حوار مع مركز أفاق للدراسات والأبحاث: مشكلة الأديان تتشكل في الخطاب الفقهي    ثمن الحرية    أمثل الأساليب في عمليّة تهذيب النفس    مزايا الشباب    العمل سرّ النجاح    العبادة وعيٌ وانفتاح لا جهل وانغلاق    اقتناء أصنام الأمم البائدة    المفاهيم الدينية بين وجوب الاعتقاد وحرمة الانكار    البناء الاعتقادي بين الاجتهاد والتقليد    
 
بحث
 
تكريم الإنسان
 
س » هل ممكن إثبات وحيانية القرآن وعدم تحريفه من خلال مضمونه؟
ج »

إن الوحي الإلهي في عملية وصوله إلى البشر يحتاج إلى مرحلتين أساسيتين ليصلح كمصدر معصوم وعلى البشر الانقياد له، وهما:

المرحلة الأولى: مرحلة التلقي عن الله تعالى، بمعنى أنه حقاً وحي نزل من قِبل الله تعالى على رسول الله (ص).

المرحلة الثانية: مرحلة الصدور عن النبي (ص) والوصول إلينا سالماً من التحريف.

 

أما بالنسبة إلى المرحلة الثانية، أعني إثبات صحة صدوره عن رسول الله (ص) وعدم تعرضه للتحريف من بعده. فتوجد عشرات الدراسات والكتب والمصادر التي تؤكد على عدم تعرض القرآن الكريم للتحريف، وقد بحثنا هذا الأمر بشكل مفصل وأقمنا أدلة كثيرة على أنّ هذا القرآن هو عين القرآن الذي جمعه النبي (ص) ودونه وانتشر بعد ذلك بين المسلمين جيلاً بعد جيل، راجع كتابنا "حاكمية القرآن الكريم": الرابط  https://al-khechin.com/article/632

 

أما بالنسبة للمرحلة الأولى، أعني إثبات وحيانية الكتاب وأنه ليس مختلقاً من النبي (ص) أو من وحي الخيال، فهو أمر نستطيع التوثق منه بملاحظة العديد من العناصر التي - إذا ضمت إلى بعضها البعض - تورث الإنسان اليقين بأن هذا الكتاب لا يمكن إلا أن يكون وحياً من الله تعالى، وهذه العناصر كثيرة وأهمها:

 

أولاً: ملاحظة المنظومة المعرفية المتكاملة والرؤية الكونية والوجودية المتماسكة التي جاء بها القرآن، ففي عصر عرف بالجاهلية والخواء الفكري، يأتي محمد (ص) بكتاب يمثل منعطفاً تاريخياً بما يتضمنه من تأسيس معرفي لرؤية فكرية جديدة، إن فيما يتصل بالخالق وصفاته وعلاقة المخلوق به، أو رحلة المبدأ والمعاد، أو يتصل بالكون ودور الإنسان فيه، أو ما ما تضمنه من نظام اجتماعي وأخلاقي وروحي، وعلى القارئ الموضوعي للقرآن أن ينظر إليه نظرة واسعة وشمولية ولا يغرق في بعض الجزئيات المتصلة ببعض الآيات المتشابهة التي أشكل عليه فهمها بما يحجب عنه ما رسالة القرآن الحقيقية. وأنصحك بقراءة كتاب "وعود الإسلام" للمفكر والفيلسوف الفرنسي روجيه غارودي في هذا الشأن، وكتاب "الإسلام كبديل" للمفكر الألماني مراد هوفمان.

 

ثانياً: نظم القرآن، فإنّ كل منصف أمعن ويمعن النظر والتأمل والتدبر في آيات القرآن، لا مفر له من الاذعان أنّه أمام نصٍّ عظيم ومتميّز في تماسكه وتناسق موضوعاته وعلو مضامينه، وعمق معانيه، والقوة في حججه وبراهينه، والبلاغة العالية في أسلوبه المتميز عن النثر والشعر، وفي ألفاظه وجمله وتراكيبه مما يأخذ بالألباب والعقول. وسوف لن يتوانى عن الإقرار بأنّ هذا الكتاب هو - كما وصف نفسه - قول فصل: {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} [الطارق 13- 14] خالٍ من التناقض والاختلاف، {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء 82] وأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

 

باختصار: إنّ في آيات القرآن الكريم كيمياءً خاصة وروحاً عجيبة وعذوبة فائقة الجمال وقوة بيانية ومضمونية لا تضاهى، ولا شك أنّ من وطّن النفس على اتباع الحق وأصغى إلى آيات الكتاب بمدارك العقل ومسامع القلب سوف يرى فيها جاذبية ونورانيّة مميزة وروحانية عالية، كما أنّ فيها نُظماً راقية ومتقدمة لا يمكن أن تبلغ قوّتها وعمق مضامينها وتدفق معانيها أي نصوص أخرى. وهذا في الوقت الذي يدل على إعجاز القرآن فهو يدل أيضاً على عدم تعرضه للتحريف.

وإنّ الجاذبيّة المذكورة لآيات القرآن الكريم هي مما اعترف بها البلاغاء العرب وكثير من الحكماء من المسلمين وغيرهم، ولم يجرؤ فطاحلة الشعراء والأدباء من العرب أن يعارضوه بطريقة جديّة ذات قيمة رغم تحديه لهم ودعوتهم إلى معارضته، قال سبحانه: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [الإسراء 88] وما هذا إلا دليل على قوة القرآن وعدم وجود أية ثغرة فيه أو زيادة أو نقيصة.

 

ثالثاً: ملاحظة صفات الشخصية (ص) التي جاءت بهذا الكتاب، فهو شخص أمّي لم يدرس عند أحد ومع ذلك أتى بهذا القرآن بكل ما يتضمنه من تناسق مبدع ومضمون روحي ومعرفي غير مسبوق، وكذلك ملاحظة سيرته وأقواله وسلوكه الشخصي وخصائصه الذاتية التي تؤكد على تمتعه بأعلى درجات النزاهة والصدقية والطهارة، ومعلوم أنّ حياة الإنسان هي أهم مختبر لصدقية طروحاته ومقولاته، ويلي ذلك دراسة مشروعه الثقافي والحضاري وما تتضمنه رسالته من معارف ومفاهيم لم يعرف الإنسان عنها إلا القليل، ويلي ذلك ملاحظة إنجازاته وحجم التأثير والتغيير الذي أحدثه في المجتمع، والمقارنة بين ما جاء به وبين الموروث الثقافي في السائد في مجتمعه أو الذي جاءت به الكتب الأخرى، فإنّ البشر مهما كان عبقرياً لا يتسنى له أن يخرج عن الموروث الثقافي الذي يحكم بيئته الاجتماعية، فعندما ترى شخصا قد أوجد انقلاباً حضارياً معتمداً على منظومة فكرية وثقافية لا تمت بصلة إلى المستوى الثقافي لمجتمعه، فهذه القرائن وسواها قد تورث اليقين بصدقيته، أأسميتها معجزة أم لم تسمها.

 

رابعاً: أما بعض التفاصيل مثل قضية طول عمر الإنسان، أو قضية يأجوج ومأجوج، أو غيرها، فهي قضايا تسهل الإجابة عليها، ولا أعتقد أنها تشكل معضلة كبيرة، إذا أخذنا بعين الاعتبار أمرين:

 الأول: أن التجارب العلمية لا تزال تفاجئنا كل يوم بجديد وأنّ ما قد نخاله اليوم غير معقول قد يصدقه العلم بعد غد. 

 الثاني: إنّ فهم الكتاب وآياته، ليس محكوماً بالقراءة العرفية اللغوية، وأنّ ثمة مجالاً للقراءة الرمزية – على الأقل – بالنسبة لصنف من الآيات القرآنية.


 
س » هل صحيح إن الإسلام الحنيف لم يسمح لغير الفقهاء بالإفتاء الشرعي ، ولكن الكلام في العقيدة والمسائل الثقافية هو حقٌَ للجميع ، ولكن لابد أن يكون الكلام عن علم ومعرفة ؟
ج »
إن الافتاء بغير علم أمر مبغوض عقلا وشرعا، قال تعالى: وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (الإسراء ٣٦) 

 

ولا يفرق الحال في مبغوضية وكراهية الكلام بغير علم بين الفقه والعقيدة والتاريخ وغيرها من العلوم. ولا يجوز للإنسان، في كل ما لا يملك معرفته، أن يتحدث بضرس قاطع فيه. وبالتالي فإن على الجاهل أن يتعلم ويرجع إلى العالم. والرجوع إلى العالم، هو أيضا أمر عقلاني جرت عليه سيرة العقلاء، وقد أرشد إليه الشارع في قوله تعالى:  ۚ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (النحل ٤٣)
 
أجل، إذا كان ثمة فارق بين الحقل الفقهي والحقل العقدي، فليس لانه يحرم في الفقه الإفتاء لغير الفقهاء بينما في العقيدة يجوز ذلك لغير الفقهاء؛ كلا، إن كان ثمة من فارق، فهو أن على الإنسان في المجال العقدي أن يكون مجتهدا في أمهات قضايا العقيدة ولا يجوز له التقليد خلافا للمجال الفقهي حيث يجوز له التقليد، إلى غيرها من فوارق.. والله الموفق

 
 
  مقالات >> فكر ديني
الحبّ في مدرسة عاشوراء
الشيخ حسين الخشن



وتعود عاشوراء مثقلةً بكلِّ جراحات التاريخ وآلامه بكلّ سهامه ومواجعه..

 

 وتعود عاشوراء مضمّخة بالأحمر القاني معلنةً على رؤوس الأشهاد: "إنّي لا أرى الموتَ إلاّ سعادةً والحياةَ مع الظالمينِ إلاّ بَرَماً"[1]..

 

 وتعود عاشوراء مفعمة بكلّ معاني العزّة والإباء، ويعود النداء الحسيني الخالد: "هيهات منّا الذلّة"[2]..

 

 وتعود عاشوراء ويعود معها الشوق والحنين، والدمع والأنين..

 

 وتعود عاشوراء ونستعيد معها صبر زينب (ع) وعزيمة الحسين (ع)، وإيثار أبي الفضل العباس، وشجاعة عليّ الأكبر، وتضحيات كلّ تلك الصفوة الطاهرة من أصحاب الحسين (ع)..

 

 هكذا عرفنا عاشوراء وفهمناها وهكذا نريدها، وهكذا ينبغي أن تكون وتستمر..

 

 

أولاً: عاشوراء.. مدرسة الحب

 

   ولكن هل لنا أن نرى في عاشوراء قيمةً إضافية، غير ما هو معروف ومتداول من قيمها ودروسها؟ هل لنا أن نرى في عاشوراء غير الدماء والأشلاء وغير الصراخ والعويل؟

 

هل لنا أن نرى الحبّ في وسط الدماء والأشلاء؟

 

    بكلّ تأكيد يمكننا أن نرى تلك القيمة (قيّمة الحبّ) مع أنّها قيمة غائبة أو مغيّبة عن قاموسنا الإسلامي، وعن حياة الفرد المسلم، يمكننا أن نتعلّم الحبّ في مدرسة عاشوراء، لأنّ عاشوراء ليست مدرسة للحقد والكراهيّة، ولا لإثارة الغرائز وإيقاد الفتن، وإنّما هي مدرسة نتعلّم فيها كلّ المعاني

السامية، وعلى رأسها قيمة الحبّ الإنساني والعشق الإلهي، بل يمكننا القول: إنّ حاجتنا إلى الحسين (ع) وحاجتنا - قبل ذلك - إلى رسول الله (ص)، كما عليّ (ع) والزهراء (ع) وكلّ المُثل العليا، هي في جانب أساسي منها، تعود إلى حاجتنا الماسة إلى الحبّ والروح والعاطفة، لأنّ هؤلاء هم

مصدر الحبّ والجمال والسلام، كما هم مصدر الفكر والأخلاق.

 

إنّ حاجتنا إلى الحسين (ع) هي أمسّ من حاجة التائه في الظلمات إلى مصباح ينير له الدرب وإلى مرشد يدلّه على معالم الطريق، وأشدّ من حاجة العطشان إلى الماء الذي يروي الغليل.

 

يقول الشاعر[3] مخاطباً   الإمام الحسين عليه السلام:

 

سلامٌ عليك فأنت السلامُ    وإنْ كنتَ مختضباً بالدمِ

وأنتَ الدليلُ إلى الكبرياءِ    بما دِيسَ من صَدْرِكَ الأكرمِ

وإنّكَ معتصم الخائفين      يا مَنْ مِنَ الذبح لم يُعْصَمِ

 

لقد رأى هذا الشاعر بعين البصيرة صورة السلام في وسط الدماء والأشلاء، ورأى الحسين (ع) قدوةً للأحرار ودليلاً إلى العزّة والإباء حتى عندما يداس صدره الشريف بسنابك خيل الظالمين! ورأى الحسين (ع) موئلاً للمعذبين الخائفين حتى وهو يذبح على رمضاء كربلاء!

 

والذي أعتقده أنّ أروع ما في عاشوراء هو مشاهد العشق والحبّ لله وفي الله، والتي نراها في مخيّم الإمام الحسين (ع)، حيث يبلغ حبّ الله مستوىً يغدو معه لقاء الموت في سبيل الله سعادة، وبذل النفس في سبيل المعشوق شهادة، وسوف نذكر بعضاً من تلك المشاهد فيما يأتي.

 

 

ثانياً: حبّ الله تعالى وحبّ الحسين (ع)

 

 ما هو الرابط بين حبّ الله، وحبّ أوليائه؟

 

 سأستهل هذه النقطة بهذا التساؤل الذي أخال أننا أشبعناه بحثاً في المحور الثاني من هذا الكتاب، حيث ذكرنا أنّ على المسلم أن يوحّد الله في الحبّ، ليكون حبُّه خالصاً لله تعالى، ولا يُشْرِك معه أحداً، ولا شكّ أنّ حبّ أولياء الله، هو مِنْ حبّ الله تعالى، فلا يتنافى وحبّه تعالى، تماماً كما أنّ حبّنا لكلّ

مَنْ حولنا من بشر أو أرض أو جبال أو أنهار أو أشجار .. لا يتنافى وحبَّ الله، ما دام حبّ هذه الأمور متحرِّكاً في خطّ حبّ الله.

 

   ومن هنا, فأنت معني بأن تحبّ أولياء الله - وهم رسله وحججه على العباد - لأنّهم (ع) "أحبّاء الله وَأوِدّاؤُه"، بل لأنّهم "الأدلّاء على الله"، وهم يدلّونك على طريق الحبّ الإلهي، وأعتقد أنّ حبّ أولياء الله لا يحتاج إلى وصايا خاصة من أحد، فهم بما يمتلكون من روحانية خاصة وأخلاقية عالية

سوف يجتذبون الناس إليهم ويدخلون القلوب بدون استئذان، وذلك هو سرّ إمامتهم وولايتهم.

 

 

 ومع ذلك، فإنّ الله تعالى قد أكدّ على أهميّة محبتهم، حتّى جَعَلَ مودّتهم أجرَ الرسالة، {قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى:23][4]، وهكذا نجد أنّ رسول الله (ص)، قد نصّ على أهميّة محبّتهم مؤكداً أنّ بها قوام الإيمان، فقال (ص) – فيما روي عنه: "حسين مني وأنا من

حسين أَحَبَّ الله مَنْ أَحَبَّ حسيناً"[5]، إنّ حبّ الحسين (ع)- إذاً- هو من حبّنا لرسول الله (ص)، وحبُّنا لرسول الله (ص) هو من حبِّنا لله، بينما بغض الحسين (ع) - كما بُغض أبيه عليّ (ع) - هو علامة على عدم حبّ الله ولا رسوله، أي هو علامة النفاق، كما جاء في الأحاديث

المختلفة[6].

 

 

 الحبُّ الملهم

 

وإننا عندما نتأمّل مليّاً في هذا التأكيد القرآني أو النبوي على أهميّة حبّ أهل البيت(ع) وارتباطه بالإيمان، فإننا ندرك بأنّ ثمّة عناية خاصة وراء ذلك، فإنّ الحبّ - كنبضة قلب – ما كان له أن يبلغ هذه المرتبة العظيمة في الدين بحيث يكون أجراً للرسالة إلاّ لأنّ هؤلاء يمثّلون الامتداد الطبيعي

لرسول الله (ص)، وأنّ لهم دوراً في استمرار الرسالة على أصالتها، بهذا يمكن أن نفهم كيف يمكن أن يكون حبّ الحسين(ع) من حبّ رسول الله (ص)، وكيف يرتبط حبّ الله تعالى بحبه (ع)، وقد أوضحنا هذا الأمر بما فيه الكفاية في محور سابق.

 

 

ثالثاً: الحسين (ع) شهيد الحبّ الإلهي

 

   وعندما نطلّ على علاقة الإمام الحسين (ع) بالله تعالى، فإنّا نجدها قائمة على أساس الحبّ لله والذوبان فيه، وقد تجلّى ذلك في كلّ حياة أبي عبد الله الحسين (ع)، ولا سيّما في عاشوراء، حيث نجدُ أنفسنا أمام ظاهرة منقطعة النظير من حبّ الله وعشقه، وإليك توضيح ذلك من خلال صورتين

روتهما لنا المصادر التاريخية:

 

 

الصورة الأولى: "هوّن ما نَزَلَ بي أنّه بعين الله".

 

  عندما يسقط أصحاب الحسين (ع) وأبناؤه صرعى على رمضاء كربلاء، يخرج الحسين(ع) إلى جيش عمر بن سعد طالباً منهم أن يُقدّموا لابنه الطفل الرضيع شربة من ماء، لأنّ العطش قد أَخَذَ منه مأخذاً عظيماً، وكان جواب القوم أن رماه حرملة بن كاهل الأسدي بسهم ذبحه من الوريد إلى

الوريد وهو في حجر والده! فماذا تتوقع أن يكون موقف الحسين (ع) بعد أن يَرمي دمَ رضيعه نحو السماء؟ هل يبكي أو يشكو أو يجزع أو يتراجع؟

 

 

كلا، لا ذا ولا ذاك، كان موقفه أن يتوجّه إلى الله تعالى ليترنّم بكلمات العشق التالية: "هوّن ما نَزَلَ بي أنّه بعين الله"[7]!

 

 ما أصعبه من موقف! أن يُذبَح رضيعُك في حِجْرِك! ولكن ما أعظمه من يقين "هوّن ما نَزَلَ بي أنّه بعين الله"! فما دام أنّ هذا الفداء هو لله وفي سبيل الله فإنّ وقعه على النفس يغدو عذباً وهيّناً، وهذا اليقين الذي بلغه الحسين (ع) قد حوّل هول الفاجعة ومرارتها إلى بلسم للجراح وعزاء أمام ألم

المصاب.

 

   ويتردّد على ألسنة البعض أنّه (ع) لمّا كثرت الجراحات في جسد الإمام الحسين (ع) كان يقول: "إلهي إنْ كانَ هذا يرضيك فَخُذْ مِنِّي حتّى تَرْضَى"، ولكني لم أعثر على هذا الكلام في المصادر، أجل نُقل هذا الكلام عن الإمام الحسن (ع) بعد أن أخذ السُّمُ منه مأخذاً عظيماً ولفظ كبده، فقد رُوِيَ

أنّه في هذا اللحظات "استقبل القبلة وقال: "يا ربّ خُذْ مِنّي حتّى تَرْضَى"[8].

 

 

 الصورة الثانية: "إنّي أحبّ الصلاة".

 

   جاء في كتاب تاريخ الطبري وغيره أنّه وفي اليوم التاسع من محرّم وبعد أن أصبحت الخيارات واضحة، "إما السلّة، وإما الذلّة" - طلب الإمام الحسين (ع) من أخيه أبي الفضل العباس أن يتفاوض مع عمر بن سعد وهو قائد الجيش المناهض للحسين(ص) في مسعى لإقناعه بتأخير القتال إلى

يوم غدٍ، وأن يدعهم هذه العشية وشأنهم، لكن لماذا يا تُرى؟ هل ليودّعوا العيال؟ أو ليجدوا طريقاً لأجل الهرب والفرار؟

 

 كلا، لا هذا ولا ذاك، ودعونا نتعرّف على سبب هذا الطلب في تأخير المعركة من لسان الحسين (ع) نفسه يقول (ع)" لعلّنا نصلّي لربّنا الليلة وندعوه ونستغفره، فهو يعلم أنّي قد كنت أحبّ الصلاة له وتلاوة كتابه وكثرة الدعاء والاستغفار"[9].

 

 ما أعظمه من طلب وما أرقاها من أمنية! "لعلّنا نصلّي لربنا"، لماذا؟ هل لطلب الجنة والحور العين أو خوفاً من النار وزبانيتها؟

 

كلا، لا هذا ولا ذاك، بل لـ "أني قد كنتُ أحبّ الصلاةَ له وتلاوةَ كتابه وكثرةَ الدعاء والاستغفار"!

 

 ولا ندري أيَّ صلاة صلّاها الحسين (ع) تلك الليلة؟ وفي أيّة حالة من حالات الانقطاع إلى الله كانت صلاته؟!

 

فعلاً إننا لا ندري، لأنّ هذا المقام المعنوي لا يفقهه إلّا من ذاق حلاوته، ولكنّ ما نستطيع أن نجزم به أنّ صلاته (ع) كانت صلاة المحبّين العاشقين الوالهين.

 

ونلاحظ هنا أنّ الإمام (ع) لم يُذهله تكاثر الهموم فيحتّم في كلامه، ويقول مثلاً: "لنصلِّي"، بل قال: "لعلّنا نصلّي"، لأنّه(ع) قد لا يُستجاب لطلبه بتأخير المعركة ولا يُمهل لأداء الصلاة .

 

 ثمّ الأهمّ من ذلك أنّه (ع) يقول: "إنّ الله تعالى يعلم أنّي أحبّ الصلاة، كما أحبّ تلاوة القرآن والدعاء والاستغفار".

 

تلك هي حال الحسين (ع)، إنّه يُحبُّ الصلاة ويعشقها، وكان إذا دنا وقتها يغمره الشوق، لأنّه سينطلق في حالة من العروج الروحي إلى لقاء الله تعالى..

 

 ولكن يا ترى ما هي حالنا نحن في أوقات الصلوات ؟

 

إنّ الكثيرين منّا يشعرون بهمّ كبير إذا دنا وقت الصلاة، وإذا فرغوا من أدائها تراهم يتنهدون ويحمدون الله على الانتهاء منها، وكأنّ ثمة عبئاً ثقيلاً كان جاثماً على صدورهم وقد ارتاحوا منه بعد أداء الصلاة!

 ما أعظم الفارق بين الصلاتين! صلاةٍ يحمدُ مصليها ربَّه على دخول وقتها شوقاً إلى لقياه عزّ وجلّ، وصلاةٍ يحمدُ مصليها ربَّه على الفراغ منها، لينصرف إلى شؤونه ودنياه!

 

 

طلب استمهال آخر

 

 وتحدّثنا بعض المصادر أنّ الحسين (ع) قد طلب توقيف الحرب أو تأخيرها قليلاً مرّة أخرى، وذلك في ظهيرة يوم العاشر من محرّم، فإنّه وبعد أن قُتل جمعٌ من أصحاب الحسين (ع) وأحسّ بعض الصحب (ع) أنّ الموت قد اقترب والأجل قد دنا، تقدّم من الإمام الحسين (ع) قائلاً:

 

يا أبا عبد الله.. نفسي لك الفداء، إنّي أرى هؤلاء القوم قد اقتربوا منك، ولا والله لا تقتل حتّى أقتل دونك إن شاء الله، وأحبّ أن ألقى ربّي وقد صلّيت هذه الصلاة التي قد دنا وقتها.

 

 قال: فرفع الحسين رأسه، ثمّ قال: "ذَكَرْتَ الصلاة جَعَلَكَ اللهُ مِنَ المُصلِّين الذاكِرِين، نعم هذا أوّل وقتها، ثمّ قال: سلوهم أن يكفّوا عنّا حتّى نصلّي.."[10]

 

   فالحسين (ع) – إذن- يطلب من القوم استمهاله بضع دقائق، لماذا؟

 

هل ليرتاح أو ليشرب الماء؟ كلاّ، بل لأجل أن يؤدِّيَ صلاة الظهر! وأيّ صلاة تلك هي التي صلّاها الحسين (ع) ظهيرة العاشر من محرم؟

 

صلّى (ع) والسِهام تنهمر عليه كالمطر من كلّ جانب حتّى استشهد بعض أصحابه ممّن وقف أمامه ليحميَه من السِهام ويمكّنه من الصلاة جماعة بمن تبقَّى من أصحابه![11].

 

  إنّ إصرار الحسين (ع) على إقامة الصلاة وهو في وسط القتلى والأشلاء، يذكّرنا بموقف أبيه عليّ (ع) في ليلة الهرير في صفّين، فقد كان - والسِهام تتساقط عليه والسيوف والأسنّة تتشابك من حوله - ينظر إلى السماء مراقباً وقت الصلاة، فقال له ابن عباس: "يا أمير المؤمنين ما هذا الفعل؟

 

قال: أنظر إلى الزوال حتّى نصلّي.'

 

 فقال له ابن عباس: إنَّ عندنا لشغلاً بالقتال عن الصلاة!

 

 فقال (ع): على ما نقاتلُهم؟ إنّما نقاتلهم على الصلاة"[12].

 

 

 

 رابعاً: معسكر المتفانين في الله وفي حبّ وليّه

 

   وهذا الفداء المنقطع النظير وتلك التضحيات الجسام التي شهدناها يوم عاشوراء يجعلان المرء حائراً أمام هذه الثلّة الطاهرة التي عشقت الحسين (ع) وفدته بأرواحها والنفوس، ومع أنّ هؤلاء الشهداء الأخيار هم جميعاً في مرتبة عالية من التفاني في الله والإخلاص له، وهي مرتبة لا ينالها إلاّ

الأقلون عدداً والأعظمون عند الله قدراً، ولكنّا مع ذلك نشير إلى بعض المشاهد والنماذج المعبّرة عن بلوغهم مرتبة العاشقين للقاء الله والمتفانين في حبِّه ورضاه:

 

 

عندما تتحوّل الأجساد إلى دروع!

 

 

النموذج الأوّل: ويتمثّل بوقوف بعض صحابته (ع) أمامه ليقيَهُ السِّهام المتوجّهة إليه، ويتلقّاها بصدره وجسده، ليحميَ الحسين (ع) ويمكّنه من أداء الصلاة جماعة، إنّ هذا الفداء منقطع النظير ولا يفعله إلاّ أولئك الذين أعاروا جماجمهم لله، ولا يفهمه إلاّ من ذاق حلاوة العشق الإلهي. فقد رُوي أنّ

الإمام (ع) طلب من زهير بن القين وسعيد بن عبد الله أنّ "تقدّما أمامي حتّى أُصلّيَ الظهر"، فتقدّما أمامه في نحو من نصف أصحابه حتّى صلّى بهم صلاة الخوف.

 

 ورُوي أنَّ سعيد بن عبد الله الحنفي تقدّم أمام الحسين (ع) فاستُهدف لهم، يرمونه بالنّبل، كلما أخذ الحسين (ع) يميناً وشمالاً قام بين يديه، فما زال يُرمى حتّى سقط إلى الأرض وهو يقول: اللهم العنهم لعن عادٍ وثمود، اللهم أبلغ نبيّك السلام عنّي، وأبلغه ما لقيت من ألم الجراح، فإني أردت بذلك

نصرة ذرية نبيّك، ثمّ مات، فوجدوا به ثلاثة عشر سهماً سوى ما به من ضرب السيوف وطعن الرماح!"[13].

 

إنّ هذا النموذج من التفاني والتضحية والفداء في سبيل المبدأ هو حقّاً نموذج بديع ومنقطع النظير.

 

 

فرحٌ وسرور ساعة لقاء الحتوف!

 

    النموذج الثاني: الذي يعكس حبّ هؤلاء العظماء لله تعالى وسرورهم بلقائه، هو ما نجده عند "برير بن خضير" حيث يُنقل عنه أنّه أخذ يهازل ويمازح "عبد الرحمن بن عبد ربّه"، فقال له الأخير: "والله ما هذه بساعة باطل!

 

فقال برير: والله إنّ قومي لقد علموا أنّي ما أحببت الباطل شابّاً ولا كهلاً، ولكنّي مستبشر بما نحن لاقون، والله ما بيننا وبين الحور العين إلاّ أن يميل هؤلاء بأسيافهم"[14].

 

  وفي بعض المصادر أنّ حبيب بن مظاهر أيضاً أخذ يمزح ويضحك، فقال له برير بن خضير الهمداني: - وكان يُقال له سيّد القرّاء-: "يا أخي ليس هذه بساعة ضحك!

 

قال: فأيّ موضع أحقُّ من هذا بالسرور؟ والله ما هو إلاّ أن تميل علينا هذه الطغاة بسيوفهم فنعانق الحور العين"[15].

 

 

تمني الحياة لأجل الموت!

 

النموذج الثالث: هو نموذج أولئك الصحابة الذين كانوا يتمنّون الموت ثم الحياة مرّة أخرى ليتسنّى لهم الجهاد مجدّداً بين يدي الحسين (ع)، فهذا سعد بن عبد الله الحنفي وقف بين يدي أبي عبد الله (ع) وقال: "والله لا نخليك حتى يعلم الله أنّا قد حفظنا غيبة رسول الله (ص) فيك، والله لو علمت أنّي أقتل

ثمّ أحيا ثمّ أُحرق حيّاً ثمّ أذرّ يُفعل ذلك بي سبعينَ مرّةً ما فارقتك حتى ألقى حمامي دونك، فكيف لا أفعل ذلك وإنّما هي قتلةٌ واحدة، ثم هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبداً"[16].

 

 ولا أخالني بحاجة إلى التعليق على هذه الكلمات المفعمة بالصدق والإيمان واليقين، والتي يتبدّى من ثناياها ويلوح من فقراتها أننا أمام نفوس آمنة مطمئنة بلقاء الله ولقاء حبيبه المصطفى (ص).

 

    وأكتفي بهذا القدر من نماذج التفاني في الله تعالى، وإلاّ، فمشاهد الحبّ والولاء لدى أصحاب الحسين (ع) كثيرة جداً، فقد كانوا يتمنّون أن يُقتلوا ثمّ يُنشروا ثمّ يُقتلوا ثمّ يُنشروا، يُفعل ذلك بهم ألف مرّة، فداءً للحسين (ع) كما قال زهير بن القين وغيره[17].

 

 

خامساً: عندما يحبّ القاتل قاتله!

 

ذكرنا في المحور الثاني أنّ من يسيطر عليه حبّ الله، فلا يمكن أن يُشرك معه أحداً، في فعل أو قول أو نبضة قلب، ونقول هنا: إنّ من يمتلئ قلبه بحبّ الله، فلن يعرف هذا القلب غيرَ لغة الحبّ ولن يجد متّسعاً للحقد، لأنّ الحبّ والبغض لا يجتمعان في قلب المؤمن، ولهذا فإنّه حتّى عندما يبغض

أعداء الله وأعداء الإنسانية، فهو لا يبغض فيهم سوى كفرهم وعصيانهم وتمرّدهم على الله، ولكنّه في العمق يشفق على أشخاصهم، لأنّهم يسيئون إلى أنفسهم ويوردونها مورد الهَلَكَة، ولذا فهو يتألم عليهم ويدعو لهم بالهداية. وَلَهِدَايَةُ شخصٍ واحد من أعدائه أحبّ إليه من أن يموت هذا الشخص على

يديه، ولو كان يموت ظالماً، ويبوء بآثامه، وهذا ما عبّر عنه عليّ (ع): "فوالله ما وقعت الحرب يوماً إلاّ وأنا أطمع أن تلحق بي طائفة فتهتدي بي وتعشو إلى ضوئي وذلك أحبّ إليّ من أن أقاتلها على ضلالها وإن كانت تبوء بآثامها"[18]، فكلّ همّ عليّ (ع) هو أن يحيا الناس وأن

يعيشوا بأمنٍ وسلام، والحياة الحقيقية عنده هي حياة الهدى التي تفتح القلوب على الله وتفتح العقول على الإبداع لِمَا فيه خير الإنسان.

 

 وهكذا كان نجله الحسين (ع).. كان يخاف على أعدائه من مغبّة جرأتهم عليه وإقدامهم على قتله وسفك دمه. يحدثنا أحدهم أنه وقف على الحسين (ع) فقال له أبو عبد الله (ع): "معنا أنت أم علينا؟

 

يقول: فقلت: يا بن رسول الله: لا معك ولا عليك، تركت أهلي وولدي، أخاف عليهم من ابن زياد.

 

 فقال الحسين (ع): "فولِّ هرباً حتّى لا ترى لنا مقتلاً، فوالذي نفس محمّد (ص) بيده لا يرى مقتلنا اليوم رجل ولا يغيثنا إلاّ أدخله الله النار"[19].

 

 وهكذا نراه (ع) يقول ذلك لعبيد الله بن الحرّ الذي فرّ من الكوفة حتّى لا يلتقي بالحسين (ع)، ولكن تشاء الأقدار أن يلتقيه في الطريق، ويقصد الإمام (ع) خيمته طالباً منه النصرة والانضمام إليه، لكنّه اعتذر، فقال له الحسين (ع): "فإن لم تنصرنا فاتَّقِ الله أن تكون ممّن يقاتلنا، والله لا يسمع

واعيتنا أحد ثُمَّ لا ينصرنا إلاّ هلك"[20].  

 

   فالحسين (ع) صاحب القلب الكبير يخاف على هذا الشخص أو ذاك من النار أو الهلاك إن حضرا مقتله ولم ينصراه.

 

 وفي كلّ الأحوال، فإنّ هذا الشخص وأمثاله لن ينجوا من المساءلة يوم القيامة، ولا ندري إذا كان الله يقبل أعذارهم، بالخوف على الذرّية، لأنّ ذرّية الإنسان المسلم ليست أعزَّ من ذرّية الحسين (ع)، كما أنّ اعتذاره بالقول: "لا لكم ولا عليكم" هو كلام مرفوض، لأنّه لا حيادية بين الحقّ والباطل،

ومن لم يخذل الباطل فهو قد خذل الحقّ، ومن لم ينصر الحق فقد نصر الباطل، وقد سئل الإمام عليّ (ع) عن الذين اعتزلوا القتال معه في حروبه فأجاب: "خذلوا الحقّ ولم ينصروا الباطل"[21].

 

 

  الحسين (ع) صاحب مشروع إحيائي وليس انتقاميّاً

 

   وبالحديث عن الحق، فإنّ الانتصار للحق كان واحداً من أهمّ أهداف النهضة الحسينية، هذه الأهداف التي انطلقت من عناوين قرآنية بامتياز، ومن أهم هذه العناوين: عنوان "الإصلاح"، فقد جاء في وصيّة الإمام الحسين (ع) لأخيه محمد بن الحنفية: "وإنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا

ظالماً، وإنّما خرجت لطلب النجاح والصلاح في أمة جدّي محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدّي محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) وسيرة أبي علي بن أبي طالب"[22].

 

 إنّ هذا النص العاشورائي وسواه من النصوص يؤكّد أنّ أبا عبد الله الحسين (ع) لم يكن صاحب مشروع انتقاميّ ولا ثأريّ، ولم يكن راغباً في سفك الدماء، وإنّما مشروعه هو إحياء النفوس وهداية الناس جميعاً إلى الإسلام.

 

إنّ المشروع الذي حمله الحسين بن عليّ (ع) هو المشروع عينه الذي حمله رسول الله (ص) وحمله أبوه عليّ بن أبي طالب (ع) وهو مشروع الهداية، كما أنّ الثقافة التي بشّر بها (ع) هي ثقافة الحبّ والرحمة والتواصل، ومسؤوليتنا أن نقدّم الحسين (ع) باعتباره داعية للسلام وللحبّ، كما هو داعية للعدل.

 

 

الحسين(ع) والصورة الدموية

 

وإذا كان مشروع الحسين (ع) هو هذا، فلا بدّ أن تكون رسائل إحياء ذكرى الحسين (ع) على مستوى هذا المشروع ومنسجمة مع رسالته (ع) كامل الانسجام، ولذا عندما يصرّ البعض على إحياء ذكرى عاشوراء من خلال وسائل الإدماء المعروفة فإنّه يحييها بعمل منفّر في نظر الكثيرين من أتباع

الحسين (ع) ومحبّيه فضلاً عن غيرهم، الأمر الذي يفرض إعادة النّظر في جدوى هذه الوسيلة[23].

 

إنّ أهميّة الشعائر الحسينية والإحياءات المختلفة لذكرى الحسين (ع) وكلّ الأئمة من أهل البيت (ع) أن تؤدّيَ هذه الوظيفة، وهي أن تُدخل الحسين(ع) إلى القلوب، وتعرّف الناس برسالته، فإذا كانت أساليب الإحياء منفّرة أو مقزّزة بشكلها أو بمضمونها، فإنّها ستشكّل خيانة للحسين (ع). إنّ المقياس

في نجاح الوسيلة الإحيائية هو في تمكّنها من أن تفتح قلوب الناس على الحسين(ع)، وأنت إذا فَتحت قلوب الناس على الحسين (ع) وأهل البيت(ع) فأنت بذلك ستدخل بكلّ سهولة إلى عقولهم لتفتحها على فكر الحسين (ع)، وستدخل إلى حياتهم لتغيّرها على صورة الحقّ الذي يمثّله الإمام

الحسين(ع).

 

 وهكذا هو مشروع حفيده الإمام المهدي (عج)، فهو لن يخرج لأجل الثأر والانتقام واستخراج جثث الموتى من القبور ثمَّ صلبها، كما يزعم البعض، بل إنّه سوف يخرج حاملاً لواء العدل، ومبشِّراً بثقافة الحياة، ولا حياة بدون عدل، فالعدل هو عماد الحياة، كما أنّه لا حياة بدون حبّ، فالحبّ هو روح

الحياة.

 

 

بيّض قلبك والبس ما شئت

 

    ولهذا تعالوا أيها العاشقون للحسين (ع) ونحن نبكيه أن نبكيَه بكاء المحبّين لا بكاء المنتقمين، وهلموا بنا ونحن نلبس السواد على الحسين (ع) أن لا ندع اللون الأسود يدخل قلوبنا ليملأها بالحقد والبغضاء، فقد ورد في الحديث عن الإمام الصادق(ع) وقد سئل عن لبس السواد "بيّضْ قلبك والبسْ

ما شئت"[24]، فالسواد هو تعبير رمزي عن التعاطف مع الحسين(ع)، ولكن لا بدّ أن تبقى قلوبنا نقيّة بيضاء، كبياض قلب الحسين(ع)، وكنقاء شرف زينب، وكصفاء منحر الطفل الرضيع.

 

والسلام على الحسين (ع) وعلى عليِّ بن الحسين (ع) وعلى المُستشهدين بين يدي الحسين (ع) وعلى السائرين على نهج الحسين (ع) ورحمة الله وبركاته.

 

من كتاب "وهل الدين إلا الحب؟" http://www.al-khechin.com/article/373

نُشر على الموقع في 10-10-2015



[1] تاريخ الطبري ج4 ص305.

[2] الاحتجاج للطبرسي ج2 ص25.

[3] هو الشاعر العراقي عبد الرزاق عبد الواحد، وهو ينتمي إلى ديانة الصابئة.

[4] ورد في العديد من الروايات أنّ المقصود بالقربى في الآية المذكورة قرابة النبيّ (ص) وتحديداً أهل الكساء منهم، فقد روى الطبراني في المعجم الكبير باسناده إلى ابن عباس رضي الله عنه، قال: لما نزلت {قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى} فقالوا: يا رسول الله ومن قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودتهم؟ قال: علي وفاطمة وابناهما" انظر: المعجم الكبير ج3 ص47، وقد تكلمنا بإسهاب حول دلالة هذه الآية في المحور الثالث، فراجع.

[5] مسند أحمد: ج4 ص172.

[6] سنن النسائي ج8 ص115.

[7] اللهوف في قتلى الطفوف ص69.

[8] شرح إحقاق الحق: ج26 ص558.

[9] تاريخ الطبري ج4 ص316.

[10] تاريخ الطبري: ج4، ص 334.

[11] أنظر: بحار الأنوار، ج 45، ص 21.

[12] أنظر: كشف اليقين للعلامة الحلي ص122، ووسائل الشيعة: ج4، ص 246، الباب 41 من أبواب أعداد الفرائض ونوافلها وما يناسبها، الحديث2.

 

[13] بحار الأنوار: ج45، ص 21.

[14] الكامل في التاريخ: ج4، ص 60.

[15] اختيار معرفة الرجال: ج1، ص 293.

[16] تاريخ الطبري ج4 ص318.

[17] أنظر: تاريخ الطبري: ج4، ص 318.

[18] نهج البلاغة: وهي خطبة له قالها وقد استبطأ أصحابه إذنه لهم في القتال بصفّين.

[19] وقعة صفّين: ص 141.

[20]الإرشاد للمفيد: ص 81، وتاريخ الطبري: ص 308.

[21] نهج البلاغة: ج4 ص5.

[22]  الفتوح لابن أعثم ج 5 ص 21، وبحار الأنوار ج 44 ص 330

[23] ومن يريد التعرف على الموقف من هذه الممارسة الإدمائية فيمكنه مراجعة ما كتبناه حول ذلك في كتاب : عاشوراء قراءة في المفاهيم وأساليب الإحياء ص120 وما بعدها.

[24] علل الشرائع للشيخ الصدوق ص347.

 






اضافة تعليق

الاسم *

البريد الإلكتروني *

موضوع *

الرسالة *


 


 
  قراءة الكتب
 
    Designed and Developed
       by CreativeLebanon