حوار مع مركز أفاق للدراسات والأبحاث: مشكلة الأديان تتشكل في الخطاب الفقهي    ثمن الحرية    أمثل الأساليب في عمليّة تهذيب النفس    مزايا الشباب    العمل سرّ النجاح    العبادة وعيٌ وانفتاح لا جهل وانغلاق    اقتناء أصنام الأمم البائدة    المفاهيم الدينية بين وجوب الاعتقاد وحرمة الانكار    البناء الاعتقادي بين الاجتهاد والتقليد    
 
بحث
 
تكريم الإنسان
 
س » أنا طالب علم، لدي خوف من أن أتكلم بغير علم.. ما الحل؟
ج »

وعليكم السلام

لا بد لطالب العلم في مساره العلمي أن يتسلح بأمرين أساسيين:
الأول: الاستنفار العلمي وبذل الجهد الكافي لمعرفة قواعد فهم النص واستكناه معناه ودلالاته بما يعينه على التفقه في الدين وتكوين الرأي على أسس صحيحة.
الثاني: التقوى العلمية ويُراد بها استحضار الله سبحانه وتعالى في النفس حذراً من الوقوع في فخ التقوّل على الله بغير علم. ومن الضروري أن يعيش مع نفسه حالة من المحاسبة الشديدة ومساءلة النفس من أن دافعه إلى تبني هذا الرأي أو ذاك: هل هو الهوى والرغبة الشخصية أم أن الدافع هو الوصول إلى الحقيقة ولو كانت على خلاف الهوى.
أعتقد أن طالب العلم إذا أحكم هذين الامرين فإنه سيكون موفقاً في مسيرته العلمية وفيما يختاره من آراء أو يتبناه من موقف.

 
س » كيف علمنا أن الصحيفة السجادية ناقصة؟ وهل ما وجده العلماء من الأدعية صحيح؟؟
ج »

أقول في الإجابة على سؤالكم:

أولاً: إن الصحيفة السجادية في الأصل تزيد على ما هو واصل إلينا وموجود بين أيدينا، قال المتوكل بن هارون كما جاء في مقدمة الصحيفة: " ثم أملى عليّ أبو عبد الله (ع) الأدعية، وهي خمسة وسبعون باباً، سقط عني منها أحد عشر باباً، وحفظت منها نيفاً وستين باباً"، بيد أن الموجود فعلاً في الصحيفة الواصلة إلينا هو أربعة وخمسون دعاء. آخرها دعاؤه في استكشاف الهموم، وهذا آخر دعاء شرحه السيد علي خان المدني في رياض السالكين، وكذا فعل غيره من الأعلام.

ثانياً: إن سقوط عدد من أدعية الصحيفة وضياعها دفع غير واحد من الأعلام للبحث والتتبع في محاولة لمعرفة ما هو الضائع منها، وبحدود اطلاعي فإنهم عثروا على أدعية كثيرة مروية عن الإمام زين العابدين (ع)، لكنهم لم يصلوا إلى نتائج تفيد أن ما عثروا عليه هو من الأدعية الناقصة منها، ولذا عنونوا مؤلفاتهم بعنوان مستدركات على الصحيفة، ولم يجزموا أن ما جمعوه من أدعية هو الضائع من أدعية الصحيفة. وهذا ما تقتضيه الضوابط العلمية والدينية، فما لم يعثر الإنسان على نسخة قديمة موثوقة أو قرائن مفيدة للوثوق بأن هذا الدعاء أو ذاك هو من جملة أدعية الصحيفة فلا يصح له إضافة بعض الأدعية على الصحيفة بعنوان كونها منها.

ثالثاً: لقد ابتُلينا بظاهرة خطيرة، وهي ظاهرة الإضافة على الصحيفة أو غيرها من كتب الأدعية، وهذا العمل هو خلاف الأمانة والتقوى، وقد ترتّب على ذلك الكثير من المفاسد، وأوجب ذلك وهماً للكثيرين، فتوهموا أن بعض الأدعية هي جزء من الصحيفة السجادية المشهورة، ومردّ ذلك بكل أسف إلى أن مجال الأدعية والزيارات شرعة لكل وارد، وتُرك لأصحاب المطابع والمطامع! وأعتقد أن هذا العبث في كتب الأدعية والزيارات ناشئ عن عدم عناية العلماء بالأمر بهذه الكتب كما ينبغي ويلزم، كما نبه عليه المحدث النوري في كتابه "اللؤلؤ والمرجان" مستغرباً صمت العلماء إزاء التلاعب والعبث بنصوص الأدعية والزيارات مما يعدّ جرأة عظيمة على الله تعالى ورسوله (ص)!

رابعاً: أما ما سألتم عنه حول مدى صحة الأدعية الواردة بعد دعاء استكشاف الهموم، فهذا أمر لا يسعنا إعطاء جواب حاسم وشامل فيه، بل لا بدّ أن يدرس كل دعاء على حدة، ليرى ما إذا كانت قرائن السند والمتن تبعث على الحكم بصحته أم لا. فإن المناجاة الخمس عشرة بنظرنا لم تصح وربما كانت من وضع الصوفية، وقد أوضحنا ذلك بشكل مفصل في كتاب الشيع والغلو.


 
س » ابني المراهق يعاني من التشتت، وأنا جدا قلق ولا اعرف التصرف معه، ما هي نصيحتكم؟
ج »

التشتت في الانتباه في سن المراهقة مع ما يرافقه من الصعوبات هو في حدود معينة أمر طبيعي وظاهرة تصيب الكثير من المراهقين ولا سيما في عصرنا هذا.

وعلينا التعامل مع هذه المرحلة بدقة متناهية من الاستيعاب والتفهم والإرشاد والتوجيه وتفهم سن المراهق، وأن هذه المرحلة تحتاج إلى أسلوب مختلف عما سبقها.

فالمراهق ينمو لديه الإحساس بالذات كثيرا حتى ليخيل إليه أنه لم يعد بحاجة إلى الاحتضان والرعاية من قِبل والديه.

وبالتالي علينا أن نتعامل معه بأسلوب المصادقة "صادقه سبعا.." والتنبه جيدا للمؤثرات التي تسهم في التأثير على شخصيته واستقامته وتدينه، ومن هذه المؤثرات: الأصدقاء ووسائل التواصل الاجتماعي، فإن نصيبها ودورها في التأثير على المراهق هو أشد وأعلى من دورنا.

وفي كل هذه المرحلة علينا أن نتحلى بالصبر والأناة والتحمل، وأن نبتدع أسلوب الحوار والموعظة الحسنة والتدرج في العمل التربوي والرسالي.

نسأل الله أن يوفقكم وأن يقر أعينكم بولدكم وأن يفتح له سبيل الهداية. والله الموفق.


 
س » اعاني من عدم الحضور في الصلاة، فهل أحصل على الثواب؟
ج »
 
لا شك أن العمل إذا كان مستجمعا للشرائط الفقهية، فهو مجزئٌ ومبرئٌ للذمة. أما الثواب فيحتاج إلى خلوص النية لله تعالى بمعنى أن لا يدخل الرياء ونحوه في نية المصلي والعبادة بشكل عام.
ولا ريب أنه كلما كان الإنسان يعيش حالة حضور وتوجه إلى الله كان ثوابه أعلى عند الله، لكن لا نستطيع نفي الثواب عن العمل لمجرد غياب هذا الحضور في بعض الحالات بسبب الظروف الضاغطة على الإنسان نفسيا واجتماعيا.
لكن على الإنسان أن يعالج مشكلة تشتت الذهن أثناء العمل العبادي وذلك من خلال السعي الجاد للتجرد والابتعاد عن كل الهواجس والمشكلات أثناء الإقبال على الصلاة، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، باستحضار عظمة الله عز وجل في نفوسنا وأنه لا يليق بنا أن نواجهه بقلب لاهٍ وغافل. والله الموفق.

 
س » أنا إنسان فاشل، ولا أتوفق في شيء، وقد كتب عليّ بالخسارة، فما هو الحل؟
ج »

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

أولاً: التوفيق في الحياة هو رهن أخذ الإنسان بالأسباب التي جعلها الله موصلة للنجاح، فعلى الإنسان أن يتحرك في حياته الشخصية والمهنية والاجتماعية وفق منطق الأسباب والسنن. على سبيل المثال: فالإنسان لن يصل إلى مبتغاه وهو جليس بيته وحبيس هواجسه، فإذا أراد الثروة فعليه أن يبحث عن أسباب الثروة وإذا أراد الصحة فعليه أن يأخذ بالنصائح الطبية اللازمة وإذا أراد حياة اجتماعية مستقرة عليه أن يسير وفق القوانين والضوابط الإسلامية في المجال الاجتماعي وهكذا.

ثانياً: لا بد للإنسان أن يعمل على رفع معوقات التوفيق، وأني أعتقد أن واحدة من تلك المعوقات هي سيطرة الشعور المتشائم على الإنسان بحيث يوهم نفسه بأنه إنسان فاشل وأنه لن يوفق وأنه لن تناله البركة الإلهية.

إن هذا الإحساس عندما يسيطر على الإنسان فإنه بالتأكيد يجعله إنسانا فاشلا ومحبطا ولن يوفق في حياته ولذلك نصيحتي لك أن تُبعد مثل هذا الوهم عن ذهنك وانطلق في الحياة فإن سبيل الحياة والتوفيق لا تعد ولا تحصى.


 
س » ما هو هدف طلب العلم الذي يجب أن يكون؟
ج »

عندما ينطلق المسلم في طلبه للعلم من مسؤوليته الشرعية الملقاة على عاتقه ومن موقع أنه خليفة الله على الأرض، فإن ذلك سوف يخلق عنده حافزاً كبيراً للجد في طلب العلم والوصول إلى أعلى المراتب. أما إذا انطلق في تحصيله من موقع المباهاة أو إثبات ذاته في المجتمع أو من موقع من يريد أن يزين اسمه بالشهادة الجامعية ليُقال له "الدكتور" وما إلى ذلك، فإنه - في الغالب - لن يصل إلى النتيجة المرجوة.

وعلى كل إنسان منا أن يعي أنّنا في هذه الحياة مسؤولون في أن نترك أثراً طيباً، وأن نقوم بواجباتنا قبل أن يطوينا الزمان، إننا مسؤولون عن عمرنا فيما أفنيناه وعن شبابنا فيما أبليناه، وسنُسأل يوم القيامة عن كل هذه الطاقات التي منّ اللهُ بها علينا.

وأضف إلى ذلك، إنه من الجدير بالمسلم، أن لا يفكر في نفسه وما يريحه هو فحسب في طلبه للعلم، بل أن يفكر أيضاً في أمته والنهوض بها ليكون مستقبلها زاهراً، وهذا كله يحتم عليه أن يكون سقف طموحاته عالياً ليتمكن هو وأقرانه من الطلاب والعلماء من ردم الفجوة بيننا وبين الغرب الذي سبقنا على أكثر من صعيد.

باختصار: إن مسؤوليتنا ورسالتنا وانتماءنا لهذه الأمة يفرض علينا أن نعيش حالة طوارئ ثقافية وعلمية.


 
س » ما رأيكم في الاختلاط المنتشر في عصرنا، وكيف نحاربه؟
ج »

إنّ الاختلاط قد أصبح سمة هذا العصر في كثير من الميادين، ومنها الجامعات والطرقات والساحات وكافة المرافق العامة.. والاختلاط في حد ذاته ليس محرماً ما لم يفضِ إلى تجاوز الحدود الشرعية في العلاقة بين الرجل والمرأة الأجنبيين؛ كما لو أدى إلى الخلوة المحرمة بالمرأة أو مصافحتها أو كان المجلس مشوباً بأجواء الإثارة الغرائزية أو غير ذلك مما حرمه الله تعالى.

وفي ظل هذا الواقع، فإنّ العمل على تحصين النفس أولى من الهروب أو الانزواء عن الآخرين بطريقة تشعرهم بأن المؤمنين يعيشون العُقد النفسية. إن على الشاب المسلم أن يثق بنفسه وأن يفرض حضوره ووقاره، وأن يبادر إلى إقناع الآخرين بمنطقه وحججه، وأن يبيّن لهم أن الانحراف والتبرج والفجور هو العمل السيّئ الذي ينبغي أن يخجل به الإنسان، وليس الإيمان ومظاهر التدين.

وأننا ندعو شبابنا عامة وطلاب الجامعات خاصة من الذكور والإناث إلى أن يتزينوا بالعفاف، وأن يحصنوا أنفسهم بالتقوى بما يصونهم من الوقوع في الحرام.


 
س » كيف يمكن التخلص من السلوكيات والعادات السيئة؟
ج »

إن التغلب على السلوكيات الخاطئة أو العادات السيئة – بشكل عام – يحتاج بعد التوكل على الله تعالى إلى:

أولاً: إرادة وتصميم، ولا يكفي مجرد الرغبة ولا مجرد النية وانما يحتاج بالإضافة إلى ذلك إلى العزم والمثابرة وحمل النفس على ترك ما اعتادته.

ثانياً: وضع برنامج عملي يمكّن الإنسان من الخروج من هذه العادة السيئة بشكل تدريجي؛ وأرجو التركيز على مسألة "التدرج" في الخروج من هذه العادات السيئة؛ لأن إدمان النفس على الشيء يجعل الخروج منه صعباً ويحتاج إلى قطع مراحل، وأما ما يقدم عليه البعض من السعي للخروج الفوري من هذه العادة، فهو - بحسب التجربة - سيُمنى في كثير من الأحيان بالفشل. والله الموفق


 
 
  محاضرات >> دينية
محاضرات رمضانية: وكلوا واشربوا ولا تسرفوا
الشيخ حسين الخشن



قال تعالى: { يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [ الأعراف 31].

 

إن عملية استهلاك المال هي مسألة في غاية الأهمية، والإسلام كما يحرص على الاهتمام بعملية جمع المال فإنّه يهتمّ بعملية صرفه واستهلاكه، ومن هنا كان جمع المال وصرفه موردًا للسؤال يوم القيامة، كما جاء في الحديث النبوي الشريف:" لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن .. وعن ماله

من أين اكتسبه وفيما أنفقه". فكما علينا أن نعتني بمصدر المال، ليكون مصدراً محللاً، فإنّ علينا أن نعتني بكيفية صرفه، وهذا ما نتناوله في العناوين التالية:

 

1- حاجات الإنسان بين النظام التكويني والنظام التشريعي

 

إنّ طبيعة الإنسان وما تفرضه من متطلبات واحتياجات تدفعه إلى استهلاك الكثير من موارد الطاقة المودعة في الطبيعة، سواء فيما يمكن عدّه من الضروريات التي يحتاجها الإنسان في نظامه الغذائي أو الصحي، أو السكني أو ما يدخل أو يتصل بما يمكن تسميته "الكماليات" التي يحتاجها للزينة أو

الترفيه عن النفس. والله تعالى قد تكفل للإنسان بتلبية هذه الضرورات والحاجات على السواء، وذلك من خلال:

 

 أولاً: توفير ذلك من خلال النظام الكوني، حيث إنّ الطبيعة - بحمد الله - ليس فيها بخل، ولا نقص، بل إنّ ما زودها الله به كافٍ ووافٍ بتلبية ليس ضرورات الإنسان الأساسية في خصوص المأكل والمشرب والملبس والمسكن بل وحاجياته غير الأساسية التي تتصل بالزينة والترفيه أو غير ذلك، فانظر

في هذا الكون نظرة خبير ومتأمل فستجد أن الطبيعة طيّعة للإنسان ومسخرة له، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [ الملك 15]. ويمكن أن نذكر نموذجاً لهذا السخاء في الطبيعة، وكيفية تمهيدها لتلبية احتياجات الإنسان الضرورية وغير

الضرورية، والنموذج هو ما يتصل بالأنعام، فالأنعام يحتاجها الإنسان لأكل لحومها والإفادة من جلودها، وللركوب على ظهورها، وهذه منافع حسية، تدخل في نطاق الحاجيات الضرورية، وقد يستفيد منها للتجمل، وهذه منفعة معنوية، وتدخل في نطاق الأمور غير الضرورية، ولكنّ الله امتن علينا

بخلق الأنعام لتلبية هذين النوعين من الحاجيات، قال تعالى:{ وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [ النحل 5- 8].

 

 

ثانياً: إباحة ذلك وتحليله من خلال شريعته، حيث يتساوق هنا النظام التشريعي مع النظام التكويني، وهذه نقطة مهمة وهي من ألطاف الله تعالى، ومن أبرز معالم الحكمة عنده فيما صنع وشرّع حيث إنّ التشريع الإسلامي يأتي منسجماً مع نظام الفطرة، فلا يكون الإنسان مفطوراً على شيء ويطلب منه

التشريع قمع الفطرة، بل يسعى لتأمينها، ويسعى لإزالة العوائق أمام تلبيتها. ومن هنا لم يحرّم الله علينا شيئا مما نحتاجه من الطيبات أو غيرها، وهكذا ما نتزيّن به، قال عزّ وجلّ: { فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [ النحل 114]، والآية المباركة المذكورة أعلاه

نصتّ على إباحة المتعة الحسية والمتعة المعنوية، فقالت: { يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} [ الأعراف 31]. وقد ابتدأت بالزينة مع أنها ليست من الحاجيات الأساسية للإنسان ويمكنه أن يعيش بدونها، وإذا كانت هذه مباحة فبالأولى أن تكون الحاجة الضرورية المذكورة بعد ذلك

مباحة، وهي الأكل والشرب.

 

 

2- الاعتدال في الاستهلاك

 

وليس على عملية الصرف والاستهلاك من قيود أو شروط وضعها المشرع الإسلامي، إلا شرط منطقي واحد وهو أن يكون - بالإضافة إلى كونه في الوجوه المحللة - سائراً في خط الاعتدال والتوازن، والاعتدال يعني الابتعاد عن الإفراط والتفريط، فلا بخل ولا سرف، وهذا ما أشار إليه قوله تعالى: {

وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا } [ الإسراء 29].

 

فالتقتير أو البخل على النفس أو على العيال مرفوض، وهذا معنى أن يجعل يده مغلولة إلى عنقه، وفي الحديث عن الإمام الرضا (ع):" صاحب النعمة يجب عليه التوسعة على عياله"[1]. إن الإسلام يدعو إلى التوسعة على العيال مع القدرة، وفي المقابل فإنّ الإسراف محرّم ومبغوض لله تعالى،

والإسراف هو أخطر ما يواجه طاقات الأرض حيث إنّ إنسان اليوم يستنزف منها بشكل جنوني، وهذا معنى أن يبسطها كل البسط، وقد يكون الإسراف هو الطغيان الوارد في قوله تعالى: { كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى} [ طه 81]،

ومما يؤسف له أن يتحوّل شهر رمضان إلى شهر التبذير والإسراف والموائد الفاخرة التي يذهب معظمها إلى أكياس القمامة، والحال أن الصوم يجب أن يؤدي إلى توفيرٍ في الاستهلاك وترشيدٍ في عملية الإنفاق.

 

إن الاعتدال في الصرف هو الذي سيؤمن الحياة الكريمة لكل أبناء الإنسان، لكنّ ما يجري اليوم وقبل اليوم أنّ فئة قليلة من الناس هم الذين يتنعمون بخيرات الأرض والبقيّة يبيتون جياعاً، ومن تنبع أهمية النظام العادل الذي يسعى لتوزيع ثروات الأرض على جميع الناس مانعاً الاستغلال والإسراف والطغيان. 

 

 

3- تنظيم عمليّة الصرف

 

وهذا الأمر يقودنا إلى مسألة في غاية الأهمية وهي مسألة تنظيم عملية الصرف، فإنّ الإنسان بحاجة إلى أن ينظم عمليّة الاستهلاك حتى لا يقع في ظلم النفس أو ظلم الغير، وتنظيم عملية الصرف تعبّر عن رشد ووعي، والإنسان الذي لا يراعي أولوياته، فيصرف راتبه مثلاً في الكماليات مع أنّ لديه

حاجات ضرورية له ولعياله في الأكل والشرب والدواء مثلاً قد يُحكم عليه شرعا بأنّه شخص سفيه، والسفيه لا يدفع إليه المال، بل يجعل عليه ولي، قال تعالى: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم} [النساء-5 ]،.

 

وتنظيم عملية الصرف يجب أن يراعي فيه الاعتبارات التالية:

 

أولاً: التوازن بين الدخل والصرف

 

في توجيهه للإنسان نحو تنظيم عملية الصرف يحرص التشريع الإسلامي على رعاية قدر من التوازن بين الدخل وبين الصرف، وذلك بتشجيعه للفرد وحثّه له على مراعاة ظروفه، فإذا أقبلت الدنيا عليه فلا يقتّر على نفسه فهو أحقّ من تنعم بخيراتها، وإذا أدبرت وتنكرت له وضاقت به الأمور وانسدت

السبل في وجهه فليصبر وليعمل على تنظيم أو تخفيف عملية الصرف، ولا يبدد ما يملكه من أموال فيما يحتاجه وفيما لا يحتاجه، فهذا خلاف الرشد،  قال تعالى: { لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آَتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آَتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} [ الطلاق 7].

وفي الحديث عن رسول الله (ص):" إن المؤمن أخذ عن الله أدبا حسنا إذا وسع عليه وسع وإذا أمسك عليه أمسك"[2].

 

 وعن أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) قَالَ: "إِذَا جَادَ اللَّه تَبَارَكَ وتَعَالَى عَلَيْكُمْ فَجُودُوا وإِذَا أَمْسَكَ عَنْكُمْ فَأَمْسِكُوا ولَا تُجَاوِدُوا اللَّه فَهُوَ الأَجْوَدُ"[3].

 

ولكنّ بعضهم يقول لك توكل على الله تعالى، و"اصرف ما في الجيب يأتك ما في الغيب" هذا مثلٌ شعبي ليس صحيحاً على إطلاقه، ولعلّ المثل الصحيح في المقام هو المثل القائل:" قد (بمقدار) بساطك مدّ رجليك"، ولهذا ورد في الأخبار  فمن جملة موانع الدعاء أن يكون بيد الشخص مال فينفقه في سبيل

الله دون أن يترك شيئاً لعياله فهذا لا يستجاب له، بل يقال له: ألم أرزقك وآمرك بالاقتصاد في الصرف؟! 

 

إنّ مسألة رعاية التوازن بين الدخل والصرف مهمة جداً وهي تريح الإنسان، ومع الأسف فإنّ البعض اليوم راتبه مليون ليرة أو مليون دينار وهو لا يراعي ذلك فيصرف مليونين، فيراكم عليه الديون والهموم، لأنّ الدين همٌ، مع أنّ بإمكانه أن يخفف من مصروفه في بعض الكماليات التي لا ضرورة لها.

 

ثانياً: ضرورة رعاية الأولويات

 

فعلى الإنسان ولا سيما ربّ الأسرة أن يدرس حاجياته المهمة والتي لا يستغنى عنها ويضعها في سلّم أولوياته في عملية الصرف، فيقدم المهم ويؤخر سواه، في الحديث عن رسول الله (ص):" إذا كان أحدكم فقيرا فليبدأ بنفسه فإن كان فضلا فعلى عياله فإن كان فضلا فعلى قرابته أو على ذي رحمه

فإن كان فضلا فههنا وههنا"[4]..

 

وفي الحديث عن أبي الحسن الرضا ( عليه السلام ) قال : "أتى رجل إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) بدينارين فقال : يا رسول الله أريد ان احمل بهما في سبيل الله قال : ألك والدان أو أحدهما ؟ قال : نعم قال : اذهب فأنفقهما على والديك فهو خير لك أن تحمل بهما في سبيل الله ، فرجع ففعل فأتاه بدينارين

آخرين قال : قد فعلت وهذان ديناران أريد أن أحمل بهما في سبيل الله قال : ألك ولد ؟ قال : نعم قال ( عليه السلام ) : فاذهب فأنفقهما على ولدك فهو خير لك أن تحمل بهما في سبيل الله، فرجع ففعل فأتاه بدينارين آخرين فقال : يا رسول الله قد فعلت وهذان ديناران آخران أريد ان احمل بهما في سبيل الله،

فقال : ألك زوجة ؟ قال : نعم قال : أنفقهما على زوجتك فهو خير لك أن تحمل بهما في سبيل الله ، فرجع وفعل فاتاه بدينارين آخرين فقال : يا رسول الله قد فعلت وهذان ديناران أريد أن أحمل بهما في سبيل الله فقال : ألك خادم ؟ قال : نعم قال : اذهبْ فأنفقهما على خادمك فهو خير لك من أن تحمل بهما

في سبيل الله ففعل ، فأتاه بدينارين آخرين فقال : يا رسول الله وهذه ديناران أريد أن أحمل بهما في سبيل الله فقال : احملهما واعلم بأنهما ليسا بأفضل ديناريك"[5].

 

 

ثالثاً: رعاية مقتضيات الزمان والمكان

 

والأمر الآخر الذي لا بدّ من الأخذ به في تنظيم عملية الصرف، هو رعاية مقتضيات الزمان والمكان، فلكل زمان حاجياته وضروراته، فتارة يكون الزمان زمان سعة وتُقبل فيه الدنيا بالخيرات على عامة العباد، وفي هذه الحالة من حقِ الإنسان أن يتنعم ولا حرج عليه أن يوسِع على نفسه وأن يظهر

نعمة الله عليه، فيشتري أفضل السلع وأحسنها، وتارة يكون الزمان زمان ضيق وعسرة وفي هذه الحالة على الحكيم حتى لو كان يملك مالاً وفيراً أن لا يراعي ظروف الآخرين ولا يخدش مشاعرهم فيتنعم بالخيرات أمام أعينهم، وهذا ما يفسر لنا اختلاف سيرة الأئمة من أهل البيت (ع) في اللبس والأكل،

فعلي (ع) كان شديدأ على نفسه بينما نجد الإمام الصادق (ع) مثلاً يعتمد سيرة مختلفة، يروى عن سفيان الثوري قال : قلت لأبي عبد الله ( عليه السلام ) : أنت تروي أنّ علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) كان يلبس الخشن وأنت تلبس القوهي (ثياب بيضاء مميزة ) والمروي ! قال : ويحك إن علي بن

أبي طالب كان في زمان ضيق ، فإذا اتسع الزمان فأبرار الزمان أولى به"[6].

 

إنّ مراعاة هذا الأمر قد تدخل في نطق الأخلاقيات الإسلامية ولا يحكم شرعا بإلزام الفرد الغني بالتنعم ما دام قد أدى ما عليه من واجبات، أجل ثمة استثناء وحيد قد يذكر هنا وهو الحاكم العادل، فلربما يحكم بلزوم تركه للتنعم المبالغ فيه إذا كان وضع العامة هو الفقر المدقع، استناداً إلى ما روي عن

الإمام علي (ع): فقد ذكروا أنّه بينما كان في البصرة دخل على العلاء بن زياد الحارثي وهو من أصحابه يعوده، فلما رأى سعة داره قال : مَا كُنْتَ تَصْنَعُ بِسِعَةِ هَذِه الدَّارِ فِي الدُّنْيَا، وأَنْتَ إِلَيْهَا فِي الآخِرَةِ كُنْتَ أَحْوَجَ، وبَلَى إِنْ شِئْتَ بَلَغْتَ بِهَا الآخِرَةَ، تَقْرِي فِيهَا الضَّيْفَ وتَصِلُ فِيهَا الرَّحِمَ، وتُطْلِعُ مِنْهَا

الْحُقُوقَ مَطَالِعَهَا، فَإِذاً أَنْتَ قَدْ بَلَغْتَ بِهَا الآخِرَةَ، فَقَالَ لَه الْعَلَاءُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَشْكُو إِلَيْكَ أَخِي عَاصِمَ بْنَ زِيَادٍ، قَالَ: ومَا لَه ؟ قَالَ: لَبِسَ الْعَبَاءَةَ وتَخَلَّى عَنِ الدُّنْيَا! قَالَ: عَلَيَّ بِه، فَلَمَّا جَاءَ قَالَ: يَا عُدَيَّ نَفْسِه لَقَدِ اسْتَهَامَ بِكَ الْخَبِيثُ، أَمَا رَحِمْتَ أَهْلَكَ ووَلَدَكَ، أَتَرَى اللَّه أَحَلَّ لَكَ الطَّيِّبَاتِ وهُوَ يَكْرَه أَنْ

تَأْخُذَهَا، أَنْتَ أَهْوَنُ عَلَى اللَّه مِنْ ذَلِكَ، قَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، هَذَا أَنْتَ فِي خُشُونَةِ مَلْبَسِكَ وجُشُوبَةِ مَأْكَلِكَ، قَالَ: وَيْحَكَ إِنِّي لَسْتُ كَأَنْتَ، إِنَّ اللَّه تَعَالَى فَرَضَ عَلَى أَئِمَّةِ، الْعَدْلِ أَنْ يُقَدِّرُوا أَنْفُسَهُمْ بِضَعَفَةِ النَّاسِ، كَيْلَا يَتَبَيَّغَ بِالْفَقِيرِ فَقْرُه"[7]. السلام عليك يا أمير المؤمنين.

محاضرة رمضانية 1437 هـ / 2016 مـ.

نُشرت على لموقع في 30-6-2016

 



[1] الكافي ج 4 ص 11.

[2] كنز العمال ج 6 ص 348، ورواه الحر العملي عن الإمام الصادق (ع) :" إنّ المؤمن يأخذ بآداب الله ، إن وسّع عليه وسّع ، وإذا أمسك عنه أمسك"، هداية الأمة ج 7 ص 351..

[3] الكافي ج 4 ص 54.

[4] سنن النسائي ج 7 ص 304.

[5] تهذيب الأحكام ج 6 ص 171.

[6] تحف العقول ص 97.

[7] نهج البلاغة ج 2 ص 188.

 






اضافة تعليق

الاسم *

البريد الإلكتروني *

موضوع *

الرسالة *


 


 
  قراءة الكتب
 
    Designed and Developed
       by CreativeLebanon