حوار مع مركز أفاق للدراسات والأبحاث: مشكلة الأديان تتشكل في الخطاب الفقهي    ثمن الحرية    أمثل الأساليب في عمليّة تهذيب النفس    مزايا الشباب    العمل سرّ النجاح    العبادة وعيٌ وانفتاح لا جهل وانغلاق    اقتناء أصنام الأمم البائدة    المفاهيم الدينية بين وجوب الاعتقاد وحرمة الانكار    البناء الاعتقادي بين الاجتهاد والتقليد    
 
بحث
 
تكريم الإنسان
 
س » أنا طالب علم، لدي خوف من أن أتكلم بغير علم.. ما الحل؟
ج »

وعليكم السلام

لا بد لطالب العلم في مساره العلمي أن يتسلح بأمرين أساسيين:
الأول: الاستنفار العلمي وبذل الجهد الكافي لمعرفة قواعد فهم النص واستكناه معناه ودلالاته بما يعينه على التفقه في الدين وتكوين الرأي على أسس صحيحة.
الثاني: التقوى العلمية ويُراد بها استحضار الله سبحانه وتعالى في النفس حذراً من الوقوع في فخ التقوّل على الله بغير علم. ومن الضروري أن يعيش مع نفسه حالة من المحاسبة الشديدة ومساءلة النفس من أن دافعه إلى تبني هذا الرأي أو ذاك: هل هو الهوى والرغبة الشخصية أم أن الدافع هو الوصول إلى الحقيقة ولو كانت على خلاف الهوى.
أعتقد أن طالب العلم إذا أحكم هذين الامرين فإنه سيكون موفقاً في مسيرته العلمية وفيما يختاره من آراء أو يتبناه من موقف.

 
س » كيف علمنا أن الصحيفة السجادية ناقصة؟ وهل ما وجده العلماء من الأدعية صحيح؟؟
ج »

أقول في الإجابة على سؤالكم:

أولاً: إن الصحيفة السجادية في الأصل تزيد على ما هو واصل إلينا وموجود بين أيدينا، قال المتوكل بن هارون كما جاء في مقدمة الصحيفة: " ثم أملى عليّ أبو عبد الله (ع) الأدعية، وهي خمسة وسبعون باباً، سقط عني منها أحد عشر باباً، وحفظت منها نيفاً وستين باباً"، بيد أن الموجود فعلاً في الصحيفة الواصلة إلينا هو أربعة وخمسون دعاء. آخرها دعاؤه في استكشاف الهموم، وهذا آخر دعاء شرحه السيد علي خان المدني في رياض السالكين، وكذا فعل غيره من الأعلام.

ثانياً: إن سقوط عدد من أدعية الصحيفة وضياعها دفع غير واحد من الأعلام للبحث والتتبع في محاولة لمعرفة ما هو الضائع منها، وبحدود اطلاعي فإنهم عثروا على أدعية كثيرة مروية عن الإمام زين العابدين (ع)، لكنهم لم يصلوا إلى نتائج تفيد أن ما عثروا عليه هو من الأدعية الناقصة منها، ولذا عنونوا مؤلفاتهم بعنوان مستدركات على الصحيفة، ولم يجزموا أن ما جمعوه من أدعية هو الضائع من أدعية الصحيفة. وهذا ما تقتضيه الضوابط العلمية والدينية، فما لم يعثر الإنسان على نسخة قديمة موثوقة أو قرائن مفيدة للوثوق بأن هذا الدعاء أو ذاك هو من جملة أدعية الصحيفة فلا يصح له إضافة بعض الأدعية على الصحيفة بعنوان كونها منها.

ثالثاً: لقد ابتُلينا بظاهرة خطيرة، وهي ظاهرة الإضافة على الصحيفة أو غيرها من كتب الأدعية، وهذا العمل هو خلاف الأمانة والتقوى، وقد ترتّب على ذلك الكثير من المفاسد، وأوجب ذلك وهماً للكثيرين، فتوهموا أن بعض الأدعية هي جزء من الصحيفة السجادية المشهورة، ومردّ ذلك بكل أسف إلى أن مجال الأدعية والزيارات شرعة لكل وارد، وتُرك لأصحاب المطابع والمطامع! وأعتقد أن هذا العبث في كتب الأدعية والزيارات ناشئ عن عدم عناية العلماء بالأمر بهذه الكتب كما ينبغي ويلزم، كما نبه عليه المحدث النوري في كتابه "اللؤلؤ والمرجان" مستغرباً صمت العلماء إزاء التلاعب والعبث بنصوص الأدعية والزيارات مما يعدّ جرأة عظيمة على الله تعالى ورسوله (ص)!

رابعاً: أما ما سألتم عنه حول مدى صحة الأدعية الواردة بعد دعاء استكشاف الهموم، فهذا أمر لا يسعنا إعطاء جواب حاسم وشامل فيه، بل لا بدّ أن يدرس كل دعاء على حدة، ليرى ما إذا كانت قرائن السند والمتن تبعث على الحكم بصحته أم لا. فإن المناجاة الخمس عشرة بنظرنا لم تصح وربما كانت من وضع الصوفية، وقد أوضحنا ذلك بشكل مفصل في كتاب الشيع والغلو.


 
س » ابني المراهق يعاني من التشتت، وأنا جدا قلق ولا اعرف التصرف معه، ما هي نصيحتكم؟
ج »

التشتت في الانتباه في سن المراهقة مع ما يرافقه من الصعوبات هو في حدود معينة أمر طبيعي وظاهرة تصيب الكثير من المراهقين ولا سيما في عصرنا هذا.

وعلينا التعامل مع هذه المرحلة بدقة متناهية من الاستيعاب والتفهم والإرشاد والتوجيه وتفهم سن المراهق، وأن هذه المرحلة تحتاج إلى أسلوب مختلف عما سبقها.

فالمراهق ينمو لديه الإحساس بالذات كثيرا حتى ليخيل إليه أنه لم يعد بحاجة إلى الاحتضان والرعاية من قِبل والديه.

وبالتالي علينا أن نتعامل معه بأسلوب المصادقة "صادقه سبعا.." والتنبه جيدا للمؤثرات التي تسهم في التأثير على شخصيته واستقامته وتدينه، ومن هذه المؤثرات: الأصدقاء ووسائل التواصل الاجتماعي، فإن نصيبها ودورها في التأثير على المراهق هو أشد وأعلى من دورنا.

وفي كل هذه المرحلة علينا أن نتحلى بالصبر والأناة والتحمل، وأن نبتدع أسلوب الحوار والموعظة الحسنة والتدرج في العمل التربوي والرسالي.

نسأل الله أن يوفقكم وأن يقر أعينكم بولدكم وأن يفتح له سبيل الهداية. والله الموفق.


 
س » اعاني من عدم الحضور في الصلاة، فهل أحصل على الثواب؟
ج »
 
لا شك أن العمل إذا كان مستجمعا للشرائط الفقهية، فهو مجزئٌ ومبرئٌ للذمة. أما الثواب فيحتاج إلى خلوص النية لله تعالى بمعنى أن لا يدخل الرياء ونحوه في نية المصلي والعبادة بشكل عام.
ولا ريب أنه كلما كان الإنسان يعيش حالة حضور وتوجه إلى الله كان ثوابه أعلى عند الله، لكن لا نستطيع نفي الثواب عن العمل لمجرد غياب هذا الحضور في بعض الحالات بسبب الظروف الضاغطة على الإنسان نفسيا واجتماعيا.
لكن على الإنسان أن يعالج مشكلة تشتت الذهن أثناء العمل العبادي وذلك من خلال السعي الجاد للتجرد والابتعاد عن كل الهواجس والمشكلات أثناء الإقبال على الصلاة، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، باستحضار عظمة الله عز وجل في نفوسنا وأنه لا يليق بنا أن نواجهه بقلب لاهٍ وغافل. والله الموفق.

 
س » أنا إنسان فاشل، ولا أتوفق في شيء، وقد كتب عليّ بالخسارة، فما هو الحل؟
ج »

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

أولاً: التوفيق في الحياة هو رهن أخذ الإنسان بالأسباب التي جعلها الله موصلة للنجاح، فعلى الإنسان أن يتحرك في حياته الشخصية والمهنية والاجتماعية وفق منطق الأسباب والسنن. على سبيل المثال: فالإنسان لن يصل إلى مبتغاه وهو جليس بيته وحبيس هواجسه، فإذا أراد الثروة فعليه أن يبحث عن أسباب الثروة وإذا أراد الصحة فعليه أن يأخذ بالنصائح الطبية اللازمة وإذا أراد حياة اجتماعية مستقرة عليه أن يسير وفق القوانين والضوابط الإسلامية في المجال الاجتماعي وهكذا.

ثانياً: لا بد للإنسان أن يعمل على رفع معوقات التوفيق، وأني أعتقد أن واحدة من تلك المعوقات هي سيطرة الشعور المتشائم على الإنسان بحيث يوهم نفسه بأنه إنسان فاشل وأنه لن يوفق وأنه لن تناله البركة الإلهية.

إن هذا الإحساس عندما يسيطر على الإنسان فإنه بالتأكيد يجعله إنسانا فاشلا ومحبطا ولن يوفق في حياته ولذلك نصيحتي لك أن تُبعد مثل هذا الوهم عن ذهنك وانطلق في الحياة فإن سبيل الحياة والتوفيق لا تعد ولا تحصى.


 
س » ما هو هدف طلب العلم الذي يجب أن يكون؟
ج »

عندما ينطلق المسلم في طلبه للعلم من مسؤوليته الشرعية الملقاة على عاتقه ومن موقع أنه خليفة الله على الأرض، فإن ذلك سوف يخلق عنده حافزاً كبيراً للجد في طلب العلم والوصول إلى أعلى المراتب. أما إذا انطلق في تحصيله من موقع المباهاة أو إثبات ذاته في المجتمع أو من موقع من يريد أن يزين اسمه بالشهادة الجامعية ليُقال له "الدكتور" وما إلى ذلك، فإنه - في الغالب - لن يصل إلى النتيجة المرجوة.

وعلى كل إنسان منا أن يعي أنّنا في هذه الحياة مسؤولون في أن نترك أثراً طيباً، وأن نقوم بواجباتنا قبل أن يطوينا الزمان، إننا مسؤولون عن عمرنا فيما أفنيناه وعن شبابنا فيما أبليناه، وسنُسأل يوم القيامة عن كل هذه الطاقات التي منّ اللهُ بها علينا.

وأضف إلى ذلك، إنه من الجدير بالمسلم، أن لا يفكر في نفسه وما يريحه هو فحسب في طلبه للعلم، بل أن يفكر أيضاً في أمته والنهوض بها ليكون مستقبلها زاهراً، وهذا كله يحتم عليه أن يكون سقف طموحاته عالياً ليتمكن هو وأقرانه من الطلاب والعلماء من ردم الفجوة بيننا وبين الغرب الذي سبقنا على أكثر من صعيد.

باختصار: إن مسؤوليتنا ورسالتنا وانتماءنا لهذه الأمة يفرض علينا أن نعيش حالة طوارئ ثقافية وعلمية.


 
س » ما رأيكم في الاختلاط المنتشر في عصرنا، وكيف نحاربه؟
ج »

إنّ الاختلاط قد أصبح سمة هذا العصر في كثير من الميادين، ومنها الجامعات والطرقات والساحات وكافة المرافق العامة.. والاختلاط في حد ذاته ليس محرماً ما لم يفضِ إلى تجاوز الحدود الشرعية في العلاقة بين الرجل والمرأة الأجنبيين؛ كما لو أدى إلى الخلوة المحرمة بالمرأة أو مصافحتها أو كان المجلس مشوباً بأجواء الإثارة الغرائزية أو غير ذلك مما حرمه الله تعالى.

وفي ظل هذا الواقع، فإنّ العمل على تحصين النفس أولى من الهروب أو الانزواء عن الآخرين بطريقة تشعرهم بأن المؤمنين يعيشون العُقد النفسية. إن على الشاب المسلم أن يثق بنفسه وأن يفرض حضوره ووقاره، وأن يبادر إلى إقناع الآخرين بمنطقه وحججه، وأن يبيّن لهم أن الانحراف والتبرج والفجور هو العمل السيّئ الذي ينبغي أن يخجل به الإنسان، وليس الإيمان ومظاهر التدين.

وأننا ندعو شبابنا عامة وطلاب الجامعات خاصة من الذكور والإناث إلى أن يتزينوا بالعفاف، وأن يحصنوا أنفسهم بالتقوى بما يصونهم من الوقوع في الحرام.


 
س » كيف يمكن التخلص من السلوكيات والعادات السيئة؟
ج »

إن التغلب على السلوكيات الخاطئة أو العادات السيئة – بشكل عام – يحتاج بعد التوكل على الله تعالى إلى:

أولاً: إرادة وتصميم، ولا يكفي مجرد الرغبة ولا مجرد النية وانما يحتاج بالإضافة إلى ذلك إلى العزم والمثابرة وحمل النفس على ترك ما اعتادته.

ثانياً: وضع برنامج عملي يمكّن الإنسان من الخروج من هذه العادة السيئة بشكل تدريجي؛ وأرجو التركيز على مسألة "التدرج" في الخروج من هذه العادات السيئة؛ لأن إدمان النفس على الشيء يجعل الخروج منه صعباً ويحتاج إلى قطع مراحل، وأما ما يقدم عليه البعض من السعي للخروج الفوري من هذه العادة، فهو - بحسب التجربة - سيُمنى في كثير من الأحيان بالفشل. والله الموفق


 
 
  مقالات >> فكر ديني
المعرفة القائمة على العرفان تلزم أصحابها



يعتبر العرفان أحد المناهج المتبعة  في الوصول إلى الله، إلى جانب المنهج العقلي والمنهج النقلي أو النصي. ويفارق المنهج العرفاني غيره من المناهج الآنفة الذكر أنه لا يعتمد في إنتاج مفاهيمه على العقل ولا على ظاهر النص الديني، بل يرجعها إلى الإلهام والتلقي من مصدر متعال. فالمعرفة حسب طرائق العرفانية تنشأ عن مكاشفة وعيان، لا عن دليل وبرهان.
 والعرفان من مصدر عَرَفَ، فيقال عارف بالله، أي متحقق بمعرفته ذوقاً وكشفاً، ويُطلق عليه أيضاً المعرفة "اللّدنيّة" أي التي تكون من لدنّ الله، أو العلم "الذوقي" أي الحاصل يقول ابن عربي: "العارف من أشهده الرب عليه، فظهرت الأحوال على نفسه". 
هل العرفان من العلوم الإسلامية الأصيلة؟ أم أن أصوله تعود لثقافات أخرى ربما غير دينية، يونانية أو هندية أو فارسية، تبناها بعض المسلمين، وحولوها إلى نوع جديد من المعرفة بعد قولبتها بقوالب إسلامية؟

 وللإجابة عن هذا السؤال نستعرض وجهتي نظر مختلفتين:

يقول الدكتور محمد عابد الجابري: "يبدو أن العرفان نظام معرفي، ومنهج في اكتساب المعرفة، ورؤية للعالم وأيضاً موقف منه، انتقل إلى الثقافة العربية الإسلامية من الثقافات التي كانت سائدة قبل الإسلام في الشرق الأدنى... يُسمّى الغنوص Gnose، والكلمة يونانية الأصل، ومعناها المعرفة. وقد استعملت أيضاً بمعنى العلم والحكمة. غير أن ما يُميّز العرفان هو أنه من جهة معرفة بالأمور الدينية تخصيصاً، وأنه من جهة أخرى معرفة يعتبرها أصحابها أسمى من معرفة المؤمنين البسطاء وأرقى من معرفة علماء الدين الذين يعتمدون النظر العقلي".

في المقابل يؤكد الشيخ الشهيد مرتضى المطهري(ره): "إن العرفان من العلوم التي ولدت وترعرعت وتكاملت في مهد الثقافة الإسلامية". وانتقد سعي بعض المستشرقين الذين يبحثون عن مصدر إلهام للمعنويات العرفانية من خارج الإسلام، فيقول: "هل بالإمكان أن نغفل عن جميع هذه المصادر من القرآن والسنة والخطب والاحتجاجات والأدعية والسيّر، لتصحيح رأي بعض المستشرقين وأتباعهم؟!"  متابعاً: "لحسن الحظ فقد اعترف في الآونة الأخيرة أشخاص من قبيل (نيكلسون) الإنجليزي و(ماسنيون) الفرنسي –اللذين درسا العرفان الإسلامي بشكل واسع وحظيا بثقة الجميع- بأن المصدر الأساسي للعرفان هو القرآن والسنة". 
لتسهيل تعقّل العرفان، تم تقسيمه إلى قسمين عملي ونظري -علماً أن العرفاء لا يعترفون بهذا التقسيم فيعتبرون أن كل علمهم عمل، ولا مجال عندهم لعلم بلا عمل- : 
 العرفان النظري (أي الحقيقة) الذي يحلل الوجود ويبحث في شؤون الخالق والكون والإنسان، فيشبه في هذا الإطار الفلسفة التي تعمل على دراسة الوجود. إلا أن الفلسفة تعتمد في استدلالاتها على المبادئ والأصول العقلية، في حين يجعل العرفان من المكاشفات مادة رئيسة في استدلالاته.

أما العرفان العملي (أي الطريقة)، فهو عبارة عن علاقة الإنسان وواجباته تجاه نفسه والكون وخالقه أو ما يسمّى بعلم "السير والسلوك"، وهو يتحدث عن الخطوات التي لا بد أن يطويها الإنسان في سيره إلى الله، وفي طريقه لا بد من أن يجتاز منازل ومراحل متنوعة حيث تعرض له بعض الحالات، ويرى البعض ضرورة أن يشرف عليه أحد العرفاء ممن تعرف على تلك المنازل قبله، وإلا إذا سار وحده فمصيره الضياع.

تعددت وجهات النظر حول العرفان: فمنهم من يخالف العرفان ويرى أن ما يقوم به العرفاء  ضرب من الجنون وربما الكفر والإلحاد، كما وصّف الدكتور الجابري العرفان ضمن نظام "العقل المستقيل"، ومنهم من لا ينتهجه ولكن يقبل بنتائجه مسلّماً لأهله، معتبراً أن هذا المجال يتجاوز العقل. وبين هذا وذاك يميز العرفاء أنفسهم كطبقة مثقفة لها سماتها وأفكارها وآرائها الخاصة، ويردون على هؤلاء بأن بلوغ مرحلة العرفان ليس من شأن العقل والتفكير، بل هو من شؤون القلب والمجاهدة والسير والسلوك وتصفية النفس وتهذيبها، أي تهيئة الباطن، معتبرين أن هذا المنهج هو من أرقى الطرق المؤدية إلى الله، وأنه يتوقف على الوهب والفيض الإلهيين لمن هو مستعد لذلك. ويعتقد العرفاء أن ما يصلون إليه من حالات اليقين التي تؤدي بهم إلى مرحلة لا يرون فيها سوى الله، لا يبلغها الناس العاديون بمن فيهم المؤمنون. 

وفي الحديث عن المنهج العرفاني، يقدِّم سماحة الشيخ حسين الخشن عدّة ملاحظات عليه:


 " طريقية الكشف والشهود واعتبارها مصدراً للمعرفة تمثّل وسيلة ذاتية من وسائل المعرفة وليست موضوعية، فإنه وعلى الرغم من أنه لا يسعنا تكذيب العارف فيما يقوله وما ينكشف له، بيد أننا لا نتمكن من التسليم بما يقوله وأخذه كنتيجة معرفية ثابتة، لأننا لا نملك دليلاً على حجية قوله، ولا طريق لنا للتأكد أو التوثق من واقعية ومصداقية ما يزعمه من انكشافات". ويتابع متحدثاً عن أن ذاتية الكشف تفتح  الباب واسعاً أمام المزاعم الزائفة والدعاوى الشهودية الكاذبة وانتحال صفة العرفاء زوراً، بل وتؤدي إلى اختلاط الحقائق بالأوهام، وتحول دون التمييز بين الوقائع والانطباعات الشخصية، ويعتبر  أن الاستدلال ببعض نصوص الكتاب والسنة لإثبات طريقية الكشف والشهود وكونه مصدراً للمعرفة ـ بما في ذلك المعرفة الدينية الاعتقادية ـ ، من قبيل قوله تعالى:{واتقوا الله ويعلمّكم الله} أو قوله:{إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا}(الأنفال:29)، أو قوله سبحانه:{والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا}(العنكبوت:69)، غير تام لعدة اعتبارات منها أن الهداية أو الفرقان أو النور التي يصل إليها الإنسان بالمجاهدة كما أشارت النصوص القرآنية أعلاه "ليس بالضرورة أن يتم الوصول إليها عن طريق الشهود والكشف، وإنما قد يصل إليها عن طريق هداية العقل". وتابع بأن "الوصول لما يسمى حالة الكشف لا يحتاج إلى سلوك الطرق المشروعة، بل يمكن الوصول إليه بمطلق الرياضات الروحية". ورأى أن "التقوى تساعد على وضوح الرؤية، ولكنها ليست مصدراً للمعرفة الدينية أو الاستنباط الاعتقادي أو وسيلة لاكتشاف المغيبات، وهكذا الحال في سائر النصوص فإنها لا تخلو من مناقشات تفصيلية".

وعن العرفان العملي يقول الشيخ الخشن: " إنّ افتراض كون العرفان مدرسة في السلوك ومجاهدة النفس لتصل ـ أي النفس ـ بالمجاهدة وتقوى الله إلى مرحلة من الصفاء والاطمئنان أمر مفهوم ومشروع، شريطة عدم تجاوزه الضوابط والخطوط التي رسمتها الشريعة الإسلامية، كما يبدو ـ هذا التجاوز ـ من سلوكيات بعض المتصوّفة، وأما أن يشكل مصدراً للمعرفة وإثبات العقائد أو نفيها في عرض سائر المصادر المعرفية المعتبرة، كالعقل أو الوحي، فهذا ما لا يمكن إثباته بالدليل المقنع".

رأي علم النفس بالعرفانيين


اعتبر الطبيب المختص في العلوم النفسية، الدكتور فضل شحيمي، أن "العرفاني" كأي شخص آخر من حيث البنية العقلية، إلا أنه يختلف عنه في جانب "تخصصه" في منهج السير والسلوك العبادي الوجداني الذي يؤدي به إلى أن يعيش حقيقة الذات الإلهية في كل تفصيل من تفاصيل حياته..

وفي مقابلة معه، أوضح الدكتور شحيمي أنَّ الإنسان - في أي مجال كان- باستطاعته أن يصل إلى مستوى مميّز من الإبداع، نتيجة تكريس وقته وطاقاته وأعماله في سبيل البحث والدراسة في كل ما يتعلق بموضوع معين يمثل هدفاً بالنسبة إليه، وقد بيّن وجهة نظره هذه في مَثَلٍ عرضه في هذا المجال، حيث ذكر أنّه عندما شارك في فعاليات مؤتمر خاص حول علم النفس في فرنسا، فاجأهُ بروفسور صغير السنّ نسبيّاً، يملك كمّاً من المعلومات والنظريات العلميّة الجديدة، كانت كافية لتذهله كطبيب، فسأله عن سرّ إبداعه هذا، فعلم أنه كان يكرّس –منذ تخرجه- وقته كاملاً في الدراسات والأبحاث. وهنا تساءل الدكتور شحيمي: "ماذا أسمي هذا الأمر؟ عرفاناً علمياً مثلاً؟!". واعتبر أن العرفان إذا كان مسألة استنتاجات وتراكم معلومات فهو أمرٌ مقبولٌ وواقعيٌ، وأن العرفانيين هم أشخاص عاديون، إلا أنهم مطلعون يحللون، ويزكون أنفسهم ويتبعون سيراً وسلوكاً خاصاً، فيصلون في نهاية المطاف إلى تحقيق مبتغاهم فيما يتعلق بالصفاء الروحي.
وتحدث الدكتور شحيمي عن شروط لا بد من توافرها في أي شخص ليحقق الإبداع في مجال معين، وأوضح أن هذه الشروط لا تنحصر في المسألة العرفانية، بل تشمل كل الاختصاصات في الحياة، كالطب والهندسة أو أي اختصاص آخر...

وهذه الشروط هي: 


أ‌- أن يكون الإنسان مميزاً، ذا عقل سويّ.
ب‌- أن يستغل الظروف التي تهيأت له
ج- أن يثابر ويتعب ويكرّس الوقت الطويل للوصول إلى هدفه.
د- أن يمتلك شخصية كاريزماتية
وعن صعوبة "غير العرفاني" في فهم ودراية كنه الحقائق التي توصّل إليها العرفاني، قال: "هذا الشخص تميّز عني باختصاص لم أتخصص أنا به، لذا لا يمكنني أن أحارجه فيه".
وفي المقابل، أكد الطبيب النفسي والعقلي أنه إذا كان العرفان بمعنى أن أرى أو أسمع أشياءً لا يراها ولا يسمعها غيري، فمعنى ذلك أنني خارج الواقع، وهذا ما يسمى بالذُّهان” PSYCHOSIS”، الذي يُطلق على الحالات التي تخطئ في تصديق الواقع. 

أما بالنسبة إلى بعض الظواهر، من قبيل المعجزات والكرامات، التي يجمع عليها مجموعة من البشر في بيئة معينة، ويعتقد بها حتى الأسوياء الذين ليس لديهم خلل نفسي معين، يرد الدكتور شحيمي هذه الأمور بمجملها  إلى أنها انعكاس للأفكار والثقافة، فعندما تصبح الثقافة مشبّعة بأمر معين، فهي تنعكس على العقل، فيراه، لأنه مقبول ثقافياً في هذه البيئة ولن يُلام أحد عليه.
وختم الدكتور شحيمي حديثه بوضع علامات استفهام حول النتائج المختلفة التي يصل إليها العرفانيون، مستنداً إلى اختلاف الانكشافات عند العرفانيين عندما تتغيّر مذاهبهم، فكيف بمن يعتنق ديانات أخرى!
وختاماً، إذا كان الوصول إلى الله هو الهدف من وراء العرفان –وهو كذلك- فبهذا المعنى تصبح الميول العرفانية هي الميول الأصيلة عند البشر، ولكن ما طرأ على العرفان من تحريفات ومبتدعات كثيرة لا توافق كتاب الله ولا السنة المعتبرة، تستدعي أن نقف عندها ملياً لأنها مما يخالف الإسلام الذي هو بأساسه دين عقلاني، ومن المؤكد أن العرفاء لا يدعون أن لهم كلاماً وراء كلام الإسلام، ويتبرأون من هذا الأمر بشدة، ولكن الإشارة إلى مكامن الخلل هي البداية  من أجل العمل على تصويب الانحراف، والله من وراء القصد.. 

رحيل دندش - مؤسسة الفكر الإسلامي المعاصر http://www.islammoasser.org/ArticlePage.aspx?id=472

نُشر على الموقع في 8-8-2016






اضافة تعليق

الاسم *

البريد الإلكتروني *

موضوع *

الرسالة *


 


 
  قراءة الكتب
 
    Designed and Developed
       by CreativeLebanon