حوار مع مركز أفاق للدراسات والأبحاث: مشكلة الأديان تتشكل في الخطاب الفقهي    ثمن الحرية    أمثل الأساليب في عمليّة تهذيب النفس    مزايا الشباب    العمل سرّ النجاح    العبادة وعيٌ وانفتاح لا جهل وانغلاق    اقتناء أصنام الأمم البائدة    المفاهيم الدينية بين وجوب الاعتقاد وحرمة الانكار    البناء الاعتقادي بين الاجتهاد والتقليد    
 
بحث
 
تكريم الإنسان
 
س » هل ممكن إثبات وحيانية القرآن وعدم تحريفه من خلال مضمونه؟
ج »

إن الوحي الإلهي في عملية وصوله إلى البشر يحتاج إلى مرحلتين أساسيتين ليصلح كمصدر معصوم وعلى البشر الانقياد له، وهما:

المرحلة الأولى: مرحلة التلقي عن الله تعالى، بمعنى أنه حقاً وحي نزل من قِبل الله تعالى على رسول الله (ص).

المرحلة الثانية: مرحلة الصدور عن النبي (ص) والوصول إلينا سالماً من التحريف.

 

أما بالنسبة إلى المرحلة الثانية، أعني إثبات صحة صدوره عن رسول الله (ص) وعدم تعرضه للتحريف من بعده. فتوجد عشرات الدراسات والكتب والمصادر التي تؤكد على عدم تعرض القرآن الكريم للتحريف، وقد بحثنا هذا الأمر بشكل مفصل وأقمنا أدلة كثيرة على أنّ هذا القرآن هو عين القرآن الذي جمعه النبي (ص) ودونه وانتشر بعد ذلك بين المسلمين جيلاً بعد جيل، راجع كتابنا "حاكمية القرآن الكريم": الرابط  https://al-khechin.com/article/632

 

أما بالنسبة للمرحلة الأولى، أعني إثبات وحيانية الكتاب وأنه ليس مختلقاً من النبي (ص) أو من وحي الخيال، فهو أمر نستطيع التوثق منه بملاحظة العديد من العناصر التي - إذا ضمت إلى بعضها البعض - تورث الإنسان اليقين بأن هذا الكتاب لا يمكن إلا أن يكون وحياً من الله تعالى، وهذه العناصر كثيرة وأهمها:

 

أولاً: ملاحظة المنظومة المعرفية المتكاملة والرؤية الكونية والوجودية المتماسكة التي جاء بها القرآن، ففي عصر عرف بالجاهلية والخواء الفكري، يأتي محمد (ص) بكتاب يمثل منعطفاً تاريخياً بما يتضمنه من تأسيس معرفي لرؤية فكرية جديدة، إن فيما يتصل بالخالق وصفاته وعلاقة المخلوق به، أو رحلة المبدأ والمعاد، أو يتصل بالكون ودور الإنسان فيه، أو ما ما تضمنه من نظام اجتماعي وأخلاقي وروحي، وعلى القارئ الموضوعي للقرآن أن ينظر إليه نظرة واسعة وشمولية ولا يغرق في بعض الجزئيات المتصلة ببعض الآيات المتشابهة التي أشكل عليه فهمها بما يحجب عنه ما رسالة القرآن الحقيقية. وأنصحك بقراءة كتاب "وعود الإسلام" للمفكر والفيلسوف الفرنسي روجيه غارودي في هذا الشأن، وكتاب "الإسلام كبديل" للمفكر الألماني مراد هوفمان.

 

ثانياً: نظم القرآن، فإنّ كل منصف أمعن ويمعن النظر والتأمل والتدبر في آيات القرآن، لا مفر له من الاذعان أنّه أمام نصٍّ عظيم ومتميّز في تماسكه وتناسق موضوعاته وعلو مضامينه، وعمق معانيه، والقوة في حججه وبراهينه، والبلاغة العالية في أسلوبه المتميز عن النثر والشعر، وفي ألفاظه وجمله وتراكيبه مما يأخذ بالألباب والعقول. وسوف لن يتوانى عن الإقرار بأنّ هذا الكتاب هو - كما وصف نفسه - قول فصل: {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} [الطارق 13- 14] خالٍ من التناقض والاختلاف، {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء 82] وأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

 

باختصار: إنّ في آيات القرآن الكريم كيمياءً خاصة وروحاً عجيبة وعذوبة فائقة الجمال وقوة بيانية ومضمونية لا تضاهى، ولا شك أنّ من وطّن النفس على اتباع الحق وأصغى إلى آيات الكتاب بمدارك العقل ومسامع القلب سوف يرى فيها جاذبية ونورانيّة مميزة وروحانية عالية، كما أنّ فيها نُظماً راقية ومتقدمة لا يمكن أن تبلغ قوّتها وعمق مضامينها وتدفق معانيها أي نصوص أخرى. وهذا في الوقت الذي يدل على إعجاز القرآن فهو يدل أيضاً على عدم تعرضه للتحريف.

وإنّ الجاذبيّة المذكورة لآيات القرآن الكريم هي مما اعترف بها البلاغاء العرب وكثير من الحكماء من المسلمين وغيرهم، ولم يجرؤ فطاحلة الشعراء والأدباء من العرب أن يعارضوه بطريقة جديّة ذات قيمة رغم تحديه لهم ودعوتهم إلى معارضته، قال سبحانه: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [الإسراء 88] وما هذا إلا دليل على قوة القرآن وعدم وجود أية ثغرة فيه أو زيادة أو نقيصة.

 

ثالثاً: ملاحظة صفات الشخصية (ص) التي جاءت بهذا الكتاب، فهو شخص أمّي لم يدرس عند أحد ومع ذلك أتى بهذا القرآن بكل ما يتضمنه من تناسق مبدع ومضمون روحي ومعرفي غير مسبوق، وكذلك ملاحظة سيرته وأقواله وسلوكه الشخصي وخصائصه الذاتية التي تؤكد على تمتعه بأعلى درجات النزاهة والصدقية والطهارة، ومعلوم أنّ حياة الإنسان هي أهم مختبر لصدقية طروحاته ومقولاته، ويلي ذلك دراسة مشروعه الثقافي والحضاري وما تتضمنه رسالته من معارف ومفاهيم لم يعرف الإنسان عنها إلا القليل، ويلي ذلك ملاحظة إنجازاته وحجم التأثير والتغيير الذي أحدثه في المجتمع، والمقارنة بين ما جاء به وبين الموروث الثقافي في السائد في مجتمعه أو الذي جاءت به الكتب الأخرى، فإنّ البشر مهما كان عبقرياً لا يتسنى له أن يخرج عن الموروث الثقافي الذي يحكم بيئته الاجتماعية، فعندما ترى شخصا قد أوجد انقلاباً حضارياً معتمداً على منظومة فكرية وثقافية لا تمت بصلة إلى المستوى الثقافي لمجتمعه، فهذه القرائن وسواها قد تورث اليقين بصدقيته، أأسميتها معجزة أم لم تسمها.

 

رابعاً: أما بعض التفاصيل مثل قضية طول عمر الإنسان، أو قضية يأجوج ومأجوج، أو غيرها، فهي قضايا تسهل الإجابة عليها، ولا أعتقد أنها تشكل معضلة كبيرة، إذا أخذنا بعين الاعتبار أمرين:

 الأول: أن التجارب العلمية لا تزال تفاجئنا كل يوم بجديد وأنّ ما قد نخاله اليوم غير معقول قد يصدقه العلم بعد غد. 

 الثاني: إنّ فهم الكتاب وآياته، ليس محكوماً بالقراءة العرفية اللغوية، وأنّ ثمة مجالاً للقراءة الرمزية – على الأقل – بالنسبة لصنف من الآيات القرآنية.


 
س » هل صحيح إن الإسلام الحنيف لم يسمح لغير الفقهاء بالإفتاء الشرعي ، ولكن الكلام في العقيدة والمسائل الثقافية هو حقٌَ للجميع ، ولكن لابد أن يكون الكلام عن علم ومعرفة ؟
ج »
إن الافتاء بغير علم أمر مبغوض عقلا وشرعا، قال تعالى: وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (الإسراء ٣٦) 

 

ولا يفرق الحال في مبغوضية وكراهية الكلام بغير علم بين الفقه والعقيدة والتاريخ وغيرها من العلوم. ولا يجوز للإنسان، في كل ما لا يملك معرفته، أن يتحدث بضرس قاطع فيه. وبالتالي فإن على الجاهل أن يتعلم ويرجع إلى العالم. والرجوع إلى العالم، هو أيضا أمر عقلاني جرت عليه سيرة العقلاء، وقد أرشد إليه الشارع في قوله تعالى:  ۚ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (النحل ٤٣)
 
أجل، إذا كان ثمة فارق بين الحقل الفقهي والحقل العقدي، فليس لانه يحرم في الفقه الإفتاء لغير الفقهاء بينما في العقيدة يجوز ذلك لغير الفقهاء؛ كلا، إن كان ثمة من فارق، فهو أن على الإنسان في المجال العقدي أن يكون مجتهدا في أمهات قضايا العقيدة ولا يجوز له التقليد خلافا للمجال الفقهي حيث يجوز له التقليد، إلى غيرها من فوارق.. والله الموفق

 
 
  مقالات >> فكر ديني
العمل سرّ النجاح
الشيخ حسين الخشن



المَهمّة الملقاة على عاتق الشباب بعد مسؤولية العلم: هي مَهمّة العمل، لكن ما الذي نقصده بالعمل؟

 إنّ ما نقصده هو العمل على خطين: العمل في سبيل المعاش، والعمل في سبيل المعاد، كما جاء في الكلمة المروية عن الإمام الحسن(ع) "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً   .[1]"

أما العمل في سبيل المعاد، فسوف نتحدث عنه في المحور اللاحق، ولكننا في هذه العجالة نقول: إنّ على الإنسان المؤمن أن ينخرط في كلّ الأعمال والأنشطة التي تنفعه في يوم المعاد وتثقل ميزان حسناته، وقد ورد في الأدعية ما يعزز هذا المعنى، فمن دعاء للإمام الصادق (ع): "واستعملني في

طاعتك، واجعل رغبتي فيما عندك"[2]، وفي دعاء مكارم الأخلاق للإمام زين العابدين يقول (ع): "واسْتَعْمِلْنِي بِمَا تَسْأَلُنِي غَداً عَنْه"[3].

ونخصّص حديثنا هنا للتطرّق إلى العمل في سبيل المعاش؛ لأنّ العمل هو شرط لاستمرار الحياة وسعادة الإنسان، والأمّة التي لا تعمل هي أمّة فاشلة ومحكومة بالتخلّف وبالسّقوط في مجال التنافس الحضاري، وستبقى عالة على الآخرين، والحقيقة أنّ العمل ليس خياراً من خيارات الأمة، بل هو

ضرورة لا مفرّ لها من الأخذ بها وواجب من واجباتها التي لا يجوز لها التقاعس في أدائها.

 

1- إسلام ومحاربة الكسل

 

 وإدراكاً منه لأهميّة العمل في تقدّم الأمم، فقد حثّ الإسلام عليه وشنّ حملة على الكسل والتكاسل والبطالة والدَّعة، وكان النبي (ص) يبغض للشاب أن يكون عاطلاً عن العمل بحيث لا حرفة له ولا صنعة، ففي الحديث عن ابن عباس: "كان رسول الله(ص) إذا نظر إلى الرجل فأعجبه قال: هل له

حرفة؟ فإن قالوا: لا، قال: سقط من عيني، قيل: وكيف ذاك يا رسول الله(ص)؟ قال: لأنّ المؤمن إذا لم يكن له حرفة يعيش بدينه"[4]، أي إنّه يحوّل دينه إلى دكان للاتجار به، وما قاله النبي (ص) نراه رأي العين، فالذين يتّجرون باسم الدين والطب الروحاني والتنجيم وقراءة الفنجان.. هم

مجموعة من الفاشلين في الحياة العاطلين عن العمل، وفي الحديث عن الإمام الباقر(ع): "الكسل يضرّ بالدين والدنيا"[5].

 

   أيها الشباب.. ينبغي أن يكون واضحاً أنّ السعادة لا تنال بالأماني، بل بالكدّ والعمل القائم على التخطيط الجاد والهادف. إنّ الكسل والتراخي وتضييع العمر باللّهو والعبث هو خيرُ وصفة للتخلف والفقر، عن علي(ع): "هيهات من نيل السعادة السّكون إلى الهوينا والبطالة"[6]، وعنه

(ع): "إنّ الأشياء لما ازدوجت ازدوج الكسل والعجز فنتج بينهما الفقر"[7].

 

 ومن الطريف ما قرأته في بعض الروايات، من أنّ الإمام الصادق(ع) كان يشكو من الكسل المستشري في زمانه، فيقول: "لا تكسلوا في طلب معايشكم فإنّ آباءنا كانوا يركضون فيها ويطلبونها"[8]، ولست أدري ماذا يقول مولانا الإمام الصادق(ع) في أهل زماننا الذين زحف إليهم الكسل،

فتراخوا ووهنوا، وتسلّل إليهم الترف واللّهو والدعة فهانوا وذلّوا؟!

 

2- لا منافاة بين العمل للدنيا والعمل للآخرة

 

 والأمر الأخطر من مجرد استشراء الكسل لدى قطاعات واسعة من أبناء الأمّة، ولا سيّما الشباب، هو وجود خلل في النظرة إلى مفهوم العمل نفسه، وحصول تشوّه في المفهوم الديني إزاءه. ويتمثّل هذا التشوّه في إيجاد خصومة مفتعلة بين الزهد والعمل، أو بين الدنيا والآخرة، حيث يتخيّل البعض

أنّ الانغماس في العمل ينافي الزهد والورع. وهذه النظرة هي نظرة خاطئة بالتأكيد، فإنّ للإسلام نظرة متوازنة إلى الدنيا والآخرة، ﭧ ﭨ ﭽﯨ  ﯩ     ﯪ  ﯫ  ﯬ     ﯭﯮ  ﯯ  ﯰ    ﯱ  ﯲ  ﯳﯴ  ﯵ  ﯶ  ﯷ   ﯸ  ﯹﯺ   ﯻ  ﯼ  ﯽ  ﯾ  ﯿﰀ  ﰁ   ﰂ  ﰃ  ﰄ  ﰅﭼ [القصص: ٧٧]، وفي الحديث المتقدم عن الإمام

الحسن (ع) أنّه قال: "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً"، بل إنّ الإسلام اعتبر أنّ العمل في سبيل المعاش ورفع مستوى الأمة والتخلّص من مشكلة الفقر هو من الواجبات الكفائية[9]، وقد يدخل في نطاق العبادات التي يؤجر الإنسان عليها، ولذا ترى أنّ الإمام

الصادق(ع) - على ما جاء في الرواية - سأل عن رجل أين هو؟ فقيل له: أصابته الحاجة، قال: "فماذا يصنع اليوم؟ قالوا: في البيت يعبد ربَّه، قال: فمن أين قُوتُه؟ قيل: من عند بعض إخوانه، فقال (ع): والله لَلّذي يقوته أشدُّ عبادة منه"[10].

 

 

3- عندما يتسوّل الشباب!

 

   وثمّة مفهوم إسلامي آخر طاله التشّوه، وهو مفهوم التوكّل، حيث غدا مساوياً لمفهوم التواكل، فإنك عندما تطالب البعض وتقول له: لِمَ لا تعمل؟ يجيبك" :أنا متوكّل على الله"، أو "الله بيرزق"، وهو في الحقيقة يبرّر كسله وقعوده عن العمل بهذه الكلمات التي هي كلمات حق يراد بها باطل. إنّ

جملة: "الله بيرزق" ليست شعاراً للكسالى، وإنّما هي شعار يرفعه الإنسان وهو في ميدان العمل يسير في مناكب الأرض ويخوض غمارها. وهكذا فإنّ التوكّل على الله – أيضاً - لا يعني الجلوس في البيوت وانتظار الرزق، ولا يعني أبداً مدّ اليد للآخرين بدلاً عن الإنطلاق في ميادين الحياة

والتفتيش عن الرزق الحلال.

 

 ألا ترون اليوم أنّ ثمة حالة غريبة في مجتمعاتنا، وهي أنّ بعض الشباب أصبح يمدّ يده للتسوّل، إنّنا نفهم (ولا نبرّر) أن يمدّ عجوزٌ أو أرملةٌ أومحتاج يدَه للآخرين مستجدياً، أمّا أن ترى شاباً يمدّ يده للآخرين ويمتهن مهنة التسوّل فتلك مصيبة كبيرة وحالة مَرضِيّة لا بدّ من معالجتها، ومن طرق

المعالجة أن يعمل المجتمع وتعمل الدولة على ترشيد هؤلاء وتأهيلهم ودراسة الظروف التي دفعتهم لذلك.

 

 وفي هذا السياق، فإنّ الإسلام قد منع إعطاء الزكاة لمن يمتلك القوة البدنية ويستطيع العمل، لكنّه يكسل عنه ويلجأ إلى التسوّل، ففي الحديث عن رسول الله (ص): "لا تَحِلّ الصدقة لغني ولا لذي مِرّةٍ (قويّ في بدنه) سَوِيّ"[11]، وسرّ هذا المنع يكمن في أنّ إعطاءه مرة تلو الأخرى يجعله

يمتهن التسوّل وبذل ماء الوجه للآخرين، ويعرّض نفسه للمهانة والمذلة. ورد في الحديث عن الإمام الصادق(ع(: "إياكم وسؤالَ الناس فإنّه ذلٌ في الدنيا وفقر تعجلونه وحساب طويل يوم القيامة   .[12] "

 

ويحكى أنّ الأصمعي مرّ على كنّاس في البصرة يكنس كنيفاً (بيت الخلاء)، وهو يتغنى ببعض الأشعار، ومن جملتها قوله:

   وأُكرم نفسي إنّني إن أهنتها      وحقّك لم تكرم على أحد بعدي

 قال الأصمعي: فقلت له: والله ما يكون من الهوان شيء أكثر ممّا بذلتها له (أي بذلت نفسك له)، فبأي شيء أكرمتَها؟ فقال: بلى والله إنّ من الهوان لشراً ممّا أنا فيه، فقلت: وما هو؟ فقال: الحاجة إليك وإلى أمثالك من الناس، فانصرفتُ (يقول الأصمعي) عنه وأنا أخزى الناس".[13]

 

 

4- بالعمل نواجه سياسة الإفقار

 

   إنّ ما نواجهه اليوم من سياسة تعمل على إفقار شعوبنا، وتمزيق أمّتنا ودفعها إلى التناحر والتقاتل والاحتراب، هي سياسة ظالمة لم يسبق لها مثيل، وهي تهدف إلى تفريغ أمّتنا من الطاقات الشابة واستدراجها وكذلك استدراج كلّ العقول المبدعة من أبناء هذه الأمة إلى بلاد الغرب. إنّ أمتنا ليست

فقيرة، بل إنّ ما تملكه من الثروات والطاقات تجعلها من أغنى الأمم، لكنّ السياسة الاستكبارية مستعينة بأنظمة استبدادية جائرة اعتمدت خطّة تهدف إلى إفقار الشعوب الإسلامية وإشغالها بلقمة العيش حتى لا تترك لها مجالاً للتفكير في كيفية النهوض والخروج من القمقم

.

   وأعتقد أنّ الخطوة الأولى التي يجب اتخاذها في وجه هذه السياسة الإفقارية، تتمثّل – بالإضافة إلى الوقوف في وجه المستكبرين والظالمين – بالتوجّه - شيباً وشباناً - إلى ميدان العمل بشتّى مجالاته وأنواعه، فبذلك نخلق فرصاً جديدة للعاطلين عن العمل، ونواجه سياسة الإفقار التي تريد

إشغالنا بلقمة العيش كما قلت، والتي ترمي أيضاً إلى أن تنشر في أوساطنا الجريمة والفاحشة، فإنّ أقرب وسيلة لنشر الجرائم وتفكيك المجتمعات وتدميرها خلقياً واجتماعياً، هي في إفقار هذه المجتمعات.

 

5- وبالعمل نواجه سياسة الاستغلال

 

   وليس خافياً أنّ السياسة التي يعتمدها المستبدّون والمتسلّطون تتمثّل في العمل على استغلال حاجة الشباب للمال والوظائف، والعيش الكريم، فيسعون إلى ابتزازهم واستغلال حاجاتهم ليحوّلوهم إلى تابعين وأزلام يستجدون وظيفة أو مالاً. وقد شاهدنا هذا الأمر في الأحداث اللبنانية، ونشاهده اليوم

في الكثير من الدول التي تفتك بها الحروب والفتن الأهلية والمذهبية، حيث يُستأجر بعض الشباب ويساقون إلى معارك لا يعلمون عن أهدافها شيئاً، فهم ليسوا سوى أدوات رخيصة، يتمّ استخدامها ثمّ التخلي عنها في أيّ لحظة سياسية أو لقاء صفقة معيّنة، والسلاح الأمضى الذي يستخدمه هؤلاء

المستبدّون وأسيادهم المستكبرون هو إثارة الغرائز والعصبيّات المذهبيّة لدى الشباب، بما يحوّلهم إلى ما يشبه الوحوش الكاسرة التي تذبح وتقتل دون رحمة أو شفقة، وقد لاحظنا أنّ تجار السياسة وطلاب السلطة يسعون في الكثير من دولنا العربية والإسلامية للإبقاء على نظام المحاصصة

الطائفية، لأنّه نظام لا يسمح لأيّ شاب أن ينتمي إلى وطنه إلا بالعبور من خلال طائفته وزعيم الطائفة، وبذلك يظلّ الشباب رهين إرادة هذا الزعيم أو ذاك

.

 هذا هو واقعنا، فهل هو قدر مكتوب علينا ولا يمكننا تغييره؟ والجواب: كلا، فهذا ليس قدراً محتوماً، وباستطاعة الشباب تغيير هذا الواقع، فهم الذين جاؤوا بهؤلاء الزعماء، وباستطاعتهم تغييرهم، وقد جاء في الحديث عن رسول الله (ص): "كما تكونون يولّى عليكم".[14]

   إنّ على الشباب أن يعمل على الاستقلال عن هذا الزعيم أو ذاك، وأن لا يرهن نفسه لهذا أو ذاك، فلدى الشباب قوة قادرة على تغيير الواقع إلى الأفضل شريطة أن نحسن الإفادة من هذه القوة ونحسن إدارة أمورنا وتنظيمها. ولنا عودة إلى دور الشباب في عملية التغيير في محور لاحق.

 

وما تقدّم من استغلال حاجة الشباب إلى العمل والوظيفة لإدخالهم في أتون صراعات مذهبية ليس هو الاستغلال الوحيد الذي يتعرّض له الشباب، فهناك استغلال هو من أسوأ أنواع الاستغلال وأبشعها، ألا وهو استغلال الشباب - وتحديداً الفتيات - في التجارة الجنسيّة، حيث يعمل البعض على

استغلال حاجة الفتاة للعمل ولجني المال فيضغط عليها لتتنازل عن أخلاقها وكرامتها وشرفها. وقد تقع بعض البنات فريسة هذا الابتزاز، نتيجة فقرها وحاجتها، وهنا تكون مسؤولية الأمّة والمجتمع والدولة كبيرة جداً وعلى أكثر من صعيد، وذلك بالسعي إلى تحصين المجتمع أخلاقياً، والعمل على

سدّ الثغرات وتوفير فرص العمل، بما يؤمِّن لقمة العيش الكريم لأبناء هذا المجتمع، وفوق ذلك كلّه لا بدّ من إعلان حربٍ ضروس على هؤلاء الفاسدين والمفسدين الذين يشتغلون في سوق الاتجار الجنسي الرخيص، وهم في الغالب يتحرّكون تحت عناوين مخادعة وبرّاقة.

 

وختاماً فإنّي أتوجّه هنا بكلمة مختصرة إلى كلّ فتاة مسلمة: أختي الكريمة، ابنتي العزيزة، إنّ شرفكِ هو عزّكِ وكرامتكِ وهو سرّ إنسانيتكِ، فلا تبيعي عفتك في سوق النخاسة ولا تسمحي لأحد بأن يحوّلك إلى سلعة رخيصة، كما يُراد لك، كوني إنسانة ينحني العالم أمام عفّتك وكرامتك.

 

نُشر في 26- 5- 2016

من كتاب "مع الشباب، في همومهم وتطلعاتهم" http://www.al-khechin.com/article/440



[1] نقله العلامة المجلسي والشيخ النوري عن كفاية الأثر للخزاز القمي، انظر: بحار الأنوار ج 44 ص 139، ومستدرك الوسائل ج 1 ص 147، ورواه الصدوق بصيغة "روي عن العالم" ، انظر: من لا يحضره الفقيه ج 3 ص 156، و" العالم" من ألقاب الإمام الكاظم (ع)، ولهذا نسبه العلامة الحلي إلى الإمام الكاظم (ع) ، انظر: تحرير الأحكام ج 2 ص 249، والمعروف على ألسنة العامة والخاصة نسبة هذه الكلمة إلى الإمام علي (ع)، ولكننا لم نعثر على ذلك في المصادر التي راجعناها، ونسبه الجاحظ إلى عمرو بن العاص ، انظر: البخلاء ص 31. 

[2] انظر الكافي ج 2 ص 542.

[3] الصحيفة السجادية، من دعائه (ع) في مكارم الأخلاق ومرضي الصفات.

[4] رواه في بحار الأنوار ج 100 ص 9، وفي مستدرك الوسائل ج 13 ص 11، نقلاً عن جامع الأخبار.

[5] تحف العقول ص 300.

[6] عيون الحكم والمواعظ ص 512.

[7] الكافي ج 5 ص 86.

[8] من لا يحضره الفقيه ج 3 ص 157.

[9] الواجبات في الشريعة الإسلامية إمّا عينية، تجب على كلّ فرد من المكلفين (الأعيان) كالصلاة والصوم والحج.. وإمّا كفائية، تجب على الأمة، فإذا قام بها البعض سقط التكليف عن الباقي، وإلا أثم الجميع.

[10] الكافي ج 5 ص 78، وتهذيب الأحكام ج 6 ص 324.

[11] سنن الدارمي ج1 ص386، وهذا المضمون مروي عن الإمام الباقر (ع) حيث قال: - بحسب الرواية -: "إنّ الصدقة لا تحلّ لمحترف ولا لذي مرّة سوي قوي، فتنزهوا عنها"، انظر: الكافي ج3 ص560. والمرّة: الشدة والقوة، والسوي: هو الصحيح الأعضاء.

[12] الكافي ج 4 ص 20، ومن لا يحضره الفقيه ج 2 ص 70.

[13] الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني ج 1 ص 319.

[14] انظر: مسند الشهاب ج1 ص 337.

 






اضافة تعليق

الاسم *

البريد الإلكتروني *

موضوع *

الرسالة *


 


 
  قراءة الكتب
 
    Designed and Developed
       by CreativeLebanon