حوار مع مركز أفاق للدراسات والأبحاث: مشكلة الأديان تتشكل في الخطاب الفقهي    ثمن الحرية    أمثل الأساليب في عمليّة تهذيب النفس    مزايا الشباب    العمل سرّ النجاح    العبادة وعيٌ وانفتاح لا جهل وانغلاق    اقتناء أصنام الأمم البائدة    المفاهيم الدينية بين وجوب الاعتقاد وحرمة الانكار    البناء الاعتقادي بين الاجتهاد والتقليد    
 
بحث
 
تكريم الإنسان
 
س » أنا طالب علم، لدي خوف من أن أتكلم بغير علم.. ما الحل؟
ج »

وعليكم السلام

لا بد لطالب العلم في مساره العلمي أن يتسلح بأمرين أساسيين:
الأول: الاستنفار العلمي وبذل الجهد الكافي لمعرفة قواعد فهم النص واستكناه معناه ودلالاته بما يعينه على التفقه في الدين وتكوين الرأي على أسس صحيحة.
الثاني: التقوى العلمية ويُراد بها استحضار الله سبحانه وتعالى في النفس حذراً من الوقوع في فخ التقوّل على الله بغير علم. ومن الضروري أن يعيش مع نفسه حالة من المحاسبة الشديدة ومساءلة النفس من أن دافعه إلى تبني هذا الرأي أو ذاك: هل هو الهوى والرغبة الشخصية أم أن الدافع هو الوصول إلى الحقيقة ولو كانت على خلاف الهوى.
أعتقد أن طالب العلم إذا أحكم هذين الامرين فإنه سيكون موفقاً في مسيرته العلمية وفيما يختاره من آراء أو يتبناه من موقف.

 
س » كيف علمنا أن الصحيفة السجادية ناقصة؟ وهل ما وجده العلماء من الأدعية صحيح؟؟
ج »

أقول في الإجابة على سؤالكم:

أولاً: إن الصحيفة السجادية في الأصل تزيد على ما هو واصل إلينا وموجود بين أيدينا، قال المتوكل بن هارون كما جاء في مقدمة الصحيفة: " ثم أملى عليّ أبو عبد الله (ع) الأدعية، وهي خمسة وسبعون باباً، سقط عني منها أحد عشر باباً، وحفظت منها نيفاً وستين باباً"، بيد أن الموجود فعلاً في الصحيفة الواصلة إلينا هو أربعة وخمسون دعاء. آخرها دعاؤه في استكشاف الهموم، وهذا آخر دعاء شرحه السيد علي خان المدني في رياض السالكين، وكذا فعل غيره من الأعلام.

ثانياً: إن سقوط عدد من أدعية الصحيفة وضياعها دفع غير واحد من الأعلام للبحث والتتبع في محاولة لمعرفة ما هو الضائع منها، وبحدود اطلاعي فإنهم عثروا على أدعية كثيرة مروية عن الإمام زين العابدين (ع)، لكنهم لم يصلوا إلى نتائج تفيد أن ما عثروا عليه هو من الأدعية الناقصة منها، ولذا عنونوا مؤلفاتهم بعنوان مستدركات على الصحيفة، ولم يجزموا أن ما جمعوه من أدعية هو الضائع من أدعية الصحيفة. وهذا ما تقتضيه الضوابط العلمية والدينية، فما لم يعثر الإنسان على نسخة قديمة موثوقة أو قرائن مفيدة للوثوق بأن هذا الدعاء أو ذاك هو من جملة أدعية الصحيفة فلا يصح له إضافة بعض الأدعية على الصحيفة بعنوان كونها منها.

ثالثاً: لقد ابتُلينا بظاهرة خطيرة، وهي ظاهرة الإضافة على الصحيفة أو غيرها من كتب الأدعية، وهذا العمل هو خلاف الأمانة والتقوى، وقد ترتّب على ذلك الكثير من المفاسد، وأوجب ذلك وهماً للكثيرين، فتوهموا أن بعض الأدعية هي جزء من الصحيفة السجادية المشهورة، ومردّ ذلك بكل أسف إلى أن مجال الأدعية والزيارات شرعة لكل وارد، وتُرك لأصحاب المطابع والمطامع! وأعتقد أن هذا العبث في كتب الأدعية والزيارات ناشئ عن عدم عناية العلماء بالأمر بهذه الكتب كما ينبغي ويلزم، كما نبه عليه المحدث النوري في كتابه "اللؤلؤ والمرجان" مستغرباً صمت العلماء إزاء التلاعب والعبث بنصوص الأدعية والزيارات مما يعدّ جرأة عظيمة على الله تعالى ورسوله (ص)!

رابعاً: أما ما سألتم عنه حول مدى صحة الأدعية الواردة بعد دعاء استكشاف الهموم، فهذا أمر لا يسعنا إعطاء جواب حاسم وشامل فيه، بل لا بدّ أن يدرس كل دعاء على حدة، ليرى ما إذا كانت قرائن السند والمتن تبعث على الحكم بصحته أم لا. فإن المناجاة الخمس عشرة بنظرنا لم تصح وربما كانت من وضع الصوفية، وقد أوضحنا ذلك بشكل مفصل في كتاب الشيع والغلو.


 
س » ابني المراهق يعاني من التشتت، وأنا جدا قلق ولا اعرف التصرف معه، ما هي نصيحتكم؟
ج »

التشتت في الانتباه في سن المراهقة مع ما يرافقه من الصعوبات هو في حدود معينة أمر طبيعي وظاهرة تصيب الكثير من المراهقين ولا سيما في عصرنا هذا.

وعلينا التعامل مع هذه المرحلة بدقة متناهية من الاستيعاب والتفهم والإرشاد والتوجيه وتفهم سن المراهق، وأن هذه المرحلة تحتاج إلى أسلوب مختلف عما سبقها.

فالمراهق ينمو لديه الإحساس بالذات كثيرا حتى ليخيل إليه أنه لم يعد بحاجة إلى الاحتضان والرعاية من قِبل والديه.

وبالتالي علينا أن نتعامل معه بأسلوب المصادقة "صادقه سبعا.." والتنبه جيدا للمؤثرات التي تسهم في التأثير على شخصيته واستقامته وتدينه، ومن هذه المؤثرات: الأصدقاء ووسائل التواصل الاجتماعي، فإن نصيبها ودورها في التأثير على المراهق هو أشد وأعلى من دورنا.

وفي كل هذه المرحلة علينا أن نتحلى بالصبر والأناة والتحمل، وأن نبتدع أسلوب الحوار والموعظة الحسنة والتدرج في العمل التربوي والرسالي.

نسأل الله أن يوفقكم وأن يقر أعينكم بولدكم وأن يفتح له سبيل الهداية. والله الموفق.


 
س » اعاني من عدم الحضور في الصلاة، فهل أحصل على الثواب؟
ج »
 
لا شك أن العمل إذا كان مستجمعا للشرائط الفقهية، فهو مجزئٌ ومبرئٌ للذمة. أما الثواب فيحتاج إلى خلوص النية لله تعالى بمعنى أن لا يدخل الرياء ونحوه في نية المصلي والعبادة بشكل عام.
ولا ريب أنه كلما كان الإنسان يعيش حالة حضور وتوجه إلى الله كان ثوابه أعلى عند الله، لكن لا نستطيع نفي الثواب عن العمل لمجرد غياب هذا الحضور في بعض الحالات بسبب الظروف الضاغطة على الإنسان نفسيا واجتماعيا.
لكن على الإنسان أن يعالج مشكلة تشتت الذهن أثناء العمل العبادي وذلك من خلال السعي الجاد للتجرد والابتعاد عن كل الهواجس والمشكلات أثناء الإقبال على الصلاة، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، باستحضار عظمة الله عز وجل في نفوسنا وأنه لا يليق بنا أن نواجهه بقلب لاهٍ وغافل. والله الموفق.

 
س » أنا إنسان فاشل، ولا أتوفق في شيء، وقد كتب عليّ بالخسارة، فما هو الحل؟
ج »

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

أولاً: التوفيق في الحياة هو رهن أخذ الإنسان بالأسباب التي جعلها الله موصلة للنجاح، فعلى الإنسان أن يتحرك في حياته الشخصية والمهنية والاجتماعية وفق منطق الأسباب والسنن. على سبيل المثال: فالإنسان لن يصل إلى مبتغاه وهو جليس بيته وحبيس هواجسه، فإذا أراد الثروة فعليه أن يبحث عن أسباب الثروة وإذا أراد الصحة فعليه أن يأخذ بالنصائح الطبية اللازمة وإذا أراد حياة اجتماعية مستقرة عليه أن يسير وفق القوانين والضوابط الإسلامية في المجال الاجتماعي وهكذا.

ثانياً: لا بد للإنسان أن يعمل على رفع معوقات التوفيق، وأني أعتقد أن واحدة من تلك المعوقات هي سيطرة الشعور المتشائم على الإنسان بحيث يوهم نفسه بأنه إنسان فاشل وأنه لن يوفق وأنه لن تناله البركة الإلهية.

إن هذا الإحساس عندما يسيطر على الإنسان فإنه بالتأكيد يجعله إنسانا فاشلا ومحبطا ولن يوفق في حياته ولذلك نصيحتي لك أن تُبعد مثل هذا الوهم عن ذهنك وانطلق في الحياة فإن سبيل الحياة والتوفيق لا تعد ولا تحصى.


 
س » ما هو هدف طلب العلم الذي يجب أن يكون؟
ج »

عندما ينطلق المسلم في طلبه للعلم من مسؤوليته الشرعية الملقاة على عاتقه ومن موقع أنه خليفة الله على الأرض، فإن ذلك سوف يخلق عنده حافزاً كبيراً للجد في طلب العلم والوصول إلى أعلى المراتب. أما إذا انطلق في تحصيله من موقع المباهاة أو إثبات ذاته في المجتمع أو من موقع من يريد أن يزين اسمه بالشهادة الجامعية ليُقال له "الدكتور" وما إلى ذلك، فإنه - في الغالب - لن يصل إلى النتيجة المرجوة.

وعلى كل إنسان منا أن يعي أنّنا في هذه الحياة مسؤولون في أن نترك أثراً طيباً، وأن نقوم بواجباتنا قبل أن يطوينا الزمان، إننا مسؤولون عن عمرنا فيما أفنيناه وعن شبابنا فيما أبليناه، وسنُسأل يوم القيامة عن كل هذه الطاقات التي منّ اللهُ بها علينا.

وأضف إلى ذلك، إنه من الجدير بالمسلم، أن لا يفكر في نفسه وما يريحه هو فحسب في طلبه للعلم، بل أن يفكر أيضاً في أمته والنهوض بها ليكون مستقبلها زاهراً، وهذا كله يحتم عليه أن يكون سقف طموحاته عالياً ليتمكن هو وأقرانه من الطلاب والعلماء من ردم الفجوة بيننا وبين الغرب الذي سبقنا على أكثر من صعيد.

باختصار: إن مسؤوليتنا ورسالتنا وانتماءنا لهذه الأمة يفرض علينا أن نعيش حالة طوارئ ثقافية وعلمية.


 
س » ما رأيكم في الاختلاط المنتشر في عصرنا، وكيف نحاربه؟
ج »

إنّ الاختلاط قد أصبح سمة هذا العصر في كثير من الميادين، ومنها الجامعات والطرقات والساحات وكافة المرافق العامة.. والاختلاط في حد ذاته ليس محرماً ما لم يفضِ إلى تجاوز الحدود الشرعية في العلاقة بين الرجل والمرأة الأجنبيين؛ كما لو أدى إلى الخلوة المحرمة بالمرأة أو مصافحتها أو كان المجلس مشوباً بأجواء الإثارة الغرائزية أو غير ذلك مما حرمه الله تعالى.

وفي ظل هذا الواقع، فإنّ العمل على تحصين النفس أولى من الهروب أو الانزواء عن الآخرين بطريقة تشعرهم بأن المؤمنين يعيشون العُقد النفسية. إن على الشاب المسلم أن يثق بنفسه وأن يفرض حضوره ووقاره، وأن يبادر إلى إقناع الآخرين بمنطقه وحججه، وأن يبيّن لهم أن الانحراف والتبرج والفجور هو العمل السيّئ الذي ينبغي أن يخجل به الإنسان، وليس الإيمان ومظاهر التدين.

وأننا ندعو شبابنا عامة وطلاب الجامعات خاصة من الذكور والإناث إلى أن يتزينوا بالعفاف، وأن يحصنوا أنفسهم بالتقوى بما يصونهم من الوقوع في الحرام.


 
س » كيف يمكن التخلص من السلوكيات والعادات السيئة؟
ج »

إن التغلب على السلوكيات الخاطئة أو العادات السيئة – بشكل عام – يحتاج بعد التوكل على الله تعالى إلى:

أولاً: إرادة وتصميم، ولا يكفي مجرد الرغبة ولا مجرد النية وانما يحتاج بالإضافة إلى ذلك إلى العزم والمثابرة وحمل النفس على ترك ما اعتادته.

ثانياً: وضع برنامج عملي يمكّن الإنسان من الخروج من هذه العادة السيئة بشكل تدريجي؛ وأرجو التركيز على مسألة "التدرج" في الخروج من هذه العادات السيئة؛ لأن إدمان النفس على الشيء يجعل الخروج منه صعباً ويحتاج إلى قطع مراحل، وأما ما يقدم عليه البعض من السعي للخروج الفوري من هذه العادة، فهو - بحسب التجربة - سيُمنى في كثير من الأحيان بالفشل. والله الموفق


 
 
  مقالات >> فكر ديني
الحبّ في مدرسة عاشوراء
الشيخ حسين الخشن



وتعود عاشوراء مثقلةً بكلِّ جراحات التاريخ وآلامه بكلّ سهامه ومواجعه..

 

 وتعود عاشوراء مضمّخة بالأحمر القاني معلنةً على رؤوس الأشهاد: "إنّي لا أرى الموتَ إلاّ سعادةً والحياةَ مع الظالمينِ إلاّ بَرَماً"[1]..

 

 وتعود عاشوراء مفعمة بكلّ معاني العزّة والإباء، ويعود النداء الحسيني الخالد: "هيهات منّا الذلّة"[2]..

 

 وتعود عاشوراء ويعود معها الشوق والحنين، والدمع والأنين..

 

 وتعود عاشوراء ونستعيد معها صبر زينب (ع) وعزيمة الحسين (ع)، وإيثار أبي الفضل العباس، وشجاعة عليّ الأكبر، وتضحيات كلّ تلك الصفوة الطاهرة من أصحاب الحسين (ع)..

 

 هكذا عرفنا عاشوراء وفهمناها وهكذا نريدها، وهكذا ينبغي أن تكون وتستمر..

 

 

أولاً: عاشوراء.. مدرسة الحب

 

   ولكن هل لنا أن نرى في عاشوراء قيمةً إضافية، غير ما هو معروف ومتداول من قيمها ودروسها؟ هل لنا أن نرى في عاشوراء غير الدماء والأشلاء وغير الصراخ والعويل؟

 

هل لنا أن نرى الحبّ في وسط الدماء والأشلاء؟

 

    بكلّ تأكيد يمكننا أن نرى تلك القيمة (قيّمة الحبّ) مع أنّها قيمة غائبة أو مغيّبة عن قاموسنا الإسلامي، وعن حياة الفرد المسلم، يمكننا أن نتعلّم الحبّ في مدرسة عاشوراء، لأنّ عاشوراء ليست مدرسة للحقد والكراهيّة، ولا لإثارة الغرائز وإيقاد الفتن، وإنّما هي مدرسة نتعلّم فيها كلّ المعاني

السامية، وعلى رأسها قيمة الحبّ الإنساني والعشق الإلهي، بل يمكننا القول: إنّ حاجتنا إلى الحسين (ع) وحاجتنا - قبل ذلك - إلى رسول الله (ص)، كما عليّ (ع) والزهراء (ع) وكلّ المُثل العليا، هي في جانب أساسي منها، تعود إلى حاجتنا الماسة إلى الحبّ والروح والعاطفة، لأنّ هؤلاء هم

مصدر الحبّ والجمال والسلام، كما هم مصدر الفكر والأخلاق.

 

إنّ حاجتنا إلى الحسين (ع) هي أمسّ من حاجة التائه في الظلمات إلى مصباح ينير له الدرب وإلى مرشد يدلّه على معالم الطريق، وأشدّ من حاجة العطشان إلى الماء الذي يروي الغليل.

 

يقول الشاعر[3] مخاطباً   الإمام الحسين عليه السلام:

 

سلامٌ عليك فأنت السلامُ    وإنْ كنتَ مختضباً بالدمِ

وأنتَ الدليلُ إلى الكبرياءِ    بما دِيسَ من صَدْرِكَ الأكرمِ

وإنّكَ معتصم الخائفين      يا مَنْ مِنَ الذبح لم يُعْصَمِ

 

لقد رأى هذا الشاعر بعين البصيرة صورة السلام في وسط الدماء والأشلاء، ورأى الحسين (ع) قدوةً للأحرار ودليلاً إلى العزّة والإباء حتى عندما يداس صدره الشريف بسنابك خيل الظالمين! ورأى الحسين (ع) موئلاً للمعذبين الخائفين حتى وهو يذبح على رمضاء كربلاء!

 

والذي أعتقده أنّ أروع ما في عاشوراء هو مشاهد العشق والحبّ لله وفي الله، والتي نراها في مخيّم الإمام الحسين (ع)، حيث يبلغ حبّ الله مستوىً يغدو معه لقاء الموت في سبيل الله سعادة، وبذل النفس في سبيل المعشوق شهادة، وسوف نذكر بعضاً من تلك المشاهد فيما يأتي.

 

 

ثانياً: حبّ الله تعالى وحبّ الحسين (ع)

 

 ما هو الرابط بين حبّ الله، وحبّ أوليائه؟

 

 سأستهل هذه النقطة بهذا التساؤل الذي أخال أننا أشبعناه بحثاً في المحور الثاني من هذا الكتاب، حيث ذكرنا أنّ على المسلم أن يوحّد الله في الحبّ، ليكون حبُّه خالصاً لله تعالى، ولا يُشْرِك معه أحداً، ولا شكّ أنّ حبّ أولياء الله، هو مِنْ حبّ الله تعالى، فلا يتنافى وحبّه تعالى، تماماً كما أنّ حبّنا لكلّ

مَنْ حولنا من بشر أو أرض أو جبال أو أنهار أو أشجار .. لا يتنافى وحبَّ الله، ما دام حبّ هذه الأمور متحرِّكاً في خطّ حبّ الله.

 

   ومن هنا, فأنت معني بأن تحبّ أولياء الله - وهم رسله وحججه على العباد - لأنّهم (ع) "أحبّاء الله وَأوِدّاؤُه"، بل لأنّهم "الأدلّاء على الله"، وهم يدلّونك على طريق الحبّ الإلهي، وأعتقد أنّ حبّ أولياء الله لا يحتاج إلى وصايا خاصة من أحد، فهم بما يمتلكون من روحانية خاصة وأخلاقية عالية

سوف يجتذبون الناس إليهم ويدخلون القلوب بدون استئذان، وذلك هو سرّ إمامتهم وولايتهم.

 

 

 ومع ذلك، فإنّ الله تعالى قد أكدّ على أهميّة محبتهم، حتّى جَعَلَ مودّتهم أجرَ الرسالة، {قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى:23][4]، وهكذا نجد أنّ رسول الله (ص)، قد نصّ على أهميّة محبّتهم مؤكداً أنّ بها قوام الإيمان، فقال (ص) – فيما روي عنه: "حسين مني وأنا من

حسين أَحَبَّ الله مَنْ أَحَبَّ حسيناً"[5]، إنّ حبّ الحسين (ع)- إذاً- هو من حبّنا لرسول الله (ص)، وحبُّنا لرسول الله (ص) هو من حبِّنا لله، بينما بغض الحسين (ع) - كما بُغض أبيه عليّ (ع) - هو علامة على عدم حبّ الله ولا رسوله، أي هو علامة النفاق، كما جاء في الأحاديث

المختلفة[6].

 

 

 الحبُّ الملهم

 

وإننا عندما نتأمّل مليّاً في هذا التأكيد القرآني أو النبوي على أهميّة حبّ أهل البيت(ع) وارتباطه بالإيمان، فإننا ندرك بأنّ ثمّة عناية خاصة وراء ذلك، فإنّ الحبّ - كنبضة قلب – ما كان له أن يبلغ هذه المرتبة العظيمة في الدين بحيث يكون أجراً للرسالة إلاّ لأنّ هؤلاء يمثّلون الامتداد الطبيعي

لرسول الله (ص)، وأنّ لهم دوراً في استمرار الرسالة على أصالتها، بهذا يمكن أن نفهم كيف يمكن أن يكون حبّ الحسين(ع) من حبّ رسول الله (ص)، وكيف يرتبط حبّ الله تعالى بحبه (ع)، وقد أوضحنا هذا الأمر بما فيه الكفاية في محور سابق.

 

 

ثالثاً: الحسين (ع) شهيد الحبّ الإلهي

 

   وعندما نطلّ على علاقة الإمام الحسين (ع) بالله تعالى، فإنّا نجدها قائمة على أساس الحبّ لله والذوبان فيه، وقد تجلّى ذلك في كلّ حياة أبي عبد الله الحسين (ع)، ولا سيّما في عاشوراء، حيث نجدُ أنفسنا أمام ظاهرة منقطعة النظير من حبّ الله وعشقه، وإليك توضيح ذلك من خلال صورتين

روتهما لنا المصادر التاريخية:

 

 

الصورة الأولى: "هوّن ما نَزَلَ بي أنّه بعين الله".

 

  عندما يسقط أصحاب الحسين (ع) وأبناؤه صرعى على رمضاء كربلاء، يخرج الحسين(ع) إلى جيش عمر بن سعد طالباً منهم أن يُقدّموا لابنه الطفل الرضيع شربة من ماء، لأنّ العطش قد أَخَذَ منه مأخذاً عظيماً، وكان جواب القوم أن رماه حرملة بن كاهل الأسدي بسهم ذبحه من الوريد إلى

الوريد وهو في حجر والده! فماذا تتوقع أن يكون موقف الحسين (ع) بعد أن يَرمي دمَ رضيعه نحو السماء؟ هل يبكي أو يشكو أو يجزع أو يتراجع؟

 

 

كلا، لا ذا ولا ذاك، كان موقفه أن يتوجّه إلى الله تعالى ليترنّم بكلمات العشق التالية: "هوّن ما نَزَلَ بي أنّه بعين الله"[7]!

 

 ما أصعبه من موقف! أن يُذبَح رضيعُك في حِجْرِك! ولكن ما أعظمه من يقين "هوّن ما نَزَلَ بي أنّه بعين الله"! فما دام أنّ هذا الفداء هو لله وفي سبيل الله فإنّ وقعه على النفس يغدو عذباً وهيّناً، وهذا اليقين الذي بلغه الحسين (ع) قد حوّل هول الفاجعة ومرارتها إلى بلسم للجراح وعزاء أمام ألم

المصاب.

 

   ويتردّد على ألسنة البعض أنّه (ع) لمّا كثرت الجراحات في جسد الإمام الحسين (ع) كان يقول: "إلهي إنْ كانَ هذا يرضيك فَخُذْ مِنِّي حتّى تَرْضَى"، ولكني لم أعثر على هذا الكلام في المصادر، أجل نُقل هذا الكلام عن الإمام الحسن (ع) بعد أن أخذ السُّمُ منه مأخذاً عظيماً ولفظ كبده، فقد رُوِيَ

أنّه في هذا اللحظات "استقبل القبلة وقال: "يا ربّ خُذْ مِنّي حتّى تَرْضَى"[8].

 

 

 الصورة الثانية: "إنّي أحبّ الصلاة".

 

   جاء في كتاب تاريخ الطبري وغيره أنّه وفي اليوم التاسع من محرّم وبعد أن أصبحت الخيارات واضحة، "إما السلّة، وإما الذلّة" - طلب الإمام الحسين (ع) من أخيه أبي الفضل العباس أن يتفاوض مع عمر بن سعد وهو قائد الجيش المناهض للحسين(ص) في مسعى لإقناعه بتأخير القتال إلى

يوم غدٍ، وأن يدعهم هذه العشية وشأنهم، لكن لماذا يا تُرى؟ هل ليودّعوا العيال؟ أو ليجدوا طريقاً لأجل الهرب والفرار؟

 

 كلا، لا هذا ولا ذاك، ودعونا نتعرّف على سبب هذا الطلب في تأخير المعركة من لسان الحسين (ع) نفسه يقول (ع)" لعلّنا نصلّي لربّنا الليلة وندعوه ونستغفره، فهو يعلم أنّي قد كنت أحبّ الصلاة له وتلاوة كتابه وكثرة الدعاء والاستغفار"[9].

 

 ما أعظمه من طلب وما أرقاها من أمنية! "لعلّنا نصلّي لربنا"، لماذا؟ هل لطلب الجنة والحور العين أو خوفاً من النار وزبانيتها؟

 

كلا، لا هذا ولا ذاك، بل لـ "أني قد كنتُ أحبّ الصلاةَ له وتلاوةَ كتابه وكثرةَ الدعاء والاستغفار"!

 

 ولا ندري أيَّ صلاة صلّاها الحسين (ع) تلك الليلة؟ وفي أيّة حالة من حالات الانقطاع إلى الله كانت صلاته؟!

 

فعلاً إننا لا ندري، لأنّ هذا المقام المعنوي لا يفقهه إلّا من ذاق حلاوته، ولكنّ ما نستطيع أن نجزم به أنّ صلاته (ع) كانت صلاة المحبّين العاشقين الوالهين.

 

ونلاحظ هنا أنّ الإمام (ع) لم يُذهله تكاثر الهموم فيحتّم في كلامه، ويقول مثلاً: "لنصلِّي"، بل قال: "لعلّنا نصلّي"، لأنّه(ع) قد لا يُستجاب لطلبه بتأخير المعركة ولا يُمهل لأداء الصلاة .

 

 ثمّ الأهمّ من ذلك أنّه (ع) يقول: "إنّ الله تعالى يعلم أنّي أحبّ الصلاة، كما أحبّ تلاوة القرآن والدعاء والاستغفار".

 

تلك هي حال الحسين (ع)، إنّه يُحبُّ الصلاة ويعشقها، وكان إذا دنا وقتها يغمره الشوق، لأنّه سينطلق في حالة من العروج الروحي إلى لقاء الله تعالى..

 

 ولكن يا ترى ما هي حالنا نحن في أوقات الصلوات ؟

 

إنّ الكثيرين منّا يشعرون بهمّ كبير إذا دنا وقت الصلاة، وإذا فرغوا من أدائها تراهم يتنهدون ويحمدون الله على الانتهاء منها، وكأنّ ثمة عبئاً ثقيلاً كان جاثماً على صدورهم وقد ارتاحوا منه بعد أداء الصلاة!

 ما أعظم الفارق بين الصلاتين! صلاةٍ يحمدُ مصليها ربَّه على دخول وقتها شوقاً إلى لقياه عزّ وجلّ، وصلاةٍ يحمدُ مصليها ربَّه على الفراغ منها، لينصرف إلى شؤونه ودنياه!

 

 

طلب استمهال آخر

 

 وتحدّثنا بعض المصادر أنّ الحسين (ع) قد طلب توقيف الحرب أو تأخيرها قليلاً مرّة أخرى، وذلك في ظهيرة يوم العاشر من محرّم، فإنّه وبعد أن قُتل جمعٌ من أصحاب الحسين (ع) وأحسّ بعض الصحب (ع) أنّ الموت قد اقترب والأجل قد دنا، تقدّم من الإمام الحسين (ع) قائلاً:

 

يا أبا عبد الله.. نفسي لك الفداء، إنّي أرى هؤلاء القوم قد اقتربوا منك، ولا والله لا تقتل حتّى أقتل دونك إن شاء الله، وأحبّ أن ألقى ربّي وقد صلّيت هذه الصلاة التي قد دنا وقتها.

 

 قال: فرفع الحسين رأسه، ثمّ قال: "ذَكَرْتَ الصلاة جَعَلَكَ اللهُ مِنَ المُصلِّين الذاكِرِين، نعم هذا أوّل وقتها، ثمّ قال: سلوهم أن يكفّوا عنّا حتّى نصلّي.."[10]

 

   فالحسين (ع) – إذن- يطلب من القوم استمهاله بضع دقائق، لماذا؟

 

هل ليرتاح أو ليشرب الماء؟ كلاّ، بل لأجل أن يؤدِّيَ صلاة الظهر! وأيّ صلاة تلك هي التي صلّاها الحسين (ع) ظهيرة العاشر من محرم؟

 

صلّى (ع) والسِهام تنهمر عليه كالمطر من كلّ جانب حتّى استشهد بعض أصحابه ممّن وقف أمامه ليحميَه من السِهام ويمكّنه من الصلاة جماعة بمن تبقَّى من أصحابه![11].

 

  إنّ إصرار الحسين (ع) على إقامة الصلاة وهو في وسط القتلى والأشلاء، يذكّرنا بموقف أبيه عليّ (ع) في ليلة الهرير في صفّين، فقد كان - والسِهام تتساقط عليه والسيوف والأسنّة تتشابك من حوله - ينظر إلى السماء مراقباً وقت الصلاة، فقال له ابن عباس: "يا أمير المؤمنين ما هذا الفعل؟

 

قال: أنظر إلى الزوال حتّى نصلّي.'

 

 فقال له ابن عباس: إنَّ عندنا لشغلاً بالقتال عن الصلاة!

 

 فقال (ع): على ما نقاتلُهم؟ إنّما نقاتلهم على الصلاة"[12].

 

 

 

 رابعاً: معسكر المتفانين في الله وفي حبّ وليّه

 

   وهذا الفداء المنقطع النظير وتلك التضحيات الجسام التي شهدناها يوم عاشوراء يجعلان المرء حائراً أمام هذه الثلّة الطاهرة التي عشقت الحسين (ع) وفدته بأرواحها والنفوس، ومع أنّ هؤلاء الشهداء الأخيار هم جميعاً في مرتبة عالية من التفاني في الله والإخلاص له، وهي مرتبة لا ينالها إلاّ

الأقلون عدداً والأعظمون عند الله قدراً، ولكنّا مع ذلك نشير إلى بعض المشاهد والنماذج المعبّرة عن بلوغهم مرتبة العاشقين للقاء الله والمتفانين في حبِّه ورضاه:

 

 

عندما تتحوّل الأجساد إلى دروع!

 

 

النموذج الأوّل: ويتمثّل بوقوف بعض صحابته (ع) أمامه ليقيَهُ السِّهام المتوجّهة إليه، ويتلقّاها بصدره وجسده، ليحميَ الحسين (ع) ويمكّنه من أداء الصلاة جماعة، إنّ هذا الفداء منقطع النظير ولا يفعله إلاّ أولئك الذين أعاروا جماجمهم لله، ولا يفهمه إلاّ من ذاق حلاوة العشق الإلهي. فقد رُوي أنّ

الإمام (ع) طلب من زهير بن القين وسعيد بن عبد الله أنّ "تقدّما أمامي حتّى أُصلّيَ الظهر"، فتقدّما أمامه في نحو من نصف أصحابه حتّى صلّى بهم صلاة الخوف.

 

 ورُوي أنَّ سعيد بن عبد الله الحنفي تقدّم أمام الحسين (ع) فاستُهدف لهم، يرمونه بالنّبل، كلما أخذ الحسين (ع) يميناً وشمالاً قام بين يديه، فما زال يُرمى حتّى سقط إلى الأرض وهو يقول: اللهم العنهم لعن عادٍ وثمود، اللهم أبلغ نبيّك السلام عنّي، وأبلغه ما لقيت من ألم الجراح، فإني أردت بذلك

نصرة ذرية نبيّك، ثمّ مات، فوجدوا به ثلاثة عشر سهماً سوى ما به من ضرب السيوف وطعن الرماح!"[13].

 

إنّ هذا النموذج من التفاني والتضحية والفداء في سبيل المبدأ هو حقّاً نموذج بديع ومنقطع النظير.

 

 

فرحٌ وسرور ساعة لقاء الحتوف!

 

    النموذج الثاني: الذي يعكس حبّ هؤلاء العظماء لله تعالى وسرورهم بلقائه، هو ما نجده عند "برير بن خضير" حيث يُنقل عنه أنّه أخذ يهازل ويمازح "عبد الرحمن بن عبد ربّه"، فقال له الأخير: "والله ما هذه بساعة باطل!

 

فقال برير: والله إنّ قومي لقد علموا أنّي ما أحببت الباطل شابّاً ولا كهلاً، ولكنّي مستبشر بما نحن لاقون، والله ما بيننا وبين الحور العين إلاّ أن يميل هؤلاء بأسيافهم"[14].

 

  وفي بعض المصادر أنّ حبيب بن مظاهر أيضاً أخذ يمزح ويضحك، فقال له برير بن خضير الهمداني: - وكان يُقال له سيّد القرّاء-: "يا أخي ليس هذه بساعة ضحك!

 

قال: فأيّ موضع أحقُّ من هذا بالسرور؟ والله ما هو إلاّ أن تميل علينا هذه الطغاة بسيوفهم فنعانق الحور العين"[15].

 

 

تمني الحياة لأجل الموت!

 

النموذج الثالث: هو نموذج أولئك الصحابة الذين كانوا يتمنّون الموت ثم الحياة مرّة أخرى ليتسنّى لهم الجهاد مجدّداً بين يدي الحسين (ع)، فهذا سعد بن عبد الله الحنفي وقف بين يدي أبي عبد الله (ع) وقال: "والله لا نخليك حتى يعلم الله أنّا قد حفظنا غيبة رسول الله (ص) فيك، والله لو علمت أنّي أقتل

ثمّ أحيا ثمّ أُحرق حيّاً ثمّ أذرّ يُفعل ذلك بي سبعينَ مرّةً ما فارقتك حتى ألقى حمامي دونك، فكيف لا أفعل ذلك وإنّما هي قتلةٌ واحدة، ثم هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبداً"[16].

 

 ولا أخالني بحاجة إلى التعليق على هذه الكلمات المفعمة بالصدق والإيمان واليقين، والتي يتبدّى من ثناياها ويلوح من فقراتها أننا أمام نفوس آمنة مطمئنة بلقاء الله ولقاء حبيبه المصطفى (ص).

 

    وأكتفي بهذا القدر من نماذج التفاني في الله تعالى، وإلاّ، فمشاهد الحبّ والولاء لدى أصحاب الحسين (ع) كثيرة جداً، فقد كانوا يتمنّون أن يُقتلوا ثمّ يُنشروا ثمّ يُقتلوا ثمّ يُنشروا، يُفعل ذلك بهم ألف مرّة، فداءً للحسين (ع) كما قال زهير بن القين وغيره[17].

 

 

خامساً: عندما يحبّ القاتل قاتله!

 

ذكرنا في المحور الثاني أنّ من يسيطر عليه حبّ الله، فلا يمكن أن يُشرك معه أحداً، في فعل أو قول أو نبضة قلب، ونقول هنا: إنّ من يمتلئ قلبه بحبّ الله، فلن يعرف هذا القلب غيرَ لغة الحبّ ولن يجد متّسعاً للحقد، لأنّ الحبّ والبغض لا يجتمعان في قلب المؤمن، ولهذا فإنّه حتّى عندما يبغض

أعداء الله وأعداء الإنسانية، فهو لا يبغض فيهم سوى كفرهم وعصيانهم وتمرّدهم على الله، ولكنّه في العمق يشفق على أشخاصهم، لأنّهم يسيئون إلى أنفسهم ويوردونها مورد الهَلَكَة، ولذا فهو يتألم عليهم ويدعو لهم بالهداية. وَلَهِدَايَةُ شخصٍ واحد من أعدائه أحبّ إليه من أن يموت هذا الشخص على

يديه، ولو كان يموت ظالماً، ويبوء بآثامه، وهذا ما عبّر عنه عليّ (ع): "فوالله ما وقعت الحرب يوماً إلاّ وأنا أطمع أن تلحق بي طائفة فتهتدي بي وتعشو إلى ضوئي وذلك أحبّ إليّ من أن أقاتلها على ضلالها وإن كانت تبوء بآثامها"[18]، فكلّ همّ عليّ (ع) هو أن يحيا الناس وأن

يعيشوا بأمنٍ وسلام، والحياة الحقيقية عنده هي حياة الهدى التي تفتح القلوب على الله وتفتح العقول على الإبداع لِمَا فيه خير الإنسان.

 

 وهكذا كان نجله الحسين (ع).. كان يخاف على أعدائه من مغبّة جرأتهم عليه وإقدامهم على قتله وسفك دمه. يحدثنا أحدهم أنه وقف على الحسين (ع) فقال له أبو عبد الله (ع): "معنا أنت أم علينا؟

 

يقول: فقلت: يا بن رسول الله: لا معك ولا عليك، تركت أهلي وولدي، أخاف عليهم من ابن زياد.

 

 فقال الحسين (ع): "فولِّ هرباً حتّى لا ترى لنا مقتلاً، فوالذي نفس محمّد (ص) بيده لا يرى مقتلنا اليوم رجل ولا يغيثنا إلاّ أدخله الله النار"[19].

 

 وهكذا نراه (ع) يقول ذلك لعبيد الله بن الحرّ الذي فرّ من الكوفة حتّى لا يلتقي بالحسين (ع)، ولكن تشاء الأقدار أن يلتقيه في الطريق، ويقصد الإمام (ع) خيمته طالباً منه النصرة والانضمام إليه، لكنّه اعتذر، فقال له الحسين (ع): "فإن لم تنصرنا فاتَّقِ الله أن تكون ممّن يقاتلنا، والله لا يسمع

واعيتنا أحد ثُمَّ لا ينصرنا إلاّ هلك"[20].  

 

   فالحسين (ع) صاحب القلب الكبير يخاف على هذا الشخص أو ذاك من النار أو الهلاك إن حضرا مقتله ولم ينصراه.

 

 وفي كلّ الأحوال، فإنّ هذا الشخص وأمثاله لن ينجوا من المساءلة يوم القيامة، ولا ندري إذا كان الله يقبل أعذارهم، بالخوف على الذرّية، لأنّ ذرّية الإنسان المسلم ليست أعزَّ من ذرّية الحسين (ع)، كما أنّ اعتذاره بالقول: "لا لكم ولا عليكم" هو كلام مرفوض، لأنّه لا حيادية بين الحقّ والباطل،

ومن لم يخذل الباطل فهو قد خذل الحقّ، ومن لم ينصر الحق فقد نصر الباطل، وقد سئل الإمام عليّ (ع) عن الذين اعتزلوا القتال معه في حروبه فأجاب: "خذلوا الحقّ ولم ينصروا الباطل"[21].

 

 

  الحسين (ع) صاحب مشروع إحيائي وليس انتقاميّاً

 

   وبالحديث عن الحق، فإنّ الانتصار للحق كان واحداً من أهمّ أهداف النهضة الحسينية، هذه الأهداف التي انطلقت من عناوين قرآنية بامتياز، ومن أهم هذه العناوين: عنوان "الإصلاح"، فقد جاء في وصيّة الإمام الحسين (ع) لأخيه محمد بن الحنفية: "وإنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا

ظالماً، وإنّما خرجت لطلب النجاح والصلاح في أمة جدّي محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدّي محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) وسيرة أبي علي بن أبي طالب"[22].

 

 إنّ هذا النص العاشورائي وسواه من النصوص يؤكّد أنّ أبا عبد الله الحسين (ع) لم يكن صاحب مشروع انتقاميّ ولا ثأريّ، ولم يكن راغباً في سفك الدماء، وإنّما مشروعه هو إحياء النفوس وهداية الناس جميعاً إلى الإسلام.

 

إنّ المشروع الذي حمله الحسين بن عليّ (ع) هو المشروع عينه الذي حمله رسول الله (ص) وحمله أبوه عليّ بن أبي طالب (ع) وهو مشروع الهداية، كما أنّ الثقافة التي بشّر بها (ع) هي ثقافة الحبّ والرحمة والتواصل، ومسؤوليتنا أن نقدّم الحسين (ع) باعتباره داعية للسلام وللحبّ، كما هو داعية للعدل.

 

 

الحسين(ع) والصورة الدموية

 

وإذا كان مشروع الحسين (ع) هو هذا، فلا بدّ أن تكون رسائل إحياء ذكرى الحسين (ع) على مستوى هذا المشروع ومنسجمة مع رسالته (ع) كامل الانسجام، ولذا عندما يصرّ البعض على إحياء ذكرى عاشوراء من خلال وسائل الإدماء المعروفة فإنّه يحييها بعمل منفّر في نظر الكثيرين من أتباع

الحسين (ع) ومحبّيه فضلاً عن غيرهم، الأمر الذي يفرض إعادة النّظر في جدوى هذه الوسيلة[23].

 

إنّ أهميّة الشعائر الحسينية والإحياءات المختلفة لذكرى الحسين (ع) وكلّ الأئمة من أهل البيت (ع) أن تؤدّيَ هذه الوظيفة، وهي أن تُدخل الحسين(ع) إلى القلوب، وتعرّف الناس برسالته، فإذا كانت أساليب الإحياء منفّرة أو مقزّزة بشكلها أو بمضمونها، فإنّها ستشكّل خيانة للحسين (ع). إنّ المقياس

في نجاح الوسيلة الإحيائية هو في تمكّنها من أن تفتح قلوب الناس على الحسين(ع)، وأنت إذا فَتحت قلوب الناس على الحسين (ع) وأهل البيت(ع) فأنت بذلك ستدخل بكلّ سهولة إلى عقولهم لتفتحها على فكر الحسين (ع)، وستدخل إلى حياتهم لتغيّرها على صورة الحقّ الذي يمثّله الإمام

الحسين(ع).

 

 وهكذا هو مشروع حفيده الإمام المهدي (عج)، فهو لن يخرج لأجل الثأر والانتقام واستخراج جثث الموتى من القبور ثمَّ صلبها، كما يزعم البعض، بل إنّه سوف يخرج حاملاً لواء العدل، ومبشِّراً بثقافة الحياة، ولا حياة بدون عدل، فالعدل هو عماد الحياة، كما أنّه لا حياة بدون حبّ، فالحبّ هو روح

الحياة.

 

 

بيّض قلبك والبس ما شئت

 

    ولهذا تعالوا أيها العاشقون للحسين (ع) ونحن نبكيه أن نبكيَه بكاء المحبّين لا بكاء المنتقمين، وهلموا بنا ونحن نلبس السواد على الحسين (ع) أن لا ندع اللون الأسود يدخل قلوبنا ليملأها بالحقد والبغضاء، فقد ورد في الحديث عن الإمام الصادق(ع) وقد سئل عن لبس السواد "بيّضْ قلبك والبسْ

ما شئت"[24]، فالسواد هو تعبير رمزي عن التعاطف مع الحسين(ع)، ولكن لا بدّ أن تبقى قلوبنا نقيّة بيضاء، كبياض قلب الحسين(ع)، وكنقاء شرف زينب، وكصفاء منحر الطفل الرضيع.

 

والسلام على الحسين (ع) وعلى عليِّ بن الحسين (ع) وعلى المُستشهدين بين يدي الحسين (ع) وعلى السائرين على نهج الحسين (ع) ورحمة الله وبركاته.

 

من كتاب "وهل الدين إلا الحب؟" http://www.al-khechin.com/article/373

نُشر على الموقع في 10-10-2015



[1] تاريخ الطبري ج4 ص305.

[2] الاحتجاج للطبرسي ج2 ص25.

[3] هو الشاعر العراقي عبد الرزاق عبد الواحد، وهو ينتمي إلى ديانة الصابئة.

[4] ورد في العديد من الروايات أنّ المقصود بالقربى في الآية المذكورة قرابة النبيّ (ص) وتحديداً أهل الكساء منهم، فقد روى الطبراني في المعجم الكبير باسناده إلى ابن عباس رضي الله عنه، قال: لما نزلت {قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى} فقالوا: يا رسول الله ومن قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودتهم؟ قال: علي وفاطمة وابناهما" انظر: المعجم الكبير ج3 ص47، وقد تكلمنا بإسهاب حول دلالة هذه الآية في المحور الثالث، فراجع.

[5] مسند أحمد: ج4 ص172.

[6] سنن النسائي ج8 ص115.

[7] اللهوف في قتلى الطفوف ص69.

[8] شرح إحقاق الحق: ج26 ص558.

[9] تاريخ الطبري ج4 ص316.

[10] تاريخ الطبري: ج4، ص 334.

[11] أنظر: بحار الأنوار، ج 45، ص 21.

[12] أنظر: كشف اليقين للعلامة الحلي ص122، ووسائل الشيعة: ج4، ص 246، الباب 41 من أبواب أعداد الفرائض ونوافلها وما يناسبها، الحديث2.

 

[13] بحار الأنوار: ج45، ص 21.

[14] الكامل في التاريخ: ج4، ص 60.

[15] اختيار معرفة الرجال: ج1، ص 293.

[16] تاريخ الطبري ج4 ص318.

[17] أنظر: تاريخ الطبري: ج4، ص 318.

[18] نهج البلاغة: وهي خطبة له قالها وقد استبطأ أصحابه إذنه لهم في القتال بصفّين.

[19] وقعة صفّين: ص 141.

[20]الإرشاد للمفيد: ص 81، وتاريخ الطبري: ص 308.

[21] نهج البلاغة: ج4 ص5.

[22]  الفتوح لابن أعثم ج 5 ص 21، وبحار الأنوار ج 44 ص 330

[23] ومن يريد التعرف على الموقف من هذه الممارسة الإدمائية فيمكنه مراجعة ما كتبناه حول ذلك في كتاب : عاشوراء قراءة في المفاهيم وأساليب الإحياء ص120 وما بعدها.

[24] علل الشرائع للشيخ الصدوق ص347.

 






اضافة تعليق

الاسم *

البريد الإلكتروني *

موضوع *

الرسالة *


 


 
  قراءة الكتب
 
    Designed and Developed
       by CreativeLebanon