حوار مع مركز أفاق للدراسات والأبحاث: مشكلة الأديان تتشكل في الخطاب الفقهي    ثمن الحرية    أمثل الأساليب في عمليّة تهذيب النفس    مزايا الشباب    العمل سرّ النجاح    العبادة وعيٌ وانفتاح لا جهل وانغلاق    اقتناء أصنام الأمم البائدة    المفاهيم الدينية بين وجوب الاعتقاد وحرمة الانكار    البناء الاعتقادي بين الاجتهاد والتقليد    
 
بحث
 
تكريم الإنسان
 
س » هل ممكن إثبات وحيانية القرآن وعدم تحريفه من خلال مضمونه؟
ج »

إن الوحي الإلهي في عملية وصوله إلى البشر يحتاج إلى مرحلتين أساسيتين ليصلح كمصدر معصوم وعلى البشر الانقياد له، وهما:

المرحلة الأولى: مرحلة التلقي عن الله تعالى، بمعنى أنه حقاً وحي نزل من قِبل الله تعالى على رسول الله (ص).

المرحلة الثانية: مرحلة الصدور عن النبي (ص) والوصول إلينا سالماً من التحريف.

 

أما بالنسبة إلى المرحلة الثانية، أعني إثبات صحة صدوره عن رسول الله (ص) وعدم تعرضه للتحريف من بعده. فتوجد عشرات الدراسات والكتب والمصادر التي تؤكد على عدم تعرض القرآن الكريم للتحريف، وقد بحثنا هذا الأمر بشكل مفصل وأقمنا أدلة كثيرة على أنّ هذا القرآن هو عين القرآن الذي جمعه النبي (ص) ودونه وانتشر بعد ذلك بين المسلمين جيلاً بعد جيل، راجع كتابنا "حاكمية القرآن الكريم": الرابط  https://al-khechin.com/article/632

 

أما بالنسبة للمرحلة الأولى، أعني إثبات وحيانية الكتاب وأنه ليس مختلقاً من النبي (ص) أو من وحي الخيال، فهو أمر نستطيع التوثق منه بملاحظة العديد من العناصر التي - إذا ضمت إلى بعضها البعض - تورث الإنسان اليقين بأن هذا الكتاب لا يمكن إلا أن يكون وحياً من الله تعالى، وهذه العناصر كثيرة وأهمها:

 

أولاً: ملاحظة المنظومة المعرفية المتكاملة والرؤية الكونية والوجودية المتماسكة التي جاء بها القرآن، ففي عصر عرف بالجاهلية والخواء الفكري، يأتي محمد (ص) بكتاب يمثل منعطفاً تاريخياً بما يتضمنه من تأسيس معرفي لرؤية فكرية جديدة، إن فيما يتصل بالخالق وصفاته وعلاقة المخلوق به، أو رحلة المبدأ والمعاد، أو يتصل بالكون ودور الإنسان فيه، أو ما ما تضمنه من نظام اجتماعي وأخلاقي وروحي، وعلى القارئ الموضوعي للقرآن أن ينظر إليه نظرة واسعة وشمولية ولا يغرق في بعض الجزئيات المتصلة ببعض الآيات المتشابهة التي أشكل عليه فهمها بما يحجب عنه ما رسالة القرآن الحقيقية. وأنصحك بقراءة كتاب "وعود الإسلام" للمفكر والفيلسوف الفرنسي روجيه غارودي في هذا الشأن، وكتاب "الإسلام كبديل" للمفكر الألماني مراد هوفمان.

 

ثانياً: نظم القرآن، فإنّ كل منصف أمعن ويمعن النظر والتأمل والتدبر في آيات القرآن، لا مفر له من الاذعان أنّه أمام نصٍّ عظيم ومتميّز في تماسكه وتناسق موضوعاته وعلو مضامينه، وعمق معانيه، والقوة في حججه وبراهينه، والبلاغة العالية في أسلوبه المتميز عن النثر والشعر، وفي ألفاظه وجمله وتراكيبه مما يأخذ بالألباب والعقول. وسوف لن يتوانى عن الإقرار بأنّ هذا الكتاب هو - كما وصف نفسه - قول فصل: {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} [الطارق 13- 14] خالٍ من التناقض والاختلاف، {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء 82] وأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

 

باختصار: إنّ في آيات القرآن الكريم كيمياءً خاصة وروحاً عجيبة وعذوبة فائقة الجمال وقوة بيانية ومضمونية لا تضاهى، ولا شك أنّ من وطّن النفس على اتباع الحق وأصغى إلى آيات الكتاب بمدارك العقل ومسامع القلب سوف يرى فيها جاذبية ونورانيّة مميزة وروحانية عالية، كما أنّ فيها نُظماً راقية ومتقدمة لا يمكن أن تبلغ قوّتها وعمق مضامينها وتدفق معانيها أي نصوص أخرى. وهذا في الوقت الذي يدل على إعجاز القرآن فهو يدل أيضاً على عدم تعرضه للتحريف.

وإنّ الجاذبيّة المذكورة لآيات القرآن الكريم هي مما اعترف بها البلاغاء العرب وكثير من الحكماء من المسلمين وغيرهم، ولم يجرؤ فطاحلة الشعراء والأدباء من العرب أن يعارضوه بطريقة جديّة ذات قيمة رغم تحديه لهم ودعوتهم إلى معارضته، قال سبحانه: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [الإسراء 88] وما هذا إلا دليل على قوة القرآن وعدم وجود أية ثغرة فيه أو زيادة أو نقيصة.

 

ثالثاً: ملاحظة صفات الشخصية (ص) التي جاءت بهذا الكتاب، فهو شخص أمّي لم يدرس عند أحد ومع ذلك أتى بهذا القرآن بكل ما يتضمنه من تناسق مبدع ومضمون روحي ومعرفي غير مسبوق، وكذلك ملاحظة سيرته وأقواله وسلوكه الشخصي وخصائصه الذاتية التي تؤكد على تمتعه بأعلى درجات النزاهة والصدقية والطهارة، ومعلوم أنّ حياة الإنسان هي أهم مختبر لصدقية طروحاته ومقولاته، ويلي ذلك دراسة مشروعه الثقافي والحضاري وما تتضمنه رسالته من معارف ومفاهيم لم يعرف الإنسان عنها إلا القليل، ويلي ذلك ملاحظة إنجازاته وحجم التأثير والتغيير الذي أحدثه في المجتمع، والمقارنة بين ما جاء به وبين الموروث الثقافي في السائد في مجتمعه أو الذي جاءت به الكتب الأخرى، فإنّ البشر مهما كان عبقرياً لا يتسنى له أن يخرج عن الموروث الثقافي الذي يحكم بيئته الاجتماعية، فعندما ترى شخصا قد أوجد انقلاباً حضارياً معتمداً على منظومة فكرية وثقافية لا تمت بصلة إلى المستوى الثقافي لمجتمعه، فهذه القرائن وسواها قد تورث اليقين بصدقيته، أأسميتها معجزة أم لم تسمها.

 

رابعاً: أما بعض التفاصيل مثل قضية طول عمر الإنسان، أو قضية يأجوج ومأجوج، أو غيرها، فهي قضايا تسهل الإجابة عليها، ولا أعتقد أنها تشكل معضلة كبيرة، إذا أخذنا بعين الاعتبار أمرين:

 الأول: أن التجارب العلمية لا تزال تفاجئنا كل يوم بجديد وأنّ ما قد نخاله اليوم غير معقول قد يصدقه العلم بعد غد. 

 الثاني: إنّ فهم الكتاب وآياته، ليس محكوماً بالقراءة العرفية اللغوية، وأنّ ثمة مجالاً للقراءة الرمزية – على الأقل – بالنسبة لصنف من الآيات القرآنية.


 
س » هل صحيح إن الإسلام الحنيف لم يسمح لغير الفقهاء بالإفتاء الشرعي ، ولكن الكلام في العقيدة والمسائل الثقافية هو حقٌَ للجميع ، ولكن لابد أن يكون الكلام عن علم ومعرفة ؟
ج »
إن الافتاء بغير علم أمر مبغوض عقلا وشرعا، قال تعالى: وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (الإسراء ٣٦) 

 

ولا يفرق الحال في مبغوضية وكراهية الكلام بغير علم بين الفقه والعقيدة والتاريخ وغيرها من العلوم. ولا يجوز للإنسان، في كل ما لا يملك معرفته، أن يتحدث بضرس قاطع فيه. وبالتالي فإن على الجاهل أن يتعلم ويرجع إلى العالم. والرجوع إلى العالم، هو أيضا أمر عقلاني جرت عليه سيرة العقلاء، وقد أرشد إليه الشارع في قوله تعالى:  ۚ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (النحل ٤٣)
 
أجل، إذا كان ثمة فارق بين الحقل الفقهي والحقل العقدي، فليس لانه يحرم في الفقه الإفتاء لغير الفقهاء بينما في العقيدة يجوز ذلك لغير الفقهاء؛ كلا، إن كان ثمة من فارق، فهو أن على الإنسان في المجال العقدي أن يكون مجتهدا في أمهات قضايا العقيدة ولا يجوز له التقليد خلافا للمجال الفقهي حيث يجوز له التقليد، إلى غيرها من فوارق.. والله الموفق

 
 
  كتب >> قراءات في الكتب
قراءة في كتاب العقل التكفيري، خالد غزال



الشيخ حسين الخشن لبناني المولد، عضو هيئة أمناء مؤسسات المرجع الراحل محمد حسين فضل لله، الذي كان من القلائل في المؤسسة الدينية الذين قدموا اجتهادات في النص الديني والشريعة تتناقض مع الكثير من السائد في صفوف هذه المؤسسات، إضافة إلى معارضته لنظرية ولاية

الفقيه[1] الإيرانية، مما أثار عليه حنق رجال الدين والاحزاب التابعين لها، فاتهم بالكفر والارتداد والانحراف عن الخط السياسي للأحزاب والمذاهب الشيعية. كانت باكورة كتابات الشيخ الخشن كتابه :“الإسلام والعنف.. قراءة في ظاهرة التكفير” الذي صدر منذ حوالي عشر سنوات. يتابع في

كتابه الجديد العقل التكفيري : قراءة في المنهج الإقصائي” مناقشة هذه المسألة في الإسلام تحديدًا، ويقاربها من زاوية النصوص الدينية والأحاديث النبوية من جهة، ومن خلال المنهج العقلي وكل ما يتصل بحقوق الإنسان من جهة أخرى

.

ينطلق الشيخ الخشن من القول بأن التكفير ليس حالة جديدة أو مقتصرة على الإسلام، فهو ظاهرة إنسانية عامة وعابرة للطوائف عرفتها جميع الأديان التوحيدية من دون استثناء، كما مارستها الأيديولوجيات غير الدينية ذات الطابع الشمولي. وإذا كانت الظاهرة تبدو بادية على السطح بقوة في ما

يخص الدين الإسلامي من خلال أحزابه وتنظيماته السلفية والجهادية المتطرفة، إلا أن التاريخ المسيحي، قبل عدة قرون، كان أشد وحشية في التزام ظاهرة التكفير والقتل استنادًا إليها، ولم ينج منها مؤمنون وعلماء وأدباء وفلاسفة. من موقعه كرجل دين، يحاول الشيخ استقراء المنهج الإسلامي

القرآني والنبوي في إدارة الاختلاف بين المسلمين أنفسهم وبين غيرهم من أبناء الطوائف الأخرى. إسلامياً، لا يرى أن “ثقافة” جز الرقاب وقطع الأعناق وليدة عصرنا الراهن، بل هي تمتد إلى العصور الإسلامية الأولى، وتحديدًا إلى ما بعد معركة صفين ونشوء فرقة الخوارج التي استباحت دماء

المسلمين من أنصار الإمام علي ومعاوية على السواء. تتركز مقارباته في قسم أول على النصوص الدينية ومحاولة تطويعها لجعلها بعيدة عن تهمة التكفير. وعلى رغم أن الشيخ ينتمي الى المؤسسة الشيعية، إلا أنه يحاول أن تطال مقارباته مجمل الإسلام بمذاهبه المختلفة

.

يرى الشيخ أن أحد شروط خروج الأمة الإسلامية من نفق التكفير والتكفير المضاد وتداعياته، لن يكون ممكناً إلا بعد الإتفاق على ضوابط الإسلام والكفر ورسم الحدود الفاصلة بينهما. يقول :“إن التأمل الدقيق في الكتاب والسنة يقودنا إلى القول : أركان الإسلام التي يلزم الاعتقاد بها هي على

نوعين: اــ الأركان التي يقوم بها الإسلام ويكون للإيمان بها موضوعية تامة في انتساب الإنسان إلى الإسلام، وإنكارها، أو إنكار واحدة منها هو في نفسه موجب للكفر (الإيمان بالله ووحدانيته، الإيمان بنبوة محمد، الإيمان بالمعاد). 2ــ الأركان التي يلزم الأيمان بها أو العمل بمضمونها دون أن

يكون إنكارها مستلزما للكفر (كل ما يعرف بضرورات الدين العقدية :العصمة عند النبي، الإمامة عند الشيعة..)” . إذا كان النوع الأول يوجب التكفير، فإن النوع الثاني وما تبعه خصوصا من اجتهادات وضعت في مراحل زمنية مختلفة خصوصاً في القرون الأخيرة لا تحتم الكفر، وإن كان بعض

رجال الدين قد خلطوا بين الأصول في الدين وبين ما يعرف بالفروع، فبات كل من يعارض فتاواهم يرمى بالكفر

.

يطرح الشيخ سؤالاً جوهرياً يتصل بمفهوم إسلامي سائد حول أن كل من ليس مسلماً فهو بكافر، وهو قول لم يأت اجتهادًا فقهياً، لأن النص القرآني يقول بصريح العبارة “إن الدين عند الله الإسلام”، فيحاول إيجاد مخارج لهذه الآية، فيعتبر أن الكفر ليس مجرد إنكار الأصول الأساسية للإيمان أو

التشكيك بها ، بل هو الجحود بتلك الأصول، فيما لا يرمى الباحث المتشكك في العقيدة بالكفر “لأن الشك ليس جحودًا”. ينتقد المسارعة في التكفير، في ظل موجة سائدة اليوم من التكفير والتكفير المضاد من دون ضوابط أو قيود. يشير إلى أن الأمة“ابتليت بجماعة من إنصاف المتفقهين الذين

يتعجلون في الإفتاء بارتداد من يخالفهم الرأي في بعض المسائل العقائدية أو حتى الفقهية والتاريخية”. أما الضوابط فيراها خمسة : التثبت من الكفر، العلم بالمكفرات، العمد أو القصد، الاختيار، إنتفاء الشبهة"   .

 

في نقاشه للضوابط الشرعية والأخلاقية، يتطرق الشيخ إلى عدد من المسائل التي تحاول الحد من غلو التكفير والمكفرين في الإسلام. يتساءل :“هل الأصل في الإنسان أن يكون محترم النفس والعرض والمال بصرف النظر عن معتقده ودينه وعرقه، أم أن الأصل هو عدم الإحترام إلا من أخرجه

الدليل وهو المسلم أو من كان بينه وبين المسلمين عقد معين يمنحه الإحترام؟”. إذا كان بعض الفقهاء يرفضون إعطاء حرمة واحترام لغير المسلم ، فإن الشيخ يرفض هذه التوجهات معطياً الأولوية للإنسان بشكل مطلق بصرف النظر عن دينه، لأن الإنسان هو خليفة الله على الأرض وهو في

موضع التكريم الإلهي، والتكريم هو “لابن آدم وليس لجماعة دينية أو عرقية أو قومية بعينها”. وإن الشريعة الإسلامية، على غرار كل الشرائع السماوية هدفت إلى تحقيق العدل في الأرض، والرسل أتوا لتحقيق هذه الغاية. كما أن الإسلام، وفق ما يراه الشيخ، لم يلزم غير المسلمين بالعبادات

والطقوس الإسلامية، بل منح أهل الكتاب منهم حرية دينية كاملة. كما أن القاعدة الأساسية في الإسلام هي محقونية الدماء وعصمتها بغض النظر عن هوية أصحابها المذهبية والدينية. كما يشيرالشيخ إلى أن الإسلام لا يدعو إلى القطيعة مع الآخر، بل يدعو إلى الانفتاح على الآخر مع اشتراط

الحفاظ على الهوية، لكن المشكلة تكمن في فتاوى الفقهاء التي تدعو إلى الانفصال والقطيعة مع غير المسلم، بما يؤسس للحقد والكراهية واستخدام العنف .

 

يناقش الشيخ الخشن دوافع التكفير وعوامل نشوئه وآثاره السلبية، يعتبر أن الظروف الاجتماعية القاسية وما يستتبعها من قهر وظلم واستبداد سياسي تشكل تربة خصبة لنشوء ظاهرة التكفير، وتساعد العوامل السياسية في تسعير الظاهرة. يعدد جملة عناصر ساهمت ولا تزال في تكريس التكفير،

منها العقل العربي في تقديس التراث الإسلامي، الذي يشكل أحد عناصر التكفير الأساسية. يحتاج هذا التراث إلى نقد وغربلة وإخضاعه للمقاييس التاريخية المتصلة بزمانه ومكانه. لعل أهم ما يستدعي في نقد التراث هو الأحاديث النبوية وأحاديث الصحابة والأئمة، التي يجب أن تخضع للتحليل

العقلي والمقاييس العلمية، وذلك لما يحيط بها من شكوك، بالنظر إلى ارتباط توسعها بالصراعات الاجتماعية والسياسية في عصور الإسلام، واختراع كل فرقة أو طرف لجملة أحاديث تصب في خدمة مشروعه السياسي في السلطة. ويعتبر الشيخ أن النموذج الأبرز لأحاديث التكفير تلك المتعلقة

بالفرقة الناجية، حيث ترى كل فرقة أو مذهب أو طائفة أنها الفرقة الناجية فيما الآخرون على ضلال ومصيرهم جهنم وبئس المصير.

 

ومن عوامل نشوء التكفير تلك النظرة السطحية إلى تعاليم الدين وقيمه الإنسانية والأخلاقية والروحية، وهي نظرة تصدر عن جهل وتسبب الانغلاق وبالتالي الصدام. تتمثل هذه الظاهرة برجال دين نبتوا كالفطر في العقود الأخيرة، يحملون في تعاليمهم وإرشاداتهم القليل من الدين والكثير من

التحريض الطائفي والمذهبي، سواء تجاه المسلم أم غير المسلم. ترتبط بهذه الظاهرة المبالغة في التشدد الديني، ليس الجوهري منه بمقدار الشكلي والسطحي، بحيث وصل الأمر ببعضهم إلى درجة المزايدة على الأنبياء والأولياء.

 

يخصص الشيخ الخشن فصلا من كتابه في توصيف الشخصية التكفيرية، فيرى أنها محكومة بالاستعلاء والغرور وادعاء امتلاكه الجنة، إضافة إلى الحقيقة المطلقة التي وحده ينطق بها. هذه الشخصية تتلهى بالصغائر والشكليات وتتجاهل أساسيات الدين، لجهل بها أحياناً كثيرة. ولعل أبرز ميزات

هذه الشخصية اعتماد العنف والقسوة في مواجهة الآخر، وعدم الاعتراف برأي مخالف لرأيه. وتتسم هذه الشخصية أيضاً بالانكباب الأعمى والشكلي على العبادات، وتهتم بجعل الجباه سوداء من كثرة السجود، وللهج دائماً بذكر الله إظهارًا لتدينهم، ناهيك عن إطالة اللحى واللباس الخاص تدليلاً

على هويته وطبيعته. وهذه الشخصية تتسم بالانغلاق وتبدو معلبة في إطار محدد، وتشدد على إحلال الثقافة التعبدية محل الثقافة العقلانية النقدية. وهي إلى جانب ذلك مصابة بالتسليم الأعمى للسلطة سواء أكانت سياسية أم دينية، والتنظير للطاعة والاستسلام

 

من موقعه كرجل دين، يقدم الشيخ الخشن بعض التوجهات التي تضع حدًا للعقل التكفيري أو تحد من غلوائه، فيرى ضرورة لوضع حد للفوضوية الشاملة في شأن التكلم عن الدين ووضع حد لهؤلاء الذين يسرحون ويمرحون في التحليل والتحريم. وفي موضع التراث، يرفض الدعوة إلى القطيعة

معه بمقدار رفض تقديسه، وهو ما يستوجب التدقيق بما لا يزال متناسباً مع العصر، واعتبار نصوصه متصلة بزمن وضعها ومكان صدورها. ويرفض حصر النصوص الإسلامية بالمصطلحات الموروثة من التراث، بل واجب المسلمين الانفتاح على المفاهيم السياسية والاجتماعية، لأن الالفاظ

والمفاهيم ليست مقدسة، وعلى سبيل المثال لا داعي للإعراض عن كلمة الديمقراطية تحت حجة أن هناك مفهوم الشورى الكافي للتعبير عن هذا المفهوم السياسي. ويدعو أخيرًا إلى خطاب إسلامي متوازن بما يراعي حاجات العقل والقلب على السواء.

 

مما لا شك فيه أن مقاربة الشيخ الخشن للعقل التكفيري، وقبله لظاهرة العنف في الإسلام، تعتبر خطوات متقدمة من أحد أركان المؤسسة الدينية، وهي مقاربة نادرة لدى رجال الدين المسلمين لأي طائفة أو مذهب انتموا. لكن النقاش مع الشيخ والمؤسسة الدينية يجب أن ينطلق من كون الاتهام

بالتكفير هو هرطقة بحد ذاتها. نظرياً، يرتبط التكفير بالاعتقاد الديني أو عدمه وبالارتداد عن الدين. إن وقائع التاريخ تظهر كم أن مسألة الإيمان بالله أو اللإيمان لم يكونا يشكلان سوى القشرة التي تختفي وراءها نزعة الصراعات السياسية والاجتماعية والهيمنة على السلطة من قبل الطوائف

والمذاهب والفرق، سواء أكان ذلك في المسيحية أم في الإسلام. وبالنظر إلى أن ظاهرة التكفير تشكل اليوم سمة إسلامية غالبة، يصبح من الضروري نقاشها من جوانب متعددة في وصفها هرطقة بكل معنى الكلمة ولا تنتسب إلى الدين الحق وجوهره بأي صلة.

 

إن مسألة الإيمان بالله وفق المعتقدات اللاهوتية مسألة جوانية تتصل بداخلية الإنسان في علاقته بربه. لا أحد يستطيع أن يدخل إلى قلب إنسان ليعرف ما إذا كان مؤمناً أم غير مؤمن. الله وحده يعلم ما في القلوب، كلام تردده الأديان جميعها، مما يعني أن لا احد يمكنه الجزم في إيمان إنسان أو عدم

إيمانه. إذا كان الرأي الشائع لدى المؤسسات الدينية أن مقاييس الإيمان والالتزام بالدين هي ممارسة الطقوس والشعائر والإكثار من الذهاب إلى الكنائس والجوامع، فهذه حجة لا تقدم ولا تؤخر في صدقية الإيمان أم عدمه. تفتح هذه النقطة على الجوهري في الرسالة الدينية، وهي القائمة على

الأخلاق والمعاملة الحسنة للناس ومحبة المرء للآخرين كما يحب لنفسه والتفاني في خدمة المظلومين، والتسامح والمغفرة لمن أساء إليك، والرحمة اللامتناهية كما يفتتح القرآن سوره بالآية “بسم الله الرحمن الرحيم”.. أي أن الدين هو الأخلاق والمعاملة، وهذه عمليا تشكل مقياس الإيمان بالله

ورسالته السماوية، وليس الإكثار من السجود والتراتيل والأناشيد وغيرها.

 

إذا كانت تلك مقاييس الالتزام بالأديان، فكيف يحق لرجل الدين هذا أو ذاك أو لأي مؤسسة أن ترمي المرء بالكفر استنادًا إلى شكليات الممارسة الدينية وليس إلى جوهر هذه الممارسة؟ ومن يضمن لنا أن رجل الدين هذا، كبر شأنه أم صغر هو مؤمن فعليا؟ هل دخل أحدإالى قلبه ليحسم في إيمانه؟

وهل تصنيفه أنه رجل دين يعني آلياً ذروة الإيمان والحق في الحكم على البشر؟ وهل أعطاه الله سلطة تصنيف البشر أم أن هذه السلطة هي بشرية بامتياز ولا يحق له اعتبارها إلهية ينوب فيها عن الله في التصنيف أن هذا الإنسان كافر أو مؤمن؟. لذا لا يحق لرجل الدين مهما كان شأنه الدخول

في تصنيف الناس وفق النوايا أو بحسب ما يرغب استنادًا الى عدم التوافق مع رأي هذه المؤسسة الدينية أو تلك.

 

منذ قيام الأديان وتحولها مؤسسات كهنوتية، لم ينقطع الصراع حول حق المرء في أن يلتزم هذا الدين أم لا يلتزمه. في الإسلام نفسه ترد نصوص تقول بحرية المرء في اختيار الدين أو عدم الاختيار. “لا إكراه في الدين”، آية تمثل ذروة حرية الإنسان في الإيمان بالله ورسله، أو بالالتزام بغير الدين

الإسلامي وبحرية البشر في اختيار الدين الذي يرغبون فيه، أو حتى في رفض الالتزام بأي دين. المقياس يظل كيف يمارس الإنسان في الحياة العملية وكيف يطبق جوهر الرسالة الدينية بما هي الأخلاق والتسامي الروحي والعلاقات الإنسانية الحسنة. تغض المؤسسات الدينية النظر عن آيات

الحرية في الالتزام الواردة في النص القرآني المقدس، وتذهب إلى إظهار آيات التكفير لمن لا يؤمن بالله ورسوله.

 

لا أحد ينكر أن القرآن يحوي آيات تندد بالكافرين وتدعو إلى قتلهم أحيانا، بما يبدو مناقضاً كلياً للآيات التي تشدد على حرية المرء في اختيار دينه. انجدلت آيات التكفير بآيات العنف في القرآن، وهي نزلت في مرحلة نشر الدعوة الإسلامية وما واجهها من تحديات ومعاداة لها وللرسول. هذه الآيات

لها ظروفها التاريخية التي لم تعد نفسها اليوم. المشكلة المركزية التي يعاني منها الإسلام خصوصاً في مرحلته الراهنة تتصل بكيفية التعاطي مع النص المقدس وقراءته. عندما يتم الفصل في النص على ما هو جوهري في الرسالة المحمدية وهو الدعوة إلى الإيمان بالله وتطبيق مباديء الأخلاق

والمحبة بين البشر، وهي مباديء تتجاوز الزمان والمكان، وبين آيات نزلت لأسباب محددة تتصل بظروف تاريخية كانت سائدة، وانتهت مفاعيلها مع انتهاء تلك المرحلة التاريخية وظروفها التي استددعت نزولها، عندها فقط يستعيد النص الديني جوهر الأهداف والقيم التي يدعو إليها في الأصل. هذا

التمييز ينزع عن الإسلام أنه دين العنف، ويجرد تنظيمات الإسلام السياسي من خطف الإسلام واعتبار ما ورد في آيات العنف والتكفير هي الإسلام وحده. في أي حال، لا يحتاج الأمر إلى تفكير ليرى أن عدم التمييز في آيات النص المقدس جعلت من التنظيمات المتطرفة تدعي أنها تطبق الإسلام

ودليلها على ذلك الآيات الواردة في القرآن. هكذا نجد أن سوق التكفير رائج على كل الجبهات، بحيث نشهد عليه يومياً بتكفير هذا الطرف لذاك ورميه بارتداد ثم ممارسة التنكيل والقتل بحق أبنائه، كله تطبيقا لكلام الله ورسوله.

 

لم تعد حرية الاعتقاد مسألة دينية في العصر الحديث، بل باتت جزءًا لا يتجزأ من حقوق الإنسان العامة، وتمثل جوهر التقدم البشري ومدى تجاوز موروثات التخلف. لم يعد الدين، أي دين، مرجعاً في ما يحق للإنسان أو ما لايحق، بل باتت شرعة حقوق الإنسان والمواطن هي المقياس لحرية

الإنسان والخروج من العبودية والحق في التعبير والالتزام والاعتقاد. تختصر هذه الفقرات حقوق الإنسان كما وردت في الإعلان العالمي، الصادر عن الأمم المتحدة، والذي بات المرجع الأساسي في هذه المسائل :“يولد جميع الناس أحرارًا متساوين في الكرامة والحقوق، وقد وهبوا عقلاً وضميرًا،

وعليهم أن يعامل بعضهم بعضاً بروح الإخاء.. لكل شخص الحق في حرية التفكير والضمير والدين، ويشمل هذا الحق حرية تغيير ديانته أو عقيدته، وحرية الإعراب عنهما بالتعليم والممارسة وإقامة الشعائر ومراعاتها، سواء أكان ذلك سرًا أم جهرًا، منفردًا أم مع الجماعة... لكل شخص الحق في

حرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حرية اعتناق الآراء دون أي تدخل، واستقاء الأنباء والأفكار وتلقيها وإذاعتها بأية وسيلة كانت دون تقيد بالحدود الجغرافية”.

 

نُشر على الموقع الرسمي للشيخ حسين الخشن في 12-5-2016

الرابط للمقال على الصفحة الإلكترونية "الأوان" http://alawan.org/article15083.html



[1]  إنّ هذه النسبة حول الموقف السلبي لسماحة السيد فضل الله من ولاية الفقيه تحتاج إلى تدقيق (الموقع الرسمي للشيخ حسين الخشن)

 






اضافة تعليق

الاسم *

البريد الإلكتروني *

موضوع *

الرسالة *


 


 
  قراءة الكتب
 
    Designed and Developed
       by CreativeLebanon