حوار مع مركز أفاق للدراسات والأبحاث: مشكلة الأديان تتشكل في الخطاب الفقهي    ثمن الحرية    أمثل الأساليب في عمليّة تهذيب النفس    مزايا الشباب    العمل سرّ النجاح    العبادة وعيٌ وانفتاح لا جهل وانغلاق    اقتناء أصنام الأمم البائدة    المفاهيم الدينية بين وجوب الاعتقاد وحرمة الانكار    البناء الاعتقادي بين الاجتهاد والتقليد    
 
بحث
 
تكريم الإنسان
 
س » أنا طالب علم، لدي خوف من أن أتكلم بغير علم.. ما الحل؟
ج »

وعليكم السلام

لا بد لطالب العلم في مساره العلمي أن يتسلح بأمرين أساسيين:
الأول: الاستنفار العلمي وبذل الجهد الكافي لمعرفة قواعد فهم النص واستكناه معناه ودلالاته بما يعينه على التفقه في الدين وتكوين الرأي على أسس صحيحة.
الثاني: التقوى العلمية ويُراد بها استحضار الله سبحانه وتعالى في النفس حذراً من الوقوع في فخ التقوّل على الله بغير علم. ومن الضروري أن يعيش مع نفسه حالة من المحاسبة الشديدة ومساءلة النفس من أن دافعه إلى تبني هذا الرأي أو ذاك: هل هو الهوى والرغبة الشخصية أم أن الدافع هو الوصول إلى الحقيقة ولو كانت على خلاف الهوى.
أعتقد أن طالب العلم إذا أحكم هذين الامرين فإنه سيكون موفقاً في مسيرته العلمية وفيما يختاره من آراء أو يتبناه من موقف.

 
س » كيف علمنا أن الصحيفة السجادية ناقصة؟ وهل ما وجده العلماء من الأدعية صحيح؟؟
ج »

أقول في الإجابة على سؤالكم:

أولاً: إن الصحيفة السجادية في الأصل تزيد على ما هو واصل إلينا وموجود بين أيدينا، قال المتوكل بن هارون كما جاء في مقدمة الصحيفة: " ثم أملى عليّ أبو عبد الله (ع) الأدعية، وهي خمسة وسبعون باباً، سقط عني منها أحد عشر باباً، وحفظت منها نيفاً وستين باباً"، بيد أن الموجود فعلاً في الصحيفة الواصلة إلينا هو أربعة وخمسون دعاء. آخرها دعاؤه في استكشاف الهموم، وهذا آخر دعاء شرحه السيد علي خان المدني في رياض السالكين، وكذا فعل غيره من الأعلام.

ثانياً: إن سقوط عدد من أدعية الصحيفة وضياعها دفع غير واحد من الأعلام للبحث والتتبع في محاولة لمعرفة ما هو الضائع منها، وبحدود اطلاعي فإنهم عثروا على أدعية كثيرة مروية عن الإمام زين العابدين (ع)، لكنهم لم يصلوا إلى نتائج تفيد أن ما عثروا عليه هو من الأدعية الناقصة منها، ولذا عنونوا مؤلفاتهم بعنوان مستدركات على الصحيفة، ولم يجزموا أن ما جمعوه من أدعية هو الضائع من أدعية الصحيفة. وهذا ما تقتضيه الضوابط العلمية والدينية، فما لم يعثر الإنسان على نسخة قديمة موثوقة أو قرائن مفيدة للوثوق بأن هذا الدعاء أو ذاك هو من جملة أدعية الصحيفة فلا يصح له إضافة بعض الأدعية على الصحيفة بعنوان كونها منها.

ثالثاً: لقد ابتُلينا بظاهرة خطيرة، وهي ظاهرة الإضافة على الصحيفة أو غيرها من كتب الأدعية، وهذا العمل هو خلاف الأمانة والتقوى، وقد ترتّب على ذلك الكثير من المفاسد، وأوجب ذلك وهماً للكثيرين، فتوهموا أن بعض الأدعية هي جزء من الصحيفة السجادية المشهورة، ومردّ ذلك بكل أسف إلى أن مجال الأدعية والزيارات شرعة لكل وارد، وتُرك لأصحاب المطابع والمطامع! وأعتقد أن هذا العبث في كتب الأدعية والزيارات ناشئ عن عدم عناية العلماء بالأمر بهذه الكتب كما ينبغي ويلزم، كما نبه عليه المحدث النوري في كتابه "اللؤلؤ والمرجان" مستغرباً صمت العلماء إزاء التلاعب والعبث بنصوص الأدعية والزيارات مما يعدّ جرأة عظيمة على الله تعالى ورسوله (ص)!

رابعاً: أما ما سألتم عنه حول مدى صحة الأدعية الواردة بعد دعاء استكشاف الهموم، فهذا أمر لا يسعنا إعطاء جواب حاسم وشامل فيه، بل لا بدّ أن يدرس كل دعاء على حدة، ليرى ما إذا كانت قرائن السند والمتن تبعث على الحكم بصحته أم لا. فإن المناجاة الخمس عشرة بنظرنا لم تصح وربما كانت من وضع الصوفية، وقد أوضحنا ذلك بشكل مفصل في كتاب الشيع والغلو.


 
س » ابني المراهق يعاني من التشتت، وأنا جدا قلق ولا اعرف التصرف معه، ما هي نصيحتكم؟
ج »

التشتت في الانتباه في سن المراهقة مع ما يرافقه من الصعوبات هو في حدود معينة أمر طبيعي وظاهرة تصيب الكثير من المراهقين ولا سيما في عصرنا هذا.

وعلينا التعامل مع هذه المرحلة بدقة متناهية من الاستيعاب والتفهم والإرشاد والتوجيه وتفهم سن المراهق، وأن هذه المرحلة تحتاج إلى أسلوب مختلف عما سبقها.

فالمراهق ينمو لديه الإحساس بالذات كثيرا حتى ليخيل إليه أنه لم يعد بحاجة إلى الاحتضان والرعاية من قِبل والديه.

وبالتالي علينا أن نتعامل معه بأسلوب المصادقة "صادقه سبعا.." والتنبه جيدا للمؤثرات التي تسهم في التأثير على شخصيته واستقامته وتدينه، ومن هذه المؤثرات: الأصدقاء ووسائل التواصل الاجتماعي، فإن نصيبها ودورها في التأثير على المراهق هو أشد وأعلى من دورنا.

وفي كل هذه المرحلة علينا أن نتحلى بالصبر والأناة والتحمل، وأن نبتدع أسلوب الحوار والموعظة الحسنة والتدرج في العمل التربوي والرسالي.

نسأل الله أن يوفقكم وأن يقر أعينكم بولدكم وأن يفتح له سبيل الهداية. والله الموفق.


 
س » اعاني من عدم الحضور في الصلاة، فهل أحصل على الثواب؟
ج »
 
لا شك أن العمل إذا كان مستجمعا للشرائط الفقهية، فهو مجزئٌ ومبرئٌ للذمة. أما الثواب فيحتاج إلى خلوص النية لله تعالى بمعنى أن لا يدخل الرياء ونحوه في نية المصلي والعبادة بشكل عام.
ولا ريب أنه كلما كان الإنسان يعيش حالة حضور وتوجه إلى الله كان ثوابه أعلى عند الله، لكن لا نستطيع نفي الثواب عن العمل لمجرد غياب هذا الحضور في بعض الحالات بسبب الظروف الضاغطة على الإنسان نفسيا واجتماعيا.
لكن على الإنسان أن يعالج مشكلة تشتت الذهن أثناء العمل العبادي وذلك من خلال السعي الجاد للتجرد والابتعاد عن كل الهواجس والمشكلات أثناء الإقبال على الصلاة، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، باستحضار عظمة الله عز وجل في نفوسنا وأنه لا يليق بنا أن نواجهه بقلب لاهٍ وغافل. والله الموفق.

 
س » أنا إنسان فاشل، ولا أتوفق في شيء، وقد كتب عليّ بالخسارة، فما هو الحل؟
ج »

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

أولاً: التوفيق في الحياة هو رهن أخذ الإنسان بالأسباب التي جعلها الله موصلة للنجاح، فعلى الإنسان أن يتحرك في حياته الشخصية والمهنية والاجتماعية وفق منطق الأسباب والسنن. على سبيل المثال: فالإنسان لن يصل إلى مبتغاه وهو جليس بيته وحبيس هواجسه، فإذا أراد الثروة فعليه أن يبحث عن أسباب الثروة وإذا أراد الصحة فعليه أن يأخذ بالنصائح الطبية اللازمة وإذا أراد حياة اجتماعية مستقرة عليه أن يسير وفق القوانين والضوابط الإسلامية في المجال الاجتماعي وهكذا.

ثانياً: لا بد للإنسان أن يعمل على رفع معوقات التوفيق، وأني أعتقد أن واحدة من تلك المعوقات هي سيطرة الشعور المتشائم على الإنسان بحيث يوهم نفسه بأنه إنسان فاشل وأنه لن يوفق وأنه لن تناله البركة الإلهية.

إن هذا الإحساس عندما يسيطر على الإنسان فإنه بالتأكيد يجعله إنسانا فاشلا ومحبطا ولن يوفق في حياته ولذلك نصيحتي لك أن تُبعد مثل هذا الوهم عن ذهنك وانطلق في الحياة فإن سبيل الحياة والتوفيق لا تعد ولا تحصى.


 
س » ما هو هدف طلب العلم الذي يجب أن يكون؟
ج »

عندما ينطلق المسلم في طلبه للعلم من مسؤوليته الشرعية الملقاة على عاتقه ومن موقع أنه خليفة الله على الأرض، فإن ذلك سوف يخلق عنده حافزاً كبيراً للجد في طلب العلم والوصول إلى أعلى المراتب. أما إذا انطلق في تحصيله من موقع المباهاة أو إثبات ذاته في المجتمع أو من موقع من يريد أن يزين اسمه بالشهادة الجامعية ليُقال له "الدكتور" وما إلى ذلك، فإنه - في الغالب - لن يصل إلى النتيجة المرجوة.

وعلى كل إنسان منا أن يعي أنّنا في هذه الحياة مسؤولون في أن نترك أثراً طيباً، وأن نقوم بواجباتنا قبل أن يطوينا الزمان، إننا مسؤولون عن عمرنا فيما أفنيناه وعن شبابنا فيما أبليناه، وسنُسأل يوم القيامة عن كل هذه الطاقات التي منّ اللهُ بها علينا.

وأضف إلى ذلك، إنه من الجدير بالمسلم، أن لا يفكر في نفسه وما يريحه هو فحسب في طلبه للعلم، بل أن يفكر أيضاً في أمته والنهوض بها ليكون مستقبلها زاهراً، وهذا كله يحتم عليه أن يكون سقف طموحاته عالياً ليتمكن هو وأقرانه من الطلاب والعلماء من ردم الفجوة بيننا وبين الغرب الذي سبقنا على أكثر من صعيد.

باختصار: إن مسؤوليتنا ورسالتنا وانتماءنا لهذه الأمة يفرض علينا أن نعيش حالة طوارئ ثقافية وعلمية.


 
س » ما رأيكم في الاختلاط المنتشر في عصرنا، وكيف نحاربه؟
ج »

إنّ الاختلاط قد أصبح سمة هذا العصر في كثير من الميادين، ومنها الجامعات والطرقات والساحات وكافة المرافق العامة.. والاختلاط في حد ذاته ليس محرماً ما لم يفضِ إلى تجاوز الحدود الشرعية في العلاقة بين الرجل والمرأة الأجنبيين؛ كما لو أدى إلى الخلوة المحرمة بالمرأة أو مصافحتها أو كان المجلس مشوباً بأجواء الإثارة الغرائزية أو غير ذلك مما حرمه الله تعالى.

وفي ظل هذا الواقع، فإنّ العمل على تحصين النفس أولى من الهروب أو الانزواء عن الآخرين بطريقة تشعرهم بأن المؤمنين يعيشون العُقد النفسية. إن على الشاب المسلم أن يثق بنفسه وأن يفرض حضوره ووقاره، وأن يبادر إلى إقناع الآخرين بمنطقه وحججه، وأن يبيّن لهم أن الانحراف والتبرج والفجور هو العمل السيّئ الذي ينبغي أن يخجل به الإنسان، وليس الإيمان ومظاهر التدين.

وأننا ندعو شبابنا عامة وطلاب الجامعات خاصة من الذكور والإناث إلى أن يتزينوا بالعفاف، وأن يحصنوا أنفسهم بالتقوى بما يصونهم من الوقوع في الحرام.


 
س » كيف يمكن التخلص من السلوكيات والعادات السيئة؟
ج »

إن التغلب على السلوكيات الخاطئة أو العادات السيئة – بشكل عام – يحتاج بعد التوكل على الله تعالى إلى:

أولاً: إرادة وتصميم، ولا يكفي مجرد الرغبة ولا مجرد النية وانما يحتاج بالإضافة إلى ذلك إلى العزم والمثابرة وحمل النفس على ترك ما اعتادته.

ثانياً: وضع برنامج عملي يمكّن الإنسان من الخروج من هذه العادة السيئة بشكل تدريجي؛ وأرجو التركيز على مسألة "التدرج" في الخروج من هذه العادات السيئة؛ لأن إدمان النفس على الشيء يجعل الخروج منه صعباً ويحتاج إلى قطع مراحل، وأما ما يقدم عليه البعض من السعي للخروج الفوري من هذه العادة، فهو - بحسب التجربة - سيُمنى في كثير من الأحيان بالفشل. والله الموفق


 
 
  مقالات >> اجتماعية
حق الطفل في النسب
الشيخ حسين الخشن



من جملة الحقوق التي كفلها التشريع الإسلامي للطفل منذ اليوم الأول لولادته حقّه في الانتساب إلى والديه، وهذا الحق الطبيعي والبديهي يتفرّع عليه جملة من الحقوق، ويترتّب عليه جملة من المسؤوليات المتّصلة بالتربية والإنفاق والرعاية والحماية.. وغني عن البيان أنّ انتساب الإنسان إلى

والديه أمر قهري وليس فيه أيّ خيار لهما، فهما والداه وهو ابنهما شاءا أم أبيا، وقد حرَّم الإسلام تبرؤ الإنسان من نسبه، كما حرَّم عليه أن يُلحق بنسبه مَن ليس ابناً حقيقياً له، لأنّ قضية النسب هي من القضايا الحسّاسة التي لا يجوز التلاعب فيها ولا تغييرها.

 

وهذا المعنى هو من مسلَّمات التشريع الإسلامي ولا يخضع لأيّ جدل أو نقاش فقهي، وإنّما الأمر الجدير بالبحث وتسليط الأضواء عليه هو مسألة ضوابط النسب الشرعي وشروطه، لأنّ من المعروف أنّ الطفل المتولّد بطريقة غير شرعية لا يلحق بوالديه فهل يصحّ ذلك على إطلاقه؟

 

 

ظاهرة الأطفال غير الشرعيين

 

والحقيقة إنّ قضية الأولاد غير الشرعيين ليست بالمسألة الجديدة وإنّما عرفتها المجتمعات منذ قديم الزمان، لكن الجديد في المسألة تحوّلها إلى ظاهرة متفشّية في مختلف دول العالم المعاصِر بنسبٍ متفاوتة، ففي حين تقلّ النسبة في البلدان المحافظة فإنّها ترتفع في البلدان الأخرى، وتشير الإحصاءات

إلى أنّ النسبة ربّما تصل في بعض البلدان إلى حد تساوي الولادات غير الشرعية مع الولادات الشرعية، وبصرف النظر عن أسباب الظاهرة وهي على العموم أسباب أخلاقية وثقافية واقتصادية، فإنّ السؤال الذي يطرح نفسه: ماذا عن هؤلاء الأولاد غير الشرعيين؟ ما هي حقوقهم وأحكامهم؟

 

 

بين الدين والقانون

 

يبدو أنّ غالب القوانين الوضعية قد حسمت الموقف إزاءهم منذ أمدٍ بعيد فليس في قاموسها ولد شرعي وآخر غير شرعي، والمتولّد خارج الأُسرة كالمتولّد داخلها هما في الحقوق وسائر الاعتبارات القانونية سيّان.

 

أمّا الدين لاسيّما الإسلام فله نظرة مختلفة، فهو يرفض العلاقات بين الجنسين خارج نطاق الإطار الزوجي ويعتبرها علاقات محرّمة وما ينتج عنها هو ولد غير شرعي.

 

ومن موقع إيماننا بأنَّ الإسلام لا يريد في كلّ قوانينه وتشريعاته إلاَّ خير الإنسان والإنسانية وأنّه ليس لديه أحكام ظالمة أو جزافية فلا بدَّ أن يكون لنا جرأة على طرح جملة من الأسئلة، وبالأحرى أن يكون لنا جرأة الإجابة على جملة من الأسئلة الإشكالية المطروحة في هذا المجال، والتي يرى

أصحابها أنّ النظرة الإسلامية للأولاد غير الشرعيين هي نظرة قاسية، وربّما ظالمة وأنّهم إنّما يدانون على ما لا ذنب لهم فيه.

 

والحقيقة أنَّ الأسئلة الإشكالية هي على مستويين:

 

الأول: المستوى العقائدي، لجهة الموقف من صحّة اعتقاد الولد غير الشرعي وقبول إسلامه، أو لجهة مساواته مع الآخرين في ميزان العدل الإلهي، حيث تواجهنا بعض الآراء التي تنتقص من إسلامه أو تحرمه من الجنّة.

 

إلاّ أنّ هذه الآراء رغم استنادها إلى بعض النصوص(1)، غدت مرفوضة ولم تعد تلقي قبولاً بين العلماء، بسبب منافاتها لأصول العدلية الحاكمة بقبح مؤاخذة الإنسان وإدانته على ما ليس باختياره، وكذا قبح تكليفه بالأعمال العبادية أو غيرها مع عدم قبولها منه أو عدم ترتّب الآثار عليها، كما

أنّها منافية لنصّ القرآن الكريم القاضي بأنّه: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164]، {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:39] إن خيراً فخيراً وإن شراً فشراً {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ*وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ}  [الزلزلة:7ــ8].

 

 

أما الحديث عن عدم قابليّته الذاتية لاختيار طريق الحقّ والهدى فهو ــ مضافاً إلى منافاته لحكم العقل كما أسلفنا، إذ كيف تصحّ معاقبته والحال هذه على ما هو خارج عن اختياره؟! ــ مخالف للواقع، حيث نرى أنّ بعض هؤلاء يصلون إلى مراتب عالية في التديُّن والإيمان ما يؤهّلهم لنيل رحمة الله

وجنّته.

 

إذن فالنصوص المشار إليها لا بدّ من رفضها أو ردّ علمها إلى أهلها أو تأويلها بالقول إنّها: "ناظرة إلى أنّ ابن الزنا تحيط به مقتضيات الانحراف والضلال، فينشأ منحرفاً غالباً، وهذا يؤدّي إلى الحرمان من الجنّة والابتلاء بالعذاب، لا أنّها علّة لما ذكر، فإنْ سار الشخص على الصراط السوي

والعقائد الحقّة والعمل الصالح فليس مدلولاً لتلك الأخبار"(2) أي أنّ هذه الأخبار ناظرة إلى الواقع التاريخي الذي كان يفرض على الولد غير الشرعي أن يعيش ظروف الانحراف والضلال، ولا إطلاق لها لغير ذلك من الحالات.

 

 

الثاني: المستوى التشريعي والقانوني، لجهة مدى مساواته ــ أعني الولد غير الشرعي ــ مع الآخرين في الحقوق والواجبات، وتواجهنا هنا جملة من الفتاوى التي تحرمه من الميراث والنسب ومن استلام بعض المواقع والمناصب كالإفتاء والقضاء وإمامة الجمعة، وتنتقص من أهليّته للشهادة، وما

يهمّني التطرّق إليه في المقام قضية نسبه، والملاحظ أنّ الفتوى المشهورة بين الفقهاء تقطع نسبه عن كلّ أحد، لأنّ "الزنا لا يثبت نسباً" كما تنص القاعدة الفقهية(3)، ليغدو ابن الزنا كالمقطوع من شجرة ــ كما يقول المثل الشعبي ــ لا أب ولا أُم ولا أقرباء له، ولا يخفى ما لذلك من تداعيات

خطيرة على حياته واستقامته فهل يمكن القبول بذلك؟

 

 

حفظ الأنساب

 

في البدء يهمّني التأكيد على أنّ الإسلام وحرصاً منه على استقرار العلاقات الاجتماعية وتماسكها فقد اهتم اهتماماً بالغاً بتنظيم الأسرة باعتباره اللبنة الأولى في البناء الاجتماعي وباختلالها سوف تختلّ الحياة الاجتماعية برمّتها وتكون مهدّدة بالتفكُّك، وفي ضوء ذلك فقد حرص ــ أعني الإسلام ــ

على أن يكون التوالد داخل نطاق الأسرة من خلال العلاقة الشرعية بين الزوجين، وقد اعترف بكلّ ما ينتج عن هذه العلاقة من أولاد وما ينشأ عن ذلك من علاقات القربى والنسب، ورفض التلاعب بهذا النظام مسمياً الأشياء بأسمائها، معتبراً أنّ أيّة علاقة لا يحكمها نظام الزواج هي علاقة غير

مشروعة وما ينتج عنها هو ولد غير شرعي، وفي هذا السياق فقد رفض التبنّي، لأنّه تلاعب بالعلاقة النسبيّة ويؤدّي ــ كما الزنا ــ إلى اختلاط الأنساب أو ضياعها، قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ} [الأحزاب:4]، ومن هذا وذاك استفاد بعض العلماء أنّ حفظ الأنساب هو أحد أهم مقاصد

الشريعة الإسلامية.

 

 

كيف يثبت النسب؟

 

لا شكّ في أنّ البنوَّة النسبية ــ أعني نسبة الولد إلى أبيه وأُمّه ــ تَثْبتُ بالولادة الشرعية، وهي ما كانت نتيجة علاقة عقد صحيح بين الرجل والمرأة، وكذلك تثبت البنوَّة في صورة ما لو كانت العلاقة علاقة شبهة، وهي العلاقة التي يعتقد الرجل أو الرجل والمرأة شرعيّتها مع عدم كونها كذلك

واقعاً، كما لو تزوَّج امرأة تدعي أنّها خليَّة وأولدها ثم بانت متزوجة، أو قارب امرأة باعتقاد أنّها زوجته فبان الاشتباه.. فإنّ الولد الذي ينتج عن علاقة الشبهة هذه هو ولد شرعي، ونسبه صحيح إلى أبيه وأُمّه، والأقرب أيضاً صحّة النسب في حالات التلقيح الصناعي سواء تمَّ ذلك بين الزوجين وهذا

واضح، أو تمَّ بين غيرهما ممّن لا تحكمهما علاقة شرعية، فإنّه حتى لو قيل ــ كما هو الأقرب ــ بحرمة التلقيح بين الرجل والمرأة اللذين لا يجمعهما عقد شرعي، لكن لو حصل ذلك فإنّ الولد الناتج عن عملية التلقيح هو ولد شرعي وليس ابن زنا، لعدم تحقّق الزنا، فيلحق بأبويه وهما: صاحب

النطفة، لأنّه تكوَّن من مائه، فهو والد عرفاً ولغةً، وصاحبة  البويضة التي حملته في رحمها ثم أولدته.

 

 

وتبقى صورة رابعة: وهي ما لو كان الولد ثمرة علاقة غير مشروعة وثبت ذلك بالدليل المعتبر شرعاً، فهل يثبت له نسبٌ أم لا؟ وإذا فرض أنّ المرأة كانت متزوجة وزنت وأنجبت من الزاني فهل يلحق الولد بالزاني أو بالزوج أو لا يلحق بهما ولا بها؟

 

والجواب: أنّ الولد لا يلحق بالزوج حتماً، شريطة أن يثبت أنّه ليس متكوِّناً من مائه، إمّا لغيبة الزوج مدة تزيد على العام مثلاً، أو لتولّد الطفل لأقل من ستة أشهر من حين الزواج، أو لتأكيد الفحص الطبي القطعي انتفاءه عنه، كما هو الحال في فحص الحمض النووي المعروف اختصاراً بالــ

DNA، ففي كلّ هذه الحالات يُنفى الولد عن الزوج حتماً، بل لا يجوز له إلحاقه بنسبه أو تبنّيه، لرفض الإسلام ــ كما ذكرنا ــ لمبدأ التبنّي وإلحاق نسب بنسب، وقد فتح الإسلام في هذا المجال باباً أسماه باللعان، ليمكّن الزوج الذي يعتقد بأنَّ الولد ليس ابنه من نفيه عنه.

 

وأما أن يُنسَب الولد إلى الزوج مع العلم بانتفائه عنه فهو أمر مرفوض جملةً وتفصيلاً، وما ورد في الحديث النبوي الشريف: "الولد للفراش وللعاهر الحجر"(4)، فهو قاعدة ظاهرية وموردها الشكّ وإمكانية انتساب الولد للزوج، كما لو زنت المتزوّجة ولم يُدر أنّ الولد للزوج أو للزاني ولم

يكن ثمّة سبيل لمعرفة ذلك فيحكم ــ وفقاً للحديث الشريف ــ بأنّه للزوج وهو الفراش، وأما الزاني فليس له سوى الحجر وهو كناية عن الرجم أو الخيبة، ومن غرائب الفتاوى ما نسب إلى أبي حنيفة من أنّه "لو تزوّج رجل في مجلس، ثم طلّقها فيه قبل غيبته عنه، أو تزوّجها وهو في المشرق وهي

في المغرب ثم أتت بولد لستة أشهر من حين العقد لحقه الولد"(5).

 

 

علاقة ابن الزنا بأبويه

 

هذا كلّه حكم علاقة ابن الزنا بالزوج، لكن ما هي علاقته بالأب والأم، أو لنقل بصاحب النطفة وهو الزاني وصاحبة البويضة وهي الزانية، فهل تثبت بينهما علاقة نسبية؟

 

ذكرنا في مستهل الحديث أنّ فتاوى الفقهاء من السنّة والشيعة تكاد تجمع على أنّ الزنا لا يثبت نسباً، فابن الزنا لا يلحق لا بالزاني ولا بالزانية حتى لو عقد عليها بعد انعقاد النطفة، واستدلوا لذلك بالحديث النبوي الآنف الذي ينص على أنّ "للعاهر الحجر" وبما ورد في بعض الروايات النافية

للتوارث بينه وبين أبيه(6).

 

ويمكن التعليق على ذلك: بأنّ نفي الولد عن "العاهر" وهو الزاني إنَّما هو في صورة وجود الفراش لا مطلقاً، وقاعدة الفراش قاعدة ظاهرية ــ كما ذكرنا ــ تجري في ظرف الشكّ، ففي صورة الشكّ يكون الولد للزوج والحجر للزاني، أمَّا مع العلم بأنّه للزاني وتولّده من نطفته فلا يمكن نفيه عنه،

وأما عدم التوارث ــ فلو تمَّ ــ فهو حكم خاص ولا يثبت انتفاء النسب كما لا يخفى، وممّا يشهد لعدم انتفاء الولد عن أُمّه وأبيه الزانيين أنه لو نفيا النسب بينه وبينهما لصحَّ أن يتزوّج ــ أي الولد غير الشرعي ــ بأُمّه إنْ كان ذكراً، أو بأبيه إنْ كان أُنثى، وهذا ما لا يمكن التفوّه به لفقيه، وإن نسب إلى

بعض أئمّة المذاهب(7)، وهو من الغرائب، لأنَّ ابن الزنا ولد لغة وعرفاً وهو متخلّق من نطفة الأب وبويضة الأم فكيف يجوز أن يتزوج من أحدهما؟!

 

في ضوء ما تقدّم يتّضح أنّ الولد غير الشرعي لا ينقطع نسبه بأبيه وأُمّه، ويتفرّع على ذلك: أنّ عليهما القيام بمسؤوليتهما تجاهه، فهو ابنهما وهما مسؤولان عن تربيته ورعايته، ويُلزَم الأب بالإنفاق عليه ولا مانع من تسجيله باسمه في دوائر النفوس، إلى غير ذلك من الأحكام التي تحكم العلاقة بين

الوالد وولده إلاّ ما استثني من قضية التوارث، مع أنّ ذلك لا يخلو من تأمّل وإشكال في أكثر من جانب ممّا لا مجال لبحثه في المقام.

 

 

نُشر على الموقع في 21-7-2015

 



(1) راجع على سبيل المثال: المحاسن: 1/139، علل الشرائع 2/564.

(2) صراط النجاة للسيد الخوئي: 1/470.

(3) الأحوال الشخصية لابن زهرة 454، ورياض المسائل، للسيد الطبطبائي: 12/111.

(4) الكافي: 5/491، صحيح البخاري: 3/5.

(5) المغني لابن قدامة: 7/439.

(6) راجع الكافي: 7/164.

(7) المغني: 6/578.

 






اضافة تعليق

الاسم *

البريد الإلكتروني *

موضوع *

الرسالة *


 


 
  قراءة الكتب
 
    Designed and Developed
       by CreativeLebanon