حوار مع مركز أفاق للدراسات والأبحاث: مشكلة الأديان تتشكل في الخطاب الفقهي    ثمن الحرية    أمثل الأساليب في عمليّة تهذيب النفس    مزايا الشباب    العمل سرّ النجاح    العبادة وعيٌ وانفتاح لا جهل وانغلاق    اقتناء أصنام الأمم البائدة    المفاهيم الدينية بين وجوب الاعتقاد وحرمة الانكار    البناء الاعتقادي بين الاجتهاد والتقليد    
 
بحث
 
تكريم الإنسان
 
س » أنا طالب علم، لدي خوف من أن أتكلم بغير علم.. ما الحل؟
ج »

وعليكم السلام

لا بد لطالب العلم في مساره العلمي أن يتسلح بأمرين أساسيين:
الأول: الاستنفار العلمي وبذل الجهد الكافي لمعرفة قواعد فهم النص واستكناه معناه ودلالاته بما يعينه على التفقه في الدين وتكوين الرأي على أسس صحيحة.
الثاني: التقوى العلمية ويُراد بها استحضار الله سبحانه وتعالى في النفس حذراً من الوقوع في فخ التقوّل على الله بغير علم. ومن الضروري أن يعيش مع نفسه حالة من المحاسبة الشديدة ومساءلة النفس من أن دافعه إلى تبني هذا الرأي أو ذاك: هل هو الهوى والرغبة الشخصية أم أن الدافع هو الوصول إلى الحقيقة ولو كانت على خلاف الهوى.
أعتقد أن طالب العلم إذا أحكم هذين الامرين فإنه سيكون موفقاً في مسيرته العلمية وفيما يختاره من آراء أو يتبناه من موقف.

 
س » كيف علمنا أن الصحيفة السجادية ناقصة؟ وهل ما وجده العلماء من الأدعية صحيح؟؟
ج »

أقول في الإجابة على سؤالكم:

أولاً: إن الصحيفة السجادية في الأصل تزيد على ما هو واصل إلينا وموجود بين أيدينا، قال المتوكل بن هارون كما جاء في مقدمة الصحيفة: " ثم أملى عليّ أبو عبد الله (ع) الأدعية، وهي خمسة وسبعون باباً، سقط عني منها أحد عشر باباً، وحفظت منها نيفاً وستين باباً"، بيد أن الموجود فعلاً في الصحيفة الواصلة إلينا هو أربعة وخمسون دعاء. آخرها دعاؤه في استكشاف الهموم، وهذا آخر دعاء شرحه السيد علي خان المدني في رياض السالكين، وكذا فعل غيره من الأعلام.

ثانياً: إن سقوط عدد من أدعية الصحيفة وضياعها دفع غير واحد من الأعلام للبحث والتتبع في محاولة لمعرفة ما هو الضائع منها، وبحدود اطلاعي فإنهم عثروا على أدعية كثيرة مروية عن الإمام زين العابدين (ع)، لكنهم لم يصلوا إلى نتائج تفيد أن ما عثروا عليه هو من الأدعية الناقصة منها، ولذا عنونوا مؤلفاتهم بعنوان مستدركات على الصحيفة، ولم يجزموا أن ما جمعوه من أدعية هو الضائع من أدعية الصحيفة. وهذا ما تقتضيه الضوابط العلمية والدينية، فما لم يعثر الإنسان على نسخة قديمة موثوقة أو قرائن مفيدة للوثوق بأن هذا الدعاء أو ذاك هو من جملة أدعية الصحيفة فلا يصح له إضافة بعض الأدعية على الصحيفة بعنوان كونها منها.

ثالثاً: لقد ابتُلينا بظاهرة خطيرة، وهي ظاهرة الإضافة على الصحيفة أو غيرها من كتب الأدعية، وهذا العمل هو خلاف الأمانة والتقوى، وقد ترتّب على ذلك الكثير من المفاسد، وأوجب ذلك وهماً للكثيرين، فتوهموا أن بعض الأدعية هي جزء من الصحيفة السجادية المشهورة، ومردّ ذلك بكل أسف إلى أن مجال الأدعية والزيارات شرعة لكل وارد، وتُرك لأصحاب المطابع والمطامع! وأعتقد أن هذا العبث في كتب الأدعية والزيارات ناشئ عن عدم عناية العلماء بالأمر بهذه الكتب كما ينبغي ويلزم، كما نبه عليه المحدث النوري في كتابه "اللؤلؤ والمرجان" مستغرباً صمت العلماء إزاء التلاعب والعبث بنصوص الأدعية والزيارات مما يعدّ جرأة عظيمة على الله تعالى ورسوله (ص)!

رابعاً: أما ما سألتم عنه حول مدى صحة الأدعية الواردة بعد دعاء استكشاف الهموم، فهذا أمر لا يسعنا إعطاء جواب حاسم وشامل فيه، بل لا بدّ أن يدرس كل دعاء على حدة، ليرى ما إذا كانت قرائن السند والمتن تبعث على الحكم بصحته أم لا. فإن المناجاة الخمس عشرة بنظرنا لم تصح وربما كانت من وضع الصوفية، وقد أوضحنا ذلك بشكل مفصل في كتاب الشيع والغلو.


 
س » ابني المراهق يعاني من التشتت، وأنا جدا قلق ولا اعرف التصرف معه، ما هي نصيحتكم؟
ج »

التشتت في الانتباه في سن المراهقة مع ما يرافقه من الصعوبات هو في حدود معينة أمر طبيعي وظاهرة تصيب الكثير من المراهقين ولا سيما في عصرنا هذا.

وعلينا التعامل مع هذه المرحلة بدقة متناهية من الاستيعاب والتفهم والإرشاد والتوجيه وتفهم سن المراهق، وأن هذه المرحلة تحتاج إلى أسلوب مختلف عما سبقها.

فالمراهق ينمو لديه الإحساس بالذات كثيرا حتى ليخيل إليه أنه لم يعد بحاجة إلى الاحتضان والرعاية من قِبل والديه.

وبالتالي علينا أن نتعامل معه بأسلوب المصادقة "صادقه سبعا.." والتنبه جيدا للمؤثرات التي تسهم في التأثير على شخصيته واستقامته وتدينه، ومن هذه المؤثرات: الأصدقاء ووسائل التواصل الاجتماعي، فإن نصيبها ودورها في التأثير على المراهق هو أشد وأعلى من دورنا.

وفي كل هذه المرحلة علينا أن نتحلى بالصبر والأناة والتحمل، وأن نبتدع أسلوب الحوار والموعظة الحسنة والتدرج في العمل التربوي والرسالي.

نسأل الله أن يوفقكم وأن يقر أعينكم بولدكم وأن يفتح له سبيل الهداية. والله الموفق.


 
س » اعاني من عدم الحضور في الصلاة، فهل أحصل على الثواب؟
ج »
 
لا شك أن العمل إذا كان مستجمعا للشرائط الفقهية، فهو مجزئٌ ومبرئٌ للذمة. أما الثواب فيحتاج إلى خلوص النية لله تعالى بمعنى أن لا يدخل الرياء ونحوه في نية المصلي والعبادة بشكل عام.
ولا ريب أنه كلما كان الإنسان يعيش حالة حضور وتوجه إلى الله كان ثوابه أعلى عند الله، لكن لا نستطيع نفي الثواب عن العمل لمجرد غياب هذا الحضور في بعض الحالات بسبب الظروف الضاغطة على الإنسان نفسيا واجتماعيا.
لكن على الإنسان أن يعالج مشكلة تشتت الذهن أثناء العمل العبادي وذلك من خلال السعي الجاد للتجرد والابتعاد عن كل الهواجس والمشكلات أثناء الإقبال على الصلاة، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، باستحضار عظمة الله عز وجل في نفوسنا وأنه لا يليق بنا أن نواجهه بقلب لاهٍ وغافل. والله الموفق.

 
س » أنا إنسان فاشل، ولا أتوفق في شيء، وقد كتب عليّ بالخسارة، فما هو الحل؟
ج »

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

أولاً: التوفيق في الحياة هو رهن أخذ الإنسان بالأسباب التي جعلها الله موصلة للنجاح، فعلى الإنسان أن يتحرك في حياته الشخصية والمهنية والاجتماعية وفق منطق الأسباب والسنن. على سبيل المثال: فالإنسان لن يصل إلى مبتغاه وهو جليس بيته وحبيس هواجسه، فإذا أراد الثروة فعليه أن يبحث عن أسباب الثروة وإذا أراد الصحة فعليه أن يأخذ بالنصائح الطبية اللازمة وإذا أراد حياة اجتماعية مستقرة عليه أن يسير وفق القوانين والضوابط الإسلامية في المجال الاجتماعي وهكذا.

ثانياً: لا بد للإنسان أن يعمل على رفع معوقات التوفيق، وأني أعتقد أن واحدة من تلك المعوقات هي سيطرة الشعور المتشائم على الإنسان بحيث يوهم نفسه بأنه إنسان فاشل وأنه لن يوفق وأنه لن تناله البركة الإلهية.

إن هذا الإحساس عندما يسيطر على الإنسان فإنه بالتأكيد يجعله إنسانا فاشلا ومحبطا ولن يوفق في حياته ولذلك نصيحتي لك أن تُبعد مثل هذا الوهم عن ذهنك وانطلق في الحياة فإن سبيل الحياة والتوفيق لا تعد ولا تحصى.


 
س » ما هو هدف طلب العلم الذي يجب أن يكون؟
ج »

عندما ينطلق المسلم في طلبه للعلم من مسؤوليته الشرعية الملقاة على عاتقه ومن موقع أنه خليفة الله على الأرض، فإن ذلك سوف يخلق عنده حافزاً كبيراً للجد في طلب العلم والوصول إلى أعلى المراتب. أما إذا انطلق في تحصيله من موقع المباهاة أو إثبات ذاته في المجتمع أو من موقع من يريد أن يزين اسمه بالشهادة الجامعية ليُقال له "الدكتور" وما إلى ذلك، فإنه - في الغالب - لن يصل إلى النتيجة المرجوة.

وعلى كل إنسان منا أن يعي أنّنا في هذه الحياة مسؤولون في أن نترك أثراً طيباً، وأن نقوم بواجباتنا قبل أن يطوينا الزمان، إننا مسؤولون عن عمرنا فيما أفنيناه وعن شبابنا فيما أبليناه، وسنُسأل يوم القيامة عن كل هذه الطاقات التي منّ اللهُ بها علينا.

وأضف إلى ذلك، إنه من الجدير بالمسلم، أن لا يفكر في نفسه وما يريحه هو فحسب في طلبه للعلم، بل أن يفكر أيضاً في أمته والنهوض بها ليكون مستقبلها زاهراً، وهذا كله يحتم عليه أن يكون سقف طموحاته عالياً ليتمكن هو وأقرانه من الطلاب والعلماء من ردم الفجوة بيننا وبين الغرب الذي سبقنا على أكثر من صعيد.

باختصار: إن مسؤوليتنا ورسالتنا وانتماءنا لهذه الأمة يفرض علينا أن نعيش حالة طوارئ ثقافية وعلمية.


 
س » ما رأيكم في الاختلاط المنتشر في عصرنا، وكيف نحاربه؟
ج »

إنّ الاختلاط قد أصبح سمة هذا العصر في كثير من الميادين، ومنها الجامعات والطرقات والساحات وكافة المرافق العامة.. والاختلاط في حد ذاته ليس محرماً ما لم يفضِ إلى تجاوز الحدود الشرعية في العلاقة بين الرجل والمرأة الأجنبيين؛ كما لو أدى إلى الخلوة المحرمة بالمرأة أو مصافحتها أو كان المجلس مشوباً بأجواء الإثارة الغرائزية أو غير ذلك مما حرمه الله تعالى.

وفي ظل هذا الواقع، فإنّ العمل على تحصين النفس أولى من الهروب أو الانزواء عن الآخرين بطريقة تشعرهم بأن المؤمنين يعيشون العُقد النفسية. إن على الشاب المسلم أن يثق بنفسه وأن يفرض حضوره ووقاره، وأن يبادر إلى إقناع الآخرين بمنطقه وحججه، وأن يبيّن لهم أن الانحراف والتبرج والفجور هو العمل السيّئ الذي ينبغي أن يخجل به الإنسان، وليس الإيمان ومظاهر التدين.

وأننا ندعو شبابنا عامة وطلاب الجامعات خاصة من الذكور والإناث إلى أن يتزينوا بالعفاف، وأن يحصنوا أنفسهم بالتقوى بما يصونهم من الوقوع في الحرام.


 
س » كيف يمكن التخلص من السلوكيات والعادات السيئة؟
ج »

إن التغلب على السلوكيات الخاطئة أو العادات السيئة – بشكل عام – يحتاج بعد التوكل على الله تعالى إلى:

أولاً: إرادة وتصميم، ولا يكفي مجرد الرغبة ولا مجرد النية وانما يحتاج بالإضافة إلى ذلك إلى العزم والمثابرة وحمل النفس على ترك ما اعتادته.

ثانياً: وضع برنامج عملي يمكّن الإنسان من الخروج من هذه العادة السيئة بشكل تدريجي؛ وأرجو التركيز على مسألة "التدرج" في الخروج من هذه العادات السيئة؛ لأن إدمان النفس على الشيء يجعل الخروج منه صعباً ويحتاج إلى قطع مراحل، وأما ما يقدم عليه البعض من السعي للخروج الفوري من هذه العادة، فهو - بحسب التجربة - سيُمنى في كثير من الأحيان بالفشل. والله الموفق


 
 
  مقالات >> اجتماعية
الأمة وأزمة الهوية



عندما نتحدث عن النهوض، فلا شك أنّ الشباب هم قطب الرحى في هذه المهمّة، ولكن من اللّازم قبل كلّ شيء أن يكون لدى الشباب إرادة التغيير، وواقعنا – نقولها بكلّ أسف وحسرة – لا يشي بذلك، فما نرصده في هذا الواقع هو أنّ الجيل الشابّ يعاني من مشكلة الاستلاب الفكريّ وضياع الهُويّة

وضعف الثقه بالذات، وهذا الضياع يدفع الشباب إلى حالة من التغرّب الفكريّ والحضاريّ. ومن هنا كان لا بدّ أن نُوليَ هذه القضية أهميّة خاصة، لأنّها تعبّر عن أزمة بنيوية عميقة تهدّد كيان الأمّة بالسقوط الحضاريّ الذريع. وهذا ما سوف نُوضحه فيما يلي:    

 

1-  الأمّة وسؤال الهُويّة

 

في البدء ثمّة من يتساءل: عندما تتحدثون عن نهوض الأمة فهل نحن لا نزال أمّة أساساً؟ أم نحن أشلاء أمّة؟ هل نحن أمّة واحدة أم أنّنا أمم غير متّحدة؟  

سوف أتجاوز هذا السؤال المغرق في اليأس والإحباط لأقرَّ بأنّنا لا نزال أمّة تجمعها الكثير من الأهداف المشتركة على مستوى الدّين واللّغة والأرض والثقافة.. لكن أيّ أمة نحن؟

 

بنظرة سريعة إلى حال أمتنا، ماذا نجد؟ وماذا نرى؟ هل يختلف اثنان أنّنا في حالة يرثى لها، بحيث إنّه وأينما امتدّت بنا الباصرة أو حلّقت المخيلة، فسوف نرى أمّة حائرة تائهة متشتّتة قد أضاعت بوصلتها الأساسية، أمّة - كما أرى وترون - متناحرة ممزّقة، تفتك بها الصراعات المذهبية والعرقيّة

والحزبيّة، أمّة مسلوبة الإرادة يعمل الآخرون على مصادرة عقولها وطاقاتها وثرواتها، وإذكاء نار الفتنة في كلّ ساحاتها وبين كل تلاوينها المذهبية والعرقية والقومية!

 

 وفي ظلّ هذه الواقع، فإنّ الأسئلة تتزاحم علينا، والسؤال الأبرز: لماذا نحن على هذه الحالة من التخلّف الحضاري والتردّي الفكريّ، والانحطاط الأخلاقيّ والتشظّي الاجتماعيّ؟ أكُتِبَ علينا الذلّ والهوان؟ على طريقة ذلك الشاعر:

مشيناها خطىً كُتبت علينا   *  ومن كُتبت عليه خطىً مشاها

 

وهذه الأسئلة لم تعدْ تطرح بين النخبة أو في الصالونات المغلقة، بل إنّها غدت تُطرح عبر الشاشات وفي وسائل الإعلام من قبل الكثيرين من الشباب المسلم ممّن لا يمكننا تخوينهم ورميهم بالعمالة والتغرّب كما هي العادة الدارجة؟ فالكثير من المخلصين أخذوا يتساءلون همساً أو علناً: من نحن؟ ولماذا

هذه حالنا يا ترى؟ ألم يَأْنِ لنا أن نصحوَ من هذا السُّبات العميق؟ وكيف نصحو وهناك من القيود والأغلال ما يمنع الصحوة ويعرقل الحركة والنهوض، سواء كانت قيوداً داخلية أو خارجية؟ وما السبيل إلى ذلك؟

 

وكلّ هذه الأسئلة مشروعة وعلينا أن نفكّر بتقديم إجابات مقنعة عليها، ومن الضروريّ أن نتصدّى للإجابة عليها بروحيّة الواثق بنفسه وبانتمائه الحضاريّ والدينيّ، لا بروحية المهزوم الضعيف.

 

ودعوني مرّة ثانية أكرر القول: إنّني - وبالرغم من هذه الصورة السوداوية التي نراها من حولنا - لست متشائماً ولا يائساً من إمكانية التغيير والإصلاح، فأنا لا أغفل وجود علامات مضيئة وتجارب مشرقة معاصرة في هذه الأمة، ويبقى تعويلنا كبيراً على الجيل الشابّ في أن ينهض ويستلم زمام

المبادرة ويضع الأمة على الطريق المستقيم، بما يشكّل الخطوة الأولى في طريق الانطلاق إلى مستقبل مشرق وغدٍ أفضل. ولكنّني أتحدّث عن المسار العام للأمة، أتحدّثُ عن المليار ونصف المليار مسلم الذين لا وزن و"لا ريح" لهم، وفقاً للمصطلح القرآني[1].

 

 وقد يكون من المفيد عقد مقارنة بين حاضر الأمّة وماضيها، فقد نجد أكثر من قاسم مشترك بين مرحلتنا الزمانية وبين تلك المرحلة، وبين واقعنا وذاك الواقع، وهذا ما سوف ينفعنا في معرفة الأسباب وتقديم الحلول والعلاجات، لأنّ أمراض الأمم والشعوب - وبخلاف أمراض الفرد الجسديّة أو النفسيّة التي تختلف من شخص لآخر، وقد تستجدّ أمراض لم تكن معهودة في الزمن السابق - هي في الأعمّ الأغلب متقاربة ومتشابهة، وذات مناشئ معروفة ومتجانسة.

 

 

2- فقد الثقة بالذات: أعراض ومخاطر

 

ومن أبرز وأخطر هذه الأمراض التي تفتك بالأمم مرض فقدان الثقة بالذات، بحيث تعيش الأمة حالة من الاهتزاز وعدم التوازن وحالة من الضياع الفكري والتذبذب النفسي. ومعلوم أنّ الثّقة بالنفس والذات هي الحصن المنيع لسلامة الفرد وحماية الأمة، فهي بمثابة جهاز المناعة لدى الأشخاص، فكما

أنّ جسد المرء إذا فَقَدَ مناعته فإنّه يصبح عرضةً لهجوم "الفيروسات" الانتهازية الكامنة وغزو الجراثيم المسمّة، كذلك هو حال الأمة إذا فقدت ثقتها بنفسها فإنّها ستفقد مناعتها وحصنها الحصين وتصبح عرضة للغزو الثقافيّ أو غزو العقول والإرادات.  

 

  ومرض فقدان الثقة بالذات له الكثير من التداعيات والأخطار السلبية على كيان الأمة، وإليك أهمّ هذه المخاطر؟

 

1-  الازداوجية بين المشاعر والمواقف، وانفصام الشخصية بين ما يُعلم وما يُعمل، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ [الصف: ٢ – ٣]. ولو رجعنا إلى جعبة الماضي وحقبة التاريخ، فسوف نجد نماذجَ كثيرة تعبّر عن هذه الازدواجية، فهكذا

كان حال أهل الكوفة وغيرها من البلدان الإسلامية إبّان نهضة الإمام الحسين (ع)، وقد قالها الفرزدق عندما التقاه الحسين(ع) في الطريق وسأله عن حال الناس خلفه فأجابه: "قلوبهم معك وسيوفهم عليك"[2]، إنّ مقولة "قلوبهم معك وسيوفهم عليك" تعكس حال الأمة اليوم أيضاً، أليست قلوب

مئات الملايين من العرب والمسلمين مع الفلسطينين، لكن سيوفهم (سيوف المال، والنفط، وغيرهما) هي لخدمة الصهاينة المحتلين!

 

2-  الشلل التَامّ وضعف الإرادة، وهذه الحالة واضحة للعيان، فمنْ يتأمل في واقع الأمة الإسلامية التي بلغ تعدادها المليار والنصف المليار نسمة، سيجدها أمة متفكّكة خائرة القوى لا ريح لها، وإلاّ فكيف لهذه الأمة بكلِّ إمكاناتها وقدراتها وعديدها أن تعجز عن تحرير أرضها السليبة في فلسطين وفكّ

أسرها من الصهاينة المحتلين الذين لا يتجاوز عددهم بضعة ملايين! وإنّك عندما تشاهد بعض المسيرات المليونية في بعض العواصم العربية وهي تهتف باسم القدس وفلسطين يتمالكك إحساس بالعزّة والفخار، ولكن سرعان ما تتبدّد الآمال عندما تتبخّر الجماهير ويتفرّق الجمع ويولّون الدّبر، ما يذكّرني

بما جرى مع مسلم بن عقيل سفير الحسين (ع) إلى الكوفة، حيث اجتمع عليه وبايعه الألوف من أهالي الكوفة، ثم بين ليلة وضحاها تبدّدت عنه تلك الجموع وانفضّت الجماهير التي بايعته، ليجد مسلم نفسه وحيداَ فريداً على باب تلك المرأة الصالحة "طوعة"[3].

 

3-   الخوف من المواجهة الفكرية وعدم الاستعداد للاستماع إلى الآخرين، وهذا من النتائج الطبيعية للمرض المشار إليه، فإنّ مَنْ يفقد الثقة بالذات يتهرّب من الحوار والمحاججة، وإذا أجاب فإنّ جوابه يكون على طريقة: وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ [البقرة: ٨٨]. بينما الشخص الذي يمتلك الثقة بنفسه لا يهرب من

الحوار ولا النقاش ولا يخيفه ذلك، أمّا الإنسان الضعيف في حجّته، فالهروب من المواجهة هو أسلم الطرق بالنسبة إليه، والتشويش والتعمية هي أفضل خياراته، كما حدثنا القرآن الكريم عن بعض المشركين: لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآَنِ وَالْغَوْا فِيهِ [فصلت: ٢٦]، ويصل الأمر إلى حدّ أن يسدّ الإنسان أذنيه عن

الاستماع إلى دعوة الحقّ، كما حصل مع ذاك الصحابيّ الأسعد بن زرارة، الذي دخل مكّة في بداية الدعوة الإسلامية، وكان مُحرِماً وخوّفه بعض عتاة المشركين من الدخول إلى المسجد الحرام حتى لا يسحره محمّد (ص) بكلماته، فسأل ابن زرارة: ما الحلّ إذن وأنا محرم وأريد الطواف؟ قال له ذلك

القرشي: الحلّ أن تضع في أذنيك القطن، وتذهب للطواف فلا تسمع شيئاً من كلامه، وهكذا كان![4]. إنّ سياسة وضع القطن في الأذنين لا تزال قائمة إلى يومنا هذا.

 

 

4-   انهيار منظومة القيم لدى الإنسان، لأنّ فقد الثقة بالذات سيجعل الإنسان عرضة للتفلّت الأخلاقيّ وحقلاً خصباً للغزو الفكريّ والثقافيّ، ومن البديهيّ أنّ المنظومة الأخلاقية هي الحصن الأخير التي تحمي إنسانية الإنسان فبانهيارها تنهار إنسانيته، ويستسهل بعدها ارتكاب كلّ الفظائع أو الجرائم،

ومن هنا وجدنا أنّ الإمام الحسين (ع) يوم عاشوراء حاول في نهاية المطاف أن يستصرخ الضمير الإنسانيّ في تلك الزمرة التي حاصرته ومنعت عنه الماء، وتعرّضت لأطفاله وعياله، فقال (ع): "إن لم يكن لكم دين ولا تخافون يوم المعاد فكونوا أحراراً ذوي أحساب، امنعوا رحلي وأهلي من طغاتكم

وجهالكم"[5]، فهذا الكلام يكشف بوضوح عن انهيار منظومة القيم والأخلاق عند تلك الجماعة.

 

5-   هدر الطاقات والعقول: إنّ النتيجة الطبيعية لفقدان الأمة ثقتها بذاتها هو هدر الطاقات والعقول والكفاءات والمقدرات، وتغدو هذه الطاقات والعقول عرضة للنهب أو الهجرة إلى دول أخرى. أليس هذا حالنا؟  ألا تتحدث الأرقام عن أنّ عشرات الآلاف من أصحاب العقول المبدعة والكفاءات المميّزة من

أبناء أمتنا لم يجدوا ملجأً آمناً أو سبيلاً للعيش الكريم في بلدانهم، ما اضطرهم إلى اللجوء إلى الغرب الذي فتح أبوابه لهم وقدّم لهم كل المحفزات والإغراءات.

هذه حال أمتنا اليوم، أمة يمكن لكل إنسان عاقل أن يرصد وبكل سهولة فيها الكثير من الأعراض أو الأمراض المشار إليها.

 والسؤال بعد هذا: ما هو السبيل إلى النهوض؟

 

نُشر المقال على الموقع في 17-2-2017

من كتاب "مع الشباب في همومهم وتطلعاتهم" منشور على الموقع الرسمي: http://www.al-khechin.com/article/440

 

 



[1] [الأنفال: ٤٦].

[2] انظر: دلائل الإمامة للطبري ص 182، وفي تاريخ الطبري ج4 ص290 جاءت كلمة الفرزدق كالتالي: "قلوب الناس معك وسيوفهم مع بني أميّة"..

[3] انظر بشأن ذلك: تاريخ الطبري ج 4 ص 277، والإرشاد للمفيد ج 2 ص 54.

[4] انظر: حول هذا الموضوع ما سجلناه في كتاب: عاشوراء – قراءة في المفاهيم وأساليب الإحياء ص86.

[5] الكامل لابن الأثير ج4 ص77.

 






اضافة تعليق

الاسم *

البريد الإلكتروني *

موضوع *

الرسالة *


 


 
  قراءة الكتب
 
    Designed and Developed
       by CreativeLebanon