ثقافة الحبّ والاستغناء عن القانون
الشيخ حسين الخشن
وثقافة الحبّ التي يراد لها أن تحكم العلاقات الإنسانية بمختلف دوائرها لن تغنيَ - بطبيعة الحال- عن القانون ولن تحلّ محلّه، لأنّ النظرة الواقعيّة إلى الأمور تعلّمنا أنّ الإنسان هو مخلوق ذو طبيعة تعيش تجاذبات داخلية مختلفة ومتضادة، بالإضافة إلى دخول عناصر خارجية تؤثر على إرادته
واختياراته.
وبعبارة أخرى: إنّنا عندما نتحدّث عن الإنسان فنحن نتحدّث عن عالم تتشابك فيه المصالح والمبادىء، وتتصارع فيه النفس اللوامة مع النفس الأمّارة، وتتزاحم فيه الغرائز والعواطف، وكثيراً ما ينتصر الحقد على الحبّ، وتنتصر الغريزة على العقل، وتتقدّم المصالح على المبادىء، وتلتهم الغرائز
إنسانيّة الإنسان وتحوله إلى وحش كاسر يفتك دون رحمة ويقتل دون إحساس أو شعور بالذنب، ومن هنا تنشأ حاجتنا إلى القانون الذي ينظّم ويحاسب ويحاكم، وحاجتنا إلى النظام الذي يحكم بالعدل ويمنع التعدي ويأخذ بيد الظالم والمجرم والمفسد، ولا شكّ أنّ صرامة القانون ستساهم في إيجاد قوّة
ردع في النفوس، وبذلك تحصل العبرة ويتعظ الآخرون من ذوي النوايا الإجرامية، وبهذا الاعتبار أو اللحاظ يكون القانون بما في ذلك قانون العقوبات رغم قسوته مظهر رحمة بالإنسانية، إذ لولاه لساد الهرج والمرج وعمّت الفوضى، فمبدأ المحاسبة أو نظام العقوبات هو لحماية الحياة الإنسانيّة
وحفظ استقرارها، وهذا ما أشارت له الآية المباركة، وهي قوله تعالى: {ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب} [البقرة 179]، فمحاسبة المجرم لا ترمي إلى التشفّي أو الانتقام منه، وإنّما تهدف إلى إصلاحه وتأديبه من جهة، وإصلاح وحماية المجتمع من جهة أخرى.
هذه هي فلسفة القانون ومبرّر وجوده، بيد أنّ ذلك لا يفقد القيم الأخلاقيّة وعلى رأسها قيمة الحبّ أهميتها في المجال الاجتماعي والإنساني، شريطة أن نعمل على تحويل هذه القيم إلى ثقافة عامة نبشّر بها ونربي الأجيال عليها، وهذا سوف يساعد على تحقيق الغاية التي من أجلها وضعت القوانين
وكانت الدساتير والشرائع، وهي تحقيق الانتظام والاستقرار الاجتماعي والاقتصادي والأخلاقي؛ إنّ مفعول المحبّة - إذا أحسّنا تربية الأجيال عليها- هو أقوى من كلّ القوانين وأبلغ أثراً من كلّ القرارات، إنّ القوانين بإلزاميتها وقسوتها وصرامتها تستطيع أن تحاسب المعتدي وتقتصّ من المجرم أو
تزجّه في السجون، لكنّها لن تملك أن تصنع منه إنساناً فاعلاً ينبض بالحبّ والعاطفة، إنساناً مشاركاً في صنع الحياة، فالقانون - ولو كان عادلاً - لا يعرف العاطفة ولا يرحم المعتدي والظالم، وإن كان مبدأ العقوبة هو مظهر رحمة بالإنسانية كما أسلفنا، أمّا قيمة الحبّ - عنيت بذلك حبّ الإنسان
للإنسان وحبّه للخير وللجمال - إذا ما ترجمناها إلى ثقافة عامة نبشّر بها وجسدناها في سلوكنا وسلوك من حولنا وحوّلناها إلى نماذجّ تحتذى وتقتدى، فإنّها ستخترق كلّ الحواجز والسدود وستخفف من الظلم والتعدّي والجريمة، فتكون بذلك صنواً للقوانين والتشريعات ومكمّلة لها، بل إنّها قد تلغي
الحاجة إليها في الكثير من الأحيان، لأنّ المتحابَيْن في الله أو في الإنسانية لن يسمحا لخلافهما في أيّ أمر من الأمور أن يتحوّل إلى صدام.
إنّنا نحتاج إلى قيمة الحبّ لا لأنّها تُخفِّف من حالات الرجوع إلى القانون والقضاء فحسب، بل نحتاج إليها حتى بعد تطبيق القانون وبعد الترافع إلى القاضي وصدور الحكم، فإنّ صرامة القانون وشدّته قد تُنَمِّي الأحقاد في النفوس وتجعل الشخص الذي طاله سيف القانون يفكر بالانتقام ويخطط له،
ومن هنا نجد أنّ الكثيرين من الناس الذين يدخلون السجون يخرجون منها بعد انتهاء محكوميتهم وهم أكثر إجراماً وعدوانيّة، ولهذا يكون من الضروري والملحّ العمل على إصلاح السجناء وَفْقاً لبرنامج تربويّ هادف، لا تركهم في حالة مزرية، لتكون النتيجة ما هي عليه الحال في الكثير من
السجون في بلداننا والتي يدخلها الشخص بسبب جنحة صغيرة ويخرج منها مجرماً محترفاً!
ومن جهة أخرى فإنّ من ينبض قلبه بالحبّ، حبّ الله وحبّ الإنسان، لن يتصرّف مع من يعتدي عليه أو يظلمه من منطلق التشفّي ولو قدر عليه وتمكّن منه، بل سيسمو به الحبّ ليعفوَ ويسامح، فالعفو عند المقدرة شيمة الكرام، والتشفّي والانتقام ولو من الظالم هو شيمة اللئام، يقول أمير المؤمنين
عليّ (ع): "فلا يكن أفضل ما نلت في نفسك من دنياك بلوغ لذة أو شفاء غيظ، ولكن إطفاء باطل وإحياء حقّ"[1].
بين العدل والعفو
ولهذا نجد أنّ الإسلام ومع تأكيده على مبدأ العدل المتمثّل في إعطاء المظلوم أو وليّه حقّ الاقتصاص من المجرم والظالم، فإنّه يشجّع على العفو، ويعتبر العفو أقرب للتقوى، قال تعالى: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة 237].
ومن هنا كان من الضروري أن نفرّق بين مقتضيات القانون الذي يحكمه منطق الحقّ العامّ وحفظ النظام والذي يفرض عدم التساهل مع المجرمين والمخليّن بأمن الناس، وبين مقتضيات التربية التي تتحرّك في خطّ تشجيع الفرد على الأخذ بقيم التسامح والرفق والعفو عن المسيئين فيما يتصل بحقه
الخاصّ، وهذا المعنى العميق في التفريق بين موجبات القانون ومقتضيات التربية قد أرشد إليه ونبّه عليه الإمام عليّ (ع)، فقد سئل (عليه السلام): أيّما أفضل العدل أو الجود؟
فقال عليه السلام: العدل يضع الأمور مواضعها، والجود يخرجها من جهتها، والعدل سائس عام ، والجود عارض خاص. فالعدل أشرفهما وأفضلهما"[2].
فانظر إلى هذه الحكمة البالغة والمنطقية، والتي سبق بها عليّ (ع) عصره حيث فرّق بين الحقّ العام والحقّ الخاص، وأكّد على أنّ العدل هو الأساس والقاعدة العامة التي لا بدّ من اعتمادها إزاء كلّ تجاوز للقوانين أو اعتداء على الآمنين، وأما العفو فيبقى حالة خاصة وقيمة أخلاقية لا تلغي
القانون ولا تعارضه.
ما يهمّنا التأكيد عليه هنا هو أنّ القوانين والشرائع وما ينبثق عنها من أنظمة ولا سيّما نظام العقوبات قد تستطيع أن تنتصر للمظلوم وتقتصّ من الظالم، وتساهم في تحقيق الأمن والاستقرار، وتحاصر الجريمة وتحدّ منها، إلاّ أنّ صرامة القوانين وشدّتها لا يجب أن تمتدّ إلى نفوسنا فتجعلها نفوساً
معبّأة بالحقد والقسوة، بل ينبغي أن تبقى هذه القلوب ملأى بقيم المحبة والتسامح والعفو والرحمة، وبذلك تظلّ هذه القلوب حرماً يستوطنه الله تعالى.
إنّ قلبك هو عرش الله فإذا سكنته الأحقاد خرج الله وفارقه إلى غير رجعة.
قوّة الحبّ وحبّ القوّة
وكما أنّ مبدأ الحبّ لا يلغي الحاجة إلى القانون حماية للنظام العام، فإنّه لا يلغي دور القوّة ومكانتها، باعتبارها الضامن لاستقرار الاجتماع البشري والحامي له من كلّ أشكال الغزو والعدوان، فالقوّة في منطق الإسلام ليست وسيلة للتسلط ولا يجوز استثمارها على نحو عدواني، وإنّما هي وسيلة
للحماية والدفاع، قال تعالى: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوّة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم..} [الأنفال 60]، وقال تعالى في آية أخرى: {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إنّ الله لا يحبّ المعتدين} [البقرة 190].
ومنعاً من تحوّل القوّة إلى طغيان أو تحوّل القوي إلى مستبد وظالم كما هي طبيعة الإنسان عندما يجد في نفسه قوة أو غنى، {إنّ الإنسان ليطغى أن رآه استغنى} [العلق 6 و7]، كان من الضروري أن تخضع القوّة إلى منطق العدل وأن تحصّنها منظومة من القيم الأخلاقية، وعلى رأس هذه القيم
تأتي قيمة الحبّ، فمن عاش حبّ الله وحبّ الناس فلا يستطيع أن يمارس الظلم والعدوان، لأنّ الحبّ لا يجتمع مع الحقد في قلب واحد.
ومن هنا اتضح أنّ قوّة الحبّ هي التي تُحصّن حبّ القوّة وشهوة التسلّط ونزعة الغنى لدى الإنسان من أن تتحوّل إلى طغيان أو استبداد.
دور الحبّ في التربية
وبالعودة إلى الحديث عن التربية فإنّ أفضل أساليبها فاعلية ونجاحاً هي تلك التي تستفيد من قيمة الحبّ وتعمل على إدخالها إلى فضاءاتها ومناهجها، لتتمّ التربيّة على قاعدة احتضان الطفل ورعايته والاهتمام به، بحيث "يلعب" المدرّس والمربّي معه دور الأب مع أبنائه، وليس دور الضابط مع
الجنود، فالبيت أو المدرسة ليست ثُكْنة عسكريّة يتلقّى فيها الطفل التعليمات والأوامر على طريقة " نفّذ ولا تعترض". إنّ محبّة الطفل ستجعل قلبه ملك المربي، ولا شكّ ولا ريب أنّ من يمتلك قلب الطفل فإنّه سيمتلك عقله، ويسهل عليه توجيهه ورعايته وتغيير سلوكه المنحرف والأخذ بيده حيث
يحبّ أو يريد، وقد أشار النبيّ (ص) إلى أهميّة حبّ الأطفال وضرورته، وذلك في الحديث المرويّ عنه (ص) وجاء فيه:"أحبّوا الصبيان وارحموهم وإذا وعدتموهم شيئاً ففوا لهم، فإنّهم لا يدرون إلا أنّكم ترزقونهم"[3].
وذكر الصبيان في الحديث ليس في مقابل الإناث كما قد يُتوهّم، وإنّما هو من باب المثال، ومن هنا وردت الوصيّة في البنات والدّعوة إلى الاهتمام بهن بشكل لا يقلّ عن الذكور، بل ربّما يزيد عليهم، ولا سيّما في ظلّ ذاك المجتمع العربي الذي زامن البعثة النبويّة، فهو مجتمع عُرِف عنه أنّه مجتمع
ذكوريّ إلى درجة امتهان المرأة ووأد البنات[4].
ففي الحديث عن رسول الله (ص): "إنّ الله تبارك وتعالى على الإناث أرأف منه على الذكور، وما من رجل يدخل فرحةً على امرأة بينه وبينها حرمة إلاّ فرّحه الله يوم القيامة"[5].
وفي الحديث عن الإمام الصادق (ع): "إنّ الله ليرحم العبد لشدّة حبّه لولده"[6].
وفي حديث آخر عنه (ع) قال: "جاء رجل إلى النبيّ (ص) فقال: ما قَبَّلت صبياً قطّ! فلما ولّى قال رسول الله (ص): هذا رجل عندي أنّه من أهل النار"[7]، والسرّ في حكمه (ص) على الرجل أنّه من أهل النار هو أنّ إنسانيّة الإنسان إنّما هي بعواطفه، فإذا خلا قلبه من الرحمة لفلذة كبده
وأقرب الناس إليه فكيف ترجى رحمته وخيره للآخرين؟ ومن لم يكن لديه قلب ينبض بالرحمة فلن تناله رحمة الله، لأنّه وكما ورد في الحديث: "الراحمون يرحمهم الرحمان إرحموا أهل الأرض يرحمْكم مَنْ في السماء"[8].
والمحبّة التي لا بدّ أن يأخذ بها المربي لا تنفي – بطبيعة الحال- حاجة العمليّة التربويّة إلى الحزم، فإنّ الحبّ غير المدروس قد يفسد أكثر ممّا يصلح، ولو أنّنا درسنا حياة الفاشلين من الناس لوجدنا أنّ الكثيرين منهم قد عاشوا في أجواء من "الدلال والغنج" في صغرهم، بحيث كان آباؤهم وأمّهاتهم
يوفّرون لهم كلّ طلباتهم ورغباتهم ولا يحاسبونهم على فعل شيء ولو كان قبيحاً، وقد جاء في المثل الصينيّ " إنّ للدلال ضحايا أكثر من ضحايا السيوف".
دور الحبّ في الصحة النفسيّة
وفي مجال آخر وهو غير بعيد عن حديثنا، فإنّ الأخذ بمبدأ الحبّ كمنهج في الحياة سيترك أثراً طيباً على صحة الإنسان النفسيّة والجسديّة وعلى استقراره الاجتماعي، لأنّ من يسيطر حبّ الله تعالى على قلبه وعقله وينظر إلى الأمور بمنظار التقدير الإلهي فإنّه سيرضى بكلّ ما يواجهه ويتعايش مع
كل الظروف والشدائد، كما أنّ من يدرب نفسه على محبة الناس ومداراتهم سوف يعيش حياة هانئة سعيدة ملؤها الأمل والرجاء والاستقرار.
وأمّا من يحمل في قلبه الحقد والكراهية فإنّه لن يحصد إلاّ الخيبة والخسران والتوتر النفسي والقلق الروحي.
الحبّ ودوره في عملية التغيير
ومن أهم الميادين أو المجالات التي يلعب فيها الحبّ دوراً بارزاً وفاعلاً ومؤثراً، مجال الحراك الثوري والجهادي الساعي إلى التغيير نحو الأفضل، فإنّ الملاحظ أنّ أكثر الناس استجابة لنداء التغيير والذين يحملون راية الجهاد في سبيل المبدأ والعقيدة هم أولئك الأشخاص الذين يمتلكون العواطف
الجياشة وتتملكهم الأحاسيس النبيلة والطاهرة. إنّ الإنسان الذي يعيش الله في قلبه ويتحسس آلام الناس ومعاناتهم لن يكون حيادياً في قضايا الحق والباطل ولن يجلس على التلّ بل سيندفع بكل حماسة إلى الميدان انتصاراً للمظلوم ورفضاً للظلم والظالمين.
ولا نبالغ إذا قلنا: إنّ حبّ المرء لوطنه وبلده هو الحافز الأقوى لانخراطه في العمل الجهادي والثوري الهادف إلى تحريره من رجس الاحتلال، كما أنّ حبّه للحياة الكريمة هو المحرّك والدافع له للقيام بالثورة في وجه الظلم والاستبداد والطغيان، لدرجة أنّه يسترخص في هذا السبيل بذل النفس
وهي أعزّ ما يملك، ويكون مستعداً للتضحية، دفاعاً عن البلاد والعباد، وفداءَ للعرض والشرف والدين، قال تعالى وهو يحدثنا عن مكانة الحبّ على هذا الصعيد : {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ
وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ,َ والَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر 9- 10].
وأمّا الإنسان المحبّ والعاشق لله تعالى فلن يسترخص الموت في سبيل القضية فحسب، وإنّما سيندفع إلى التضحية والشهادة بكل عشق، ويقدم في هذا السبيل كل ما يقدر عليه بكل حبّ وإخلاص، قال تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ .فَرِحِينَ بِمَا
آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [آل عمران 169- 170].
وهذا ما يجعل الشهيد يعيش حالة مميزة من الفرح الروحي والعشق إلى لقاء الله قبل أن يستشهد، ودعونا نقرأ سوية هذه الكلمات التي صدرت عن سيد الثائرين والشهداء أبي عبد الله الحسين(ع) وهي تعكس لنا بكل أمانة ودقة روحية الشهيد: روى إنّه عليه السلام لما عزم على الخروج إلى العراق
قام خطيبا فقال: الحمد لله ما شاء الله ولا قوة إلا بالله وصلى الله على جيد الفتاة وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف، وخير لي مصرع أنا لاقيه كأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء فيملأن منى أكراشاّ جوفا، وأجربة سغباً لا محيص عن يوم خطّ
بالقلم، رضى الله رضانا أهل البيت نصبر على بلائه ويوفينا أجر الصابرين، لن تشذ عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لحمته وهي مجموعة له في حظيرة القدس تقرّ بهم عينه وينجز بهم وعده، من كان باذلاّ فينا مهجته وموطناً على لقاء الله نفسه فليرحل معنا فإنني راحل مصبحاً
إنشاء الله"[9].
فانظر إلى قوله (ع): "ما أولهني"، والوله هو أعلى درجات الحب وأرفع منازل العشق التي يبلغها الإنسان بحيث تشد انتباهه وتستقطب أحاسيسه ومشاعره وتسخّر كل طاقاته في خدمة القضية التي يؤمن بها.
والحقيقة أنّ الإنسان لا يمكنه أن يصل إلى رتبة الشهادة، إلاّ إذا كان قلبه مفعماَ بالحب لله تعالى ولعيال الله، والناس كلهم عيال الله، ولو أنّنا درسنا حياة الشهداء، لاكتشفنا أنّهم أرهف الناس إحساساً وأرقهم شعوراً وأنبلهم خلقاً، وسيوافيك بعض النماذج المشرقة عن هذا السمو الروحي والإحساس
المرهف لدى شهداء كربلاء في محور لاحق بعون الله تعالى.
ومن الطبيعي أنّ وصول الإنسان إلى رتبة الشهادة ليس أمراً سهلاً ولا يتحقق ذلك بالادعاءات الفارغة ولا بالأماني العريضة، إنّه حصيلة مسار من مجهادة النفس وتربيتها على التحلّي بمكارم الأخلاق وتدريبها على تقديم الرسالة على الذات، والمبادىء على الأهواء، والقيم، ولا ريب أنّ الإنسان
كلّما كان أقرب إلى الفطرة وأبعد عن الارتباط بشبكة من المصالح والعلاقات الخاصة التي تشدّه إلى التفكير في السلامة والراحة والدعة فإنّه سيكون أقرب إلى أن يكون شهيداً وشاهداً، ومن هنا جاءت الوصية بالجيل الشاب، "عليك بِالأَحْدَاثِ فَإِنَّهُمْ أَسْرَعُ إِلَى كُلِّ خَيْرٍ"، كما ورد في الحديث
المروي عن الإمام الباقر(ع)[10].
أخلاقيات المجاهد والشهيد
وبما أنّ الشهيد الثائر هو شخص يحبّ الإيثار ويحمل روح الفداء ويؤثر مصلحة الجماعة والأمة على مصلحته الخاصة، فإنّ ذلك يجعله يتحرّك بحماس واندفاع وعشق للتضحية، لكنه لا يتحرّك بغضب وانفعال، فالحسّ الرسالي يبقى هو المحرّك الأساس له والمسيطر عليه، الأمر الذي يمنعه من
إيذاء الناس والإضرار بهم ويحصّنه من الأعمال الطائشة والممارسات العنيفة التي يغلب عليها روح الانتقام ويتحكم بها غرور الشخصية أو فائض القوة، ومن هنا فإنّه – أعني الشهيد - يأبى أن يسجل على نفسه القيام بأعمال خسيسة كالتمثيل والتنكيل بأجساد القتلى من أعداء الأمة، أو الخيانة
والغدر أو السرقة والنهب والسلب أو غير ذلك من مظاهر العبث والإفساد في الأرض، لأنّ من يقدم هذه "الأخلاقيات" هو في حقيقة الأمر ليس مجاهداً ولا يمكن أن يصبح شهيداً.
إنّ المجاهد الشهيد لا تسمح له روحيته وأخلاقه أن يعذّب عصفوراً أو طائراً ولا يحرق بيت نمل عبثاً، أو ما إلى ذلك من ممارسات، فضلاً عن أن يهتك ستر امرأة أو يقتل طفلاً أو يلجأ إلى أساليب الشتم والفحش ونحوها.
ومن هنا جاءت وصايا النبي الأكرم (ص) إلى أمراء الجند وكافة المقاتلين المسلمين بأن لا ينزلقوا إلى مثل هذه التصرفات، ففي الحديث الصحيح عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللَّه ص إِذَا بَعَثَ سَرِيَّةً دَعَا بِأَمِيرِهَا فَأَجْلَسَه إِلَى جَنْبِه وأَجْلَسَ أَصْحَابَه بَيْنَ يَدَيْه ثُمَّ قَالَ سِيرُوا بِسْمِ اللَّه وبِاللَّه
وفِي سَبِيلِ اللَّه وعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّه (ص) لَا تَغْدِرُوا ولَا تَغُلُّوا ولَا تُمَثِّلُوا ولَا تَقْطَعُوا شَجَرَةً إِلَّا أَنْ تُضْطَرُّوا إِلَيْهَا ولَا تَقْتُلُوا شَيْخاً فَانِياً ولَا صَبِيّاً ولَا امْرَأَةً وأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أَدْنَى الْمُسْلِمِينَ وأَفْضَلِهِمْ نَظَرَ إِلَى أَحَدٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَهُوَ جَارٌ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّه فَإِذَا سَمِعَ كَلَامَ اللَّه عَزَّ وجَلَّ فَإِنْ تَبِعَكُمْ
فَأَخُوكُمْ فِي دِينِكُمْ وإِنْ أَبَى فَاسْتَعِينُوا بِاللَّه عَلَيْه وأَبْلِغُوه مَأْمَنَه"[11].
وفي الحديث عن عبد الله بن مسعود، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فانطلق لحاجته، فرأينا حمرة معها فرخان، فأخذنا فرخيها، فجاءت الحمرة فجعلت تفرش، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "من فجع هذه بولدها؟ ردوا ولدها إليها"، ورأى قرية نمل قد حرقناها فقال:
"من حرق هذه"؟ قلنا: نحن، قال: "إنّه لا ينبغي أن يعذب بالنار إلا رب النار"[12].
إنّ حفظ كرامة الإنسان هي من المبادىء الإسلامية المقاصدية التي لا تقبل الاستثناء والتخصيص، انطلاقاً من قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء 70]، ولذا فمهما كانت ظروف المعركة قاسية
فعليك بمراعاة هذا المبدأ وعدم انتهاكه، لأنّك إنّما تقاتل – في جملة ما تقاتل لأجله – بهدف حفظ الكرامة الإنسانية.
وإذا كانت ظروف الحرب الإستثنائية لا تبيح للإنسان أن يتجاوز المبادىء الأخلاقية، ومن أهمّها مبدأ حفظ الكرامة الإنسانية، فبالأولى أن يكون الأمر كذلك في الظروف العادية، كما لو كان الإنسان يتصدّق على فقير أو مسكين أو يتيم، فإنّ تصدقه عليه لا يسمح له بأن يستعلي عليه أو يسحق
إنسانيته ويشعره بالمنّة، قال تعالى: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيم. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى..} [البقرة 263- 264 ].
واحترام مشاعر الناس وحفظ كراماتهم يتقدم في بعض الجوانب على العبادة نفسها، فقد كان رسول الله (ص) يراعي مشاعر الأطفال أثناء الصلاة[13]، ويدعو أيضاً إمام الصلاة إلى التخفيف على المصلين عندما يكون فيهم عجوز أو مريض، ففي الحديث عن علي أمير المؤمنين (ع) قال:
"وقد سألت رسول الله صلى الله عليه وآله حين وجهني إلى اليمن كيف أصلي بهم؟
فقال: "صل بهم كصلاة أضعفهم وكن بالمؤمنين رحيماً"[14].
وفي ضوء هذه الوصايا المفعمة بالحبّ والرحمة، فإنك تصاب بالصدمة والذهول إزاء ما يقوم به أصحاب المنهج التكفيري المتشدد من اللجوء اختياراً ودون مبرر إلى ارتكاب هذه الممارسات الفظّة والفظيعة والتي تقشعر لها الجلود أمام مرأى العالم، مغلّفين ذلك بشعارات إسلامية!
فهل يعقل أن يكون المسلم جهادياً ومشروع شهيد وهو يحمل هذا القدر من الحقد والكراهية واللؤم في حناياه، أو يكون رسالياً وهو يتحرك بعدوانية وقسوة منقطعة النظير؟!
وهل يطمع المسلم أن يكون شهيداً أو يجمعه الله مع الشهداء والصدّيقين وهو يمارس هذا القدر من التكبر والاستعلاء على عباد الله في تعبير واضح الدلالة على سقوطه في فخ الغرور الديني الذي سقط به جمع من أهل الكتاب من قبل، ممن حدثنا عنهم الحق سبحانه وتعالى في الذكر الحكيم بقوله
عزّ وجلّ: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [آل عمران 24 ]؟!
ألا يعرض هؤلاء أنفسهم على كتاب الله تعالى، وتحديداً على قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ
جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة 204 -206]؟! فإنّ هذه الآية لمن تدبرها تهزّ كيان الإنسان المسلم وتجعله دائم الحذر والمراقبة لنفسه وتصرفاته خشية أن يكون من أهلها.
ونظيرها في الدلالة قوله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آَيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا} [الكهف
103- 106].
ألا يحتمل أصحاب هذا المنهج أنهم المعنيون بنوءة سيد الأنبياء محمد (ص) في قوله - بحسب ما روي عنه -: "قوم في آخر الزمان حداث الأسنان سفهاء الأحلام يقولون من خير قول البرية لا يجاوز إيمانهم حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية.."[15].
ألا يرى هؤلاء تطابق أوصافهم وأفعالهم مع ما جاء في هذا الحديث الشريف؟!
إنني وبكل إخلاص أقول لهم: أعيدوا النظر في منهجكم التكفيري المتشدد وبادروا إلى القيام بمراجعة نقدية جادة لما أنتم عليه من حال وما تحملونه من أفكار وتقومون به من أعمال وممارسات، عسى أن يمنّ الله عليكم بالاهتداء إلى الطريق السوي، ويرفع عن بصائركم غشوات العمى .
من كتاب "وهل الدين إلا الحب؟"
نُشر على الموقع في 8-12-2015
[3] الكافي ج 6 ص 49، ومن لا يحضره الفقيه ج 3 ص483.
[4] تطرقنا إلى هذا الأمر بشكل مسهب في كتاب "حقوق الطفل في الإسلام" ص 165.
[8] سنن أبي داوود ج2 ص464، وبحار الأنوار ج74 ص167.
[9] أنظر كتاب اللهوف في قتلى الطفوف لابن طاووس ص 38.
[12] سنن أبي داوود ج 1 ص 603.
[13] لاحظ تفصيل ذلك في كتابنا "حقوق الطفل في الإسلام" ص 132.
[14] نهج البلاغة ج 3 ص 103.
[15] صحيح البخاري ج 8 ص 52