حق الطفل في النسب
الشيخ حسين الخشن
من جملة الحقوق التي كفلها التشريع الإسلامي للطفل منذ اليوم الأول لولادته حقّه في الانتساب إلى والديه، وهذا الحق الطبيعي والبديهي يتفرّع عليه جملة من الحقوق، ويترتّب عليه جملة من المسؤوليات المتّصلة بالتربية والإنفاق والرعاية والحماية.. وغني عن البيان أنّ انتساب الإنسان إلى
والديه أمر قهري وليس فيه أيّ خيار لهما، فهما والداه وهو ابنهما شاءا أم أبيا، وقد حرَّم الإسلام تبرؤ الإنسان من نسبه، كما حرَّم عليه أن يُلحق بنسبه مَن ليس ابناً حقيقياً له، لأنّ قضية النسب هي من القضايا الحسّاسة التي لا يجوز التلاعب فيها ولا تغييرها.
وهذا المعنى هو من مسلَّمات التشريع الإسلامي ولا يخضع لأيّ جدل أو نقاش فقهي، وإنّما الأمر الجدير بالبحث وتسليط الأضواء عليه هو مسألة ضوابط النسب الشرعي وشروطه، لأنّ من المعروف أنّ الطفل المتولّد بطريقة غير شرعية لا يلحق بوالديه فهل يصحّ ذلك على إطلاقه؟
ظاهرة الأطفال غير الشرعيين
والحقيقة إنّ قضية الأولاد غير الشرعيين ليست بالمسألة الجديدة وإنّما عرفتها المجتمعات منذ قديم الزمان، لكن الجديد في المسألة تحوّلها إلى ظاهرة متفشّية في مختلف دول العالم المعاصِر بنسبٍ متفاوتة، ففي حين تقلّ النسبة في البلدان المحافظة فإنّها ترتفع في البلدان الأخرى، وتشير الإحصاءات
إلى أنّ النسبة ربّما تصل في بعض البلدان إلى حد تساوي الولادات غير الشرعية مع الولادات الشرعية، وبصرف النظر عن أسباب الظاهرة وهي على العموم أسباب أخلاقية وثقافية واقتصادية، فإنّ السؤال الذي يطرح نفسه: ماذا عن هؤلاء الأولاد غير الشرعيين؟ ما هي حقوقهم وأحكامهم؟
بين الدين والقانون
يبدو أنّ غالب القوانين الوضعية قد حسمت الموقف إزاءهم منذ أمدٍ بعيد فليس في قاموسها ولد شرعي وآخر غير شرعي، والمتولّد خارج الأُسرة كالمتولّد داخلها هما في الحقوق وسائر الاعتبارات القانونية سيّان.
أمّا الدين لاسيّما الإسلام فله نظرة مختلفة، فهو يرفض العلاقات بين الجنسين خارج نطاق الإطار الزوجي ويعتبرها علاقات محرّمة وما ينتج عنها هو ولد غير شرعي.
ومن موقع إيماننا بأنَّ الإسلام لا يريد في كلّ قوانينه وتشريعاته إلاَّ خير الإنسان والإنسانية وأنّه ليس لديه أحكام ظالمة أو جزافية فلا بدَّ أن يكون لنا جرأة على طرح جملة من الأسئلة، وبالأحرى أن يكون لنا جرأة الإجابة على جملة من الأسئلة الإشكالية المطروحة في هذا المجال، والتي يرى
أصحابها أنّ النظرة الإسلامية للأولاد غير الشرعيين هي نظرة قاسية، وربّما ظالمة وأنّهم إنّما يدانون على ما لا ذنب لهم فيه.
والحقيقة أنَّ الأسئلة الإشكالية هي على مستويين:
الأول: المستوى العقائدي، لجهة الموقف من صحّة اعتقاد الولد غير الشرعي وقبول إسلامه، أو لجهة مساواته مع الآخرين في ميزان العدل الإلهي، حيث تواجهنا بعض الآراء التي تنتقص من إسلامه أو تحرمه من الجنّة.
إلاّ أنّ هذه الآراء رغم استنادها إلى بعض النصوص(1)، غدت مرفوضة ولم تعد تلقي قبولاً بين العلماء، بسبب منافاتها لأصول العدلية الحاكمة بقبح مؤاخذة الإنسان وإدانته على ما ليس باختياره، وكذا قبح تكليفه بالأعمال العبادية أو غيرها مع عدم قبولها منه أو عدم ترتّب الآثار عليها، كما
أنّها منافية لنصّ القرآن الكريم القاضي بأنّه: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164]، {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:39] إن خيراً فخيراً وإن شراً فشراً {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ*وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة:7ــ8].
أما الحديث عن عدم قابليّته الذاتية لاختيار طريق الحقّ والهدى فهو ــ مضافاً إلى منافاته لحكم العقل كما أسلفنا، إذ كيف تصحّ معاقبته والحال هذه على ما هو خارج عن اختياره؟! ــ مخالف للواقع، حيث نرى أنّ بعض هؤلاء يصلون إلى مراتب عالية في التديُّن والإيمان ما يؤهّلهم لنيل رحمة الله
وجنّته.
إذن فالنصوص المشار إليها لا بدّ من رفضها أو ردّ علمها إلى أهلها أو تأويلها بالقول إنّها: "ناظرة إلى أنّ ابن الزنا تحيط به مقتضيات الانحراف والضلال، فينشأ منحرفاً غالباً، وهذا يؤدّي إلى الحرمان من الجنّة والابتلاء بالعذاب، لا أنّها علّة لما ذكر، فإنْ سار الشخص على الصراط السوي
والعقائد الحقّة والعمل الصالح فليس مدلولاً لتلك الأخبار"(2) أي أنّ هذه الأخبار ناظرة إلى الواقع التاريخي الذي كان يفرض على الولد غير الشرعي أن يعيش ظروف الانحراف والضلال، ولا إطلاق لها لغير ذلك من الحالات.
الثاني: المستوى التشريعي والقانوني، لجهة مدى مساواته ــ أعني الولد غير الشرعي ــ مع الآخرين في الحقوق والواجبات، وتواجهنا هنا جملة من الفتاوى التي تحرمه من الميراث والنسب ومن استلام بعض المواقع والمناصب كالإفتاء والقضاء وإمامة الجمعة، وتنتقص من أهليّته للشهادة، وما
يهمّني التطرّق إليه في المقام قضية نسبه، والملاحظ أنّ الفتوى المشهورة بين الفقهاء تقطع نسبه عن كلّ أحد، لأنّ "الزنا لا يثبت نسباً" كما تنص القاعدة الفقهية(3)، ليغدو ابن الزنا كالمقطوع من شجرة ــ كما يقول المثل الشعبي ــ لا أب ولا أُم ولا أقرباء له، ولا يخفى ما لذلك من تداعيات
خطيرة على حياته واستقامته فهل يمكن القبول بذلك؟
حفظ الأنساب
في البدء يهمّني التأكيد على أنّ الإسلام وحرصاً منه على استقرار العلاقات الاجتماعية وتماسكها فقد اهتم اهتماماً بالغاً بتنظيم الأسرة باعتباره اللبنة الأولى في البناء الاجتماعي وباختلالها سوف تختلّ الحياة الاجتماعية برمّتها وتكون مهدّدة بالتفكُّك، وفي ضوء ذلك فقد حرص ــ أعني الإسلام ــ
على أن يكون التوالد داخل نطاق الأسرة من خلال العلاقة الشرعية بين الزوجين، وقد اعترف بكلّ ما ينتج عن هذه العلاقة من أولاد وما ينشأ عن ذلك من علاقات القربى والنسب، ورفض التلاعب بهذا النظام مسمياً الأشياء بأسمائها، معتبراً أنّ أيّة علاقة لا يحكمها نظام الزواج هي علاقة غير
مشروعة وما ينتج عنها هو ولد غير شرعي، وفي هذا السياق فقد رفض التبنّي، لأنّه تلاعب بالعلاقة النسبيّة ويؤدّي ــ كما الزنا ــ إلى اختلاط الأنساب أو ضياعها، قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ} [الأحزاب:4]، ومن هذا وذاك استفاد بعض العلماء أنّ حفظ الأنساب هو أحد أهم مقاصد
الشريعة الإسلامية.
كيف يثبت النسب؟
لا شكّ في أنّ البنوَّة النسبية ــ أعني نسبة الولد إلى أبيه وأُمّه ــ تَثْبتُ بالولادة الشرعية، وهي ما كانت نتيجة علاقة عقد صحيح بين الرجل والمرأة، وكذلك تثبت البنوَّة في صورة ما لو كانت العلاقة علاقة شبهة، وهي العلاقة التي يعتقد الرجل أو الرجل والمرأة شرعيّتها مع عدم كونها كذلك
واقعاً، كما لو تزوَّج امرأة تدعي أنّها خليَّة وأولدها ثم بانت متزوجة، أو قارب امرأة باعتقاد أنّها زوجته فبان الاشتباه.. فإنّ الولد الذي ينتج عن علاقة الشبهة هذه هو ولد شرعي، ونسبه صحيح إلى أبيه وأُمّه، والأقرب أيضاً صحّة النسب في حالات التلقيح الصناعي سواء تمَّ ذلك بين الزوجين وهذا
واضح، أو تمَّ بين غيرهما ممّن لا تحكمهما علاقة شرعية، فإنّه حتى لو قيل ــ كما هو الأقرب ــ بحرمة التلقيح بين الرجل والمرأة اللذين لا يجمعهما عقد شرعي، لكن لو حصل ذلك فإنّ الولد الناتج عن عملية التلقيح هو ولد شرعي وليس ابن زنا، لعدم تحقّق الزنا، فيلحق بأبويه وهما: صاحب
النطفة، لأنّه تكوَّن من مائه، فهو والد عرفاً ولغةً، وصاحبة البويضة التي حملته في رحمها ثم أولدته.
وتبقى صورة رابعة: وهي ما لو كان الولد ثمرة علاقة غير مشروعة وثبت ذلك بالدليل المعتبر شرعاً، فهل يثبت له نسبٌ أم لا؟ وإذا فرض أنّ المرأة كانت متزوجة وزنت وأنجبت من الزاني فهل يلحق الولد بالزاني أو بالزوج أو لا يلحق بهما ولا بها؟
والجواب: أنّ الولد لا يلحق بالزوج حتماً، شريطة أن يثبت أنّه ليس متكوِّناً من مائه، إمّا لغيبة الزوج مدة تزيد على العام مثلاً، أو لتولّد الطفل لأقل من ستة أشهر من حين الزواج، أو لتأكيد الفحص الطبي القطعي انتفاءه عنه، كما هو الحال في فحص الحمض النووي المعروف اختصاراً بالــ
DNA، ففي كلّ هذه الحالات يُنفى الولد عن الزوج حتماً، بل لا يجوز له إلحاقه بنسبه أو تبنّيه، لرفض الإسلام ــ كما ذكرنا ــ لمبدأ التبنّي وإلحاق نسب بنسب، وقد فتح الإسلام في هذا المجال باباً أسماه باللعان، ليمكّن الزوج الذي يعتقد بأنَّ الولد ليس ابنه من نفيه عنه.
وأما أن يُنسَب الولد إلى الزوج مع العلم بانتفائه عنه فهو أمر مرفوض جملةً وتفصيلاً، وما ورد في الحديث النبوي الشريف: "الولد للفراش وللعاهر الحجر"(4)، فهو قاعدة ظاهرية وموردها الشكّ وإمكانية انتساب الولد للزوج، كما لو زنت المتزوّجة ولم يُدر أنّ الولد للزوج أو للزاني ولم
يكن ثمّة سبيل لمعرفة ذلك فيحكم ــ وفقاً للحديث الشريف ــ بأنّه للزوج وهو الفراش، وأما الزاني فليس له سوى الحجر وهو كناية عن الرجم أو الخيبة، ومن غرائب الفتاوى ما نسب إلى أبي حنيفة من أنّه "لو تزوّج رجل في مجلس، ثم طلّقها فيه قبل غيبته عنه، أو تزوّجها وهو في المشرق وهي
في المغرب ثم أتت بولد لستة أشهر من حين العقد لحقه الولد"(5).
علاقة ابن الزنا بأبويه
هذا كلّه حكم علاقة ابن الزنا بالزوج، لكن ما هي علاقته بالأب والأم، أو لنقل بصاحب النطفة وهو الزاني وصاحبة البويضة وهي الزانية، فهل تثبت بينهما علاقة نسبية؟
ذكرنا في مستهل الحديث أنّ فتاوى الفقهاء من السنّة والشيعة تكاد تجمع على أنّ الزنا لا يثبت نسباً، فابن الزنا لا يلحق لا بالزاني ولا بالزانية حتى لو عقد عليها بعد انعقاد النطفة، واستدلوا لذلك بالحديث النبوي الآنف الذي ينص على أنّ "للعاهر الحجر" وبما ورد في بعض الروايات النافية
للتوارث بينه وبين أبيه(6).
ويمكن التعليق على ذلك: بأنّ نفي الولد عن "العاهر" وهو الزاني إنَّما هو في صورة وجود الفراش لا مطلقاً، وقاعدة الفراش قاعدة ظاهرية ــ كما ذكرنا ــ تجري في ظرف الشكّ، ففي صورة الشكّ يكون الولد للزوج والحجر للزاني، أمَّا مع العلم بأنّه للزاني وتولّده من نطفته فلا يمكن نفيه عنه،
وأما عدم التوارث ــ فلو تمَّ ــ فهو حكم خاص ولا يثبت انتفاء النسب كما لا يخفى، وممّا يشهد لعدم انتفاء الولد عن أُمّه وأبيه الزانيين أنه لو نفيا النسب بينه وبينهما لصحَّ أن يتزوّج ــ أي الولد غير الشرعي ــ بأُمّه إنْ كان ذكراً، أو بأبيه إنْ كان أُنثى، وهذا ما لا يمكن التفوّه به لفقيه، وإن نسب إلى
بعض أئمّة المذاهب(7)، وهو من الغرائب، لأنَّ ابن الزنا ولد لغة وعرفاً وهو متخلّق من نطفة الأب وبويضة الأم فكيف يجوز أن يتزوج من أحدهما؟!
في ضوء ما تقدّم يتّضح أنّ الولد غير الشرعي لا ينقطع نسبه بأبيه وأُمّه، ويتفرّع على ذلك: أنّ عليهما القيام بمسؤوليتهما تجاهه، فهو ابنهما وهما مسؤولان عن تربيته ورعايته، ويُلزَم الأب بالإنفاق عليه ولا مانع من تسجيله باسمه في دوائر النفوس، إلى غير ذلك من الأحكام التي تحكم العلاقة بين
الوالد وولده إلاّ ما استثني من قضية التوارث، مع أنّ ذلك لا يخلو من تأمّل وإشكال في أكثر من جانب ممّا لا مجال لبحثه في المقام.
نُشر على الموقع في 21-7-2015
(1) راجع على سبيل المثال: المحاسن: 1/139، علل الشرائع 2/564.
(2) صراط النجاة للسيد الخوئي: 1/470.
(3) الأحوال الشخصية لابن زهرة 454، ورياض المسائل، للسيد الطبطبائي: 12/111.
(4) الكافي: 5/491، صحيح البخاري: 3/5.
(5) المغني لابن قدامة: 7/439.