حوار مع مركز أفاق للدراسات والأبحاث: مشكلة الأديان تتشكل في الخطاب الفقهي    ثمن الحرية    أمثل الأساليب في عمليّة تهذيب النفس    مزايا الشباب    العمل سرّ النجاح    العبادة وعيٌ وانفتاح لا جهل وانغلاق    اقتناء أصنام الأمم البائدة    المفاهيم الدينية بين وجوب الاعتقاد وحرمة الانكار    البناء الاعتقادي بين الاجتهاد والتقليد    
 
بحث
 
تكريم الإنسان
 
س » أنا طالب علم، لدي خوف من أن أتكلم بغير علم.. ما الحل؟
ج »

وعليكم السلام

لا بد لطالب العلم في مساره العلمي أن يتسلح بأمرين أساسيين:
الأول: الاستنفار العلمي وبذل الجهد الكافي لمعرفة قواعد فهم النص واستكناه معناه ودلالاته بما يعينه على التفقه في الدين وتكوين الرأي على أسس صحيحة.
الثاني: التقوى العلمية ويُراد بها استحضار الله سبحانه وتعالى في النفس حذراً من الوقوع في فخ التقوّل على الله بغير علم. ومن الضروري أن يعيش مع نفسه حالة من المحاسبة الشديدة ومساءلة النفس من أن دافعه إلى تبني هذا الرأي أو ذاك: هل هو الهوى والرغبة الشخصية أم أن الدافع هو الوصول إلى الحقيقة ولو كانت على خلاف الهوى.
أعتقد أن طالب العلم إذا أحكم هذين الامرين فإنه سيكون موفقاً في مسيرته العلمية وفيما يختاره من آراء أو يتبناه من موقف.

 
س » كيف علمنا أن الصحيفة السجادية ناقصة؟ وهل ما وجده العلماء من الأدعية صحيح؟؟
ج »

أقول في الإجابة على سؤالكم:

أولاً: إن الصحيفة السجادية في الأصل تزيد على ما هو واصل إلينا وموجود بين أيدينا، قال المتوكل بن هارون كما جاء في مقدمة الصحيفة: " ثم أملى عليّ أبو عبد الله (ع) الأدعية، وهي خمسة وسبعون باباً، سقط عني منها أحد عشر باباً، وحفظت منها نيفاً وستين باباً"، بيد أن الموجود فعلاً في الصحيفة الواصلة إلينا هو أربعة وخمسون دعاء. آخرها دعاؤه في استكشاف الهموم، وهذا آخر دعاء شرحه السيد علي خان المدني في رياض السالكين، وكذا فعل غيره من الأعلام.

ثانياً: إن سقوط عدد من أدعية الصحيفة وضياعها دفع غير واحد من الأعلام للبحث والتتبع في محاولة لمعرفة ما هو الضائع منها، وبحدود اطلاعي فإنهم عثروا على أدعية كثيرة مروية عن الإمام زين العابدين (ع)، لكنهم لم يصلوا إلى نتائج تفيد أن ما عثروا عليه هو من الأدعية الناقصة منها، ولذا عنونوا مؤلفاتهم بعنوان مستدركات على الصحيفة، ولم يجزموا أن ما جمعوه من أدعية هو الضائع من أدعية الصحيفة. وهذا ما تقتضيه الضوابط العلمية والدينية، فما لم يعثر الإنسان على نسخة قديمة موثوقة أو قرائن مفيدة للوثوق بأن هذا الدعاء أو ذاك هو من جملة أدعية الصحيفة فلا يصح له إضافة بعض الأدعية على الصحيفة بعنوان كونها منها.

ثالثاً: لقد ابتُلينا بظاهرة خطيرة، وهي ظاهرة الإضافة على الصحيفة أو غيرها من كتب الأدعية، وهذا العمل هو خلاف الأمانة والتقوى، وقد ترتّب على ذلك الكثير من المفاسد، وأوجب ذلك وهماً للكثيرين، فتوهموا أن بعض الأدعية هي جزء من الصحيفة السجادية المشهورة، ومردّ ذلك بكل أسف إلى أن مجال الأدعية والزيارات شرعة لكل وارد، وتُرك لأصحاب المطابع والمطامع! وأعتقد أن هذا العبث في كتب الأدعية والزيارات ناشئ عن عدم عناية العلماء بالأمر بهذه الكتب كما ينبغي ويلزم، كما نبه عليه المحدث النوري في كتابه "اللؤلؤ والمرجان" مستغرباً صمت العلماء إزاء التلاعب والعبث بنصوص الأدعية والزيارات مما يعدّ جرأة عظيمة على الله تعالى ورسوله (ص)!

رابعاً: أما ما سألتم عنه حول مدى صحة الأدعية الواردة بعد دعاء استكشاف الهموم، فهذا أمر لا يسعنا إعطاء جواب حاسم وشامل فيه، بل لا بدّ أن يدرس كل دعاء على حدة، ليرى ما إذا كانت قرائن السند والمتن تبعث على الحكم بصحته أم لا. فإن المناجاة الخمس عشرة بنظرنا لم تصح وربما كانت من وضع الصوفية، وقد أوضحنا ذلك بشكل مفصل في كتاب الشيع والغلو.


 
س » ابني المراهق يعاني من التشتت، وأنا جدا قلق ولا اعرف التصرف معه، ما هي نصيحتكم؟
ج »

التشتت في الانتباه في سن المراهقة مع ما يرافقه من الصعوبات هو في حدود معينة أمر طبيعي وظاهرة تصيب الكثير من المراهقين ولا سيما في عصرنا هذا.

وعلينا التعامل مع هذه المرحلة بدقة متناهية من الاستيعاب والتفهم والإرشاد والتوجيه وتفهم سن المراهق، وأن هذه المرحلة تحتاج إلى أسلوب مختلف عما سبقها.

فالمراهق ينمو لديه الإحساس بالذات كثيرا حتى ليخيل إليه أنه لم يعد بحاجة إلى الاحتضان والرعاية من قِبل والديه.

وبالتالي علينا أن نتعامل معه بأسلوب المصادقة "صادقه سبعا.." والتنبه جيدا للمؤثرات التي تسهم في التأثير على شخصيته واستقامته وتدينه، ومن هذه المؤثرات: الأصدقاء ووسائل التواصل الاجتماعي، فإن نصيبها ودورها في التأثير على المراهق هو أشد وأعلى من دورنا.

وفي كل هذه المرحلة علينا أن نتحلى بالصبر والأناة والتحمل، وأن نبتدع أسلوب الحوار والموعظة الحسنة والتدرج في العمل التربوي والرسالي.

نسأل الله أن يوفقكم وأن يقر أعينكم بولدكم وأن يفتح له سبيل الهداية. والله الموفق.


 
س » اعاني من عدم الحضور في الصلاة، فهل أحصل على الثواب؟
ج »
 
لا شك أن العمل إذا كان مستجمعا للشرائط الفقهية، فهو مجزئٌ ومبرئٌ للذمة. أما الثواب فيحتاج إلى خلوص النية لله تعالى بمعنى أن لا يدخل الرياء ونحوه في نية المصلي والعبادة بشكل عام.
ولا ريب أنه كلما كان الإنسان يعيش حالة حضور وتوجه إلى الله كان ثوابه أعلى عند الله، لكن لا نستطيع نفي الثواب عن العمل لمجرد غياب هذا الحضور في بعض الحالات بسبب الظروف الضاغطة على الإنسان نفسيا واجتماعيا.
لكن على الإنسان أن يعالج مشكلة تشتت الذهن أثناء العمل العبادي وذلك من خلال السعي الجاد للتجرد والابتعاد عن كل الهواجس والمشكلات أثناء الإقبال على الصلاة، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، باستحضار عظمة الله عز وجل في نفوسنا وأنه لا يليق بنا أن نواجهه بقلب لاهٍ وغافل. والله الموفق.

 
س » أنا إنسان فاشل، ولا أتوفق في شيء، وقد كتب عليّ بالخسارة، فما هو الحل؟
ج »

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

أولاً: التوفيق في الحياة هو رهن أخذ الإنسان بالأسباب التي جعلها الله موصلة للنجاح، فعلى الإنسان أن يتحرك في حياته الشخصية والمهنية والاجتماعية وفق منطق الأسباب والسنن. على سبيل المثال: فالإنسان لن يصل إلى مبتغاه وهو جليس بيته وحبيس هواجسه، فإذا أراد الثروة فعليه أن يبحث عن أسباب الثروة وإذا أراد الصحة فعليه أن يأخذ بالنصائح الطبية اللازمة وإذا أراد حياة اجتماعية مستقرة عليه أن يسير وفق القوانين والضوابط الإسلامية في المجال الاجتماعي وهكذا.

ثانياً: لا بد للإنسان أن يعمل على رفع معوقات التوفيق، وأني أعتقد أن واحدة من تلك المعوقات هي سيطرة الشعور المتشائم على الإنسان بحيث يوهم نفسه بأنه إنسان فاشل وأنه لن يوفق وأنه لن تناله البركة الإلهية.

إن هذا الإحساس عندما يسيطر على الإنسان فإنه بالتأكيد يجعله إنسانا فاشلا ومحبطا ولن يوفق في حياته ولذلك نصيحتي لك أن تُبعد مثل هذا الوهم عن ذهنك وانطلق في الحياة فإن سبيل الحياة والتوفيق لا تعد ولا تحصى.


 
س » ما هو هدف طلب العلم الذي يجب أن يكون؟
ج »

عندما ينطلق المسلم في طلبه للعلم من مسؤوليته الشرعية الملقاة على عاتقه ومن موقع أنه خليفة الله على الأرض، فإن ذلك سوف يخلق عنده حافزاً كبيراً للجد في طلب العلم والوصول إلى أعلى المراتب. أما إذا انطلق في تحصيله من موقع المباهاة أو إثبات ذاته في المجتمع أو من موقع من يريد أن يزين اسمه بالشهادة الجامعية ليُقال له "الدكتور" وما إلى ذلك، فإنه - في الغالب - لن يصل إلى النتيجة المرجوة.

وعلى كل إنسان منا أن يعي أنّنا في هذه الحياة مسؤولون في أن نترك أثراً طيباً، وأن نقوم بواجباتنا قبل أن يطوينا الزمان، إننا مسؤولون عن عمرنا فيما أفنيناه وعن شبابنا فيما أبليناه، وسنُسأل يوم القيامة عن كل هذه الطاقات التي منّ اللهُ بها علينا.

وأضف إلى ذلك، إنه من الجدير بالمسلم، أن لا يفكر في نفسه وما يريحه هو فحسب في طلبه للعلم، بل أن يفكر أيضاً في أمته والنهوض بها ليكون مستقبلها زاهراً، وهذا كله يحتم عليه أن يكون سقف طموحاته عالياً ليتمكن هو وأقرانه من الطلاب والعلماء من ردم الفجوة بيننا وبين الغرب الذي سبقنا على أكثر من صعيد.

باختصار: إن مسؤوليتنا ورسالتنا وانتماءنا لهذه الأمة يفرض علينا أن نعيش حالة طوارئ ثقافية وعلمية.


 
س » ما رأيكم في الاختلاط المنتشر في عصرنا، وكيف نحاربه؟
ج »

إنّ الاختلاط قد أصبح سمة هذا العصر في كثير من الميادين، ومنها الجامعات والطرقات والساحات وكافة المرافق العامة.. والاختلاط في حد ذاته ليس محرماً ما لم يفضِ إلى تجاوز الحدود الشرعية في العلاقة بين الرجل والمرأة الأجنبيين؛ كما لو أدى إلى الخلوة المحرمة بالمرأة أو مصافحتها أو كان المجلس مشوباً بأجواء الإثارة الغرائزية أو غير ذلك مما حرمه الله تعالى.

وفي ظل هذا الواقع، فإنّ العمل على تحصين النفس أولى من الهروب أو الانزواء عن الآخرين بطريقة تشعرهم بأن المؤمنين يعيشون العُقد النفسية. إن على الشاب المسلم أن يثق بنفسه وأن يفرض حضوره ووقاره، وأن يبادر إلى إقناع الآخرين بمنطقه وحججه، وأن يبيّن لهم أن الانحراف والتبرج والفجور هو العمل السيّئ الذي ينبغي أن يخجل به الإنسان، وليس الإيمان ومظاهر التدين.

وأننا ندعو شبابنا عامة وطلاب الجامعات خاصة من الذكور والإناث إلى أن يتزينوا بالعفاف، وأن يحصنوا أنفسهم بالتقوى بما يصونهم من الوقوع في الحرام.


 
س » كيف يمكن التخلص من السلوكيات والعادات السيئة؟
ج »

إن التغلب على السلوكيات الخاطئة أو العادات السيئة – بشكل عام – يحتاج بعد التوكل على الله تعالى إلى:

أولاً: إرادة وتصميم، ولا يكفي مجرد الرغبة ولا مجرد النية وانما يحتاج بالإضافة إلى ذلك إلى العزم والمثابرة وحمل النفس على ترك ما اعتادته.

ثانياً: وضع برنامج عملي يمكّن الإنسان من الخروج من هذه العادة السيئة بشكل تدريجي؛ وأرجو التركيز على مسألة "التدرج" في الخروج من هذه العادات السيئة؛ لأن إدمان النفس على الشيء يجعل الخروج منه صعباً ويحتاج إلى قطع مراحل، وأما ما يقدم عليه البعض من السعي للخروج الفوري من هذه العادة، فهو - بحسب التجربة - سيُمنى في كثير من الأحيان بالفشل. والله الموفق


 
 
  مقالات >> اجتماعية
الشباب والعلاقة مع الله.. بعيدا عن الطقوس الجامدة
الشيخ حسين الخشن



مع تخطي الشبهات حول وجود الله تعالى، ننقل الحديث إلى مرحلة لاحقة، وهي تحديد مسؤولياتنا تجاه الله تعالى، ويهمنا هنا تركيز الحديث عن علاقة الشباب بالله تعالى، حيث يفرض السؤال نفسه: كيف يبني الشباب علاقة صحيحة وناجحة مع الله تعالى، بعيداً عن الطقوس الجامدة والفارغة من الروح

والمضمون؟

 

  الجواب: إنّ العلاقة الناجحة مع الله تعالى لها مراتب متعدّدة ومتدرّجة، وأرقى هذه المراتب هي مرتبة المحبّين الذين تقوم علاقتهم مع الله على أساس الحبّ وليس الخوف أو الطمع[1]. وإذا دخل حبّه تعالى في قلوبنا فإنّها ستحيا وتظلُّ عامرة. وأعتقد أنّ البرنامج العبادي الناجح هو الذي يوقد جذوة

الحب الإلهي في قلوبنا، ليكون الله حاضراً فيها، والقلوب التي يحضرها الله يخرج منها الشيطان مذموماً مدحوراً. وعن الخطوات العملية لهذا البرنامج، فإنّي أُحيل أحبتي القراء الكرام على ما سجّلته في كتابي: "وهل الدين إلاّ الحب؟" وتحديداً في المحور الخاص المعدّ لبيان هذه القضيّة، وهو بعنوان "دور

الحبّ في العلاقة مع الله".

 

1- خطوات على الطريق

 

وبصرف النظر عما ذكرناه في ذلك الكتاب، فإنّه يهمّني هنا أن أشير إلى خطوتين أساسيتين في كيفيّة بناء العلاقة الناجحة مع الله تعالى:

 

الخطوة الأولى: هي إحساسنا بأهميّة هذه العلاقة وضرورة حضور الله في حياتنا، وهذا الإحساس رغم بداهته وفطريته، لكنه قد يغيب في غمرة الشباب وزهوه ولهوه، وإذا غاب – لا سمح الله – فسوف تغيب معه الكثير من الكمالات الروحيّة  والمعنويّة التي تهيىء الشباب لحالةٍ من السمو الروحي

والاستقرار النفسي والعاطفي والاجتماعي، ولهذا نوجِّهها نصيحةً مخلصةً لكل شاب: احرصْ على هذا الإحساس الفطري بحضور الله في قلبك، واعملْ على تنميته، وانسجمْ مع مقتضياته، ولا تسمحْ له بأن يغادرك، وبالأحرى لا تسمح لأهوائك أن تعبث بك فيغادرك ذاك الإحساس الفطري النقي بوجود

الله تعالى وحضوره في حياتك، فأنت – دون سواك – محتاج إليه في فكرك وعاطفتك وسلوكك.

 

أيها الشاب العزيز.. إنّي أتوجّه إليك بالسؤال: أليس التفكير هو علامة النجاح في هذه الحياة؟ بالتأكيد سوف يكون جوابك بالإيجاب، فالشخص الذي يفكّر لأمر المستقبل ويخطّط له ويعمل لأجله هو شخص ناجح بكل تأكيد.

 

 وإذا كان الأمر كذلك فإنّي أسألك سؤالاً آخر: أليست الآخرة عند المؤمن هي المستقبل الأبقى والأوفى، ولا قيمة للدنيا وأعمالها وأموالها وجاهها إن خسر الإنسان الآخرة، قال الله بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى  [الأعلى: ١٦ – ١٧]، وقال سبحانه وتعالى: ) وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ

الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ [القصص: ٦٠] فهل ترانا نخطط للآخرة ونفكّر بأمرها ونهيّئ لها عدتها وزادها؟

 

إنّ زاد الآخرة هو كلّ عمل يقرّبنا من الله تعالى ويرضيه عنّا ويبعدنا عن غضبه ونقمته، قال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم: ٦]. إنّ زاد الآخرة هو تقوى الله، قال الله

وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ [البقرة: ١٩٧].

 

والخطوة الثانية: هي المبادرة إلى وضع خطّة عمليّة تؤمّن لنا سلامة العلاقة مع الله تعالى، ولسنا بحاجة إلى ابتكار خطّة من عندنا، فالخطّة موضوعة ومعدّة من قِبل الله تعالى، وهي تتمثّل بالسير على جادة الشريعة ومنهجها اللّاحب الواضح المعالم، بحيث لا يقدّم الإنسان رِجْلاً ولا يُؤخّر أخرى حتّى

يعلم أنّ لله في ذلك رضا، وبذلك يضمن سعادة الدارَين.

 

ولا ريب أنّ العبادات الشرعية - بكافّة أنواعها من الصلاة إلى الدُّعاء، والذِّكر إلى الصوم، إلى غير ذلك من أشكال العلاقة مع الله تعالى - هي الوسائل والطرق التي أعدّها الله تعالى لعباده ليتواصلوا من خلالها معه، بل ليصلوا بواسطتها إليه؛ ولذا فإنّ هذه المنظومة العبادية يُفترض - في الحد الأدنى - أن

توفِّرَ وتَضْمَنَ للعباد قدراً معقولاً من الاستقرار الروحي، وتفتح للراغبين في الاستزادة باباً يقرّبهم من الله تعالى زلفى، ليعيشوا سموّاً روحياً ويأنسوا بلذيذ مناجاته.

 

ولنا عودة إلى تفاصيل البرنامج العبادي الشرعي عمّا قليل تحت عنوان "الشباب ومشكلة الجفاف الروحي".

 

2- فضل الشاب العابد

 

 وأعتقد أنّ روح الشباب وفطرته النقيّة تجعله أكثر تفاعلاً وحيويّة في العلاقة مع الله تعالى، وأشدّ ارتقاءً بالعبادة من غيره من الناس. ولكنْ وفي الوقت عينه حيث كان مَيْلُ الشباب إلى اللّهو واللّعب والراحة وانجذابه إلى المغريات أكثر من غيره، فإنّ ذلك سيعطي لعبادته أهميّةً خاصّة، وربّما يكون ثوابه

عند الله تعالى أكثر من غيره، ومن هنا ورد في الأحاديث النبوية الشريفة امتداح الشاب العابد وتفضيله على الشيخ الكبير، وهذه باقة من الأحاديث الواردة في هذا الشأن:

 

عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): "إنّ الله تعالى يباهي بالشاب العابد الملائكةَ، يقول: انظروا إلى عبدي! ترك شهوته من أجلي"[2].

وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم): "إنّ الله تعالى يحبّ الشاب التائب"[3].

 

وعنه (صلى الله عليه وآله): "ما من شيء أحبّ إلى الله تعالى من شاب تائب، وما من شيء أبغض إلى الله تعالى من شيخ مقيم على معاصيه.."[4].

وعنه (صلى الله عليه وآله): "فضل الشاب العابد الذي تعبّد في صباه على الشيخ الذي تعبّد بعد ما كبرت سنه كفضل المرسلين على سائر الناس"[5].

 

 وعنه (صلى الله عليه وآله): "سبعة في ظلّ عرش الله عزّ وجل يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله عزّ وجلّ، ورجل تصدّق بيمينه فأخفاه عن شماله، ورجل ذكر الله عز وجلّ خالياً ففاضت عيناه من خشية الله عز وجل، ورجل لقى أخاه المؤمن فقال: إنّي لَأُحِبُك في الله عزّ وجل، ورجل خرج من المسجد وفي نيته أن يرجع إليه، ورجل دعته امرأة ذات جمال إلى نفسها، فقال: إنّي أخاف الله رب العالمين"[6].

 

وثمّة حديث يعزى إلى الرسول الأكرم (ص) يقول فيه: "أوصيكم بالشبان خيراً فإنهم أرّق أفئدة "، ويتم تداوله على ألسنة العامة والخاصة[7]، ولكننا ورغم التتبع لم نعثر على مصدر لهذا الحديث، ولم يرد في كتب الشيعة ولا في كتب السنة ولو بسند ضعيف أو مرسل. 

 

 

3- لصوص الطريق

 

  ولكنّ طريق العلاقة مع الله والسعي إليه، هي طريق محفوفة بالمخاطر وملأى باللّصوص وقطّاع الطرق الذين يعملون على إضلال الناس، ويزيّنون لهم المعاصي، ويوسوسون لهم، ويسعون إلى حجبهم عن الله تعالى، هذا ناهيك عن النفس الأمّارة بالسوء. ومن هنا كان العبد بحاجة إلى اعتماد منهج

أصيل في مجاهدة النفس الأمّارة بالسوء، والعمل على تخليتها من الرذائل ثم تحليتها بالفضائل، وعلى رأسها حبُّ الله سبحانه.

 

 والمجاهدة - مجاهدة النفس - بالنسبة للشباب هي عملية سهلة وصعبة في الوقت عينه. أمّا سهولتها فبسبب قرب الشّاب إلى الفطرة وإلى كلّ خير، كما مرّ في الرواية[8]، فهو في مقتبل العمر ومفطور على حبّ الخير ومتحفّز نحو التغيير، ولم يَعْتَد ارتكاب الحرام ليغدو عادة قاهرة أو طبيعة آسرة،

وروحه متحفّزة ومتوثبة وضميره الديني يقظٌ، ونفسه اللوّامة فعّالة أكثر من غيره. وأمّا صعوبتها فبسبب قوّة الغريزة لدى الشاب وكثرة المغريات المحيطة به، ما يجعله عرضة للوقوع في شباك الإغراء والإثارة. ومع ذلك تبقى مرحلة الشباب هي الفرصة المثلى لتهذيب النفس وتزكيتها.

 

والسؤال: ما هو المنهج الأمثل لتزكية النفس وتهذيبها بالاستناد إلى ما جاء في القرآن الكريم وصحيح السنة؟

 

النوازع المتصارعة

 

   وقبل أن نجيب عن السؤال حول كيفية تهذيب النفس، لا بدّ أن نُذكّر بما تقدّم من أنّ النفس الإنسانية وإن كانت تولد وهي تحمل فطرة صافية، ولكنّها قد تتلوّث إمّا بالتربية الفاسدة أو بالثقافة الخاطئة، بل إنّ من خصوصيّات هذه النفس أنّ فيها نوازع داخليّة قد تؤثّر في صفائها، فهي ميّالة إلى الانجرار

مع المصالح والغرائز ولو على حساب المبادئ، وهو ما يعبّر عنه القرآن الكريم بـ "هوى النفس"، إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى [النجم: ٢٣]. كما أنّها - أعني النفس - ميّالة إلى اللّهو والدَّعة والراحة والتحرّر من القيود والتخفّف من الأعباء، ولهذا ورد في بعض

المناجاة المنسوبة[9] إلى الإمام زين العابدين(ع) شكاية هذه النفس إلى الله، وطلب العون والتوفيق منه تعالى لتهذيبها وإصلاحها، تقول المناجاة المذكورة: "إلهي إليك أشكو نفساً بالسوء أمارة وإلى الخطيئة مبادرة وبمعاصيك مولعة ولسخطك متعرّضة تسلك بي مسالك المهالك وتجعلني عندك

أهون هالك كثيرة العلل طويلة الأمل إن مسّها الشر تجزع وإن مسّها الخير تمنع ميالة إلى اللّعب واللّهو مملؤة بالغفلة والسهو"[10]. ومن هنا نعرف السبب في أنّ إحدى أهم وظائف الأنبياء(ع) هي تهذيب النفس وتزكيتها، كما ذكر القرآن الكريم. هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو

عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [الجمعة: ٢].

 

 

   لكنّ ما تقدم من حديث عن نوازع النفس لا ينبغي أن يصيبنا بالذعر أو يدفعنا إلى اليأس والإحباط، لأنّ هذه النوازع ليست قدراً قاهراً بحيث تلغي إرادة الإنسان أو تصادر حريته واختياره، على أنّ الله تعالى - وفي قبال هذه النوازع - قد زوّد النفس الإنسانية بهداية الفطرة وبدوافع ومقتضيات الخير، أو

ما يمكن أن نسميه بالضمير الداخلي، وما يسميه القرآن بـ"النفس اللّوامة" والتي وقعت محلاًّ لِلقَسَم الإلهي، في قوله  لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ [القيامة: ١ – ٢].

 

   ثم إنّه وفي خضم هذه النوازع المتصارعة على صعيد النفس، يبدأ الصراع الداخلي لدى الفرد، ويأخذ بالتفكير: أيختار طريق الهدى والخير والكمال الروحي على صعوباته ومشاقّه، أم يختار الطريق الذي يؤمِّن له مصالحه ويحقّق رغباته، وهو في الغالب طريق سهل هيّن ومزروعٌ بالورود؟

وفي خضمّ هذا التجاذب يسقط الكثيرون في معركة الإرادة، ولعلّهم أكثرية الناس، ﭧ ﭨ ﭽﰇ  ﰈ  ﰉ  ﰊ   ﰋ  ﰌﭼ [يوسف: ١٠٣]. وقد كان قابيل أول أبناء الجيل البشري الذين سقطوا في الامتحان، فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ [المائدة: ٣٠].

 

ووسط هذا الاشتباك أو الصراع الداخلي، تبرز أمامنا أهميّة جهاد النفس كطريقٍ لا مفرّ منها لتغليب نوازع الهداية، ومقتضيات الفطرة السليمة ونداء الضمير الصاحي على الهوى ووساوس الشيطان والنفس الأمارة بالسوء. وجهاد النفس هو الجهاد الأكبر كما أكدّت عليه النصوص الدينية المختلفة، ففي

الحديث عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) بعث بسريّة، فلمّا رجعوا قال: "مرحباً بقوم قضوا الجهاد الأصغر وبقي الجهاد الأكبر، قيل: يا رسول الله وما الجهاد الأكبر؟ قال: جهاد النفس"[11]. وإنّما كان جهاد النفس جهاداً أكبر، لأنّ الإنسان هنا في معركة مع نفسه

وأهوائه الداخلية، وليس في معركة مع عدو من الخارج يعتدي عليه أو ينتهك عرضه أو يحتل أرضه، إنّه أمام عدو الداخل، وقد ورد في بعض الأحاديث المروية عن رسول الله (ص): "أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك"[12].

 

من كتاب "مع الشباب فقي همومهم وتطلعاتهم" http://www.al-khechin.com/article/440

نُشر على الموقع في 19-10-2016 



[1] يقول أمير المؤمنين (ع) فيما روي عنه: "إِنَّ قَوْماً عَبَدُوا اللَّه رَغْبَةً فَتِلْكَ عِبَادَةُ التُّجَّارِ، وإِنَّ قَوْماً عَبَدُوا اللَّه رَهْبَةً فَتِلْكَ عِبَادَةُ الْعَبِيدِ، وإِنَّ قَوْماً عَبَدُوا اللَّه شُكْراً فَتِلْكَ عِبَادَةُ الأَحْرَارِ انظر: نهج البلاغة ج 4 ص 53.

[2] انظر: كنز العمال ج16 ص776.

[3] انظر: كنز العمال ج15 ص786.

[4] كنز العمال ج14 ص217.

[5] كنز العمال ج15 ص776.

[6] الخصال للصدوق ص343، وصحيح البخاري ج8 ص20.

[7] لاحظ كتاب "قواعد في بناء الشباب، لسماحة الشيخ اليعقوبي ص 5 وغيرها.

[8] المروية عن الإمام الصادق (ع) وجاء فيها: "عليكم بالأحداث فإنّهم أسرع إلى كلّ خير"، انظر: الكافي ج8 ص83.

[9] وإنّما قلنا منسوبة له(ع)، لعدم ثبوت انتساب هذه المناجاة إلى الإمام زين العابدين (ع)، كما حقّقنا ذلك في ملاحق كتاب "وهل الدين إلا الحب؟" ص232.

[10] انظر: مناجاة الشاكين، بحار الأنوار ج91 ص143.

[11] الكافي ج5 ص12.

[12] رواه ابن فهد الحلي مرسلاً في كتاب: عدة الداعي ونجاح الساعي ص 295 وقال العجلوني في "كشف الخفاء": "أعدى أعدائك نفسك التي بين جنبيك" رواه البيهقي في الزهد بإسناد ضعيف، وله شاهد من حديث أنس، ويجري على ألسنة كثيرين "أعدى عدويك" بالتثنية في الموضعين، ولا أصل له بهذا اللّفظ، والمشهور على الألسنة "أعدى عدوك" بالإفراد في عدوك، وما أحسن ما قيل:

إنّي بليت بأربع ما سُلِّطوا *   إلا لأجل شقاوتي وعنائي

إبليس والدنيا ونفسي والهوى *  كيف الخلاص وكلّهم أعدائي". (كشف الخفاء ج 1 ص 143).

 

 






اضافة تعليق

الاسم *

البريد الإلكتروني *

موضوع *

الرسالة *


 


 
  قراءة الكتب
 
    Designed and Developed
       by CreativeLebanon