أساليب التحابّ وثمرات المودّة
الشيخ حسين الخشن
أساليب التحابّ وثمرات المودّة
ولم يكتفِ النبيّ الأكرم محمّد (ص) في وصاياه الإنسانية وتعاليمه الهادفة التي تضجّ بالرحمة بدعوتنا إلى اعتماد منطق الحبّ ولغته في كلّ علاقاتنا وأحاديثنا ، بل إنّه علَّمنا - بالإضافة إلى ذلك - ابتكار أساليب التحابّ ووسائله، وفيما يلي نذكر بعضاً من هذه الأساليب:
-
"تهادوا تحابوا"
الأسلوب الأول هو أسلوب التهادي، يقول (ص) فيما روي عنه: "تَهَادَوْا تحابُّوا"[1]، فعندما تعود مريضاً أو تذهب لتهنئة صديق فاحرصْ على أن لا تدخل عليه وأنت خالي اليدين، وعندما ترجع من سفر فاحمل معك هديّة معينة إلى أهل بيتك، فإنّ الهدية تدخل السرور على قلب المزور. إنّ هديتك للآخر قد لا تغنيه ولا تحلّ مشكلته المالية، ولكنّها وبكلّ تأكيد تؤنسه وتدخل السرور على قلبه، وربّما تبدّد الضغائن بينكما وتجلي صدأ القلوب، والهدية ليست بالضرورة أن تكون ذات قيمة ماديّة، فربّما كانت شيئاً معنويّاً أو ذات قيمة رمزية.
والدور المذكور للهدية في نشر نفحات الودّ بين القلوب قد أشار له حديث آخر مرويّ عن الرسول الأكرم (ص) وجاء فيه: "الهدية تورث المودّة وتجدّد الأخوّة، وتُذْهِبَ الضغينة"[2].
1- الزيارة وتحويل العدو إلى صديق
ومن الأساليب المساعدة على نشر المحبّة بين الناس: أسلوب التزاور، فإنّك عندما تزور صديقاً أو أخاً أو جاراً أو شخصاً من أرحامك أو جيرانك أو إخوانك، فإنّ زيارتك له سوف تترك أثراً طيّباً في نفسه وتغسل درن القلوب وتحرّك شجن العواطف بشكل إيجابي؛ وفي الحديث عن رسول الله (ص): "الزيارة تنبت المودّة"[3].
وقد علّمتنا سيرة النبيّ (ص) والأئمة من أهل بيته(ع) كيف أنّ الزيارة قد تحوّل الأعداء إلى أصدقاء، ومن أجمل ما يروى بهذا الصدد القصة المروية عن الإمام الكاظم (ع)، فقد روي: أنّ رجلا من ولد عمر بن الخطاب كان بالمدينة يؤذي أبا الحسن موسى (عليه السلام) ويسبّه إذا رآه ويشتم عليّاً (عليه السلام)!
فقال له بعض جلسائه (جلساء الإمام الكاظم عليه السلام) يوماً: دعنا نقتل هذا الفاجر! فنهاهم عن ذلك أشدّ النهي وزجرهم أشدّ الزجر. وسأل(ع) عن العمري، فَذُكِرَ أنّه يزرع بناحية من نواحي المدينة، فركب، فوجده في مزرعة ، فدخل المزرعة بحماره، فصاح به العمري: لا توطئ زرعنا، فتوطّأه
أبو الحسن عليه السلام بالحمار حتى وصل إليه، فنزل وجلس عنده وباسطه وضاحكه، وقال له: "كم غرمت في زرعك هذا؟
فقال له: مائة دينار.
قال: وكم ترجو أن تصيب فيه؟
قال: لست أعلم الغيب!
قال: إنما قلت لك: كم ترجو أن يجيئك فيه؟
قال: أرجو فيه مائتي دينار.
قال: فأخرج له أبو الحسن عليه السلام صرّة فيها ثلاث مائة دينار وقال: هذا زرعك على حاله، والله يرزقك فيه ما ترجو!
قال: فقام العمري فقبّل رأسه وسأله أن يصفح عن فارطه، فتبسّم إليه أبو الحسن (عليه السلام) وانصرف.
قال: وراح إلى المسجد فوجد العمري جالساً، فلمّا نظر (أي العمري) إليه (أي إلى الإمام الكاظم عليه السلام) قال: {الله أعلم حيث يجعل رسالته} [الأنعام 124].
قال: فوثب أصحابه (أصحاب الإمام عليه السلام) إليه فقالوا: ما قصتك؟ قد كنت تقول غير هذا؟!
قال: فقال لهم: قد سمعتم ما قُلْتُ الآن، وجعل يدعو لأبي الحسن عليه السلام، فخاصموه وخاصمهم، فلما رجع أبو الحسن إلى داره، قال لجلسائه الذين سألوه في قتل العمري: أيّما كان خيراً، ما أردتم أو ما أردت؟ إنني أصلحت أمره بالمقدار الذي عرفتم، وكَفَيْتَ به شرّه "[4].
2- المصافحة والعطف
ومن الأساليب المساعدة على شدّ الأواصر وتحريك العواطف بشكل إيجابي: أسلوب المصافحة عند اللقاء، فالمصافحة بما تمثّله من تماس جسدي بين الشخصين لها أثر طيب قد يحرّك العواطف تلقائياً، وهذا ما نبّهت عليه وصايا النبي (ص) وأهل بيته (ع)، ففي الحديث عن رسول الله (ص):" تصافحوا يذهب الغلّ من قلوبكم"[5].
وعن أبي عبد الله الصادق (ع): "تصافحوا فإنّها تذهب بالسخيمة"[6].
والسخيمة : الحقد والحسد.
وعن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) قال: "إنّ المؤمنيْن إذا التقيا وتصافحا أدخل الله يده بين أيديهما، فصافح أشدّهما حبّاً لصاحبه"[7].
وإدخال الله تعالى يده بين المتصافحيْن ومصافحته أشدّهما حبّاً لصاحبه هو تعبير كنائي عن كون المصافحة عملاً مرضياً عند الله تعالى، وهو نظير التعبير عن قبول الله تعالى للصدقة وحبّه للمتصدق بأنّ الصدقة تقع في يد الله تعالى قبل أن تقع في يد الفقير[8].
وفي حديث آخر عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) أيضاً قال: "إنّ المؤمنيْن إذا التقيا فتصافحا أدخل الله عزَّ وجلَّ يده بين أيديهما وأقبل بوجهه على أشدّهما حبّاً لصاحبه، فإذا أقبل الله عزَّ وجلّ بوجهه عليهما تحاتت عنهما الذنوب كما يتحاتّ الورق من الشجر"[9].
وتزداد أهميّة المصافحة وتأثيرها الإيجابي عند تلاقي الأرحام، ففي الحديث عن أمير المؤمنين (ع): "إنّ الرّحم إذا تماست تعاطفت"[10].
3- حسن الخلق
ومن هذه الأساليب التي تورث المحبّة: طيب الخُلُق وحسن العشرة مع الناس، فذلك - دون شكّ- كفيل بإذابة الجليد، وتليين القلوب، وتمتين الأواصر، وتخفيف العداوات، قال تعالى: {ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم} [فصلت 34].
وفي الحديث عن أمير المؤمنين (ع): "حُسْن الخلق يورث المحبّة ويؤكّد المودة"[11].
ومحاسن الأخلاق التي تساعد على نشر أواصر المحبّة بين الناس وتقريب القلوب بعضها إلى بعض كثيرة، ونحن نشير إلى أهمّها:
أ- حُسْنُ الصّحبة، فمن يعاشر الآخرين معاشرةً طيبة ويكون خفيف الظّل، فإنّ ذلك يجعله محبوباً عند جلسائه وأصحابه، في الحديث عن أمير المؤمنين(ع): "حسن الصحبة يزيد في محبّة القلوب"[12].
ب- لين الكلام، والكلام الطيب الليّن هو مفتاح للقلوب، ومؤثر في النفوس، فعن أمير المؤمنين (ع): "عوّد لسانك لين الكلام وبذل السلام يكثر محبوّك ويقلّ مبغضوك"[13].
ج- البشاشة، وابتسامة الإنسان وبشاشته في وجوه الآخرين هي خير سفير يرسله إليهم، وأفضل سبيل لتوثيق العلاقة معهم، عن عليٍّ (ع): "البشاشة حبالة المودة"[14].
وفي خبر آخر عنه (ع): "سبب المحبّة البِشْر"[15].
د- التواضع، ودور التواضع في توثيق عرى العلاقة الخالصة مع الناس واضح ولا يحتاج إلى شاهد أو دليل، لكنْ إذا أردت أن تعرف ما قد يتركه التواضع من أثر طيب في قلوب الآخرين فانظر إلى نفور قلبك واشمئزاز نفسك من المتكبرين والمتعجرفين، ومن هنا ورد عن عليٍّ (ع): "ثمرة التواضع المحبّة"[16].
هـ- الإخلاص والوفاء، إنّ من يكون وفياً مخلصاً في تعامله مع الآخرين فمن الطبيعي أن يربح صداقتهم ويكسب ودّهم، وقد ورد عن أمير المؤمنين (ع): "سبب الائتلاف الوفاء"[17].
وعنه (ع): "دارِ عدوَّك وأخلص لودودك تحفظِ الأخّوة وتُحْرِزِ المروة"[18].
و- الرفق، والرفق في التعامل مع الناس هو من أيسر الطرق وأسهلها ليربح محبتهم ويكسب صداقتهم، فعن الإمام عليٍّ (ع): "من لانت عريكته وجبت محبته"[19].
ز- تناسي المساوىء، ومن محامد الأخلاق التي تُكْسِبُ الإنسان محبّة الآخرين، أن يتغاضى عن مساوئهم ولا يتتبّع عوراتهم، فعَن أمير المؤمنين (ع): "تناسَ مساوىء الإخوان تستدمْ ودّهم"[20].
ح - الكرم، ولا ريب أنّ السخاء والكرم هو من الأخلاق الطيبة التي تجعل الإنسان يربح محبّة الآخرين، بخلاف البخل فإنّه يوجب مقتهم له وانفضاضهم عنه، وقد ورد في الحديث عن أمير المؤمنين (ع): "السخاء يُكسب المحبة ويزيّن الأخلاق"[21].
وعنه (ع): "الكريم عند الله محبور مثاب وعند الناس محبوب مهاب"[22].
4- الإيمان وجاذبيته
وتعتبر بعض النصوص الدينية أنّ الإيمان بالله تعالى ومحبته سبحانه والاستقامة على خطّ طاعته هي من أهمّ العوامل المؤثرة في اكتساب الإنسان محبّة الآخرين، ونيل رضاهم، وهذا أمر منطقي للغاية ولا يحتاج إلى أن نقدّم له تفسيراً غيبيّاً، فإنّ المؤمن بالله تعالى حقاً يكون من الطبيعي أن ينعكس إيمانه على شخصيّته فيهذّب أخلاقه ويصقل شخصيته، وبذلك سيكون محبوباً عند خلق الله، يألف ويؤلف، "الخير منه مأمول والشّر منه مأمون"[23].
ومع ذلك فليس ثمّة ما يمنع أبداً أن يكون في المسألة كرامة ربانيّة، بحيث يكون للإيمان في ميزان لطف الله تعالى مِثْلُ هذا الأثر الطيّب، بمعنى أنّ كلّ من أحبّ الله تعالى واتقاه وعبده مخلصاً له الدين فإنّه تعالى يجازيه ويكافيه على ذلك، فيفتح له قلوب الناس، ليبادلوه الحبّ بالحبّ والتحية بمثلها، وهذا ما يستفاد من الحديث المروي عن رسول الله (ص): ".. ما أقبل عبد بقلبه إلى الله إلاّ جعل الله قلوب المؤمنين تَفِدُ إليه بالودّ والرحمة وكان الله بكلّ خير إليه أسرع"[24].
فما أيسر أن يكسب الإنسان محبّة الآخرين، دون أن يحتاج إلى أيّ تزلّف أو تذلّل أو أية مداهنة لهم، بل إنّ إيمانه وصدقه هما رأسماله ودعامتا نجاحه وأساسا مصداقيّته بين الناس.
سيجعل لهم الرحمان ودّاً
وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه المعادلة، وهي المعادلة التي تمنح الإيمان دوراً في اكتساب محبّة الناس، أو قل: معادلة "أحبب الله يحببك عباد الله"، قال تعالى: {إنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودّاً} [مريم 16].
ويهمّني أن أتوقّف عند هذه الآية المباركة وقفة تأمّل وتدبّر، لأنّها الأساس في تأكيد المعادلة المذكورة، ونعرض لما قاله المحقّق الطبرسي في بيان الاتجاهات المذكورة في تفسير الآية المذكورة. قال رحمه الله:
" قيل: فيه أقوال:
أحدها : إنّها خاصّة في عليِّ بن أبي طالب عليه السلام ، فما من مؤمن إلاّ وفي قلبه محبة لعليٍّ عليه السلام، عن ابن عباس. وفي تفسير أبي حمزة الثمالي : حدثني أبو جعفر الباقر عليه السلام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعليٍّ عليه السلام: قل: اللهم اجعل لي عندك عهداً، واجعل لي في قلوب المؤمنين ودّاً. فقالهما علي عليه السلام، فنزلت هذه الآية". ورُوي نحوه عن جابر بن عبد الله الأنصاري.
والثاني: إنّها عامة في جميع المؤمنين يجعل الله لهم المحبّة والأُلفة والمقة في قلوب الصالحين. قال هرم بن حبان: ما أقبل عبد بقلبه إلى الله تعالى، إلاّ أقبل الله بقلوب المؤمنين إليه، حتى يرزقه مودتهم ورحمتهم ومحبتهم. وقال الربيع بن أنس: إنّ الله إذا أحبّ مؤمناً، قال لجبرائيل: إنّي أحببت فلاناً فأحبّه، فيحبّه جبرائيل، ثم ينادي في السماء: ألا إنّ الله أحبّ فلاناً فأحبّوه، فيحبّه أهل السماء ثم يوضع له قبول في أهل الأرض. فعلى هذا يكون المعنى يحبّهم الله ويحبّبهم إلى الناس.
والثالث: إنّ معناه: يجعل الله لهم محبّة في قلوب أعدائهم ومخالفيهم، ليدخلوا في دينهم، ويعتزوا بهم.
الرابع: يجعل بعضهم يحبّ بعضاً، فيكون كلّ واحد منهم عضداً لأخيه المؤمن، ويكونون يداً واحدة على من خالفهم.
والخامس: إنّ معناه سيجعل لهم ودّاً في الآخرة، فيحبّ بعضهم بعضاً، كمحبّة الوالد لولده، وفي ذلك أعظم السرور، وأتمّ النعمة، عن الجبائي.
ويؤيّد القول الأوّل: ما صحّ عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قال: "لو ضربت خيشوم المؤمن بسيفي هذا، على أن يبغضني ما أبغضني، ولو صببت الدنيا بجملتها على المنافق على أن يحبني ما أحبني، وذلك أنه قضى فانقضى على لسان النبي الأمي أنه قال: لا يبغضك مؤمن، ولا يحبك منافق "[25].
وتعليقاً على هذه الأقوال المذكورة في تفسير الآية المباركة نقول: إنّ من الممكن ترجيح رأي يجمع بين هذه الأقوال جميعاً، لأننا لا نجد تنافياً بينها، ولا موجب لحصر مدلول الآية في رأي واحد منها ورفض البقية، وذلك لأنّ لفظ الآية عام ويسع كلّ هذه الوجوه، فهي تدلّ على أنّ للإيمان جاذبية
خاصة، وأنّ الله تعالى يجعل للذين آمنوا وعملوا الصالحات ودّاً، ولكنّها أطلقت ولم تحدّد متى؟ وأين؟ وكيف؟ ونحن نلتزم بإطلاقها ما يعني أنّه تعالى يجعل لهم ودّاّ في الآخرة كما في الدنيا، ويجعل لهم ودّاً في قلوب المؤمنين وغير المؤمنين، وما ورد في النصوص من أنّ الآية نزلت في أمير
المؤمنين (ع) فهو أيضاً لا ينافي ما قلناه، على اعتبار أنّ أسباب النزول لا تمنع من التمسك بعموم النص القرآني[26]، لأنّه كما هو معروف فإنّ المورد لا يخصص الوارد، ولا شكّ أنّ عليّاً عليه السلام هو المصداق الأبرز للذين آمنوا وعملوا الصالحات، وهو ممّن غرس الله محبته في
القلوب، وإذا كان مقصود أصحاب القول الثاني المتقدم هذا المعنى، فيكون هو القول الأرجح والأقرب إلى الصواب.
أجل ثمّة أمر تدلّ عليه الروايات سواء ما ورد منها في تفسير الآية أو ما ورد في مناسبة أخرى، وهو أنّ حبّ عليّ(ع) وسائر أهل بيت النبيّ (ص) هو ميزان صدق الإيمان لدى الشخص المسلم، وهذا ما سوف نتطرّق إلى تفسيره وتوضيحه في محور لاحق.
ثمرات المودّة والتودّد
في ضوء ما تقدّم يغدو واضحاً وجلياً أهميّة المحبّة والمودة في بناء المجتمع المتماسك والمتضامن والمتكافل فحسب، بل وضرورة العمل على نشر وتعميم ثقافة المحبّة وكلّ القيم التي تماثلها في المعنى، فأي عاقل أو حكيم يريد للحياة الاجتماعية أن تعيش قدراً من الاستقرار والسلام فيفترض به أن
يساعد على نشر قيمة المحبّة، مبتدئاً بنفسه ومن يلي أمورهم من الناس أو يدخلون في نطاق مسؤوليته، ثم ينطلق إلى الآخرين، وإليك توضيحاً لهذا الأمر:
1- المودّة قرابة ونسب
اهتماماً بالمودّة والمحبّة التي تنشأ بين الأشخاص وحرصاً على بقائها واستمراريتها بسبب ما لها من آثار إيجابية طيّبة على الاجتماع الإنساني برمّته، فإنّ بعض الروايات قد نزلّتها منزلة النسب ومنحتها صفة القرابة، مع ما يتضمّنه ذلك من إعطاء بُعْدٍ جديد لمفهوم القرابة، ففي الحديث عن الإمام
عليٍّ (ع): "ربَّ أخٍ لم تلده أمّك"[27]، إنّ ما يرمي هذا الحديث إلى تأكيده وبيانه هو: أنّ الصديق هو مَنْ تجده في الملمات إلى جانبك، مهتمّاً لأمرك ومتفاعلاً معك، هو أخ لك وإن لم تلده أمك، بينما الأخ الذي هو من أبيك وأمّك ولكنّه لا يهتمّ لأمرك ولا يبالي بما تعانيه فهو لا يحمل من
مضمون الأخوة إلاّ الاسم، لأنّ تعاون الأخوة وتضافرهم هو من مقتضيات الأخوّة.
وفي حديث آخر عنه (ع): "المودّة إحدى القرابتين"[28].
وعنه (ع): "المودّة نسب"[29].
وتذهب بعض النصوص إلى أبعد من ذلك حيث تؤكدّ على أنّ المودّة بين الأصدقاء المتحابين والمتآخين هي أكثر نفعاً من القرابة الخالية من العواطف، فربّما كان إخوان القرابة النسبية مؤذين ومزعجين لك ويقطعون رحمك، بينما إخوان المودّة الصادقة سيقفون لا محالة إلى جانبك ويمدّون لك يد العون عند الحاجة إليهم ويواسونك في الملمّات.
إنّ القرابة الخالية من وشائج المودّة لا قيمة لها، بل إنّها تؤلم قلب الغيور الذي يتوقع أن يرى قريبه الرحمي واقفاً إلى جانبه، وإذا به يراه - أحياناً - يكيد له ويضمر الحقد والحسد عليه، قال الشاعر:
وظلْمُ ذوي القربى أَشدُّ مضاضةً على الحرِّ مِنْ وَقْعِ الحسامِ المُهَنَّدِ[30].
2- توارث المودّة
ومن أجمل ما أكدّت عليه بعض الأخبار الواردة في المقام أنّ المودّة التي تنشأ بين الآباء ينبغي أن يحفظها الأبناء، ويتوارثوها، ففي الحديث عن أمير المؤمنين (ع): "مودّة الآباء قرابة بين الأبناء، والقرابة إلى المودّة أحوج من المودّة إلى القرابة"[31]، وهذا خُلُقٌ جميل ورائع، وهو من
جهة يعبّر عن الوفاء للآباء والبرّ بهم والإخلاص لهم بحفظ صداقاتهم وعلاقاتهم، ومن جهة أخرى، فإنّه يوسّع من دائرة الصّداقة والأخوّة، وهذا في حدّ ذاته مقصد نبيل تهتّم الشريعة الإسلامية به، لِمَا له من نتائجَ طيّبةٍ على الاجتماع الإنساني برمته، وفي الحديث: كان أبو عبد الله عليه السلام إذا
نظر إلى الفضيل بن يسار مقبلاً قال: {بشر المخبتين} [الحج 34]. وكان يقول: "إنّ فضيلاً من أصحاب أبي، وإنّي لأحبّ الرجل أن يحبّ أصحاب أبيه"[32].
وفي الخبر عن أبي عبد الله وأبي الحسن عليهما السلام قالا: "ينبغي للرجل أن يحفظ أصحاب أبيه ، فإنّ برَّه بهم برُّه بوالديه"[33].
3- المودة واكتساب الأصدقاء
ولعل أبرز وأوضح ثمرة للمودّة هي اكتساب الإخوان وكفى بذلك ثمرة، لأنّ اكتساب الأخوان ليس مجرد فضيلة يحثّ عليها الإسلام، وإنّما هو مغنم عظيم وحاجة ماسة لكل واحد من أبناء الإنسان، لأنّ الجنس البشري لا يمكنه الاستغناء عن الحياة الاجتماعية أو أن يعيش وحيداّ، أو في عزلة عن
بني جنسه، ومن هنا نجد تعاليم الأنبياء (ع) ووصايا الحكماء تدعو إلى التعارف والتلاقي والتزاور، وتحرّض على اكتساب الأصدقاء والأخوان، لأنّه كسب للإنسان، فعن عليٍّ (ع): "أنفع الكنوز محبّة القلوب"[34]. كما أنّ افتقاد الإخوان خسارة كبيرة وغربة موحشة، عنه(ع): "والغريب من
لم يكن له حبيب"[35].
وثمّة وصايا وتعاليم إسلامية خاصة وعديدة حول كيفية التعامل مع الإخوان، وبيان حقوق الأصدقاء، وآداب الصّداقة، والحثّ على عدم تضييع الأصدقاء، فعن أمير المؤمنين (ع): "أعجز الناس من عجز عن اكتساب الإخوان، وأعجز منه من ضيّع من ظفر به منهم"[36].
أجل، إنّ المودّة بين الأصدقاء لا يفترض ولا ينبغي أن تصل إلى مستوى يتجاوز فيه الأصدقاء كلّ الحدود أو ترتفع بينهم الحواجز كافّة بحيث ينكشف الصديق أمام صديقه انكشافاً تاماً، فهذا من سقم المودة، وقد تكون له نتائج غير طيبة على مستقبل الصداقة نفسها، وذلك بملاحظة أنّ ظروف الحياة
قد تغيّر الصديق عليك، وربما يتحوّل إلى خصم لك، فيستغل ما يعرفه عنك من أسرار فيفضحك أو يبتزك أو ما إلى ذلك، وقد نبّه على ذلك الإمام علي (ع) فيما ورد عنه: "أحببْ حبيبك هوناً ما عسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وأبغض بغيضك هوناً ما عسى أن يكون حبيبك يوماً ما"[37].
4- التودد نصف العقل
وبما أنّ المودّة تحتاج في الكثير من الأحيان إلى محفزّات وتهيئة أسباب ومقدّمات، يكون من المهم بمكانٍ العمل على تدريب النفس وحملها على مودة الآخرين، كما تؤكّد ذلك بعض الأحاديث الشريفة، ففي الحديث عن أمير المؤمنين(ع): "التودّد نصف العقل"[38].
وفي حديث آخر عن رسول الله (ص): "التودّد نصف الدين"[39].
وليس المراد من التودّد هنا مخادعة الناس والتظاهر بالودّ لهم مع استبطان ما يغايره من الكراهية والحقد ، وإنّما المراد به تعويد النفس وتدريبها على مودّة الآخرين ومغالبتها على ذلك، فالتودّد هو من قبيل التصبّر الذي يعني حمل النفس على الصبر، أو التحلّم الذي يعني حمل النفس وتدريبها
على الحلم. وقد ورد في الحديث عن رسول الله(ص): "العلم بالتعلّم والحلم بالتحلّم.."[40]، والغرض من التودّد هو كسب الآخرين واستمالتهم وكسر الحواجز النفسيّة معهم، فهو يمثّل نوعاً من المداراة أيضاً، والمداراة هي سلوك أخلاقي راقٍ ورفيع، وهي لا تعني المداهنة أبداً كما قد يتخيّل
البعض.
من كتاب "وهل الدين إلا الحب؟"
نُشر على الموقع في 8-8-2015
[2] عوالي اللآلي ج 1 ص 294 ، وبحار الأنوار ج 74 ص 166.
[3] كتاب الإمامة والتبصرة من الحيرة، نقلاً عن بحار الأنوار ج 71 ص 355.
[4] الإرشاد للشيخ المفيد ج 2 ص 233، دلائل الإمامة للطبري ص 311.
[5] كنز العمال ج 9 ص 130.
[8] ففي الحديث عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : "ما تقع صدقة المؤمن في يد السائل حتى تقع في يد الله"، ثم تلا هذه الآية: {ألم يعلموا أنّ الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات..} [التوبة 104]، انظر: وسائل الشيعة ج 9 ص 434، الباب 29 من أبواب الصدقة الحديث 3.
[10] عيون الحكم والمواعظ ص149، وروي نظيره عن الإمام الصادق (ع)، رواه المسعودي في إثبات الوصية في حديث دخوله على المنصور قال: ثم أقبل حتى انتهى إلى الباب فاستقبله الربيع الحاجب، فقال له: ما أشد غيظ هذا الجبار عليك! يعني ما قد همّ به أن يأتي على آخركم، ثم دخل إليه فاستأذن له، فأذن، فدخل فسلّم عليه، فروي أنه (عليه السلام) صافحه، وقال له: "روينا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال: إنّ الرحم إذا تماست عطفت" فأجلسه المنصور إلى جنبه، ثم قال: [فإني] قد انعطفت وليس عليك بأس"، أنظر: مستدرك الوسائل للمحدّث النوري ج12 ص14، الباب 53 من أبواب جهاد النفس الحديث 22.
[11] عيون الحكم والمواعظ ص228.
[12] عيون الحكم والمواعظ ص228.
[13] عيون الحكم والمواعظ ص340.
[23] كما قال علي عليه السلام فيما روي عنه في وصف المتقين، انظر : نهج البلاغة ج2 ص 164.
[24] مجمع الزوائد للهيثمي ج 10 ص 247، والمعجم الأوسط للطبراني ج5 ص 186.
[25] مجمع البيان للطبرسي ج 6 ص 454، 455.
[26] تبنى هذا الرأي الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، انظر: الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل ج 9 ص 513.
[27] عيون الحكم والمواعظ ص267.
[28] عيون الحكم والمواعظ ص 26.
[29] عيون الحكم والمواعظ ص 32
[30] هذا من قول طرفة بن العبد في معلقته، أنظر: خزانة الأدب وغاية الإرب ص 191.
[34] دستور معالم الحكم ومأثور مكارم الشيم ص 20.
[37] نهج البلاغة ج 4 ص 64، ونظير هذا المعنى مروي عن الإمام الصادق (ع)، فقد قال (عليه السلام): "لا يطّلع صديقك من سرّك إلاّ على ما لو اطّلع عليه عدوك لم يضرك، فإنّ الصديق ربما كان عدواً"، انظر: وسائل الشيعة ج 12 ص 174، الباب 102 من أبواب أحكام العشرة 6.
[39] تحف العقول ص 60، ورواه كذلك في البحار عن عيون أخبار الرضا(ع)، لكنّ الموجود في المصدر: "التوحيد نصف الدين"، انظر: ج2 ص38.
[40] انظر: كنز العمال ج 10 ص 239، وج 16 ص 254.