علاقة معيّنة، كما أنّ عليه أن يعدل بينهم في التقييم والتقدير، فلو أنّه منح طالباً معيّناً علامة لا يستحقها لكونه قريبه أو ابن

صديقه أو ليظهر لزملائه من الأساتذة ولإدارة المدرسة أنّ طلاّبه مجدّون، أو أنقص طالباً آخر علامة يستحقّها لعصبية أو لغير ذلك من الأسباب، فإنّه بذلك كلّه يخرج عن خطّ العدالة والاستقامة ويرتكب خيانة يستحق عليها العقاب والمؤاخذة في محكمة العدل الإلهي التي لا تغادر صغيرة ولا

كبيرة، وقد ورد في الخبر عن أمير المؤمنين (ع): "ألقى صبيان الكتَّاب ألواحهم بين يديه ليخيِّر (أي ليحكم بينهم ويحدِّد الأكفأ) فقال (ع): أما إنّها حكومة والجور فيها كالجور في الحكم"(9).

 

من كتاب "حقوق الطفل في الإسلام"

تم النشر على المرقع في 9-6-2015

 

 



(1) حديث معروف ومروي في العديد من المصادر الإسلامية، راجع على سبيل المثال: مكارم الأخلاق؛ ص:220، وكنزل العمال: 16/445.

(2) مسند أحمد: 4/270.

(3) كنز العمال: 16/444.

(4) السنن الكبرى: 6/178.

(5) سنن النسائي: 6/26.

(6) كنز العمال: 6/445.

(7) مَن لا يحضره الفقيه: 3/483.

(8) تفسير العياشي: 2/166.

(9) الكافي: 7/268.

 






اضافة تعليق

الاسم *

البريد الإلكتروني *

موضوع *

الرسالة *


 


 
  قراءة الكتب
 
    Designed and Developed
       by CreativeLebanon