دور الحب في الخطاب الديني
الشيخ حسين الخشن
قد لا يكفي – في رأي الكثيرين- أن يكون الإسلام هو الدين الذي ينسجم مع الفطرة في تعاليمه وأحكامه، ويتوافق مع العقل في أسسه وركائزه ومقاصده الكليّة، قد لا يكفي ذلك لتنشدّ إليه النفوس وتقبله العقول، ويُقبل الناس على اختياره والانخراط فيه، بل لا بدّ أن يمتلك بالإضافة إلى ذلك خطاباً
جذّاباً يتماهى مع تلك الفطرة وينسجم مع معطيات العقل ويكون بمستوى الرسالة وطموحاتها.
ومن هنا، وفي هذه المرحلة التاريخيّة التي تمّت فيها "شيطنة" الإسلام وعُمل على تشويهه إلى أبعد حدٍ، ليس بأيدي خصومه فحسب، بل وبأيدي بعض الحمقى من أتباعه، فإنّ التحدي الكبير أمامنا هو كيف نقدّم الإسلام؟ وهل ننجح في إزاحة هذه الصورة المنفرّة التي انطبعت في الأذهان عن هذا
الدين وإبدالها بصورة مشرقة تليق بسمو القيم التي بشّر بها هذا الدين؟
إنّ المسؤولية في ذلك تقع على عاتق الخطاب الديني، فإذا نجح هذا الخطاب في أن يجدّد نفسه ويطوّر أساليبه ليقدّم الإسلام على حقيقته الناصعة، التي تضجّ بالرّحمة وتمتلئ بالمحبّة، وحقيقته باعتباره خشبة خلاص وسفينة نجاة صالحة لقيادة البشرية الغارقة في المادة والمتعطشة للروح والمعنى
إلى برّ الأمان، إذا نجح الخطاب الإسلامي في هذه المهمة فإنّ ذلك كفيل بتغيير الصورة النمطيّة السائدة اليوم عن الإسلام، وهذا المحور من بحثنا معنيٌّ بتسليط الضوء على دور قيمة الحبّ في الخطاب الديني المعاصر.
أولاً: مسؤوليّة الخطاب الديني "حبّبونا إلى الناس"
والذي أعتقده أنّ الخطاب الديني عموماً سواء الخطاب الذي يتحرّك به الخطيب والمبلّغ، أو الفقيه والمجتهد، أو الفيلسوف أو المتكلّم معنيٌّ بأن يستفيد من قيمة الحبّ، ويتخذها قيمة هادية وحاكمة لكلِّ ما يُقدمه وينتجه، سواء كان موعظة أو فتوى أو فكراً، والسؤال: هل أنّ من يتحدّث باسم
الإسلام اليوم يعي إذا ما كان خطابه – فكراً أو فتوى أو موعظة - يُسهم في تحبيب الناس بالإسلام وجذبهم إليه، أو أنّه يُسهم في تنفيرهم وإبعادهم عنه؟
إنّ الوظيفة الأساس للخطاب الديني هي ما عبّر عنه الإمام الصادق (ع) في قوله: "حبّبونا إلى الناس ولا تبغّضونا إليهم، فَجُرُّوا إلينا كلّ مودّة وادفعوا عنّا كلّ شرّ"[1].
ويؤسفني القول: إنّ خطابنا الديني على مستوى الظاهرة لم يستهدِ قيمة الحبّ ونظائرها من القيم ولم يستحضرها أو يستثمرها في فهمه للإسلام أو في تقديمه له ودفاعه عنه، ولذا غدا خطاباً يطغى عليه التشدّد والقسوة، وربّما تمجّه الأسماع وتنفر منه الطباع، وإليك توضيح ذلك.
1- الله وصورة الجلاد!
لعل الجريمة الكبيرة التي جنيناها على أنفسنا وديننا، أنّنا- في بعض خطابنا الديني - لم نرَ الله تعالى، أو لم نقدّمه كما ينبغي أن يُقدّم، بل رأيناه مصدراً للخوف والرّعب، حيث تتقدّم عندنا- في حديثنا عن الله- صُوَرُ العذاب على صُوَرِ الرحمة، فالله هو الجلّاد المنتقم، وتغيب عن هذا الخطاب صورة:
{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون} [البقرة:186]، إنّ الخطاب الديني الذي يقدّم الله تعالى على هذه الصورة، إنّما يُكرّه اللهَ إلى الناس، ويحوّل تصوّره إلى كابوس دائم ومخيف، ما يدفع بعض الناس إلى أن يفرّوا من
الدين، ومن الحديث عن الله، ولستُ أبالغ فيما أقول ولا أتحدّث بكلام تهويليٍّ، بل هو كلامٌ من صلب الواقع.
جريمة نكراء
وإليكم - كشاهد على ما أقول- هذه القصة التي هي من أعجب ما واجهتُه في حياتي: أتاني قبل مدّة شاب ملتزم دينياً، فرأيته حائراً خائفاً نحيلاً!
قلت: ما بك يا فلان؟
قال: إنّي أكره الله!! فصُدمت لِمَا سمعت ولم أكدْ أصدّق أذنيّ لأوّل وهلة، لأنّي لم أكن أتوقّع مثل هذه الإجابة، ولم تواجهني من قبل، فنحن قد اعتدنا أن يأتينا بعض الأشخاص، ولا سيّما من الشباب ليقول: أنا أشكّ في وجود الله! فكيف تثبت لي وجوده؟ أمّا أن يأتيَ إليك شخص يؤمن بالله ويقول لك:
"أنا أكره الله!" فهذا أمر عجيب!
قلت للشاب: أتكره الله أم أنّك لا تؤمن به؟ قال: أنا أؤمن به وأعتقد بوجوده، لأنّ كلّ شيء في هذا الكون يدلّ عليه.
إذن لِمَ تكرهه، قلتُها له مستنكراً؟!
فحكى لي الشاب، قصّته التي أوصلته إلى هذه النتيجة الصادمة، وهي قصّة جرت بينه وبين رجل من مدّعيّ العرفان زوراً، وكانت "نصيحة" هذا الشخص "العرفاني" له هي التي أوصلته إلى هذا الحالة الغريبة والكارثية، وخلاصة القصّة:
إنّ هذا الشاب وهو طالبٌّ جامعي، قد تعرفّ على فتاةً كانت معه في الجامعة وأُعجِبَ بها وأحبّها حبّاً بريئاً، ولأنّه لا يستطيع الزواج منها في مرحلة الدراسة، لعدم تيسّر أسباب الزواج ولا ظروفه، فأخذ هذا الأمرُ يقلقه، ولا سيّما أنّه خشي الوقوع في الحرام، فشكى أمره إلى ذاك الرجل الذي كان
يثق به، فـ"أفتاه" ذاك الرجل بأنّ عليك ترك الفتاة فورا،ً لماذا؟ لأنّه لا يمكن أن يجتمع في قلبك حبّان: حبّ الله، وحبّ هذه الفتاة!
فاستجاب الشاب المسكين لهذه "النصيحة"، وأبلغ الفتاة بتركه لها وتخلّيه عنها، لأنّه لا يريد أن يقع في فخّ الشِرْك، بل يريد أن يكون حبّه خالصاً لله وَحْدَهُ!
ولم يمض وقت قصير حتى أخذ الفتى يعيش صراعاً داخلياً مريراً، لأنّ حبّ الفتاة كان لا يزال نابضاً في قلبه رغم مكابرته وإبلاغه الفتاة بقرار الابتعاد عنها والتضحية بها لحساب الله، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنّ خوف الشرك بالله على زعم ذلك " العارف" لا يزال يؤرّقه، وفي ذروة هذا
الصراع الداخلي المرير الذي لازم هذا الشاب لأشهر عديدة، والذي زاده التهاباً ابتعادُ الفتاة كلياً عنه خلص الشاب إلى النتيجة التالية وهي: أنّ "حبّ الله" هو الذي أفقده حبيبته وهو السبب في خسارتها، فانقلب رأساً على عقب، وتحوّل حبُّه لله إلى بغضٍ له عزّ وجلّ، أي أصبح الله هو خصمه
وعدوّه الذي أفقده حبيبته!.
ومع أنّ هذا الاستنتاج الذي وصل إليه هذا الشاب خاطئ بكلّ تأكيد، لكنّه وأمثاله ضحيّة من ضحايا الخطاب الديني المتخلّف والمنفّر، إنّه ضحيّة الجهل، إذ متى كان حبّ الرجل للمرأة، أو حبّ المرأة للرجل يتنافى وحبّ الله؟! أحببْ من شئت إنساناً أو حيواناً أو جماداً، لكن ليكنْ حبّك إياه في
خطِّ حبّك لله تعالى.
على أنّ الحبّ عندما يكون انجذاباً لا شعورياً ولا إرادياً نحو الآخر لا يكون مبغوضاً عند الله تعالى، لأنّه انفعال جِبِلِّيٌّ طبيعي خارج عن الإرادة، وما كان كذلك لا يُلام عليه صاحبه، ولا يُنهى عنه.
أجل، يُفترض بالمؤمن أن لا ينجرف مع المشاعر إلى الحدّ الذي يخرج عن توازنه، أو يدفعه الهيام لارتكاب الحرام، ولو على مستوى النظر أو اللمس أو غير ذلك من المقدّمات المحرّمة، ولا يجوز أن نبرِّر كثيراً من التجاوزات الشرعيّة على أساس الحبّ أو العشق. ولنا عودة إلى هذا الاستثناء
في محور لاحق بعون الله.
2- النبي (ص) وصورة الجزار
وكما أساء بعضُ خطابنا الديني وليس كلُّه إلى صورة الله تعالى عندما قدّمه إلى الناس على صورة الجلاد الذي يلتذّ بتعذيب الضحيّة، فإنّه أساء أيضاً إلى صورة الأنبياء(ع)، فقدّمهم باعتبارهم دعاة فتك ورسل كراهية، لا باعتبارهم دعاة سلام وحبّ ووئام، ليصبح شعار النبيّ الأكرم محمد (ص)
وعنوان رسالته هو: الذبح والنَّحر وجزّ الرقاب! ويستند أصحاب هذا الخطاب التكفيري إلى حديث مزعوم يَرّوُونه عن رسول الله (ص) يقول فيه:" يا معشر قريش لقد جئتكم بالذبح"[2].
أهكذا هو رسول الله حقاً؟ وبالذبح بُعث وأُرسل؟!
كلّا وألف كلّا، وكيف يكون كذلك وهو الرحمة المهداة، وقول الله في وصفه هو أصدق القول: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107].
لقد خطّ الله سبحانه وتعالى لرسوله (ص) من خلال هذه الآية المباركة منهجاً يسير عليه في كلّ حركته الرساليه، وعنوان هذا المنهج هو الرحمة، فكيف لهذا النبي (ص) أن يحيد عن هذا المنهج، ليجعل الذبح عنوان رسالته؟!
إنّ النبي (ص) الذي يقول عن نفسه: "إنما أنا رحمة مهداة"[3]، ويجسّد الرحمة في كلّ سلوكه هل يعقل أن يناقض نفسه ويقول: أنا رسول الذبح؟!
عندما يطلّ بعض ذابحي البشر علينا ليقدّم لنا النبيّ الأكرم (ص) باعتباره صاحب رسالة عنوانها الذبح فهل يعي هؤلاء إلى أيّ حدٍ سوف يقتنع المسلمون – قبل الآخرين - بهذا الكلام المنافي للفطرة وللمنطق وللقيم التي بشّر بها القرآن الكريم، والمجافي لروح الإسلام والتعاليم التي جاء بها
النبي(ص) نفسه؟!
حديث الذبح
أمّا حديث "جئتكم بالذبح" فهو حديث مرفوض، لعدة اعتبارات، ومن أهمها مخالفته لكتاب الله تعالى، وقد سجّلنا عدة ملاحظات على الحديث المذكور في كتاب "العقل التكفيري"[4]، ونضيف هنا إلى ما ذكرناه هناك ملاحظتين:
الأولى: أنّ هذا الكلام مخالف لسيرة النبيّ الأكرم (ص)أيضاً، لأنّ الحديث المذكور يزعم أنّه (ص) خاطب قريشاً بهذا الكلام وقال لهم: "يا معشر قريش قد جئتكم بالذبح"، ومعلوم أنّه (ص) لم يظهر رحمته وتسامحه مع أمة أو جماعة كما أظهرها مع قريش، فقريش التي آذته وطردته وعذّبته وعذّبت
أصحابه ولاحقتهم وحاصرته وأهل بيته في شِعْب أبي طالب حتى أنهكهم الجوع والمرض، لم يتعامل معها النبي (ص) إلاّ بالرحمة والعفو والتسامح، وكلمته حين فتح مكة: "إذهبوا فأنتم الطلقاء" لا تزال مدويّة إلى يومنا هذا. فأين الذبح الذي بُعِث به النبي (ص) إلى معشر قريش؟!
الثانية: إنّ بناء تصوّر إسلامي يتصل بتحديد وظيفة النبي (ص) وهدف بعثته لا يمكن الاعتماد فيه على أخبار الآحاد ولو كانت صحيحة، فكيف إذا كانت غير ثابتة الصحة، ومعارضة لكتاب الله ، الذي تعدّ موافقته ميزاناً وشرطاً في قبول الأخبار؟!
اتقوا الله - أيّتها الجماعة- في رسولكم إن كان فعلاً رسولاً لكم ونزّهوه عن هذا الحضيض الذي تعيشون فيه والأوحال التي تتمرّغون فيها، وارتفعوا إلى المستوى الإنساني السامي الذي يليق بكم كأمّة أراد لها النبيّ (ص) أن تكون الأمة الرائدة والشاهدة على الأمم.
3- الآخرة واختصارها بصور النيران
وهكذا فإنّ هذا الخطاب التهويلي والتخويفي قدّم لنا يوم القيامة بصورة مجتزأة يغلب عليها طابع العذاب والنيران وتتقدّمها مشاهد الجحيم المروّعة، مع تجاهل أو شبهه لمشاهد الرحمة الإلهيّة، هذه الرحمة التي هي الصفة الأبرز لله سبحانه وتعالى والتي لأجلها خلق الإنسان وبشّره بالجنان
وتوعدّه بالنيران ، كما أسلفنا بيان ذلك، وهذه الرحمة التي تسبق الغضب والنقمة، وهذه الرحمة التي تتطلع إليها عنق إبليس في ذلك اليوم[5].
وبذلك يكون الخطاب الديني التنفيري قد جنى على العقائد الثلاث للمسلمين وهي: "الإيمان بالله" و"الإيمان بالرسول" و"الإيمان بالمعاد"، فقدّمها بطريقة تهويليّة منفّرة!
4- الشريعة والأغلال
هذا في جانب العقيدة، وأمّا على مستوى الشريعة فقد غدت من خلال هذا الخطاب أو من خلال الممارسات والتطبيقات التي يقوم بها أصحاب هذا الخطاب عبئاً ثقيلاً على النفوس، بحيث يشعر الإنسان المسلم ليس بالعجز عن امتثالها فحسب، بل وبالنفور منها، إنّ الشريعة التي طابعها العام هو
السهولة واليسر، كما يدلّ عليه قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج 78]، ويستفاد من قول النبي الأكرم (ص): "إنّما بُعثت بالحنيفيّة السمحة"[6] قد حوّلها الخطاب الديني المتشدّد إلى قيود تكبِّل المسلم وتُثقل كاهله وتعرقل حياته وتُوقعه في المشاكل الصحيّة والنفسيّة،
كما نلاحظ ذلك لدى الأشخاص الذين ابتُلوا بكثرة الوساوس بشأن الطهارة أو القراءة في الصلاة أو نحوها، والذين ساهم الخطاب المذكور القائم في كثرة الاحتياطات على تفاقم أزماتهم ومشاكلهم.
إننا أمام عقل مقفل لا يعي مقاصد الشريعة وآفاقها، فتراه مستغرقاً بالهوامش ويثير المعارك على التفاصيل، يستهين بالكبائر ويستعظم الصغائر، عقل متحجّر لا يلتفت إلى أهميّة الاجتهاد وضرورته في حركيّة الإسلام ومرونته.
ثانياً: الداعية وحبّ الناس
ولعلني لا أجانب الصواب إذا قلت: إنّ الحبّ هو أفضل أساليب الدعوة إلى الله تعالى، وإنّ أهمّ ما ينبغي أن يتّسم به الداعية إلى الله تعالى وإلى القيم الدينية أن يكون إنساناً مفعماً بالمشاعر الطيبة والصادقة، ليتسنى له أن يرسل نفحات حبّه للناس ويشملهم بعاطفته، وأن يستخدم لغة الحبّ ويمارسها
في عمله الرسالي، وبذلك يتسنّى له النجاح في عمله وجذب قلوب الناس إلى رسالته، قال تعالى: {إدفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنّه وليّ حميم} [فصلت 34].
إنّ إسلوب الدفع بالتي هي أحسن هو الذي يحوّل العدو اللدود إلى صديق حميم، والدفع بالتي هي أحسن يكون باختيار الكلمة الطيبة والتحلّي بالابتسامة المشرقة، وقد يكون من المناسب أن يطلّ الداعية على الناس بمظهر جذاب وغير منفّر، نعم فإنّ مظهر الداعية في نظافته وتجمّله وتهذيب لحيته
وتحسين هندامه وترتيب لباسه قد يكون دخيلاً في نجاحه في عمله الدَعَويّ وجذب الناس إلى القيم التي يؤمن بها.
ومن هنا فإنّ المفترض بالداعية أن يتعلّم محبّة الناس جميعاً، فيحبّ المؤمن لإيمانه، ويحبّ الفاجر أو الفاسق أو الكافر لإنسانيّته، لأنّه لا مشكلة لنا مع الكافر أو الفاسق أو الضالّ في شخصه كإنسان، وإنّما مشكلتنا معه في كفره وضلاله وفسقه، وإذا عملنا على التفريق بين الأمرين فسوف يتسنّى لنا
أن ندخل إلى قلب الكافر أو الفاسق ونفتح عقله على الهداية ويصبح أكثر استعداداً لقبول الحجّة والاستماع إلى الحقّ.
وما أحوجنا في هذه المرحلة التي يعلو فيها صوت الحقد والكراهية إلى المعاهد الدينيّة التي تعلّم طلابّها كيف يحبّون الناس ويبتسمون في وجوههم، وذلك بأن تُدخِلَ الحبّ في مناهجها ومقرراتها الدرسيّة، وتبيّن لطلابها ما هي أفضل الأساليب للدخول إلى قلوب العباد، ومن المهم على هذا الصعيد
أن يُصار إلى تطوير الأساليب المعتمدة في التبليغ وتجديدها، فالأسلوب ليس مقدّساً في ذاته إلا بما يحمله من مضمون ينطوي على معانٍ سامية ومقدّسة.
إلاّ أنّ ما نلاحظه اليوم هو كثرة المدارس الدينيّة التي تعلّم روّادها الكراهية والأحقاد، وتُقدِّمُ الآخر المذهبي والآخر الديني بصورة سوداوية قاتمة تنزع عنه كلّ حرمة ولا ترى له ذمّة أو كرامة! وهنا تكمن المصيبة الكبرى والطامة العظمى، وعبثاً نحاول تغيير الواقع المأزوم إن لم نبدأ بخطوات
إصلاحية هادفة انطلاقاً من هذه المعاهد، وذلك بالعمل الدؤوب على تفكيك البنى التحتيّة التي يرتكز عليها العقل التكفيري المتشدّد المسيطر على الكثير من هذه المعاهد، وتقديم منهج ديني بديل يجمع بين الأصالة والتجديد. ومحال أن ننجح في مواجهة هذه المدارس والحدّ من تأثيرها بمجرّد دعوات
فارغة وإدانات باردة ومؤتمرات تعقد في الصالونات الفاخرة على موائد السلاطين.
أنت حبيبي!
ويطيب لي في هذا المقام أن أنقل للقارئ الكريم قصة رائعة حدثني بها بعض الأخوة ونحن في جوار بيت الله الحرام، وهي عبارة عن حادثة معبّرة جرت بين شخصين مسلميْن قاصديْن إلى حج بيت الله، وكان أحدهما من أصحاب المنهج التكفيري المتشدّد، بينما الآخر كان رجلاً مسلماً مؤمناً يتحلّى
بخُلُق رفيع، فقد التقى هذان الرجلان في بعض المواقف في الديار المقدسة، ولمّا عرف أحدهما مذهب الآخر من خلال السؤال المباشر، أو من خلال بعض الممارسات العبادية التفصيلية التي تميّز مذهباً عن الآخر، ما كان من المسلم التكفيري بعد أن عرف مذهب الآخر إلاّ أن امتلأ غيظاً وحنقاً
وبان الغضب على وجهه واندفع يهاجمه بقسوة وعنف لفظي حيث قال له: أنت ملعون!
فأجابه المسلم الآخر: ولكن أنت أخي وحبيبي!
اغتاظ التكفيري أكثر فأكثر، وردّ عليه بنبرة أعلى: أنت كافر!
فأجابه المسلم الآخر: ولكن أنت أخي وحبيبي.
وكلما اندفع التكفيري في الشتم والسب واللعن والتكفير كان المسلم الآخر يزداد هدوءاً دون أن تستفزه كل تلك الكلمات النابية، فقد كان مصمِّماً على أن يكون حجُّه مثالياً، ولذا أصرّ على أن يملك أعصابه وأن ينزّه لسانه عن كل ألفاظ الفحش والهجر في تلك الديار المقدسة.
وللمرّة الثالثة والرابعة كان يواجه لعن الآخر وسبّه له بالقول: أنت حبيبي!
فما الذي جرى بعدئذ؟
يقول ذاك المسلم التكفيري بعد أن استفاق من كبوته في وقت لاحق: إنّ إصرار هذا المسلم على أن يظلّ مبتسماً بشوشاً، ويردّ على قسوتي وخشونة كلامي ومنطقي باللطف والمحبة جعلني أنهزم أمامه وأفقد قدرتي على مقاومة حبّه وتودّده لي. فانصرفت من أمامه وأنا أشعر بصدمةٍ نفسية وهزيمة
داخلية لم تفارق مخيلتي لمدة طويلة حتى دفعتني إلى إعادة النظر في أفكاري المتشدّدة واكتشفت من خلال البحث والمطالعة أنّ الإسلام هو أكثر رحابة ممّا نتصوّر، واهتديت إلى أنّ لدى الأئمة من أهل البيت (ع) كنزاً معرفياً وروحياً ثميناً وأنّ مَنْ جهله فهو مغبون.
حبّ الناس عنوان شخصية المؤمن
والحقيقة أن حبّ الناس هو خُلُق نبيل ولا يختصّ بالداعية، فكلّ إنسان سويّ ولا سيّما الإنسان المؤمن لا ينبغي أن يحمل في قلبه إلاّ المودة والمحبّة للناس جميعاً، لأنّ ذلك هو عنوان شخصيته، فليس مقبولاً أن يكون المؤمن صاحب شخصيّة منفرّة ومبغوضة من قبل النّاس، بل إنّ إيمانه بالله تعالى
والتزامه بهدي الإسلام سيصقل شخصيته لتغدوَ شخصية تُؤلَفُ وتُحَبُّ من قبل خلق الله جميعاً.
بَيْدَ أنّ الصورة اليوم عن المسلم قد انعكست، فأصبح بعض من ينتحل التديّن وينتمي إلى المسلمين شخصيةً مخيفةً للآخرين منفرّاً في سلوكه مقززاً في منظره متكبراً متعجرفاً في مشيه ومنطقه، وهذا لا يمثّل ابتعاداً وانحرافاً عن تعاليم الإسلام ووصايا الرسول الأكرم (ص) فحسب بل ويمثل تشويهاً
لصورة الإسلام وإساءة للشخصية الإسلامية.
إنّ الإيمان السليم والتديّن الصحيح ينبغي أن يدعو المؤمن ويقوده ليكون صاحب خُلُقٍ طيّب ومعشر حَسَن، يعلوه البِشْر وتَسْبِقُه الابتسامة، ويكون مشيه التواضع ومنطقه الصواب ولسانه الصدق وحديثه الأنس، وقد ورد في الحديث عن الإمام الباقر (ع): "البَشْرُ الحسن وطلاقة الوجه مكسبة
للمحبة، وقربة من الله. وعبوس الوجه وسوء البِشْر مكسبة للمقت وبُعْدٌ من الله"[7].
بذلك يكسب المرء الإخوان ويكثر أصدقاؤه وأعوانه، ويفتح قلوب الناس على رسالة الإسلام، فعن أمير المؤمنين (ع): "ثلاث يوجبن المحبة: حُسْنُ الخُلُق، وحُسْنُ الرّفق، والتواضع"[8].
ويولي الإسلام في دعوته لأتباعه أن يحملوا في قلوبهم محبّة الناس، يولي عنايةً خاصة بالمستضعفين والمساكين، وهو إنّما يأمر بمحبتهم ويدعو للاهتمام بهم، لأنّهم معدن كلّ خير، وهم الأكثر استجابة لدعوة التغيير، لذا كانوا أحباب الله وأحباب رسوله(ص)، وهم وصيّة رسول الله (ص)، ففي
الحديث عن أبي ذرّ الغفاري: "أوصاني رسول الله (ص) بحبّ المساكين والدنو منهم"[9].
وفي حديث آخر عنه (ص) مخاطباً أبا ذرّ أيضاً: "عليك بحبّ المساكين ومجالستهم"[10].
وفي حديث المعراج: "يا أحمد! محبّتي محبّة الفقراء، فأدنِ الفقراءَ وقرّب مجلسهم منك، وأَبْعِدِ الأغنياء وأَبْعِدْ مجلسهم عنك، فإنّ الفقراء أحبائي"[11].
وفي الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) مخاطباً أمير المؤمنين(ع): "يا عليّ! إنّ الله عزّ وجلّ وهبك حبّ المساكين والمستضعفين في الأرض، فرضيتَ بهم إخواناً ورضوا بك إماماً"[12].
ثالثًا: هكذا انتشر الإسلام
إنّ الكلمة الطيبة المفعمة بالمحبّة والقائمة على أساس الحجة والبرهان هي الأسلوب الأجدى والأمثل – كما قلنا آنفاً - في الدعوة إلى الله تعالى ونشر الرسالة الإسلامية، وهذا ما تؤكّده التجربة الإسلاميّة التاريخيّة، فإنّ الإسلام ما استطاع أن يجتاح قلوب الناس بتلك السُّرعة القياسيّة إلاّ لأنّ
المسلمين الأوائل حملوا الرسالة بإخلاص وحبّ، واعتمدوا أسلوباً ليناً ملؤه الحنوّ والمحبّة والرأفة.
1- بالحبّ مَلَك النبيّ (ص) القلوب
فهذا سيّدنا رسول الله (ص) ما كان له أن يتربّع على عرش القلوب إلاّ لأنّه انتهج أسلوب الحبّ والرحمة والعفو، وبذلك استطاع أن يحوّل ألدّ أعدائه إلى أصدقاء، وإنّ سيرته (ص) العطرة طافحة بالشواهد والدلائل التي تؤكّد صحة ما قلناه، فَفَتْحُ مكة المكرّمة وهو من أهم المنعطفات في تاريخ
الإسلام لم يكن لينجح في الوصول إلى ما وصل إليه إلاّ لأنّ النبيّ (ص) قد اعتمد سياسة الرّفق والعفو مع أهل مكّة الذين آذوه وطردوه، فهو لم ينتقم منهم ولا عاملهم بما يستحقون، ولا ردّ السيّئة بمثلها، وإنّما عفى وتجاوز عنهم ومنحهم الأمان وأطلقها كلمة خالدة عبر الزمن: "اذهبوا فأنتم
الطلقاء"[13]. ولمّا بلغه أنَّ منادي المسلمين ينادي يوم فتح مكة: "اليوم يوم الملحمة، اليوم تُسْتَحَلّ الحُرُمَة"، لم يرضَ(ص) بذلك، بل سارع إلى رفع شعار آخر بديلاً عنه فقال: "اليوم يوم المرحمة"[14].
وقد أثمرت سياسة الرّفق التي اتّبعها (ص) مع مشركي العرب وغيرهم ممن بلغتهم الدعوة، فأقبلوا على الإسلام زرافاتٍ ووحداناً ودخلوا في دين الله أفواجاً، وأصبح النبيّ (ص) أحبّ الناس إلى قلوبهم، وهذا ما تطفح به كتب السيرة والتاريخ، وأكتفي هنا بنقل صورة واحدة تعبّر عن هذا المعنى
خير تعبير، يُحكى أنّ ثُمامة بن أثال سيّد اليمامة بعد أن أسلم وقف مخاطباً رسول الله (ص): "ما كان على وجه الأرض أبغض إليّ من وجهك فقد أصبح وجهك أحبّ الوجوه كلّها إليّ، والله ما كان من دين أبغض إليّ من دينك، فأصبح دينك أحبّ الدين إليّ، والله ما كان من بلد أبغض إليّ من بلدك
، فأصبح بلدك أحبّ البلاد إليّ.."[15].
كيف يتحوّل العدو إلى صديق؟ وكيف يصبح أبغضُ الناس إليك أقربَهم إلى قلبك؟! إنّ ذلك لا يحصل بالترهيب والترغيب ولا بالجدال والخصام وإنّما يتحقق ذلك بأن تمتلك – بالإضافة إلى الحجّة الدامغة- قلباً رؤوفاً كبيراً يسع الناس وطموحاتهم ويتحسّس آلامهم ومعاناتهم وينشدّ إلى آمالهم
وتطلعاتهم.
2- وبالحبّ تربّع عليّ (ع) على عرش القلوب
وهذا أمير المؤمنين(ع) إنمّا غدا معشوق القلوب وأحبّه الجميع بسبب حبّه للناس، وعدله في الرعيّة، وإيثاره الآخرين على نفسه، وتفانيه في خدمة عيال الله ، وبذا دخل حبّه قلوب الموالين له من المسلمين، كما دخل قلوب غير المسلمين، ممن عرف عليّاً (ع) وقرأ سيرته، فهذا الشاعر بولس سلامة يقول:
جلجل الحقُّ في المسيحيّ حتى عُدّ مِنْ فرْطِ حبِّهِ علويا
يا سماءُ اشهدي ويا أرض قرّي واخشعي إنّني ذكرتُ عليّا[16]
لقد كان عليّ (ع) حاكماً على القلوب من دون مرسوم، ومتربعاً على عرشها دون منافس، وسيظلّ كذلك رغم محاولات التشويه والتزوير، ولئن استطاع بعض منافسي عليّ (ع) على السلطة أن يصل إلى المُلْك ويشتري الناس بالمال ويرهبهم بالسلاح، فإنّه لم يستطع منافسة عليّ (ع) في أن يحجز مكاناً له في قلوب الناس ووجدانهم.
وإليك صورة مشرقة ومعبّرة ورائعة عن هذا الحبّ المتبادل بين عليّ (ع) وبين الناس، وكيف أنّه لم تستطع كلّ أساليب التضليل والتشويه ووسائل الترهيب والترغيب أن تزيل حبّه من قلوب عباد الله تعالى، فهذه امرأة همدانيّة تدخل ذات يوم على معاوية بعد استشهادِ عليّ (ع)، فيسألها معاوية
عن الذي دفعها للخروج مع الرجال إلى معركة صفين الطاحنة، فأجابته وهي في قصره في الشام: إنّ الذي دفعني إلى ذلك هو "حبّ عليّ واتّباع الحقّ".
ولروعة هذه القصة واشتمالها على مشاهد عزّ وإباء ومواقف كرامة وشهامة فإنّي أنقلها وأضعها بين أيديكم كما رواها المؤرخ المسلم ابن طيفور في كتابه القيّم "بلاغات النساء"، فقد روى عن أبي موسى عيسى بن مهران، حدّثني محمّد بن عبيد الله الخزاعي، يذكره عن الشعبي، ورواه العباس بن
بكار عن محمّد بن عبيد الله، قال: استأذنت سودة بنت عمارة بن الأسك الهمدانية على معاوية بن أبي سفيان، فأذن لها، فلمّا دخلت عليه، قال: هيه يا بنت الأسك! ألست القائلة يوم صفين:
شمّر كفعل أبيك يا بنّ عمارة يومّ الطّعانِ وملتقى الأَقرانِ
وانصرْ عليّاً والحسينَ ورهطَهُ واقصدْ لهندٍ وابنها بِهَوَانِ
إنّ الإمامَ أخو النبيّ محمّدٍ عَلمُ الهدى ومنارةُ الإيمانِ
فَقِهِ الحتوفَ وسِرْ أمامَ لوائِهِ قُدُماً بأبيضَ صارمٍ وَسِنَانِ
قالت: إي والله، ما مثلي من رغب عن الحقّ أو اعتذر بالكذب.
قال لها: فما حملك على ذلك؟
قالت: حبّ عليّ ( ع ) واتّباع الحقّ.
قال: فوالله ما أرى عليك من أثر عليٍّ شيئاً.
قالت: أُنْشِدُك اللهَ يا أمير المؤمنين وإعادة ما مضى وتذكار ما قد نُسي.
قال: هيهات، ما مِثْلُ مقامِ أخيك ينسى، وما لقيتُ من أحدٍ ما لقيتُ من قومك وأخيك!
قالت: صدق فوك لم يكن أخي ذميمَ المقام ولا خفيَّ المكان، كان والله كقول الخنساء:
وإنّ صخراً لتأتمُّ الهداةُ بِهِ كأنّه عَلَمٌ في رأسِهِ نارُ
قال: صدقتِ، لقد كان كذلك.
فقالت: مات الرأس وبُتر الذنب، وبالله أسال أمير المؤمنين إعفائي ممّا استعفيت منه.
قال: قد فعلتُ، فما حاجتك؟
قالت: إنّك أصبحت للناس سيّداً ولأمرهم متقلّداً، واللهُ سائلُك من أمرنا وما افترض عليك من حقنا، ولا يزال يَقْدِمُ علينا من ينوّه بعزّك ويبطش بسلطانك، فيحصدنا حصد السنبل ويدوسنا دوس البقر ويسومنا الخسيسة ويسلبنا الجليلة. هذا بسر بن أرطاة قدم علينا من قبلك فقتل رجالي وأخذ مالي، يقول
لي: فوهي بما استعصم الله منه وألجأ إليه فيه (ربما تقصد أنّه أمرها بسبّ عليٍّ عليه السلام) ولولا الطاعة لكان فينا عزٌّ ومنعة، فإمّا عزلته عنّا فشكرناك، وإمّا لا، فعرفناك.
فقال معاوية: أتهدديني بقومك، لقد هممت أن أحملَك على قَتَبٍ أشرس فأردّك إليه
يُنَفِذُّ فيك حُكْمَه! فأطرقت تبكي، ثمّ تقول:
صلّى الإله على جسمٍ تضمَّنَهُ قبرٌ فأصبح فيه العدلُ مدفونا
قد حالف الحقَّ لا يبغي به بدلاً فصار بالحقِّ والإيمانِ مقرونا
قال لها: ومن ذلك؟
قالت: عليٌّ بن أبي طالب (عليه السلام).
قال: وما صنع بك حتى صار عندك كذلك؟!
قالت: قدمت عليه في رجلٍ ولاّه صدقتنا قَدِمَ علينا من قِبَلِه، فكان بيني وبينه ما بين الغثّ والسمين، فأتيتُ عليّاً (ع) لأشكوَ إليه ما صنع بنا، فَوجَدتُه قائماً يصلّي فلمّا نظر إليّ انفتل من صلاته! (ربّما كانت الصلاة نافلة، وربّما قيل: إنّ خدمة الناس عند عليَّ (ع) لا تقلّ أهميّة عن الصلاة)
ثمّ قال لي برأفة وتعطّف: ألكِ حاجة؟
فأخبرتُه الخبر، فبكى، ثمّ قال: اللهم إنّك أنت الشاهد عليّ وعليهم، (يقصد ولاته) إنّي لم آمرهم بظلم خلقك ولا بترك حقك، ثم أخرج من جيبه قطعة جلدٍ كهيئة طرف الجواب، فكتب فيها: "بسم الله الرحمن الرحيم: {قد جاءتكم بينة من ربكم فـأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس
أشياءهم..} [الأعراف 85] {..ولا تَعْثَوا في الأرض مفسدين بقيّة الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ} [هود 85- 86]، إذا قرأت كتابي فاحتفظ بما في يديك من عملنا حتى يَقدُمَ عليك من يقبضه منك، والسلام.
فأَخَذْتُه (والمتكلّم هو المرأة الهمدانية) منه، والله ما خَتَمَه بطين ولا خَزَمَه بخزام، فقرأتُه!
فقال لها معاوية: لقد لمّظكم ابن أبي طالب الجرأة على السلطان، فبطيئاً ما تفطمون.
ثم قال: اكتبوا لها بردّ مالها والعدل عليها.
قالت: إليّ خاص أم لقومي عام؟
قال: ما أنت وقومك؟!
قالت: هي والله إذن الفحشاء واللؤم، إن لم يكن عدلاً شاملاً وإلاّ فأنا كسائر قومي.
قال: اكتبوا لها ولقومها"[17].
3- الفاتح الأقل تعصباً في التاريخ
ويذكر الباحثون والمؤرخون أنّ الفاتح المسلم إنّما استطاع إخضاع الممالك وإقناع الشعوب المختلفة بالدين الجديد لا لقوّة السيف والغلبة صرفاً، وإنما لأنّه كان يحملُ رسالة جديدة لاقت صدى طيبّاً في النفوس، ناهيك عن أنّ الفاتح المذكور كان إلى حدٍّ كبير وبيّن ينتهج سياسة الرفق وسبيل التسامح
مع أهل البلاد التي افتتحها، يقول "راسل" المفكر والفيلسوف الإنكليزي المعروف في كتابه "السلطان" في فصل: " العقائد منابع السلطان":
" لا ريب أنّ الديانة التي جاء بها محمد كانت عنصراً أساسياً في النجاح الذي حققته بلاده وحقّقه قومه.. وقد أظهر المسلمون منذ بداية عهدهم تسامحاً في التعامل مع المسيحيين الذين أخضعوهم ... ولا ريب أنّ الفضل في سهولة فتوحاتهم واستقرار إمبراطوريتهم يعود إلى هذا التسامح الذي يبدو
بارزاً إذا ما قورن بالحماسة التعسفيّة الاضطهادية التي عرفت بها الكنيسة الكاثوليكية"[18].
ويقول الكاتب والباحث اللبناني أمين معلوف:
"لا توجد ديانة معصومة عن التعصّب، ولكننا لو قمنا بمحصّلة هاتين الديانتين "الغريمتين" – يقصد المسيحية والإسلام- لوجدنا أنّ الإسلام ليس سيئاً لهذه الدرجة. ولو كان أسلافي مسلمين في أرض قد اجتاحتها الجيوش المسيحية، بدلاً من أن يكونوا مسيحيين في بلاد غزتها الجيوش المسلمة، لا
أعتقد أنّهم كانوا سيستمرون في العيش طوال أربعة عشر قرناً في مدنهم وقراهم، محافظين على ديانتهم. فماذا كان مصير مسلمي إسبانيا؟ وماذا حلَّ بمسلمي صقلية؟ لقد أُبيدوا عن بكرة أبيهم، وذُبحوا وأُرغموا على سلوك طريق المنفى أو جرى تنصيرهم بالقوّة.
لقد تميّز الإسلام، منذ بداياته، بقدرة لافتة على التعايش مع الأديان الأخرى. ففي أواخر القرن الماضي، كانت إسطمبول عاصمة الدولة الإسلامية العظمى، تضم أغلبية من غير المسلمين، جلُّهم من اليونان والأرمن واليهود. فهل يسعنا أن نتصوّر، في الفترة نفسها، عدداً لا بأس به من غير
المسيحيين، مسلمين كانوا أم يهوداً، يعيشون في باريس أو لندن أو فيينا أوبرلين؟ وحتى اليوم لا يزال الكثير من الأوروبيين يمتعضون لسماع صوت المؤذن في مدنهم"[19].
وفي ضوء هذا فإنّ ما يُحكى عن أنّ الإسلام ما كان له أن ينتشر إلاّ بالسيف هو كلام مبالَغ فيه، فبصرف النظر عن أنّ بعض الدول الإسلاميّة الكبرى لم يدخلها الفاتح الإسلامي أصلاً كما هو الحال في دول جنوب شرق آسيا، فإنّ القوة لا تنشر الفكر، لأنّها قد تستطيع أن تُرهب الإنسان ولكنّها لا
تستطيع إقناعه، وقد تستطيع أن تقمعه، ولكنّها لا تستطيع أن تجندّه لصالحها، وما وجدناه عند الشعوب التي دخلت الإسلام بعد الفتوحات أنّها انخرطت في الدين الجديد طواعية، وتحمسّت بسرعةٍ له وحملت رايته، وتقدّمت بذلك على العرب المسلمين، فهل يصدّق عاقل أنّ الفرس – مثلاً – وهم
أصحاب ثقافة ضاربة في التاريخ دخلوا الإسلام مكرهين؟! وأنّى للإكراه والسيف أن يجعلهم قوّة تعمل بإخلاص ونشاط منقطع النظير لصالح الإسلام، لا أقصد أنّهم صاروا قوّة عسكرية فحسب، بل قوّة علميّة وأدبية، فقد أبدعوا في الكثير من المعارف الإسلامية، فكتبوا في لغة القرآن ما لم يكتبه
العرب، وبذلك ازدهرت العربية على أيديهم، حيث كانوا ممن أسهم في تقعيد قواعدها ووضع قواميسها ومعاجمها، وألّفوا وكتبوا أيضاً في كافة العلوم والمعارف الإسلامية من علم الحديث إلى علم التفسير إلى علم الكلام والفلسفة إلى علم الفقه إلى غير ذلك .
رابعاً: المهدي (ع) ورسالة الحب
ورسالة الحبّ والعدل هذه هي الرسالة التي سيحملها الإمام المهديّ المنتظر (عجل الله فرجه) إلى العالم الغارق في الكراهية والأحقاد، وليست رسالته أبداً هي رسالة الذبح والقتل وسفك الدماء، ولكنّ ما يؤسف له أنّ بعض خطابنا الديني قد أساء لصورة المهديّ المنتظر(ع) فقدّمه على أنّه حامل
السيف وأنّه لا شأن له إلاّ القتل وسفك الدماء ونبش القبور[20].
وهذا في الحقيقة يمثّل تشويهاً لصورة المهدي (عجّل الله فرجه) ولرسالته، فالمهديّ لا يمتلك مبادىء خاصة به (غير مبادئ الإسلام) يسير عليها، وليس لديه سيرة مخالفة لسيرة جدّه المصطفى(ص) وإنما يتحرّك بموجب المبادىء التي جاء بها الدين الإسلامي الحنيف، ويأتي على رأسها: مبدأ العدل،
وهو مبدأ قرآني بامتياز، وما أرسل الأنبياء(ع) إلاّ لإقامة العدل، {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحديد 25].
وطبيعيّ أنّ العدل لن ينتشر بسحر ساحر، فالتحديات أثناء ظهور المهدي (عج) ستكون كثيرة، والانحراف كبيراً قد لامس الذّروة وحدّ انقلاب المفاهيم رأساً على عقب، فأصبح الحق باطلاً والباطل حقاً، وقوى الاستكبار والاستغلال لن تستكين بل ستشهر كلّ أسلحتها في وجه دعوة الحقّ التي يمثّلها
المهدي، مستعينةً بكلّ وسائل التشويش والتضليل والخداع، ولذا كان لا بدّ لنجاح المهمة والرسالة المهدوية من الاستعانة بشتى العناصر والعوامل المساعدة في نشر رسالة العدل والسلام، فبالإضافة إلى وجود استعداد فطري لتقبّل دعوة العدل عند عامة بني الإنسان، فإنّ المهدي (عجّل الله فرجه)
مستعيناً بكلّ الوسائل النظيفة والمشروعة والهادفة سيتكأ على منظومة من القيم التي سوف يساعده حملها والتبشير بها في نشر دعوته المحقّة وانخراط الناس في مشروعه التغييري العالمي، ومن أهمّ هذه القيم قيمة الحبّ، لأنّ الناس في المرحلة المهدويّة وفي كلّ المراحل هم بأمسّ الحاجة إلى
رسالة تحتضن آمالهم وتطلعاتهم، وتحنو على فقيرهم ومسكينهم، وتجيب على أسئلتهم وتنتشلهم من الضياع الروحيّ، ولهذا كان من الطبيعي أن يكون المهدي (عجّل الله فرجه) هو صاحب القلب الكبير كما هو صاحب الحُجّة البيّنة والبرهان الجليّ.
إنّ المهدي (عجّل الله فرحه) - كما يوحي اسمه - هو حامل راية الهدى والنور، وهو المخلِّص الذي يسعى بكلّ ما هُيّأ له من إمكانات أن ينتشل الإنسان من نير العبودية، وأن ينشر الأمن والأمان في ربوع المعمورة، وأن يملأها قسطاّ وعدلاً بعدما مُلِئت ظلماً وجوراً.
من كتاب "وهل الدين إلا الحب؟"
نُشر على الموقع في 29-9-2015
[1] وسائل الشيعة: ج2، ص8.
[2] صحيح ابن حبان، رقم الحديث 6687.
[3] انظر: سنن الدارمي ج1 ص9.
[4] أنظر: العقل التكفيري، قراءة في المنهج الإقصائي ص 141- 142.
[5] لمزيد من التعرف على مظاهر الرحمة الإلهية راجع ما سجّلناه في كتاب: "هل الجنة للمسلمين وحدهم؟" ص49- 72
[6] أمالي الشيخ الطوسي ج2 ص105.
[7] تحف العقول عن آل الرسول ص 296.
[8] عيون الجكم والمواعظ ص212.
[10] معاني الأخبار ص 335.
[11] إرشاد القلوب للديلمي ج1 ص201.
[12] فضائل الشيعة للشيخ الصدوق ص14.
[13] الكافي للكليني ج 3 ص 513، والسنن الكبرى للبيهقي ج 9 ص 118، والكامل في التاريخ ج 2 ص 252.
[14] الاستيعاب لابن عبد البر ج 2 ص597 وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 17 ص 272، والمعروف أنّ الذي رفع الشعار المذكور هو الصحابي سعد وأن النبيّ (ص) أمر عليّاً (ع) بحمل الراية من سعد، انظر: تاريخ الطبري ج 2 ص 334، والكامل في التاريخ ج 2 ص 246. وقد أجاد الشاعر المعروف بـ "حيص بيص" في التعبير عن هذا الخلق النبوي الرفيع الذي لا ينضح إلا بالخير والرحمة، يقول ابن خلكان: "قال الشيخ نصر الله بن مجلي وكان من الثقات أهل السنة: رأيت في المنام عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه فقلت له: يا أمير المؤمنين تفتحون مكة فتقولون: "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن"، ثم يتمّ على ولدك الحسين يوم الطف ما تم! فقال: أما سمعت أبيات ابن الصيفي في هذا؟ فقلت: لا، فقال: اسمعها منه، ثم استيقظت فبادرت إلى دار "حيص بيص" فخرج إليّ، فذكرت له الرؤيا، فشهق وأجهش بالبكاء! وحلف بالله إن كانت خرجت من فمي أو خطي إلى أحد وإن كنت نظمتها إلاّ في ليلتي هذه، ثم أنشدني:
مَلَكْنَا فكان العفو منّا سجيّة فلمّا ملكتم سال بالدم أبطحُ
وحلّلتم قتل الأسارى وطالما غدونا على الأسرى نعفّ ونصفحُ
فحسبكُمُ هذا التفاوتُ بيننا وكلُّ إناءٍ بالذي فيه ينضحُ
أنظر: وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان ج 2 ص 365.
[15] انظر : السنن الكبرى للنسائي ج 1 ص 107.
[17] بلاغات النساء ص 31، ورواه ابن عساكر في تاريخ مدينة دمشق ج 69 ص 234، ورواه ابن حمدون في التذكرة الحمدونية ج2 ص21.
[18] نقل ذلك عنه الشيخ محمد جواد مغنية في كتابه : في ظلال نهج البلاغة ج 3 ص 199.
[19] الهويات القاتلة ص82 و82.
[20]ورد في بعض الأحاديث التي تصف الإمام المهدي (عجل الله فرجه) : "ليس شأنه إلاّ القتل ولا يستتيب أحداً"، انظر: الغيبة للنعماني ص240.