حوار مع مركز أفاق للدراسات والأبحاث: مشكلة الأديان تتشكل في الخطاب الفقهي    ثمن الحرية    أمثل الأساليب في عمليّة تهذيب النفس    مزايا الشباب    العمل سرّ النجاح    العبادة وعيٌ وانفتاح لا جهل وانغلاق    اقتناء أصنام الأمم البائدة    المفاهيم الدينية بين وجوب الاعتقاد وحرمة الانكار    البناء الاعتقادي بين الاجتهاد والتقليد    
 
بحث
 
تكريم الإنسان
 
س » أنا طالب علم، لدي خوف من أن أتكلم بغير علم.. ما الحل؟
ج »

وعليكم السلام

لا بد لطالب العلم في مساره العلمي أن يتسلح بأمرين أساسيين:
الأول: الاستنفار العلمي وبذل الجهد الكافي لمعرفة قواعد فهم النص واستكناه معناه ودلالاته بما يعينه على التفقه في الدين وتكوين الرأي على أسس صحيحة.
الثاني: التقوى العلمية ويُراد بها استحضار الله سبحانه وتعالى في النفس حذراً من الوقوع في فخ التقوّل على الله بغير علم. ومن الضروري أن يعيش مع نفسه حالة من المحاسبة الشديدة ومساءلة النفس من أن دافعه إلى تبني هذا الرأي أو ذاك: هل هو الهوى والرغبة الشخصية أم أن الدافع هو الوصول إلى الحقيقة ولو كانت على خلاف الهوى.
أعتقد أن طالب العلم إذا أحكم هذين الامرين فإنه سيكون موفقاً في مسيرته العلمية وفيما يختاره من آراء أو يتبناه من موقف.

 
س » كيف علمنا أن الصحيفة السجادية ناقصة؟ وهل ما وجده العلماء من الأدعية صحيح؟؟
ج »

أقول في الإجابة على سؤالكم:

أولاً: إن الصحيفة السجادية في الأصل تزيد على ما هو واصل إلينا وموجود بين أيدينا، قال المتوكل بن هارون كما جاء في مقدمة الصحيفة: " ثم أملى عليّ أبو عبد الله (ع) الأدعية، وهي خمسة وسبعون باباً، سقط عني منها أحد عشر باباً، وحفظت منها نيفاً وستين باباً"، بيد أن الموجود فعلاً في الصحيفة الواصلة إلينا هو أربعة وخمسون دعاء. آخرها دعاؤه في استكشاف الهموم، وهذا آخر دعاء شرحه السيد علي خان المدني في رياض السالكين، وكذا فعل غيره من الأعلام.

ثانياً: إن سقوط عدد من أدعية الصحيفة وضياعها دفع غير واحد من الأعلام للبحث والتتبع في محاولة لمعرفة ما هو الضائع منها، وبحدود اطلاعي فإنهم عثروا على أدعية كثيرة مروية عن الإمام زين العابدين (ع)، لكنهم لم يصلوا إلى نتائج تفيد أن ما عثروا عليه هو من الأدعية الناقصة منها، ولذا عنونوا مؤلفاتهم بعنوان مستدركات على الصحيفة، ولم يجزموا أن ما جمعوه من أدعية هو الضائع من أدعية الصحيفة. وهذا ما تقتضيه الضوابط العلمية والدينية، فما لم يعثر الإنسان على نسخة قديمة موثوقة أو قرائن مفيدة للوثوق بأن هذا الدعاء أو ذاك هو من جملة أدعية الصحيفة فلا يصح له إضافة بعض الأدعية على الصحيفة بعنوان كونها منها.

ثالثاً: لقد ابتُلينا بظاهرة خطيرة، وهي ظاهرة الإضافة على الصحيفة أو غيرها من كتب الأدعية، وهذا العمل هو خلاف الأمانة والتقوى، وقد ترتّب على ذلك الكثير من المفاسد، وأوجب ذلك وهماً للكثيرين، فتوهموا أن بعض الأدعية هي جزء من الصحيفة السجادية المشهورة، ومردّ ذلك بكل أسف إلى أن مجال الأدعية والزيارات شرعة لكل وارد، وتُرك لأصحاب المطابع والمطامع! وأعتقد أن هذا العبث في كتب الأدعية والزيارات ناشئ عن عدم عناية العلماء بالأمر بهذه الكتب كما ينبغي ويلزم، كما نبه عليه المحدث النوري في كتابه "اللؤلؤ والمرجان" مستغرباً صمت العلماء إزاء التلاعب والعبث بنصوص الأدعية والزيارات مما يعدّ جرأة عظيمة على الله تعالى ورسوله (ص)!

رابعاً: أما ما سألتم عنه حول مدى صحة الأدعية الواردة بعد دعاء استكشاف الهموم، فهذا أمر لا يسعنا إعطاء جواب حاسم وشامل فيه، بل لا بدّ أن يدرس كل دعاء على حدة، ليرى ما إذا كانت قرائن السند والمتن تبعث على الحكم بصحته أم لا. فإن المناجاة الخمس عشرة بنظرنا لم تصح وربما كانت من وضع الصوفية، وقد أوضحنا ذلك بشكل مفصل في كتاب الشيع والغلو.


 
س » ابني المراهق يعاني من التشتت، وأنا جدا قلق ولا اعرف التصرف معه، ما هي نصيحتكم؟
ج »

التشتت في الانتباه في سن المراهقة مع ما يرافقه من الصعوبات هو في حدود معينة أمر طبيعي وظاهرة تصيب الكثير من المراهقين ولا سيما في عصرنا هذا.

وعلينا التعامل مع هذه المرحلة بدقة متناهية من الاستيعاب والتفهم والإرشاد والتوجيه وتفهم سن المراهق، وأن هذه المرحلة تحتاج إلى أسلوب مختلف عما سبقها.

فالمراهق ينمو لديه الإحساس بالذات كثيرا حتى ليخيل إليه أنه لم يعد بحاجة إلى الاحتضان والرعاية من قِبل والديه.

وبالتالي علينا أن نتعامل معه بأسلوب المصادقة "صادقه سبعا.." والتنبه جيدا للمؤثرات التي تسهم في التأثير على شخصيته واستقامته وتدينه، ومن هذه المؤثرات: الأصدقاء ووسائل التواصل الاجتماعي، فإن نصيبها ودورها في التأثير على المراهق هو أشد وأعلى من دورنا.

وفي كل هذه المرحلة علينا أن نتحلى بالصبر والأناة والتحمل، وأن نبتدع أسلوب الحوار والموعظة الحسنة والتدرج في العمل التربوي والرسالي.

نسأل الله أن يوفقكم وأن يقر أعينكم بولدكم وأن يفتح له سبيل الهداية. والله الموفق.


 
س » اعاني من عدم الحضور في الصلاة، فهل أحصل على الثواب؟
ج »
 
لا شك أن العمل إذا كان مستجمعا للشرائط الفقهية، فهو مجزئٌ ومبرئٌ للذمة. أما الثواب فيحتاج إلى خلوص النية لله تعالى بمعنى أن لا يدخل الرياء ونحوه في نية المصلي والعبادة بشكل عام.
ولا ريب أنه كلما كان الإنسان يعيش حالة حضور وتوجه إلى الله كان ثوابه أعلى عند الله، لكن لا نستطيع نفي الثواب عن العمل لمجرد غياب هذا الحضور في بعض الحالات بسبب الظروف الضاغطة على الإنسان نفسيا واجتماعيا.
لكن على الإنسان أن يعالج مشكلة تشتت الذهن أثناء العمل العبادي وذلك من خلال السعي الجاد للتجرد والابتعاد عن كل الهواجس والمشكلات أثناء الإقبال على الصلاة، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، باستحضار عظمة الله عز وجل في نفوسنا وأنه لا يليق بنا أن نواجهه بقلب لاهٍ وغافل. والله الموفق.

 
س » أنا إنسان فاشل، ولا أتوفق في شيء، وقد كتب عليّ بالخسارة، فما هو الحل؟
ج »

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

أولاً: التوفيق في الحياة هو رهن أخذ الإنسان بالأسباب التي جعلها الله موصلة للنجاح، فعلى الإنسان أن يتحرك في حياته الشخصية والمهنية والاجتماعية وفق منطق الأسباب والسنن. على سبيل المثال: فالإنسان لن يصل إلى مبتغاه وهو جليس بيته وحبيس هواجسه، فإذا أراد الثروة فعليه أن يبحث عن أسباب الثروة وإذا أراد الصحة فعليه أن يأخذ بالنصائح الطبية اللازمة وإذا أراد حياة اجتماعية مستقرة عليه أن يسير وفق القوانين والضوابط الإسلامية في المجال الاجتماعي وهكذا.

ثانياً: لا بد للإنسان أن يعمل على رفع معوقات التوفيق، وأني أعتقد أن واحدة من تلك المعوقات هي سيطرة الشعور المتشائم على الإنسان بحيث يوهم نفسه بأنه إنسان فاشل وأنه لن يوفق وأنه لن تناله البركة الإلهية.

إن هذا الإحساس عندما يسيطر على الإنسان فإنه بالتأكيد يجعله إنسانا فاشلا ومحبطا ولن يوفق في حياته ولذلك نصيحتي لك أن تُبعد مثل هذا الوهم عن ذهنك وانطلق في الحياة فإن سبيل الحياة والتوفيق لا تعد ولا تحصى.


 
س » ما هو هدف طلب العلم الذي يجب أن يكون؟
ج »

عندما ينطلق المسلم في طلبه للعلم من مسؤوليته الشرعية الملقاة على عاتقه ومن موقع أنه خليفة الله على الأرض، فإن ذلك سوف يخلق عنده حافزاً كبيراً للجد في طلب العلم والوصول إلى أعلى المراتب. أما إذا انطلق في تحصيله من موقع المباهاة أو إثبات ذاته في المجتمع أو من موقع من يريد أن يزين اسمه بالشهادة الجامعية ليُقال له "الدكتور" وما إلى ذلك، فإنه - في الغالب - لن يصل إلى النتيجة المرجوة.

وعلى كل إنسان منا أن يعي أنّنا في هذه الحياة مسؤولون في أن نترك أثراً طيباً، وأن نقوم بواجباتنا قبل أن يطوينا الزمان، إننا مسؤولون عن عمرنا فيما أفنيناه وعن شبابنا فيما أبليناه، وسنُسأل يوم القيامة عن كل هذه الطاقات التي منّ اللهُ بها علينا.

وأضف إلى ذلك، إنه من الجدير بالمسلم، أن لا يفكر في نفسه وما يريحه هو فحسب في طلبه للعلم، بل أن يفكر أيضاً في أمته والنهوض بها ليكون مستقبلها زاهراً، وهذا كله يحتم عليه أن يكون سقف طموحاته عالياً ليتمكن هو وأقرانه من الطلاب والعلماء من ردم الفجوة بيننا وبين الغرب الذي سبقنا على أكثر من صعيد.

باختصار: إن مسؤوليتنا ورسالتنا وانتماءنا لهذه الأمة يفرض علينا أن نعيش حالة طوارئ ثقافية وعلمية.


 
س » ما رأيكم في الاختلاط المنتشر في عصرنا، وكيف نحاربه؟
ج »

إنّ الاختلاط قد أصبح سمة هذا العصر في كثير من الميادين، ومنها الجامعات والطرقات والساحات وكافة المرافق العامة.. والاختلاط في حد ذاته ليس محرماً ما لم يفضِ إلى تجاوز الحدود الشرعية في العلاقة بين الرجل والمرأة الأجنبيين؛ كما لو أدى إلى الخلوة المحرمة بالمرأة أو مصافحتها أو كان المجلس مشوباً بأجواء الإثارة الغرائزية أو غير ذلك مما حرمه الله تعالى.

وفي ظل هذا الواقع، فإنّ العمل على تحصين النفس أولى من الهروب أو الانزواء عن الآخرين بطريقة تشعرهم بأن المؤمنين يعيشون العُقد النفسية. إن على الشاب المسلم أن يثق بنفسه وأن يفرض حضوره ووقاره، وأن يبادر إلى إقناع الآخرين بمنطقه وحججه، وأن يبيّن لهم أن الانحراف والتبرج والفجور هو العمل السيّئ الذي ينبغي أن يخجل به الإنسان، وليس الإيمان ومظاهر التدين.

وأننا ندعو شبابنا عامة وطلاب الجامعات خاصة من الذكور والإناث إلى أن يتزينوا بالعفاف، وأن يحصنوا أنفسهم بالتقوى بما يصونهم من الوقوع في الحرام.


 
س » كيف يمكن التخلص من السلوكيات والعادات السيئة؟
ج »

إن التغلب على السلوكيات الخاطئة أو العادات السيئة – بشكل عام – يحتاج بعد التوكل على الله تعالى إلى:

أولاً: إرادة وتصميم، ولا يكفي مجرد الرغبة ولا مجرد النية وانما يحتاج بالإضافة إلى ذلك إلى العزم والمثابرة وحمل النفس على ترك ما اعتادته.

ثانياً: وضع برنامج عملي يمكّن الإنسان من الخروج من هذه العادة السيئة بشكل تدريجي؛ وأرجو التركيز على مسألة "التدرج" في الخروج من هذه العادات السيئة؛ لأن إدمان النفس على الشيء يجعل الخروج منه صعباً ويحتاج إلى قطع مراحل، وأما ما يقدم عليه البعض من السعي للخروج الفوري من هذه العادة، فهو - بحسب التجربة - سيُمنى في كثير من الأحيان بالفشل. والله الموفق


 
 
  لقاءات >> مقابلات
مع جريدة النهار الكويتية: الصوم انتصار على الغرائز
الشيخ حسين الخشن



 

يقود الحديث مع مدير المعهد الشرعي الإسلامي في لبنان وأستاذ الدراسات العليا في مادتيْ الفقه والأصول في المعهد، سماحة الشيخ حسين الخشن إلى عوالم أخرى. لكنه الفصحى المتقنة مع شيء من الخشوع تفصح عن قيمة شهر رمضان حيث نحن ضيوف في رحاب الله كما يقول، داعياً المسلمين

علماء وعموماً للتأدب بأدب مضيفهم الجلل ومشدداً على أهمية العودة للذات في شهر الله. للذات كأمّة، وللذات كأفراد. للتأمل والتدبّر في شؤون الأمة وما وصلت إليه من واقع مؤسف..ثم للتأمل في أوضاع النفوس وما اعتراها من تشوّهات وأغلال، لتصفيتها وتنقيتها وتطهيرها، ومن ثمّ تحميلها زاداً من

الفكر والإيمان والفهم الصحيح للدين..زاداً كافياً لإعادة تقويم صورة الإنسان المسلم في العالم اجمع، وفي عالمنا العربي والإسلامي على وجه التحديد.. زاداً لا بد ولا غنى عن التزوّد به، على مستوى علماء الدين كما الأفراد، لإعادة بناء الإنسانية في الإنسان، حسب تعبير سماحته!

 


في الحلقة الأولى من حديثه لـالنهار قال الشيخ الخشن إن شهر رمضان ينبغي أن يكون شهر السكينة، لا شهر التوتر والازدحام بالإفطارات والضوضاء وما إلى ذلك، بل هو شهر للعودة الى الذات والتأمل وتحقيق الاطمئنان والسكينة، وأكّد ان شهر رمضان هو شهر التقارب والتراحم والتلاقي، ليس

التدابر ولا التلاحم ولا التقاتل وقال: حبّذا لو أن هؤلاء الذين يحملون السلاح بأيديهم يعون مغزى الصوم ليستريحوا على الأقل في هذا الشهر، ليأخذوا استراحة مقاتل ليتدبروا ويفكروا بوضع هذه الأمة، وبهذه الحرب التي أدخلوا الأمة بها!


وشدد على أن مغزى الصوم يكمن في الانتصار على الغريزة، كل أنواع الغريزة.واكّد الشيخ الخشن اننا مهما بلغنا من الثروة والجاه، نبقى فقراء في مكان ما، نبقى بحاجة للغني المطلق وهو الله سبحانه وتعالى.. وفي ما يلي نص الجزء الأول من الحوار:

 

 

بدايةً، في زحمة الضغوطات اليومية وكل ما يحيط بإنسان هذا العصر من أسى وحزن وظلم، يأتينا شهر رمضان المبارك ليشكل فسحة من الهدوء والتأمل والسكينة والرجوع الى الذات. هلّا حدّثتنا عن أهمية شهر رمضان في هذا الإطار؟


- بسم الله الرحمن الرحيم. أعتقد أن شهر رمضان المبارك هو فرصة سنوية يتاح للإنسان من خلالها أن يقف وقفة تأمّل مع نفسه وذاته، أن يعود إلى الذات ليسائلها ويحاسبها ويراقبها، لأننا في ما نرى أننا مشغولون غالباً في هموم الناس ومصائبهم وعيوبهم، وننسى همومنا وآلامنا وعيوبنا. من هنا

نقول أن هذا الشهر فرصة لا بد أن نتوقف فيها مع ذاتنا كأفراد، وأن نعود إلى ذاتنا كأمّة، لندرس أوضاعنا، لأن هؤلاء المسلمين ينخرطون جميعاً في عملية صوم واحد وإفطار واحد. مظهر رائع وجميل وموحّد، لكن علينا ان نستثمره. هذا ما أعنيه بالعودة إلى الذات كأمة. ومن هنا، حبّذا لو تتحوّل

المنابر الإعلامية وغيرها التي تملأ مسامعنا بالضجيج طوال أيام السنة، لو تتحوّل في هذا الشهر الفضيل الى نوع مختلف من المنابر. فنحن بحاجة فعلاً إلى منابر تعيد الإنسان إلى إنسانيته.

 


من جهة ثانية، وإلى جانب كونه فرصة للتأمل والعودة للذات، يشكل رمضان فرصة للإنسان لبناء ذاته، لكي يحقّق نوعاً من الامن والاستقرار الداخلي. فنحن بنو الإنسان نتطلّع إلى الأمن والاستقرار. وكل الحضارات والطروحات والرؤى الفلسفية والدينية إنما تبغي شيئاً واحداً هو تحقيق سعادة الإنسان

وأمنه واستقراره. ونحن نعتقد ان لا استقرار لهذا الإنسان إلا بالعودة إلى الله سبحانه وتعالى {ألا بذكر الله تطمئن القلوب}. شهر رمضان فرصة طيّبة ليحقّق لنا هذا السَكَن، هذه السكينة وهذا الاطمئنان. ونحن فعلاً بأمس الحاجة لهذا الأمر في الأسرة كما في المجتمع الكبير. فالزوج والزوجة لا بد أن

يعيشا معاً نوعاً من السكن. لذلك فإن الله سبحانه وتعالى عندما يحدّثنا في القرآن الكريم عن فلسفة الزواج يقول { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا }. فالزوجة بالنسبة لزوجها سكن والعكس صحيح أيضاً. وتضيف الآية: { وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً }. فالحياة الزوجية لا بد أن تحقق

عنوان السكن. وحتّى العبادة أيضاً. فالعبادات ليست شعائر وطقوس وأشكال نؤدّيها، العبادات لا بد أن تحقق لنا هذا الاطمئنان {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ}، ومن هنا نقرأ في آية قرآنية ان {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ}. فالله يوصي نبيه

الكريم بأن يصلّي على هذه الامة، وان يدعو لهم، فصلاته تبعث على السكن.


من هنا ينبغي أن يكون شهر رمضان شهر السكينة، لا شهر التوتر والازدحام بالإفطارات والضوضاء وما إلى ذلك، بل هو شهر للعودة الى الذات والتأمل وتحقيق الاطمئنان والسكينةبخلاف ما تتحدثون عنه، يتحوّل الشهر الفضيل الى فرصة استهلاكية وترويجية لكم هائل من المسلسلات والبرامج

التلفزيونية التي تقتصر على التسلية والترفيه دون الأخذ بعين الاعتبار قيم هذا الشهر الكريم. فكيف يمكن تحقيق هذا الاطمئنان والسكن، في ظل اللهاث لتحصيل لقمة العيش، وفي ظل الضجيج السياسي والإعلامي المرهق من حولنا؟

 

دعينا نقول أن هذا التشوّه الذي أصابنا انعكس على رؤيتنا للأشياء. نعم حقاً تقولين أن هذا الشهر بدل ان يكون شهراً للاطمئنان وللسعي لتحصيل الاستقرار النفسي والاجتماعي، نراه يتحوّل الى شهر للصخب والاتجار السياسي والمادي، شهر للإفطارات الكبرى والزخارف والمبالغات، مع الأسف الشديد،

وللمباهاة في الإفطارات، وبالفعل شهر للاستهلاك الإعلامي والسياسي. وهنا نشدد على أن المسلمين مدعوّون للعودة إلى قيم الإسلام، ومغزى هذا الشهر الشريف. فإن أبواب الرحمة في هذا الشهر مفتّحة، فلا تغلقوها بذنوبكم وعصيانكم وتمرّدكم لأن أيدي الشياطين في هذا الشهر مغلولة، فلا تفكّوها

بذنوبكم. بالفعل نحن بذنوبنا نفكّ أيدي الشياطين. هذا الشهر عنوانه انه شهر الرحمة، شهر ضيافة الله. نحن ضيوف الله في هذا الشهر، فلنتأدّب بأدب هذا المضيف. فلنحسن الضيافة، ولنختزن من روحية هذا الشهر ولنشحن نفوسنا وأرواحنا بالمعنويات والأخلاقيات والدروس والعبر زاداً للعام المقبل.


وأنا أقول دوماً ان علامة قبول الصيام تظهر بعد انتهاء شهر الصيام. فهل تخلّقنا بأخلاق الله؟ هل تأدبنا بآداب الصيام. فالصوم له أبعاد. هناك بعد روحي وأخلاقي وهناك بعد اجتماعي أيضاً، أن نشعر بالآخر. لذلك نحن ننهي شهر الصيام بزكاة الفطرة، بالصدقة على الفقراء والمحتاجين، بالشعور

بالآخر.

 


الإنسان بحاجة إلى نوعيْن من العلاقة، علاقة عامودية تربطه بالله سبحانه وتعالى، ولا بد أن تتبعها على الدوام علاقة أفقية تربطه بأخيه الإنسان. لذلك نلاحظ في القرآن الكريم دوماً الربط بين { يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ }، للدلالة على العلاقتيْن العامودية بالله تعالى والأفقية مع عيال الله وأهله.

 


هل تكفي الزكاة في رمضان لغسل الحقد من نفوس البعض؟


أعتقد لو أننا فعّلنا البرامج التي يُطلب من الإنسان تأديتها خلال شهر رمضان لوصلنا الى هذا السمو الأخلاقي والروحي والاجتماعي. أتحدث هنا عن برنامج روحي يفتح قلب الصائم على الله. فالصائم يكون في حالة جذب روحي قريب من الله سبحانه وتعالى. علينا أن نعدّ برنامجاً، وهذا ما أوصانا به

النبي الكريم والأئمة من أهل البيت عليهم السلام. فهناك أدعية وزاد روحي عظيم يجعل الإنسان منفتحاً على الله سبحانه وتعالى.


كذلك نحن بحاجة لبرنامج ثقافي، لأن نتدبّر ونتطلّع في خلق الله. علينا بتأمّل الهلال وهي ثقافة فلكية، وعلينا بقراءة القرآن قراءة تدبّر وتأمّل، وهو نوع من الثقافة. وهناك أيضاً البرنامج الأخلاقي التربوي الذي يساعدنا على تهذيب أنفسنا في هذا الشهر المبارك. الصوم لا بد أن يصقل شخصية الإنسان.

والذي لا يخرج من شهر رمضان بهذه الحصيلة يعدّ خاسراً


لكن مع ذلك، أنا لا أنظر إلى الواقع بسوداوية مطلقة. ففي شهر رمضان المبارك يكثر الخير في صفوف المسلمين، وتقل الجريمة في العالم العربي والإسلامي إلى أدنى مستوياتها، ما يعني أن للصوم تأثيرا في النفوس في شهر الخير. كذلك، من أهم الخطوط التربوية التي علينا مراعاتها في شهر رمضان

المبارك هو الجانب الاجتماعي، أن نصل أرحامنا واخواننا ومن قطعنا. يقول النبي في الحديث الشريف من وصل في هذا الشهر رحِمَه، وصله الله برحمته يوم يلقاه، وفي ذلك تحفيز على التلاقي والتقارب والاجتماع. هذه الأخلاق للأسف أصبحت غريبة عنّا، حيث تمضي شهور وبعض المسلمين لا يكلم

والديْه!


شهر رمضان هو شهر التقارب والتراحم والتلاقي، ليس للتدابر ولا التلاحم ولا التقاتل. لذلك حبّذا لو أن هؤلاء الذين يحملون السلاح بأيديهم يعون مغزى الصوم ليستريحوا على الأقل في هذا الشهر، ليأخذوا استراحة مقاتل ليتدبروا ويفكروا بوضع هذه الأمة، وبهذه الحرب التي أدخلوا الأمة بها.

 


أي جوانب الصيام هي الأهم في رمضان؟


الصوم في الحقيقة له عدّة مستويات. هناك المستوى المعروف، وهو أن يمسك الإنسان ويكفّ عن الطعام والشراب وعن العلاقة بالجنس الآخر في الفترة الممتدة من قبيْل طلوع الفجر الى حين غروب الشمس. وهذا المستوى من الصوم جيّد، وربما له بعد صحي وأبعاد أخرى كثيرة. لكن هناك صوما أعلى

من صوم البطن والفرج، ألا وهو صوم الجوارح. أن تصوم ألسنتنا عن الفتنة والنميمة والغيبة. فلا يمكن لي أن أصوم عن الطعام وأنا آكل لحوم الناس بالغيبة. ولا يمكن أن أصوم عن الشراب وأنا أنال بيدي أو بلساني او بنظراتي الحادة من الآخرين وأؤذيهم. لا يمكن أن أصوم وأنا أؤذي زوجتي. فبعض

الرجال يذهبون الى البيت ويرفعون الصوت على زوجاتهم وأولادهم بحجة أنهم صائمون! الصوم يجب أن يهذّب أخلاقنا وأن يعلمنا كيف لا نغضب، وكيف ننتصر على الإرادة التي تدعونا لطلب الطعام والشراب. مغزى الصوم يكمن في الانتصار على الغريزة، كل أنواع الغريزة. فإذا كنت لن تنتصر

على غضبك ولسانك، لتحرّك أنت لسانَك بدل أن يحرّكك هذا اللسان، فأنت لم تعرف معنى الصوم.


وهناك مستوى ثالت ربما يكون أعمق للصوم، وهو أن ينطلق الصوم من الجوارح الى الجوانح اي القلوب. أن تصوم قلوبنا ونوايانا وعقولنا عن الحرام، ألا نفكّر إلا بما فيه مصلحة الإنسانية، ألا تنبض هذه القلوب بالحدق والغل والخبث. فأن يكون صوم الجوارح، أي البطن والأيدي والأرجل والفرج،

مقدّمة لصوم الجوانح اي الروح والقلب. هذا هو المغزى الأقصى من الصوم.

 


هل يبرر الصيام الإسراف في بعض مظاهر الطعام في الإفطارات، وبعض مظاهر اللهو المبالغ فيها في هذا الشهر الفضيل؟


من الظواهر السلبية التي تترافق في أيامنا هذه مع شهر رمضان المبارك هي أننا نحوّل الشهر الفضيل الى فرصة للسهر واللهو واستخدام النراجيل في الليل، بدل ان يكون شهر القيام في الليل ليأخذ الانسان سبحة للجلوس مع الله سبحانه وتعالى. بالفعل، ليالي رمضان تتحوّل إلى ليال صاخبة بكل ألوان

الطعام وبكل أشكال اللهو. وثمة من يحوّل نهارهم إلى ليل، فيقضون نهارهم بالنوم، وهذا انحراف وظاهرة سلبية لدى البعض غير القليل من الأخوة المسلمين. وكذلك ظاهرة الإسراف انحراف. فالصوم يجب أن يعلّمنا كيف نتحسس جوع الفقراء والمساكين. ما يحصل أن البعض ينزل في الإفطار مائدة

تكفي عشرات الأشخاص، ولا تأكل العائلة منها سوى الشيء اليسير ثم ترمي البقايا في النفايات. إنه الإسراف والتبذير. والله تعالى علّمنا أن وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ.

 


كيف يمكن أن ينال المسلم فرح الصوم في رمضان؟


هناك أنواع من الفرح. الفرح المادي، عندما يجلس الصائم على الإفطار بعد يوم طويل يفرح بحلول وقت الإفطار، وهذا أمر جيد. كذلك يفرح بلقاء الأحبة وبدعوة الأهل والإخوان إلى الإفطار. هذا الترابط الاجتماعي يحقق نوعاً من الفرح، وهو محبّب، وهو أحد أبعاد الصوم الذي وصفناه بالمستوى

الاجتماعي.


أما الفرح الأسمى، فهو الفرح الروحي. وأقول لغير الصائمين او للذين لا يبالون بالصوم، تعالوا جرّبوا هذا النوع من الفرح. فأنتم تعيشون في حياتكم فرحاً ولذة مادية. وهذا الأمر ليس مبغوضاً، لكن هناك فرحا ولذة من نوع آخر، هي اللذة الروحية، وهي لذة من نوع خاص يشعر بها الإنسان من منطلق

قربه من الله تعالى. هذا الفرح لا يمكن وصفه إلا ممن اختبره.


والإسلام لا ينبذ الفرح، لكنه ينبذ البتر. أما الفرح واللهو البريء الذي يفتح قلب الإنسان على التسلية فهو مطلوب. لكن فلنقسّم أوقاتنا، تحديداً في شهر رمضان المبارك، حيث المغزى هو تحقيق السكن، وأخذ المخزون الذي سيعيننا على التماسك طوال العام. ثم يأتي العيد، يوم الزينة، يوم الفرح والسرور

 

مقابلة أجرتها الصحافية غنوى غازي / جريدة النهار الكويتية في 29 حزيران 2016 مـ.

http://annaharkw.com/Annahar/Article.aspx?id=668490&date=29062016

نُشرت على الموقع 1-7-2016






اضافة تعليق

الاسم *

البريد الإلكتروني *

موضوع *

الرسالة *


 


 
  قراءة الكتب
 
    Designed and Developed
       by CreativeLebanon