الشباب والعمل الرسالي
الشيخ حسين الخشن
إنّ ثمة مجالًا مهمًا لا بدّ أن يضطلع به الشّباب وهو العمل من أجل الرسالة التي يؤمن بها، وإنّ دور الشباب - ولا سيّما المثقف- في العمل الرسالي والدَعَويّ هو الآخر دور محوري ومهم، لا بسبب حماسة الشباب وشجاعتهم وحيويتهم وقربهم من الفطرة وغير ذلك من الخصائص التي تمّت الإشارة
إليها في المحور الأول (من كتاب "مع الشباب في همومهم وتطلعاتهم")، لا لذلك فحسب، بل لأنّ الشباب هم طليعة أبناء المجتمع وأمل المستقبل، فإذا هم نهضوا ووعوا وحملوا الرسالة الإسلامية وعاشوا همّ الدعوة إليها كان مستقبل هذه الرسالة بخير، وأما إن هم أُصيبوا بالشلل أو بالتخدير الفكري أو
الأخلاقي فسوف يسري ذلك الشلل إلى جسم المجتمع برمّته.
1- دور الشباب في العمل الرسالي
يُنقل عن أحد العلماء أنّه كان يشبّه الشاب بالمؤذّن الذي يوقظ الناس لصلاة الفجر، فإن هو نام ولم يتسنَ له رفع الأذان فقد نام الجميع عن هذه الصلاة، وإذا هو استيقظ وأذّن أيقظ الناس وصلّوا.
إنّ معنى ذلك ومغزاه أنّ الشاب ليس متلقياً ومستمعاً فحسب، كما يريده البعض، إنّه صانع للخطاب ومحرِّك للسكون والجمود الذي يصيب الواقع نتيجة الرتابة المملّة والدوران في دائرة مفرغة، ولقد لاحظنا في سيرة النبي (ص) أنّ جيل الشباب هم الذين حملوا الرسالة الإسلامية إلى العالم، وتفرّقوا في القبائل وانتشروا في البلاد يبشّرون بالدين الإسلامي الحنيف.
ومن الطبيعي أنّ العمل الرسالي الهادف إلى نشر الإسلام - عقيدة وشريعة ومكارم أخلاق - ليس حكراً على فئة معيّنة أو أشخاص محدّدين كطلاب العلوم الدينية مثلاً، بل هو مسؤولية عامة، يمكن أن يضطلع بها كلّ أفراد المجتمع الإسلامي شيباً وشباباً ذكوراً وإناثاً.
2- امتلاك الذخيرتين الثقافية والأخلاقية
نعم، ثمّة ضوابط وشروط لا بدّ منها، لا ليكتسب هذا العمل مشروعيّة فحسب، بل ليصل إلى غاياته المنشودة، وأهمّ هذه الشروط: امتلاك المتصدّي للتبليغ والتبشير والخطاب الديني الذخيرة العلميّة والدينية اللازمة، بأن يكون محصّناً بالثقافة الإسلامية التي تمكّنه من الدعوة إلى الإسلام بالحجة والبرهان والموعظة الحسنة، وإذا كان متسلحاً - بالإضافة إلى ذلك – بمعرفة علميّة وعصرية حديثة كان خطابه وحديثه أكثر وقعاً وتأثيراً في النفوس وأقرب إلى ذهنية الأجيال الشبابية المعاصرة.
وكما أنّ على الشباب الرسالي أن يمتلك الذخيرة الثقافية التي تؤهله لمحاججة الآخرين وإقناعهم بفكره وتُمكِّنهُ من الدفاع عن معتقداته، فإنّ من اللازم – أيضاً - أن يمتلك الذخيرة الأخلاقيّة، وعمادها أن ينسجم قوله مع فعله، بحيث يلتزم بما يقول، ولا يكون لديه انفصام في شخصيته بحيث يقول الشيء
ويفعل نقيضه، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ [الصف: ٢ – ٣]، إنّ صدق الشاب المسلم وأمانته وعفّته هي سرّ نجاحه وأساس مصداقيته، وهذا ما يحتّم أن يكون الشاب - بالإضافة إلى التزامه بالقيم والأخلاقيات الإسلامية - في حالة تواصل
روحي دائم مع الله تعالى، فذلك ما يمنحه المناعة الروحية والأخلاقية في وسط عام ضعفت فيه هذه المناعة وأصبح كلّ شيء فيه يشدّ الشباب إلى الانحراف ويدفعهم إلى أحضان الرذيلة.
3- لا تستوحشوا في طريق الهدى لقلّة سالكيه
إنّ منطقيّة أفكارنا ومعتقداتنا وقوة الحجّة التي نمتلكها والثقة بالنفس التي نكتسبها من علاقتنا بالله تعالى هي سرّ قوّتنا وبقائنا، ولهذا لا ينبغي – أحبائي الشباب – أن نعيش عقدة الانبهار بالآخر أو الانسحاق أمام ما يمتلكه من قوة في الماديات والتطور العلمي، إنّ من يعيش حالة انسحاق أمام الآخر هو
إنسان ضعيف ملبوس عليه ولا يمتلك ميزاناً صحيحاً يزن به الأمور، ويذكرني هؤلاء بأولئك الجمع الذين عانى منهم علي (ع) ممن قاسوا الحق بالرجال ولم يقيسوا الرجال بالحق، وقد جاء أحدُ هؤلاء إلى علي (ع) وقال له: أتراني أظنّ أصحاب الجمل كانوا على ضلالة؟! فقال (ع): "إنك نظرت تحتك
ولم تنظر فوقك فَحِرْتَ، إنك لم تعرف الحق فتعرف أهله، ولم تعرف الباطل فتعرف من أتاه"[1].
ولهذا، لو أنّنا عملنا على تحصين أنفسنا بقوّة المنطق لا بمنطق القوّة، فإنّ ذلك سيمنحنا ثقة بالنفس فلا نشعر بعدها بالوحشة أو الغربة حتى لو كنا قلة وكان الآخرون هم الأكثر عدداً، وقد قالها علي (ع) في إحدى كلماته الخالدة: "أيها الناس لا تستوحشوا في طريق الهدى لقلّة أهله، فإنّ الناس قد
اجتمعوا على مائدة شبعها قصير، وجوعها طويل"[2].
أيها الشباب..
أنتم قادرون على العطاء فلا تسمحوا لليأس أن يتسرّب إلى نفوسكم أو يدبّ فيكم، وأنتم أقوياء فلا تسمحوا لأحد أن يشعركم بالضعف، لكنْ لتكن قدرتُكم في سبيل نهوض أمتكم، ولتكن قوّتكم في سبيل التحرر من أغلال الجهل والعصبية والانعتاق من نير الظلم والاستبداد.
4- نكسةٌ للإسلاميين ولكن..
صحيحٌ أنّ بعض الإسلاميين الذين كنّا نعلّق عليهم الآمال في قيادة الواقع الإسلامي في أكثر من بلد قد سقطوا في امتحان الدنيا، فسحرتهم مناصبها، وأغوتهم دنانيرها، مع أنّهم كانوا لفترة طويلة يحاضرون في الزهد وينظروّن في الأخلاق والقيم، وكمْ ردّد بعضهم كلمات السيد الشهيد محمد باقر الصدر
في عظته الشهيرة لطلبة العلوم الدينية حيث قال لهم: "هل عرضت عليكم دنيا هارون الرشيد ورفضتموها؟!" أجل، لقد ردّدوا ذلك، لكنّهم عندما وصلوا إلى سدّة الحكم وفرشت لهم الدنيا بساطها المزخرف نسوا ذلك كلّه وانجرفوا مع لذّاتها، وأغرتهم زينتها ومباهجها وزخارفها، إنّ ذلك صحيح وواقع،
وهو أمر مؤلم دون شك، ويشكّل نكسة للحركة الإسلامية ويفرض عليها أن تعيد النظر في بنائها الثقافي والروحي، وأن تدرس نقاط الخلل والضعف لتعمل على تلافيها وتصحيحها، بيد أنّ ما جرى مع هؤلاء لا ينبغي أن يعدّ سبباً لليأس[3] أو التشكيك بصوابية النهج، فهذه الظاهرة وإن كانت مدانة
ومرفوضة، لكن لا يفترض أن تكون سبباً للتراجع أو الإحباط، ولا سيما أنها ليست ظاهرة جديدة، بل هي مألوفة في تاريخ الشعوب والأمم، والإنسان هو الإنسان، فقد ينتصر قابيل فيه على هابيل، وتنتصر الغريزة على الضمير، وهكذا ينقلب الثائرون على مبادئهم، ويتبرأون من تاريخهم، ويتراجعون
عن شعاراتهم، بيد أنّ هذا الأمر ينبغي أن يشكّل لنا عبرة وموعظة، كي لا نكون ممن يلعن الدنيا ومناصبها عندما تزهد بهم الدنيا، حتى إذا أقبلت عليهم وتمكّنوا منها جذبتهم إليها وشدّتهم إلى حضنها وسقطوا في مستنقعها الآسن، وغدوا أسرى في سجنها المخادع.
إنّ المهم في تربيتنا الإسلامية وفي محاسبتنا لأنفسنا أن نعمل على تدريبها على القناعة بما رزق الله تعالى، وتعويدها على الثبات على القيم، لنحافظ على قيمنا ومبادئنا بعد الانتصار والاقتدار والتمكن، كما حافظنا عليها قبل ذلك، الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ [الحج: ٤١].
5- قدِّموا الإسلام بلغة العصر
إلى الذخيرتَين العلمية والأخلاقية، وإلى الثقة بالنفس، لا بدّ أن نمتلك الأسلوب الناجح، فليس كافياً أن نكون على حق وأن يكون فكرك هو الصواب والهدى ليتّبعك الناس، بل لا بدّ أن تأخذ بالأسلوب الأمثل الذي يوصل فكرك إلى الآخرين ويقنعهم بمنطقية نهجك، وهذا يعني أنّ الأسلوب لا بدّ أن يمتلك جاذبية خاصة تجعل الناس تفتح قلوبها وعقولها أمام فكرك وتستمع لخطابك، وإنّ جاذبية الأسلوب لا تقلّ أهمية عن جاذبية المضمون، فالإنسان الناجح هو الذي يملك أسلوباً ناجحاً.
ومن الطبيعي أنّ مسألة الأساليب هي مسألة متحرّكة ومتغيّرة، فلكلّ زمان أدواته وأساليبه، ولكلّ جيل خطابه ولغته، ولهذا فإنّ واجبنا أن نقدّم الإسلام بلغة العصر وأساليبه، وأن نصل إلى عقول الناس من خلال وسائل التواصل الحديثة وأن نستفيد من الأساليب الفنية الراقية، من المسرح، والتمثيل
والشِّعر، والقصة، والرواية. لقد كان الشِّعر أحد أهم الأساليب البلاغية المؤثرة التي يتمّ من خلالها نشر الأفكار أو تنوير الجماهير وتحريكها، وإثارة عواطفها، واليوم – ومع بقاء الشعر محافظاً على دوره وجاذبيته – يوجد أساليب أخرى قد تكون أكثر تأثيراً، فإنّ عملاً فنياً تمثيلياً واحداً حائزاً على
المواصفات الفنيّة العالية وهو يجسّد قضية إسلامية معينة، أو يشرح قصّة نبي من الأنبياء (ع) قد يؤثّر في الناس أكثر من عشرات المحاضرات والكتب والكلمات المطولة. وقد لاحظنا مؤخراً التأثير الطيّب الذي تركته بعض الأفلام الناجحة، كفيلمي "يوسف الصديق" أو "مريم المقدسة".. وهكذا فإنّ
وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة (فايسبوك، واتس آب، آنستغرام، تويتر..) توفر لنا هي الأخرى أفضل منابر لنشر قيمنا وعقائدنا، وأعتقد أنّه تقع على عاتقنا مسؤولية أن نستفيد من هذه الوسائل في نشر ديننا وتعاليمنا، بدل أن نستثمرها في اللّهو والعبث وربّما في الاستخدامات المحرّمة، وسيأتي
حديث مفصّل عن هذه الوسائل في كتاب "مع الشباب، في همومهم وتطلعاتهم" رابط الكتاب http://www.al-khechin.com/article/440
تمّ نشر المقال على الموقع 22-7-2016
[3] للتوسع حول هذا الأمر يمكنكم مراجعة ما ذكرناه في كتاب "وهل الدين إلا الحبّ" المحور الثامن وهو بعنوان" الإسلام وثقافة الأمل" ص 211.