حوار مع مركز أفاق للدراسات والأبحاث: مشكلة الأديان تتشكل في الخطاب الفقهي    ثمن الحرية    أمثل الأساليب في عمليّة تهذيب النفس    مزايا الشباب    العمل سرّ النجاح    العبادة وعيٌ وانفتاح لا جهل وانغلاق    اقتناء أصنام الأمم البائدة    المفاهيم الدينية بين وجوب الاعتقاد وحرمة الانكار    البناء الاعتقادي بين الاجتهاد والتقليد    
 
بحث
 
تكريم الإنسان
 
س » هل ممكن إثبات وحيانية القرآن وعدم تحريفه من خلال مضمونه؟
ج »

إن الوحي الإلهي في عملية وصوله إلى البشر يحتاج إلى مرحلتين أساسيتين ليصلح كمصدر معصوم وعلى البشر الانقياد له، وهما:

المرحلة الأولى: مرحلة التلقي عن الله تعالى، بمعنى أنه حقاً وحي نزل من قِبل الله تعالى على رسول الله (ص).

المرحلة الثانية: مرحلة الصدور عن النبي (ص) والوصول إلينا سالماً من التحريف.

 

أما بالنسبة إلى المرحلة الثانية، أعني إثبات صحة صدوره عن رسول الله (ص) وعدم تعرضه للتحريف من بعده. فتوجد عشرات الدراسات والكتب والمصادر التي تؤكد على عدم تعرض القرآن الكريم للتحريف، وقد بحثنا هذا الأمر بشكل مفصل وأقمنا أدلة كثيرة على أنّ هذا القرآن هو عين القرآن الذي جمعه النبي (ص) ودونه وانتشر بعد ذلك بين المسلمين جيلاً بعد جيل، راجع كتابنا "حاكمية القرآن الكريم": الرابط  https://al-khechin.com/article/632

 

أما بالنسبة للمرحلة الأولى، أعني إثبات وحيانية الكتاب وأنه ليس مختلقاً من النبي (ص) أو من وحي الخيال، فهو أمر نستطيع التوثق منه بملاحظة العديد من العناصر التي - إذا ضمت إلى بعضها البعض - تورث الإنسان اليقين بأن هذا الكتاب لا يمكن إلا أن يكون وحياً من الله تعالى، وهذه العناصر كثيرة وأهمها:

 

أولاً: ملاحظة المنظومة المعرفية المتكاملة والرؤية الكونية والوجودية المتماسكة التي جاء بها القرآن، ففي عصر عرف بالجاهلية والخواء الفكري، يأتي محمد (ص) بكتاب يمثل منعطفاً تاريخياً بما يتضمنه من تأسيس معرفي لرؤية فكرية جديدة، إن فيما يتصل بالخالق وصفاته وعلاقة المخلوق به، أو رحلة المبدأ والمعاد، أو يتصل بالكون ودور الإنسان فيه، أو ما ما تضمنه من نظام اجتماعي وأخلاقي وروحي، وعلى القارئ الموضوعي للقرآن أن ينظر إليه نظرة واسعة وشمولية ولا يغرق في بعض الجزئيات المتصلة ببعض الآيات المتشابهة التي أشكل عليه فهمها بما يحجب عنه ما رسالة القرآن الحقيقية. وأنصحك بقراءة كتاب "وعود الإسلام" للمفكر والفيلسوف الفرنسي روجيه غارودي في هذا الشأن، وكتاب "الإسلام كبديل" للمفكر الألماني مراد هوفمان.

 

ثانياً: نظم القرآن، فإنّ كل منصف أمعن ويمعن النظر والتأمل والتدبر في آيات القرآن، لا مفر له من الاذعان أنّه أمام نصٍّ عظيم ومتميّز في تماسكه وتناسق موضوعاته وعلو مضامينه، وعمق معانيه، والقوة في حججه وبراهينه، والبلاغة العالية في أسلوبه المتميز عن النثر والشعر، وفي ألفاظه وجمله وتراكيبه مما يأخذ بالألباب والعقول. وسوف لن يتوانى عن الإقرار بأنّ هذا الكتاب هو - كما وصف نفسه - قول فصل: {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} [الطارق 13- 14] خالٍ من التناقض والاختلاف، {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء 82] وأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

 

باختصار: إنّ في آيات القرآن الكريم كيمياءً خاصة وروحاً عجيبة وعذوبة فائقة الجمال وقوة بيانية ومضمونية لا تضاهى، ولا شك أنّ من وطّن النفس على اتباع الحق وأصغى إلى آيات الكتاب بمدارك العقل ومسامع القلب سوف يرى فيها جاذبية ونورانيّة مميزة وروحانية عالية، كما أنّ فيها نُظماً راقية ومتقدمة لا يمكن أن تبلغ قوّتها وعمق مضامينها وتدفق معانيها أي نصوص أخرى. وهذا في الوقت الذي يدل على إعجاز القرآن فهو يدل أيضاً على عدم تعرضه للتحريف.

وإنّ الجاذبيّة المذكورة لآيات القرآن الكريم هي مما اعترف بها البلاغاء العرب وكثير من الحكماء من المسلمين وغيرهم، ولم يجرؤ فطاحلة الشعراء والأدباء من العرب أن يعارضوه بطريقة جديّة ذات قيمة رغم تحديه لهم ودعوتهم إلى معارضته، قال سبحانه: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [الإسراء 88] وما هذا إلا دليل على قوة القرآن وعدم وجود أية ثغرة فيه أو زيادة أو نقيصة.

 

ثالثاً: ملاحظة صفات الشخصية (ص) التي جاءت بهذا الكتاب، فهو شخص أمّي لم يدرس عند أحد ومع ذلك أتى بهذا القرآن بكل ما يتضمنه من تناسق مبدع ومضمون روحي ومعرفي غير مسبوق، وكذلك ملاحظة سيرته وأقواله وسلوكه الشخصي وخصائصه الذاتية التي تؤكد على تمتعه بأعلى درجات النزاهة والصدقية والطهارة، ومعلوم أنّ حياة الإنسان هي أهم مختبر لصدقية طروحاته ومقولاته، ويلي ذلك دراسة مشروعه الثقافي والحضاري وما تتضمنه رسالته من معارف ومفاهيم لم يعرف الإنسان عنها إلا القليل، ويلي ذلك ملاحظة إنجازاته وحجم التأثير والتغيير الذي أحدثه في المجتمع، والمقارنة بين ما جاء به وبين الموروث الثقافي في السائد في مجتمعه أو الذي جاءت به الكتب الأخرى، فإنّ البشر مهما كان عبقرياً لا يتسنى له أن يخرج عن الموروث الثقافي الذي يحكم بيئته الاجتماعية، فعندما ترى شخصا قد أوجد انقلاباً حضارياً معتمداً على منظومة فكرية وثقافية لا تمت بصلة إلى المستوى الثقافي لمجتمعه، فهذه القرائن وسواها قد تورث اليقين بصدقيته، أأسميتها معجزة أم لم تسمها.

 

رابعاً: أما بعض التفاصيل مثل قضية طول عمر الإنسان، أو قضية يأجوج ومأجوج، أو غيرها، فهي قضايا تسهل الإجابة عليها، ولا أعتقد أنها تشكل معضلة كبيرة، إذا أخذنا بعين الاعتبار أمرين:

 الأول: أن التجارب العلمية لا تزال تفاجئنا كل يوم بجديد وأنّ ما قد نخاله اليوم غير معقول قد يصدقه العلم بعد غد. 

 الثاني: إنّ فهم الكتاب وآياته، ليس محكوماً بالقراءة العرفية اللغوية، وأنّ ثمة مجالاً للقراءة الرمزية – على الأقل – بالنسبة لصنف من الآيات القرآنية.


 
 
  لقاءات >> مقابلات
مع جريدة النهار الكويتية: الصوم انتصار على الغرائز
الشيخ حسين الخشن



 

يقود الحديث مع مدير المعهد الشرعي الإسلامي في لبنان وأستاذ الدراسات العليا في مادتيْ الفقه والأصول في المعهد، سماحة الشيخ حسين الخشن إلى عوالم أخرى. لكنه الفصحى المتقنة مع شيء من الخشوع تفصح عن قيمة شهر رمضان حيث نحن ضيوف في رحاب الله كما يقول، داعياً المسلمين

علماء وعموماً للتأدب بأدب مضيفهم الجلل ومشدداً على أهمية العودة للذات في شهر الله. للذات كأمّة، وللذات كأفراد. للتأمل والتدبّر في شؤون الأمة وما وصلت إليه من واقع مؤسف..ثم للتأمل في أوضاع النفوس وما اعتراها من تشوّهات وأغلال، لتصفيتها وتنقيتها وتطهيرها، ومن ثمّ تحميلها زاداً من

الفكر والإيمان والفهم الصحيح للدين..زاداً كافياً لإعادة تقويم صورة الإنسان المسلم في العالم اجمع، وفي عالمنا العربي والإسلامي على وجه التحديد.. زاداً لا بد ولا غنى عن التزوّد به، على مستوى علماء الدين كما الأفراد، لإعادة بناء الإنسانية في الإنسان، حسب تعبير سماحته!

 


في الحلقة الأولى من حديثه لـالنهار قال الشيخ الخشن إن شهر رمضان ينبغي أن يكون شهر السكينة، لا شهر التوتر والازدحام بالإفطارات والضوضاء وما إلى ذلك، بل هو شهر للعودة الى الذات والتأمل وتحقيق الاطمئنان والسكينة، وأكّد ان شهر رمضان هو شهر التقارب والتراحم والتلاقي، ليس

التدابر ولا التلاحم ولا التقاتل وقال: حبّذا لو أن هؤلاء الذين يحملون السلاح بأيديهم يعون مغزى الصوم ليستريحوا على الأقل في هذا الشهر، ليأخذوا استراحة مقاتل ليتدبروا ويفكروا بوضع هذه الأمة، وبهذه الحرب التي أدخلوا الأمة بها!


وشدد على أن مغزى الصوم يكمن في الانتصار على الغريزة، كل أنواع الغريزة.واكّد الشيخ الخشن اننا مهما بلغنا من الثروة والجاه، نبقى فقراء في مكان ما، نبقى بحاجة للغني المطلق وهو الله سبحانه وتعالى.. وفي ما يلي نص الجزء الأول من الحوار:

 

 

بدايةً، في زحمة الضغوطات اليومية وكل ما يحيط بإنسان هذا العصر من أسى وحزن وظلم، يأتينا شهر رمضان المبارك ليشكل فسحة من الهدوء والتأمل والسكينة والرجوع الى الذات. هلّا حدّثتنا عن أهمية شهر رمضان في هذا الإطار؟


- بسم الله الرحمن الرحيم. أعتقد أن شهر رمضان المبارك هو فرصة سنوية يتاح للإنسان من خلالها أن يقف وقفة تأمّل مع نفسه وذاته، أن يعود إلى الذات ليسائلها ويحاسبها ويراقبها، لأننا في ما نرى أننا مشغولون غالباً في هموم الناس ومصائبهم وعيوبهم، وننسى همومنا وآلامنا وعيوبنا. من هنا

نقول أن هذا الشهر فرصة لا بد أن نتوقف فيها مع ذاتنا كأفراد، وأن نعود إلى ذاتنا كأمّة، لندرس أوضاعنا، لأن هؤلاء المسلمين ينخرطون جميعاً في عملية صوم واحد وإفطار واحد. مظهر رائع وجميل وموحّد، لكن علينا ان نستثمره. هذا ما أعنيه بالعودة إلى الذات كأمة. ومن هنا، حبّذا لو تتحوّل

المنابر الإعلامية وغيرها التي تملأ مسامعنا بالضجيج طوال أيام السنة، لو تتحوّل في هذا الشهر الفضيل الى نوع مختلف من المنابر. فنحن بحاجة فعلاً إلى منابر تعيد الإنسان إلى إنسانيته.

 


من جهة ثانية، وإلى جانب كونه فرصة للتأمل والعودة للذات، يشكل رمضان فرصة للإنسان لبناء ذاته، لكي يحقّق نوعاً من الامن والاستقرار الداخلي. فنحن بنو الإنسان نتطلّع إلى الأمن والاستقرار. وكل الحضارات والطروحات والرؤى الفلسفية والدينية إنما تبغي شيئاً واحداً هو تحقيق سعادة الإنسان

وأمنه واستقراره. ونحن نعتقد ان لا استقرار لهذا الإنسان إلا بالعودة إلى الله سبحانه وتعالى {ألا بذكر الله تطمئن القلوب}. شهر رمضان فرصة طيّبة ليحقّق لنا هذا السَكَن، هذه السكينة وهذا الاطمئنان. ونحن فعلاً بأمس الحاجة لهذا الأمر في الأسرة كما في المجتمع الكبير. فالزوج والزوجة لا بد أن

يعيشا معاً نوعاً من السكن. لذلك فإن الله سبحانه وتعالى عندما يحدّثنا في القرآن الكريم عن فلسفة الزواج يقول { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا }. فالزوجة بالنسبة لزوجها سكن والعكس صحيح أيضاً. وتضيف الآية: { وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً }. فالحياة الزوجية لا بد أن تحقق

عنوان السكن. وحتّى العبادة أيضاً. فالعبادات ليست شعائر وطقوس وأشكال نؤدّيها، العبادات لا بد أن تحقق لنا هذا الاطمئنان {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ}، ومن هنا نقرأ في آية قرآنية ان {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ}. فالله يوصي نبيه

الكريم بأن يصلّي على هذه الامة، وان يدعو لهم، فصلاته تبعث على السكن.


من هنا ينبغي أن يكون شهر رمضان شهر السكينة، لا شهر التوتر والازدحام بالإفطارات والضوضاء وما إلى ذلك، بل هو شهر للعودة الى الذات والتأمل وتحقيق الاطمئنان والسكينةبخلاف ما تتحدثون عنه، يتحوّل الشهر الفضيل الى فرصة استهلاكية وترويجية لكم هائل من المسلسلات والبرامج

التلفزيونية التي تقتصر على التسلية والترفيه دون الأخذ بعين الاعتبار قيم هذا الشهر الكريم. فكيف يمكن تحقيق هذا الاطمئنان والسكن، في ظل اللهاث لتحصيل لقمة العيش، وفي ظل الضجيج السياسي والإعلامي المرهق من حولنا؟

 

دعينا نقول أن هذا التشوّه الذي أصابنا انعكس على رؤيتنا للأشياء. نعم حقاً تقولين أن هذا الشهر بدل ان يكون شهراً للاطمئنان وللسعي لتحصيل الاستقرار النفسي والاجتماعي، نراه يتحوّل الى شهر للصخب والاتجار السياسي والمادي، شهر للإفطارات الكبرى والزخارف والمبالغات، مع الأسف الشديد،

وللمباهاة في الإفطارات، وبالفعل شهر للاستهلاك الإعلامي والسياسي. وهنا نشدد على أن المسلمين مدعوّون للعودة إلى قيم الإسلام، ومغزى هذا الشهر الشريف. فإن أبواب الرحمة في هذا الشهر مفتّحة، فلا تغلقوها بذنوبكم وعصيانكم وتمرّدكم لأن أيدي الشياطين في هذا الشهر مغلولة، فلا تفكّوها

بذنوبكم. بالفعل نحن بذنوبنا نفكّ أيدي الشياطين. هذا الشهر عنوانه انه شهر الرحمة، شهر ضيافة الله. نحن ضيوف الله في هذا الشهر، فلنتأدّب بأدب هذا المضيف. فلنحسن الضيافة، ولنختزن من روحية هذا الشهر ولنشحن نفوسنا وأرواحنا بالمعنويات والأخلاقيات والدروس والعبر زاداً للعام المقبل.


وأنا أقول دوماً ان علامة قبول الصيام تظهر بعد انتهاء شهر الصيام. فهل تخلّقنا بأخلاق الله؟ هل تأدبنا بآداب الصيام. فالصوم له أبعاد. هناك بعد روحي وأخلاقي وهناك بعد اجتماعي أيضاً، أن نشعر بالآخر. لذلك نحن ننهي شهر الصيام بزكاة الفطرة، بالصدقة على الفقراء والمحتاجين، بالشعور

بالآخر.

 


الإنسان بحاجة إلى نوعيْن من العلاقة، علاقة عامودية تربطه بالله سبحانه وتعالى، ولا بد أن تتبعها على الدوام علاقة أفقية تربطه بأخيه الإنسان. لذلك نلاحظ في القرآن الكريم دوماً الربط بين { يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ }، للدلالة على العلاقتيْن العامودية بالله تعالى والأفقية مع عيال الله وأهله.

 


هل تكفي الزكاة في رمضان لغسل الحقد من نفوس البعض؟


أعتقد لو أننا فعّلنا البرامج التي يُطلب من الإنسان تأديتها خلال شهر رمضان لوصلنا الى هذا السمو الأخلاقي والروحي والاجتماعي. أتحدث هنا عن برنامج روحي يفتح قلب الصائم على الله. فالصائم يكون في حالة جذب روحي قريب من الله سبحانه وتعالى. علينا أن نعدّ برنامجاً، وهذا ما أوصانا به

النبي الكريم والأئمة من أهل البيت عليهم السلام. فهناك أدعية وزاد روحي عظيم يجعل الإنسان منفتحاً على الله سبحانه وتعالى.


كذلك نحن بحاجة لبرنامج ثقافي، لأن نتدبّر ونتطلّع في خلق الله. علينا بتأمّل الهلال وهي ثقافة فلكية، وعلينا بقراءة القرآن قراءة تدبّر وتأمّل، وهو نوع من الثقافة. وهناك أيضاً البرنامج الأخلاقي التربوي الذي يساعدنا على تهذيب أنفسنا في هذا الشهر المبارك. الصوم لا بد أن يصقل شخصية الإنسان.

والذي لا يخرج من شهر رمضان بهذه الحصيلة يعدّ خاسراً


لكن مع ذلك، أنا لا أنظر إلى الواقع بسوداوية مطلقة. ففي شهر رمضان المبارك يكثر الخير في صفوف المسلمين، وتقل الجريمة في العالم العربي والإسلامي إلى أدنى مستوياتها، ما يعني أن للصوم تأثيرا في النفوس في شهر الخير. كذلك، من أهم الخطوط التربوية التي علينا مراعاتها في شهر رمضان

المبارك هو الجانب الاجتماعي، أن نصل أرحامنا واخواننا ومن قطعنا. يقول النبي في الحديث الشريف من وصل في هذا الشهر رحِمَه، وصله الله برحمته يوم يلقاه، وفي ذلك تحفيز على التلاقي والتقارب والاجتماع. هذه الأخلاق للأسف أصبحت غريبة عنّا، حيث تمضي شهور وبعض المسلمين لا يكلم

والديْه!


شهر رمضان هو شهر التقارب والتراحم والتلاقي، ليس للتدابر ولا التلاحم ولا التقاتل. لذلك حبّذا لو أن هؤلاء الذين يحملون السلاح بأيديهم يعون مغزى الصوم ليستريحوا على الأقل في هذا الشهر، ليأخذوا استراحة مقاتل ليتدبروا ويفكروا بوضع هذه الأمة، وبهذه الحرب التي أدخلوا الأمة بها.

 


أي جوانب الصيام هي الأهم في رمضان؟


الصوم في الحقيقة له عدّة مستويات. هناك المستوى المعروف، وهو أن يمسك الإنسان ويكفّ عن الطعام والشراب وعن العلاقة بالجنس الآخر في الفترة الممتدة من قبيْل طلوع الفجر الى حين غروب الشمس. وهذا المستوى من الصوم جيّد، وربما له بعد صحي وأبعاد أخرى كثيرة. لكن هناك صوما أعلى

من صوم البطن والفرج، ألا وهو صوم الجوارح. أن تصوم ألسنتنا عن الفتنة والنميمة والغيبة. فلا يمكن لي أن أصوم عن الطعام وأنا آكل لحوم الناس بالغيبة. ولا يمكن أن أصوم عن الشراب وأنا أنال بيدي أو بلساني او بنظراتي الحادة من الآخرين وأؤذيهم. لا يمكن أن أصوم وأنا أؤذي زوجتي. فبعض

الرجال يذهبون الى البيت ويرفعون الصوت على زوجاتهم وأولادهم بحجة أنهم صائمون! الصوم يجب أن يهذّب أخلاقنا وأن يعلمنا كيف لا نغضب، وكيف ننتصر على الإرادة التي تدعونا لطلب الطعام والشراب. مغزى الصوم يكمن في الانتصار على الغريزة، كل أنواع الغريزة. فإذا كنت لن تنتصر

على غضبك ولسانك، لتحرّك أنت لسانَك بدل أن يحرّكك هذا اللسان، فأنت لم تعرف معنى الصوم.


وهناك مستوى ثالت ربما يكون أعمق للصوم، وهو أن ينطلق الصوم من الجوارح الى الجوانح اي القلوب. أن تصوم قلوبنا ونوايانا وعقولنا عن الحرام، ألا نفكّر إلا بما فيه مصلحة الإنسانية، ألا تنبض هذه القلوب بالحدق والغل والخبث. فأن يكون صوم الجوارح، أي البطن والأيدي والأرجل والفرج،

مقدّمة لصوم الجوانح اي الروح والقلب. هذا هو المغزى الأقصى من الصوم.

 


هل يبرر الصيام الإسراف في بعض مظاهر الطعام في الإفطارات، وبعض مظاهر اللهو المبالغ فيها في هذا الشهر الفضيل؟


من الظواهر السلبية التي تترافق في أيامنا هذه مع شهر رمضان المبارك هي أننا نحوّل الشهر الفضيل الى فرصة للسهر واللهو واستخدام النراجيل في الليل، بدل ان يكون شهر القيام في الليل ليأخذ الانسان سبحة للجلوس مع الله سبحانه وتعالى. بالفعل، ليالي رمضان تتحوّل إلى ليال صاخبة بكل ألوان

الطعام وبكل أشكال اللهو. وثمة من يحوّل نهارهم إلى ليل، فيقضون نهارهم بالنوم، وهذا انحراف وظاهرة سلبية لدى البعض غير القليل من الأخوة المسلمين. وكذلك ظاهرة الإسراف انحراف. فالصوم يجب أن يعلّمنا كيف نتحسس جوع الفقراء والمساكين. ما يحصل أن البعض ينزل في الإفطار مائدة

تكفي عشرات الأشخاص، ولا تأكل العائلة منها سوى الشيء اليسير ثم ترمي البقايا في النفايات. إنه الإسراف والتبذير. والله تعالى علّمنا أن وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ.

 


كيف يمكن أن ينال المسلم فرح الصوم في رمضان؟


هناك أنواع من الفرح. الفرح المادي، عندما يجلس الصائم على الإفطار بعد يوم طويل يفرح بحلول وقت الإفطار، وهذا أمر جيد. كذلك يفرح بلقاء الأحبة وبدعوة الأهل والإخوان إلى الإفطار. هذا الترابط الاجتماعي يحقق نوعاً من الفرح، وهو محبّب، وهو أحد أبعاد الصوم الذي وصفناه بالمستوى

الاجتماعي.


أما الفرح الأسمى، فهو الفرح الروحي. وأقول لغير الصائمين او للذين لا يبالون بالصوم، تعالوا جرّبوا هذا النوع من الفرح. فأنتم تعيشون في حياتكم فرحاً ولذة مادية. وهذا الأمر ليس مبغوضاً، لكن هناك فرحا ولذة من نوع آخر، هي اللذة الروحية، وهي لذة من نوع خاص يشعر بها الإنسان من منطلق

قربه من الله تعالى. هذا الفرح لا يمكن وصفه إلا ممن اختبره.


والإسلام لا ينبذ الفرح، لكنه ينبذ البتر. أما الفرح واللهو البريء الذي يفتح قلب الإنسان على التسلية فهو مطلوب. لكن فلنقسّم أوقاتنا، تحديداً في شهر رمضان المبارك، حيث المغزى هو تحقيق السكن، وأخذ المخزون الذي سيعيننا على التماسك طوال العام. ثم يأتي العيد، يوم الزينة، يوم الفرح والسرور

 

مقابلة أجرتها الصحافية غنوى غازي / جريدة النهار الكويتية في 29 حزيران 2016 مـ.

http://annaharkw.com/Annahar/Article.aspx?id=668490&date=29062016

نُشرت على الموقع 1-7-2016






اضافة تعليق

الاسم *

البريد الإلكتروني *

موضوع *

الرسالة *


 


 
  قراءة الكتب
 
    Designed and Developed
       by CreativeLebanon