علاقة الشباب بالآباء والأمهات
الشيخ حسين الخشن
من القضايا المثيرة للجدل والخصام قضية العلاقة بين الشاب ووالديه وتبدأ القصة على خلفية عدم تفهم الطرفين لبعضهما البعض وعدم مراعاة حقوقهما، فالولد ما أن يشارف على البلوغ حتى يشعر برغبة في الاستقلال في الرأي وتأكيد ذاته، وأن يثبت للآخرين أنّه قد أصبح شاباً مكتمل الشخصية ولم يعد قاصراً ليتخذ أحد عنه القرارات، ولذلك يتضجر وينزعج من عدم التشاور معه، أو اتخاذ القرارات عنه، وربّما يتطاول على والديه أحياناً، تأكيداً على رجوليته وإبرازاً لها، في المقابل فإن الكثير من الآباء والأمهات قد لا يدركون خطورة هذه المرحلة وخصائصها، فيتعاملون مع ابنهم وكأنه لا يزال صغيراً، فلا يعيرون له ولرأيه أية أهمية، ويتعاملون معه بلامبالاة، وهذا ما يؤدي إلى خلق علاقة متوترة بين الطرفين، والسؤال: كيف ندير هذه العلاقة؟
تفهم خصائص هذه المرحلة
لعلّ الخطوة الأولى اللازم اتخاذها لأجل إنجاح العلاقة بين الطرفين هي محاولة تفهم أحدهما الآخر، ولا سيما من طرف الأبوين، فإنّ عليهما أن يدركا أهميّة هذه المرحلة، وأنها تستدعي نمطاً جديداً في التعامل مع ابنهم، فهو لم يعد طفلاً صغيراً ليتعاملا معه بمنطق الإملاءات، والمشكلة أنّ الكثير من الآباء والأمهات لا يدركون – غالباً - هذا الانتقال من مرحلة عمرية إلى مرحلة أخرى عند أبنائهم وبناتهم، إما لضعف في ثقافتهم (أقصد الآباء والأمهات)، أو لأنّ تواجدهم المستمر إلى جانب الطفل ومعايشتهم اليومية له تجعلهم لا يشعرون ولا يلتفتون إلى أن ابنهم قد بلغ سن الشباب، وأنّ هذا البلوغ ليس بالجسد فقط، وإنّما بالعقل والوعي، ولذا فإن الآباء والأمهات مدعوون إلى امتلاك ثقافة تربويّة تمكنهم من وعي مراحل الطفولة التي يمر بها ابنهم وصولاً إلى مرحلة الشباب.
اعتماد أسلوب المصادقة
مع امتلاك الأبوين الثقافة المشار إليها، فإنّ من الطبيعي أن يتمّ اعتماد أسلوب تربوي جديد مع الشاب مختلف تماما عن أسلوب مرحلة الطفولة، والأسلوب الجديد هو أسلوب المصادقة، وهذا ما نبّه عليه الحديث النبوي الشريف الذي يتحدث عن مراحل الطفولة المتنوعة، ويشير إلى أنّ المرحلة الثالثة وهي مرحلة بداية الفتوة والشباب يحكمها أسلوب: "وصاحبه سبعاً"، أو أسلوب: "ووزير سبعاً". إنّ العلاقة بين الآباء والأمهات من جهة وبين ابنهم الشاب من جهة أخرى لا بدّ أن تتخذ طابع التشاور لا الاستبداد، وأن تعتمد أسلوب الحوار لا الفرض، لأنّك عندما تشاور ابنك الشاب فإنك تشعره بقيمته وتعزز شخصيته ومكانته، أمّا إذا قررت عنه وفرضت عليه رأيك، فإنك بذلك تكون قد سحقت شخصيته وأسأت إليه وجرحت مشاعره، وهذا ما سوف يخلق لديه ردات فعل سلبية تجاهك وتجاه الآخرين .
الشخصية المستقلة:
إنّ الإسلام يعتبر أنّ شخصية الإنسان تكتمل بوصوله إلى سن البلوغ، فيصبح مكلفاً وصاحب شخصية مستقلة وترتفع بذلك كل أشكال الولاية والوصاية عليه، الأمر الذي يعني:
1- أنّه يغدو صاحب ذمة مالية مستقلة، تخوله التملك والتصرف في أمواله وممتلكاته، فيبيع ويشتري كما يريد ويهب لمن يشاء، شريطة أن يقترن البلوغ الجسدي بالنضج العقلي المعبر عنه بالرشد، قال تعالى: {فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم}، ولذا لا يحقّ لذويه أن يتصرفوا في ماله دون رضاه.
2-وإنّ من حقّه وحده اختيار نوع العمل الذي يمتهنه، أو التخصص الذي يرغب به، وليس للولي إلا الإرشاد والنصيحة.
3- ومن حق الشاب أيضاً - ذكراً أو أنثى - اختيار شريك الحياة، وليس لك أن تفرض على ابنك زوجة لا يريدها، ولا أن تفرض على ابنتك - وهذا ما يحصل غالباً - رجلاً لا تريده ولا تحبّه، وإنما لك أن تنصحها وتوجهها، أمّا أن تفرض عليها رجلاً لا تريده فهذا ظلم لها وليس لك ذلك، فهي التي تريد الزواج لا أنت، وقد ورد في الحديث عن رسول الله(ص): "إذا أراد أحدكم أن يزوّج ابنته فليستأمرها" 1، ولمّا خطب أمير المؤمنين (ع) السيدة فاطمة (ع) أتاها رسول الله(ص) فقال: "إنّ علياً قد ذكركِ فسكتت، فخرج فزوّجها" 2، باعتبار أن سكوت المرأة دليل رضاها.
وفي الحديث عن أبي يعفور قلت لأبي عبدالله (ع): "إنّي أردت أن أتزوّج امرأة وإنّ أبويّ أرادا غيرها، قال: تزوّج التي هويت ودع التي هوى أبواك" 3.
الاحترام والطاعة:
ولكنّ ما تقدم لا يلغي أن يكون للأبوين دور في القرارات المصيرية التي يريد الشاب اتخاذها أو الخطوات التي يريد الاقدام عليها، فمن مقتضيات الأدب والخلق الرفيع أن لا يستبد الشاب برأيه، بل يجدر به أن يستشير والديه فيما يريد الإقدام عليه، وأن يستفيد من خبرتهما وتجاربهما في الحياة، وقد يكون للأم رأي صائب ولا سيما فيما يتصل بشأن ابنتها، ولذا ورد عن رسول الله (ص): "آمروا النساء في بناتهن"4 .
إنّ حق الوالدين على الولد كبير وعظيم، وعليه أن يحترمهما ويوقرهما ويحسن إليهما وأن لا يتصرف أي تصرف يؤذي مشاعرهما ولا يجوز له بحال أن يقطع رحمهما، بل ينبغي له أن يحرص دائماً على رضاهما، ويجتنب رفع صوته في وجههما أو إغضابهما، قال تعالى: {وقضى ربك ألاّ تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً}.
إذن المطلوب من الأبناء أن يحترموا آبائهم وأمهاتهم، وليس من المطلوب إطاعة الوالدين، فليس ثمة ما يدل على وجوب الإطاعة فيما يأمرا به، وإنّما الواجب الإحسان والاحترام والتوقير، فهذا هو خلق الإسلام ووصايا القرآن وتعاليم الرسول الأكرم (ص)، ولكن الأخلاقيات الإسلامية في التعامل مع الوالدين آخذة بالتراجع، حيث بتنا نشهد الكثير من الشباب يتعاملون مع آبائهم أو أمهاتهم بقسوة واستخفاف، وهذا عقوق وجحود، وهو مدعاة لغضب الله في الدنيا والآخرة.
رواية وعبرة
في الحديث عن زكريا ابن إبراهيم ( من أصحاب الإمام الصادق (ع)) قال: "كنت نصرانياً فأسلمت وحججت فدخلت على أبي عبدالله (ع) فقلت: إني كنت على النصرانية وإني أسلمت، فقال: وأي شيء رأيت في الإسلام؟ قلت: قول الله عز وجل: {ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء} فقال: لقد هداك الله، ثم قال: اللهم اهده - ثلاثاً - سل عما شئت يا بني، فقلت: إنّ أبي وأمي على النصرانية وأهل بيتي، وأمي مكفوفة البصر فأكون معهم وآكل في آنيتهم؟ فقال: يأكلون لحم الخنزير؟ فقلت: لا، ولا يمسونه، فقال: لابأس فأنظر أمك فبرها، فإذا ماتت فلا تكلها إلى غيرك، كن أنت الذي تقوم بشأنها ولا تخبرنّ أحدا أنك أتيتني حتى تأتيني بمنى إن شاء الله قال: فأتيته بمنى والناس حوله كأنّه معلم صبيان، هذا يسأله وهذا يسأله، فلما قدمت الكوفة ألطفت لأمي وكنت أطعمها وأفلي ثوبها ورأسها وأخدمها، فقالت لي: يا بني ما كنت تصنع بي هذا وأنت على ديني، فما الذي أرى منك منذ هاجرت فدخلت في الحنيفية؟ فقلت: رجل من ولد نبينا أمرني بهذا: فقالت: هذا الرجل هو نبي؟ فقلت: لا، ولكنه ابن نبي، فقالت: يا بني إنّ هذا نبي، إنّ هذه هي وصايا الأنبياء، فقلت: يا أماه إنّه ليس يكون بعد نبينا نبي ولكنه ابنه، فقالت: يا بني دينك خير دين، اعرضه عليّ فعرضته عليها، فدخلت في الإسلام، وعلمتها، فصلت الظهر والعصر والمغرب والعشاء والآخرة، ثم عرض لها عارض في الليل، فقالت: يا بني أعد عليّ ما علمتني فأعدته عليها، فأقرت به وماتت، فلما أصبحت كان المسلمون الذين غسلوها وكنت أنا الذي صليت عليها ونزلت في قبرها"5 .
نصائح تربوية للوالدين
1- كن قدوة صالحة لإبنك في فعلك لا في قولك، قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لِمَ تقولون ما لا تفعلون كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون}.
لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إن فعلت عظيم
2- لا تفرض عاداتك على أولادك، ولا تسعى أن يكون ابنك نسخة عنك، فهو مخلوق حر وله شخصيته وإرادته ورغباته واختياراته، فلا تفرض عاداتك عليه، سواء في اللباس "خير لباس المرء لباس أهل زمانه"، أو في الأكل "ملعون من أكل عياله بشهوته، ولم يأكل بشهوة عياله"، فالأول أناني والثاني متفانٍ.
3- لا تضخم أخطاء الولد وتعتبر صغائره كبائر، فعن أمير المؤمنين (ع): "إذا عاتبت الحدث فاترك موضعاً من ذنبه لئلا يحمله الاحراج على المكابرة" 6.
4- لا تفرض رأيك بدافع التسلط الأبوي أو في محاولة لإثبات الذات، وإنّما حاوره وشاوره، واعلم أنك لا تملك عليه حق الطاعة، وإنّما لك عليه أن يحسن إليك ويحترمك ويستمع إلى رأيك وتجربتك.
5- لا تقتحم خصوصياته، فإنّ ذلك غير جائز شرعاً، قال تعالى: {..ولا تجسسوا..}، فأوراقه الخاصة أو خزانته كذلك ملك له فإذا كان لا يرضى بالاطلاع عليها فلا بدّ لك أن تحترم إرادته وخصوصيته، وتعلم أنّ تلك منطقة محرمة عليك، وأنه كما لك خصوصياتك التي لا ترضى أن يفتحها أحد، فله خصوصياته أيضاً.
6- أحسن الظن بابنك، فإنّ التعامل مع الأبناء من موقع الاتهام أو سوء الظن أو على أساس الريبة في كل تصرفاته هو أمر خاطىء من الناحية التربوية، وله مضاعفاته السلبية، والإسلام أمرنا بحسن الظن مع الناس كلهم {يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إنّ بعض الظن إثم}، نعم لك أن تتابعه في علاقاته وصداقاته، لكن المتابعة شيء، والتجسس شيء آخر، التجسس هو اقتحام لخصوصياته، أما المتابعة فهي التحسس عن بعد، قال تعالى حاكياً لنا وصية يعقوب لبنيه: {يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه}.
7- لا تعنفه أو تشتمه أو تصرخ في وجهه أو تمارس دور الجلاد معه، فكّر على الدوام أنّك أب، والأبوة ليست سلطة، وإنّما هي رعاية واهتمام. القساوة والفظاظة لا تغير بل تدمر، والبيت ليس ثكنة عسكرية ليدار بمنطق "نفّذ ولا تعترض"، وإنّما يدار بالحكمة والحزم المشوب باللين، أو قل اللين المشاب بالحزم، وشتان بين منطق العنف ومنطق الحزم والرفق.
8- لا تمارس التمييز بين أبنائك، فتورثهم العداوة وتزرع بينهم الحقد والبغضاء، فقد رأى رسول الله (ص) رجلاً معه ولدان فقبل الأب أحدهما وترك الآخر، فقال له (ص): "فهلاّ واسيت بينهما" 7.
1- كنز العمال ج 16 ص 311.
2- بحار الأنوار ج 43 ص 136.
3- الكافي ج 5 ص 401.
4- سنن أبي داوود ج1 ص 465.
5- الكافي ج2 ص 161.
6- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 20 ص 333.
7- من لا يحضره الفقيه ج 3 ص 483.