الدين بين ثقافتي الحبّ والحقد
الشيخ حسين الخشن
كما لا يمكن للخير أن ينتشر ويعمّ إلاّ إذا حاصرنا الشّر وعملنا على مواجهته، كذلك لا يمكننا أن نمكّن لثقافة الحبّ أن تنتشر وتعمّ إلاّ إذا عملنا على محاصرة ثقافة الكراهية والحقد وَسَعْينا في تجفيف منابعها وتفكيك بناها الفكريّة والنفسيّة والاجتماعيّة والسياسيّة، ولذلك وفي سبيل مواجهة ثقافة الحقد
ومحاصرتها كتبنا هذا البحث.
أولاً: أسباب الحقد ودوافعه
والحقد – بطبيعة الحال- لا ينشأ من فراغ، وإنّما له ظروفه ومناخاته وأسبابه المختلفة، ولكن لا بدّ أن نستبعد من هذه الأسباب ما يحكى عن فكرة القدر القاهر، فالحقد أو الإجرام ليس قدراً مفروضاً علينا لا نستطيع تجنبّه، وليس صحيحاً أنّ الإنسان يولد مجرماً، كما يرى بعض علماء النفس، أو كما
يقول المتنبي في بعض أشعاره:
والظُّلْمُ مِنْ شِيَمِ النفوس فإنْ تَجِدْ ذا عفّةٍ فلعلَّةٍ لا يَظْلِمُ
إنّ ما نعتقده في هذا المقام ونخال أنّ الاستقرار يؤكده هو أنّ الله تعالى خلق الإنسانَ صفحةً بيضاء نقيّة، يحمل قلباً طاهراً، وعقلاً سليماً لم يتلوّث بشيء، وقد أجاد وأبدع - كعادته - الإمام عليّ (ع) في التعبير عن هذا المعنى، إذ قال في وصيَّته لابنه الإمام الحسن(ع): "وإنّما قلب الحَدَثِ كالأرض
الخالية ما أُلقي فيها من شيء قبلته، فبادرتك بالأدب قبل أن يقسوَ قلبك ويشتغل لبّك.."[1]، وأمّا الحقد أو الإجرام أو الانحراف فهو شيء طارئ على الإنسان ويكتسبه من خلال انغماسه في هذه الحياة وما يستمدّه ويتعلمه من البيئة والأهل والمربّين والأصدقاء الذين يعاشرهم، ويترافق ذلك
مع وقوعه تحت ضغط الأهواء والمصالح التي تعمي عقله وتلوّث فطرته، وهو – أي الانحراف - فعل اختياري له غير مجبور عليه، وكذلك الحال في الإحسان وفعل الخير، ولو لم يكن الإنسان مختاراً في فعل الخير والشرّ لم يصحّ عقابه ولا ثوابه ولا تكليفه، ولبطَلَ إرسال الرسل إليه.
بعد استبعاد فكرة الإجرام الفطري الذي لا يجد الإنسان مناصاً منه، نقول: إنّ ثمّة أسباباً متعددة وظروفاً مختلفة تدفع الإنسان إلى السقوط في مهاوي الإجرام أو منزلقات الحقد، ومن أهمّ هذه الأسباب:
1- الأسباب الاجتماعيّة
فالفقر، وسوء توزيع الثروات، وظلم القويّ للضعيف تشكّل أسباباً رئيسة للكثير من أعمال الإجرام والتعديات. لقد شكّل الفقر على الدوام بيئة حاضنة لنزعات التطرّف وجماعات الجريمة المنظّمة التي تعمل على نشر التوتر بين أبناء المجتمع وتثير القلق والخوف في النفوس، ومن هنا فقد انصّبت
دعوات كلّ المصلحين وعلى رأسهم الأنبياء والأئمة (ع) على مواجهة الفقر ومحاربة صانعيه ومعالجة أسبابه وتقديم كلّ الحلول العمليّة لتوزيع الثروة بطريقة عادلة.
2- الأسباب السياسيّة
فالقهر والاستبداد والطغيان والاستكبار والإذلال هي الأخرى أسباب تربِّي الأحقاد في النفوس، وتدفع الإنسان إلى أحضان الجريمة دفعاً، وتغذّي نزعات التطرف والعنف لديه.
ومن هنا فإنّ تطبيق نظام العدالة الاجتماعيّة والسياسيّة هو السبيل الأمثل لإزالة الشحناء من النفوس وتخفيف الجرائم والتبشير بثقافة الحبّ، وأعتقد أنّه لا يكفي لنشر هذه الثقافة الاكتفاء بالتنظير والحديث عن الحبّ بلغة شاعرّية، فالفقير والمستضعف لا يمكنك إقناعه بأن يحمل في قلبه الحبّ للغني
المترف الذي لا يتحسس آلام الفقراء ولا يهتمّ لأحاسيسهم أو للمستكبر الذي يلتهم قوت المستضعفين ويصادر ثرواتهم وأرزاقهم، والمظلوم لا يبلّ غلته ولا يطفأ حرقته إلا الانتصاف له من ظالمه والأخذ له بحقّه، والجائع لا يشبعه مجرّد التعاطف معه حتى لو كانت العواطف نبيلة وصادقة.
3- الأسباب النفسيّة
فالنفوس التي يتحكّم فيها الحسد والغلّ والحقد وسوء الظن بالآخرين هي نفوس مريضة تمتلأ بالضغائن ولا تتمنى الخير للآخرين، بل يضيرها أن ترى نعم الله عليهم، وتتمنى زوالها عنهم، وقد تسعى جاهدة في إيذائهم والكيد لهم وإلحاق كلّ أشكال الضرر المادي والمعنوي بهم.
4- الأسباب الدينية
وربّما ذكر بعضهم أنّ الدّين هو العنصر الأبرز في الدفع نحو الحقد والمغذّي الرئيس لثقافة الكراهية، فهذه أنهار الدماء تسيل في عالمنا العربي والإسلامي باسم الدين وتحت رايته!
وأعتقد أنّه لا يكفي أن ينتفض الخطاب الديني للتنديد بهذا الكلام الصريح في اتهام الدين أو أن نسارع إلى اتهام أصحابه بالتآمر والعمالة أو نطلق عليهم أحكاماً بالردّة أو ما إلى ذلك من أوصاف تزخر بها قواميسنا، كما أنّ من المفروض أن لا نكتفي في الردّ على ذلك بالعمل على حشد مجموعة
من النصوص التي تنصّ على مبدأ تكريم الإنسان وضرورة احترامه، فهذا على أهمّيته لا يكفي وحدَهُ، وإنّما علينا أن نبرهن على صحّة دعاوانا من خلال تجربة نموذجيّة تحتذى نتقدّم بها إلى العالم.
أما على مستوى النصّ فيكفيك أنّ النبيّ الأكرم (ص) قد لخّص هدف دعوته ورسالته بعنوان واضح ومختصر ودالّ، وهو ما جاء في قوله:" إنّما بعثت لأتمِّمَ مكارمَ الأخلاق"[2]، وهذا النصّ ليس يتيماً في بابه، وليس من المفترض أن يكون مجرّد شعار نكتفي برفعه في نوادينا أو التغني به في
خُطَبِنا ومجالسنا. إنّ هذا الكلام الصادر عن رسول الله (ص) والذي يلخّص هدف دعوته ورسالته ويختصرها بتتميم مكارم الأخلاق يستدعي وجود منظومة أخلاقيّة وروحيّة متكاملة، وهذا ما هو عليه الدين الإسلامي الحنيف بحسب ما نفهم، فإنّ ما جاء به الكتاب والسنة (ص) من تعاليم يشكّل
منهاجاً متكاملاً على هذا الصعيد الأخلاقي.
ولكنّ المهم أن نعمل على – بعد استنباط النظرية القرآنية الأخلاقية- استلهام هذه القيم واستحضار تلك المبادىء الأخلاقية وتحويلها إلى نماذج تحتذى، والأهمّ من ذلك هو أن نلتفت قبل ذلك كلّه إلى أنّ ثمة خللاً قد وقعنا فيه منذ زمن، وهو خلل في فهمنا للدين وفي تطبيقنا له، حيث تقدّمت لدينا
القراءة الحرفيّة للدين على القراءة المقاصدية، وتغلّبت لدينا القراءة التشريعيّة الإلزاميّة للدين على القراءة الأخلاقية، ونحن نرى أنّ الكثيرين مّمن يرفعون شعار" تطبيق الشريعة" إنّما يقصدون بذلك تطبيق نظام الحدود والعقوبات فحسب، ويتنادون لهذا الأمر، في الوقت الذي لا نجد عندهم الغيرة
عينها على تطبيق المنهج الأخلاقي الإسلامي!
وأعتقد أنّ هذا الخلل ناشىء عن خلل أعمق وهو الخلل في فهم وظيفة الدين، إنّ الوظيفة الأسمى للدين هي تهذيب الأخلاق، وهذا هو المقصد الأقصى والأسنى للشريعة عينها، فإنّ شريعة لا تتحرّك في ظلّ منظومة أخلاقية هادية وملهمة للعقل الاجتهادي هي شريعة جامدة وجافة وغير قابلة
للحياة.
ثانياً: التربية على الحقد!
إنّ الخلل المذكور في فهم وظيفة الدين، قد انعكس بشكل أو بآخر على تربيتنا أيضاً، فإنّ هذه التربيّة بحسب ما نلاحظ مبنيّة على رؤية كلاميّة تشيطن الآخر وتنتقص من إنسانيته وتنظر إليه باعتباره شخصاً من أهل النار، وربّما تحكم بأنّه "كافر نجس رجس"، ومن الطبيعيّ أن ينعكس ذلك على
تعاملنا معه، فنحتقره وننظر إليه بازدراء ونستهين بكرامته وحرمته ونسعى كي "نطهِّر الأرض من لوث وجوده".
الحقد المقدّس!
وأخطر ما في الأمر أنّه يتمّ تغليف هذه الثقافة السوداويّة القاتمة بغلاف الدين، الأمر الذي يسهم في إنتاج هذه الشخصيات الظلاميّة ممن خُيِّل إليهم أنّ ما هم عليه هو الدين الخالص والحقّ الصريح، وأنّ مَنْ عداهم هم على الكفر والباطل، والدين في نظر هؤلاء ليس له سوى قراءة واحدة وفهم
واحد دون سواه، وهو ما يرونه هم، وكأنّ الوحي أُنزل عليهم، ولو أنّ القضيّة وقفت عند هذا الحدّ لهان الأمر رغم خطورته لكنّهم تجاوزوا ذلك إلى درجة أنّهم عَمِلُوا على فرض قراءتهم الخاصّة للدين على غيرهم، مستخدمينَ في هذا السبيل كلّ أساليب القمع والعنف، فأفتوا بإباحة دم كلّ من
يخالفهم الرأي.. فذبحوا وسفكوا الدماء وانتهكوا الأعراض باسم الدين، فالدين من وجهة نظرهم هو الذي يأمرهم بقتل الآخر واحتقاره والحقد عليه!
إنّ صاحب الفكر القِشْريّ والتكفيري هو صاحب شخصيّة تحمل الحقد تجاه الآخر، وتُلبس هذا الحقد لبوس القداسة، أرأيت أشخاصاً يقدّسون الحقد؟! أجل، إنّهم أصحاب النظرة القاصرة والرّؤية السطحيّة عن الدين، ولهذا إذا أردنا لهذه الأمة أن تعيش بسلام وأمان فلا بدّ أن نعمل على نزع القداسة
المزيّفة عن الحقد "الديني" ونسعى في سبيل تجريمه..
استبدال منهج بمنهج
ومن الواضح أنّ شيئاً من ذلك لن يتحقّق بمجرّد إدانة الحقد والإجرام والإرهاب بكلمات فارغة ولا بمجرّد إصدار بيانات الاستنكار الباردة التي تطالعنا بها وسائل الإعلام عند حدوث أعمال عنف وقتل وسفك للدماء وانتهاك للأعراض وتهديد للأقليات، فإنّ ذلك على أهميته وضرورته ليس كافياً، بل
لا بدّ أن تتمّ مواجهة ثقافة العنف والحقد بالتأصيل الفكري للمنهج المقابل، وهو المنهج الإسلامي الأصيل والذي يكون حجر الزاوية فيه هو مبدأ احترام الإنسان وتكريمه بصرف النظر عن دينه أو لونه أو عرقه. {ولقد كرمّنا بني آدم} [الإسراء 70]، وهو المنهج الذي يُعْلِي من قيمة الإنسان
ويمنحه عصمةً على مستوى الدم والعرض والمال، ويمنحه الأمن والأمان والاطمئنان، وهو المنهج الذي يولي أهميّة خاصّة واستثنائية لعمليّة تهذيب النفوس وتدريبها على قيم المحبّة والرفق والتسامح.
ومن خلال التأصيل لهذا المنهج الرّحب والأصيل سوف تتمّ تعرية ثقافة الكراهيّة والحقد وإدانتها واعتبارها خطراً على البشرية وإثبات أنّها مجافية للدين نصاً وروحاً، وبعدها علينا استكمال ذلك بالخطوة العمليّة الأهمّ وهي العمل على تطهير مناهجنا التربويّة والدينيّة من كلّ بذور الثقافة المبنيّة
على منطق "الفِرْقَة الناجية"، هذا المنطق الذي يحكم على الآخر بالإعدام المعنوي عندما يُفتي أنّه من أهل النار، وبذلك يستهين بقتله وانتهاك كرامته ومصادرة حريته.
وعلينا ونحن نتحدّث عن التربية أن نعترف أنّ تربيتنا الوطنية والقوميّة على امتداد العالميْن العربي والإسلامي لم تُفلح في غرس مفهوم المواطنة في النفوس ولم تنجح في تعزيز حسّ الانتماء الوطني لدى معظم هذه الشعوب، وظلّ "الدين" بمعناه العصبوي الضيّق هو المكوّن الأساس للهوية كما
هو المحرّك للإنسان المسلم. وربّما كان مكمن الخلل في تقدّم هذا الفهم المتزمّت للدين هو في المنهج المقابل والمتطرف الذي أراد استبعاد الدين وربّما استعداءه وحذفه ليس من المقررات المدرسيّة فحسب، بل من الميدان الاجتماعي والسياسي، فارتكب أصحاب هذا التوجّه أو المنهج خطأً فادحاً،
لأنّ الدين لا يمكن استبعاده ولا معاداته، وقد علّمتنا التجربة أنّ الرابح في معركة استعداء الدين هو التزمّت الدينيّ. إنّ الدين لو أحسنّا فهمه وتقديمه وتوظيفه في بناء الإنسان وبناء الأوطان سيكون عامل نهوض وعنصر استقرار وأمان دون شكّ.
ثالثاً: الأنبياء(ع) ورسالة الحبّ
ودعوني وأنا أتحدّث عن المنهج الإسلامي الأصيل الذي يُعلي من قيمة الحبّ أن استحضر معكم بعض ملامح رسالات الأنبياء (ع)، فإنّ أهم ما في هذه الرسالات أنّها رسالات تنبض بالحبّ والودّ والسلام والدعوة إلى الأمن والاستقرار, وإلى العمل بالقيم الأخلاقية السامية والنبيلة.
وفي مقدّمة هذه القيم تأتي قيمة الحبّ، فالأنبياء (ع) قد دعوا أتباعهم إلى الأخذ بهذه القيمة واعتبارها مبدأً مقدّساً يحكم كلّ العلاقات، سواءً في ذلك علاقة الإنسان مع الله تعالى أو علاقة الإنسان مع أخيه الإنسان أو علاقته مع البيئة بكلّ عناصرها كما أوضحنا ذلك في المحور الأول، ولعلّ من أجمل
وألطف التعابير الدّالة على أهميّة هذه القيمة في القاموس الديني ما جاء في الحديث عن الإمام أبي جعفر الباقر(ع) في حديث له قال لبعض أصحابه: "يا زياد ويحك وهل الدين إلا الحبّ؟!، ألا ترى إلى قول الله: {إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم} [آل عمران 31]. أولا
ترى قول الله لمحمّد صلى الله عليه وآله: {حبّب إليكم الايمان وزينه في قلوبكم}[ الحجرات7 ]. وقال: {يحبّون من هاجر إليهم} [الحشر9]. فقال: الدين هو الحبّ، والحبّ هو الدين"[3].
وعنه (ع) في رواية أخرى: "أنّ قوماً أتوه من خراسان، فنظر إلى رجل منهم قد تشققتا رجلاه، فقال له: ما هذا؟ فقال: بُعْدُ المسافة، يا بن رسول الله، ووالله ما جاء بي من حيث جئت إلاّ محبتكم أهل البيت، قال له أبو جعفر: أبشر، فأنت والله معنا تحشر.
قال: معكم، يا بن رسول الله؟
قال: نعم، ما أحبّنا عبدٌ إلا حشره الله معنا، وهل الدين إلا الحبّ، قال الله عز وجلَّ: {قل إن كنتم تحبون الله فاتّبعوني يحببكم الله} [آل عمران 31]"[4].
والقيمة الأخرى التي نجد أنّ قاموس الرسالات السماوية ممتلىء بالحديث عنها هي قيمة الرّحمة، فقد قال تعالى في بيان هدف بعثة النبيّ الأكرم (ص): {وما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين} [الأنبياء 107]، والرسل جميعاً دعوا الناس إلى أن يبنوا علاقاتهم فيما ينيهم على أساس التآخي والتراحم
والتلاقي، قال تعالى: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} [البلد 17].
وقد أكّد الأنبياء(ع) أيضاً على أممهم وأتباعهم ومحبيهم ضرورة أن يديروا اختلافاتهم على أساس الحوار، ومن خلال الحكمة والموعظة الحسنة، واعتماداً على الحُجَّة والمنطق والبرهان.
وعلّموهم أن ينظروا إلى الجانب المشرق من الآخر بدل التركيز على نقاط الضعف لديه، فقد روي أنّ عيسى بن مريم (عليهما السلام) مرّ والحواريون على جيفة كلب، فقال الحواريون: ما أنتن ريح هذا الكلب! فقال عيسى (عليه السلام): ما أشدّ بياض أسنانه! كأنه ينهاهم عن غيبة الكلب وينبههم
على أنّه لا يُذكر من خلق الله إلا أحسنه"[5].
وتجدر الإشارة إلى أنّ جهود الأنبياء(ع) على هذا الصعيد كانت جهوداً متتابعة ومتلاحقة، يكّمّل بعضها الآخر، فقد بَنَوْا (ع) بيتَ الأخلاق والمحبّة، بيتاً ركيزته الصدق والإخلاص، وسقفه الحب والوئام، وسياجه النبل والعفّة، ففي الحديث عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: "مثلي ومثل
الأنبياء كمثل رجل بنى بنياناً فأحسنه وأجمله! فجعل الناس يطيفون به (يدورون حوله) يقولون: ما رأينا بنياناً أحسن من هذه، إلاّ هذه اللبنة (إشارة إلى وجود لبنة خالية) فكنت أنا تلك اللبنة"[6].
وقد تقول: إنّا نجد في رسالات الأنبياء (ع) دعوة إلى الكراهية باسم الله تعالى؟! ألا نقرأ في بعض الأدبيات الإسلامية الدينية أنّ المطلوب من المؤمن أن "يحبّ في الله ويبغض في الله تعالى"؟!
وأخال أنّني قد استطعت في ثنايا هذا الكتاب وغيره من الكتب التي وفقني الله لتأليفها أن أقدّم إجابة على هذا التساؤل، وهي إجابة تنطلق من الاعتراف بأنّ ثمة تصوّراً عن الدين جعله مرادفاً للعنف والقسوة، وهذا التصوّر لا يزال حاضراً في أوساط المسلمين وله مدارسه ومعاهده الفكرية والفقهية
وله منابره الإعلامية القويّة، وإننا نرفض هذا التصوّر ونعتبره تصوّراً دخيلاً على الإسلام ومنافياً ليس للنصوص الإسلامية المعتبرة كتاباً وسُنَّة فحسب، بل ومغايراً للسياق العام الذي عرفه المسلمون في تاريخهم، فهو سياق رغم ما شابه من أخطاء وسلبيّات استطاع أن يحفظ التنوّع الديني والعرقي
ويفتح أفاق التطوّر والإبداع أمام المسلمين، وهذا ما جعلهم في صدارة الأمم آنذاك فبرعوا وتقدّموا في شتّى العلوم والمعارف والمجالات.
وأمّا مبدأ "البغض في الله تعالى" فقد فُهم فهماً خاطئاً من قبل أصحاب النظرة السطحية والفهم القشري والظاهري للنص الديني، فتصوّروا أنّه يمثّل دعوة إلى الكراهية والأحقاد باسم الله! مع أنّ المقصود به تنزيه قلوبنا ومواقفنا في مواجهة الآخرين المعادين لقضايانا العادلة والمحقّة عن الدوافع
الشخصانيّة والخاصّة، لتكون مواجهتنا لهم منطلقة من دوافع نزيهة ورسالية.
هذه بعض سمات المنهج الذي نحتاجه في مواجهة ثقافة الحقد.
رابعاً: الحقد ثقافة أم غريزة ؟
وربّما يقولنّ لي قائل: إنّكم تُخطِئونَ في قولكم: "ثقافة الحقد"، فمتى كان الحقد منتمياً إلى عالم الثقافة؟! إنّ الحقد حالة غرائزية تستحكم بالإنسان فيفقد معها توازنه والسّيطرة على أعصابه ويتراجع العقل أمام حمّى الغريزة.
ولا شكّ أنّ هذا الكلام يتحلّى بقدر كبير من المنطق والصدقيّة، إلاّ أنّ ما أردنا قوله في هذا المحور هو أنّ الحقد تارة ينطلق من خلفيّات ذاتيّة وعُقدٍ خاصّة وشخصيّة، وأخرى ينطلق من خلفيّة فكرية، وحديثنا هو عن النوع الثاني، أي عن الحقد الذي يتمّ إلباسه لبوساً دينياً، فهذا الحقد لا يصحّ أن
نتعامل معه باعتباره مجرّد انحراف أخلاقي وسلوكي، لأنّه قبل ذلك يمثّل انحرافاً في تصوّرنا الفكريّ عن الدين ودوره في الحياة، وبالتالي فإنّ كيفيّة العلاج سوف تختلف تبعاً لاختلاف تشخيصنا للمرض، فعندما يكون الحقد منطلقاً من مشكلة في الفكر والفهم فلا يُكتفى حينها في المعالجة بالتركيز
على البُعد التربوي البحت، كما هو الحال في الحقد المنطلق من خلفيّة شخصيّة، بل لا بدّ أن يصار قبل ذلك إلى تصحيح المفاهيم والرؤية لِتُبنَى التربية على ضوء ذلك.
الدين والحقد
ولا ينبغي الشكّ في أنّ الدين لا يمكن أن يعلّم الناس الحقد أو يعطي الحقد غطاءً شرعيّاً، كما أنّه ليس لدينا حقد مدان وآخر "مقدس"، فالحقد بكلّ أشكاله وألوانه هو خُلُق لئيم وطبع ذميم يتعالى عنه الأبي الكريم، وقد أحسن الإمام أمير المؤمنين (ع) في توصيف هذا الخلق القبيح وبيان عواقبه
وآثاره، وإليك بعض الكلمات القصار المرويّة عنه في هذا المجال، يقول (عليه السلام): فيما روي عنه: "الحقد ألأم العيوب"[7].
وعنه (عليه السلام): "الحقد شيمة الحَسَدَة "[8].
وعنه (عليه السلام): "الحقد من طبائع الأشرار"[9].
وعنه (عليه السلام): "رأس العيوب الحقد"[10].
عواقب الحقد الوخيمة
من هنا كان لزاماً على كلّ حرٍّ أبيّ النفس أن يطهّر نفسه من الغلّ والحقد، ويحاذر الوقوع في هذا المرض، هذا ناهيك بالآثار والعواقب الوخيمة التي يتركها الحقد على المجتمع برمته:
فمن جهة أولى، فإنّ أضرار الحقد على الاجتماع الإنساني واضحة بيّنة، فهو سوف يتسبّب بإثارة الفتن وتحريك النزاعات، وقد روي عن عليٍّ (عليه السلام): "سبب الفتن الحقد[11]، وعنه (عليه السلام): "سلاح الشرّ الحقد"[12].
ومن جهة أخرى، فإنّ الحقد سيودي بصاحبه قبل الآخرين، فهو يوتّر أعصابه ويخرّب عليه استقراره ويفسد عليه سعادته، لأنّه - الحقد - كتلة نار تحرق حاملها قبل غيره، ومن هنا فإنّك ترى أنّ الحقود لا يعرف الراحة ، وكما رُوي عن الإمام عليٍّ (عليه السلام): الحقود معذّب النفس، متضاعف الهمّ"[13].
وعن الإمام العسكري (عليه السلام): "أقلّ النّاس راحةً الحقود"[14].
علاج الحقد
وفي مقام علاج هذه الحالة المَرَضِيّة، فإنّ الخطوة الأولى التي يفترض بالإنسان الحقود أن يخطوها هي أن يتطلّع إلى ما أشرنا إليه للتوّ من عواقب الحقد الوخيمة وآثاره السيّئة على النفس والمجتمع، فإنّ التأمل في ذلك سيكون مدعاةً لتهذيب النفس وتطهيرها منه.
ونَزْعُ أسباب الحقد هو الخطوة الأخرى الناجعة على صعيد مواجهته، وهو ما أشار إليه الإمام عليّ (عليه السلام) في بعض الأحاديث المرويّة عنه، والتي تلفت نظرنا إلى بعض ما يورث الحقد ويُنتجه، وذلك في سياق الدعوة إلى ضرورة اجتنابه، يقول(ع) فيما روي عنه: "احتمل أخاك على ما
فيه، ولا تكثر العتاب، فإنّه يورث الضغينة ويجرّ إلى البغضة"[15].
وقد قدّمت لنا التعاليم الدينيّة أسلوباً رائعاً في كيفية تعامل الإنسان الحقود مع نفسه، بما يمكنه من التخلص من هذا المرض، وهي إلفات نظره إلى الاهتمام بمعايبه والانشغال بإصلاح نفسه قبل إصلاح الآخرين، وهذا الأسلوب هو ما عبّرت عنه كلمة الإمام عليّ (ع): "احصد الشرّ من صدر غيرك
بقلعه من صدرك"[16].
إلى ذلك، فإنّ الإيمان والحقد لا يلتقيان، فالمؤمن لا يكون حقوداً والحقود لا يكون مؤمناً، ومن هنا تشير الأحاديث الشريفة إلى أنّ حقد المؤمن هو شيء عابر ولا يستقر في النفس، ففي الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام): "حقد المؤمن مقامه، ثمّ يفارق أخاه فلا يجد عليه شيئاً، وحقد الكافر
دهره"[17].
وعنه (عليه السلام): "..والمؤمن يحقد ما دام في مجلسه، فإذا قام ذهب عنه الحقد[18].
وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله) - في صفة المؤمن -: " قليلاً حقده"[19].
من كتاب "وهل الدين إلا الحب؟"
نُشر على الموقع في 20-11-2015
[2] السنن الكبرى للبيهقي ج10 ص192.
[3] المحاسن للبرقي ج1 ص263.
[4] دعائم الإسلام ج 1 ص 71.
[5] كشف الريبة للشهيد الثاني ص 11، والصمت وآداب اللسان لابن أبي الدنيا ص 164، والدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي ج 2 ص 28 وشرح نهج البلاغة ج 9 ص 62.
[6] صحيح مسلم ج 7 ص 64، و65، وصحيح البخاري ج 4 ص 162.
[7] عيون الحكم والمواعظ ص41.
[8] عيون الحكم والمواعظ ص33.
[9] عيون الحكم والمواعظ ص66.
[10] عيون الحكم والمواعظ ص264.
[11] عيون الحكم والمواعظ ص281.
[12] عيون الحكم والمواعظ ص284.
[13] عيون الحكم والمواعظ ص 59.
[16] نهج البلاغة ج 4 ص 42.
[17] مستطرفات ابن إدريس الحلّي في السرائر ص 634 ، وعنه بحار الأنوار ج 72 ص 211.
[19] التمحيص ص 75 وعنه بحار الأنوار ج 64 ص 311.