المقامات مصدر للتعبئة الروحيّة والثقافيّة
الشيخ حسين الخشن
لا أخال أنّ تكريم الأمم لعباقرتها وعظمائها، والتنويه بأسمائهم، وإحياء ذكرياتهم، والعناية بتراثهم، وتشييد الصروح باسمهم هو أمر مذموم في منطق العقل، أو مستنكر في "شريعة" العقلاء من بني الإنسان، فإنّ الأمّة عندما تعتني بتاريخها ورموزها، فهذا دليل ومؤشّر على أصالتها وسلامة
انتمائها. وتاريخ الأمم هو جزء من هويّتها، ومكوّن رئيس لشخصيّتها، وعندما تكرّم الأمة عظماءها فإنَّ ذلك يعبِّر عن وفائها لهم وتقديرها لجهودهم.
والحقيقة أنَّ تكريم العظماء والمبدعين يمثّل تكريماً للفكر وتشجيعاً على الإبداع، بالإضافة إلى أنّ ذلك يعبّر عن حرص الأمة على الارتباط بهؤلاء الرموز باعتبارهم منارات هادية، وأعلاماً منيرة، ومقامات شامخة، تستلهم الأجيال عطاءاتهم ومواقفهم.
في هذا الإطار نضع الهدف من بناء المقامات الدينيّة كظاهرة منتشرة ليس في بلاد المسلمين فحسب، بل في بلاد الشرق بأجمعها وعلى اختلاف أديانها، ولم نجد في الشريعة الإسلامية– وخلافاً لبعض الآراء الرافضة لفكرة المقامات الدينيّة من أصلها– رادعاً عن "سُنَّة" العقلاء المشار إليها،
بحيث يمنع أو يحظر تشييد المقامات الدينيّة على أضرحة وقبور الأنبياء (ع) أو الأولياء، ما دام أنَّ الهدف من البناء هو ما ذكرناه، وما دامت الممارسات التي تُؤدّى في المقامات تتحرّك في خطّ عبادة الله وَحْدَهُ، بعيداً عن كلِّ أشكال الشِّرك والوثنية والصنميّة والمغالاة.
ونلاحظ في هذا المجال أنّ ظاهرة بناء المقامات على أضرحة الأنبياء أو الأولياء هي ظاهرة إسلاميّة، وليست شيعية فحسب، فقد عُرف عن جميع المسلمين اهتمامهم بتكريم الأنبياء والأولياء والاحتفال بذكرى ولاداتهم أو وَفَيَاتِهم وبناء المقامات فوق قبورهم، وانتشرت هذه الظاهرة في البلدان
الإسلامية كافّة على اختلاف مذاهبها، ولا أظنّ أنّ اندفاع المسلمين السُّنّة في مصر- مثلاً- على العناية بالمقام المنسوب إلى السيدة زينب (عليها السلام) أو رأس الحسين (عليه السلام) في القاهرة وحرصهم على زيارته، هو أقلّ من اندفاع المسلمين الشيعة في إيران أو العراق على الاعتناء
بمقامات الأئمّة من أهل البيت (ع) المنتشرة في هذين البلدين وحرصهم على زيارتها.
وربّما انطلق بناء المقامات في الأساس من اعتبارات تنظيميّة، باعتبار أنّ وجودها وفّر للزائر ولا سيّما إذا كان بعيد الشُّقة أمرين أساسيّين:
الأول: وفّر علامةً يُستدلّ بها على قبر الشخصيّة التي يقصدها للزيارة، وبالأخص إذا كانت هذه الشخصيّة قد دُفنت في فلاةٍ من الأرض بعيداً عن الأماكن المأهولة، كما هو الحال في قبر الإمام علي (عليه السلام) أو ولده الإمام الحسين (عليه السلام) أو قبر غيرهما من الرموز الدينيّة.
الثاني: ووفّر مكاناً يُستظلّ به من الحرّ والبرد أثناء الزيارة، بالإضافة إلى حاجته الماسّة إلى وجود مرافق خاصة للوضوء والغسل وقضاء الحاجات الخاصّة للزائر.
وشيئاً فشيئاً– وكما هي طبيعة الأشياء- أخذ بناء هذه المقامات بالتوسّع والتنظيم، ولا سيّما مع كثرة الزائرين وما تفرضه من تهيئة الباحات الكبيرة الملائمة لهم حتّى لا يحصل التدافع بينهم، كما هو الحال في التوسعات المتعدّدة في المسجد الحرام، أو المسجد النبوي في حُقبٍ زمنية مختلفة، حيث
وعى المسلمون ضرورة توسعة هذين المسجدين منذ بداية القرن الهجري الأول، وإلى يومنا هذا.
ولا ننكر أنَّ بعض الاتجاهات الإسلامية المتحجّرة قد وقفت– في العصور المتأخّرة- موقفاً سلبيّاً من بناء المقامات ودعت إلى هدمها، وسعت جهدها في هذا السبيل، ولكن هذا الرأي المستجدّ، وعلى الرغم من أنّه استطاع في العقود المتأخّرة أن يتمدّد وينتشر في أوساط المسلمين بشكلٍ لافت،
فإنّه وبسبب افتقاره إلى الحُجّة المقنعة لا يزال يلقى صدوداً ورفضاً إسلاميّاً، شعبيّاً وعلمائيّاً، من مختلف المذاهب الإسلامية؛ ومن المؤسف أنَّ أصحاب هذا الرأي لم يعملوا على إقناع الآخرين برأيهم على أساس الدليل والبرهان، بقدر ما استخدموا لغة التكفير والتبديع في وجه كلّ مَن خالفهم
الرأي، وعملوا على فرض قناعاتهم على الآخرين، وتلك هي إحدى مآسينا الكبرى حيث يريد البعض تحكيم اجتهاداتهم وقناعتهم وفرضها بالقوة على المسلمين الآخرين، والذين لديهم اجتهاداتهم الإسلامية التي تبرّر لهم هذه الممارسات!
ولسنا هنا بصدد مناقشة الأدلة التي يسوقها هؤلاء، أو تفنيد مزاعمهم وشبهاتهم، فقد امتلأت المكتبة الإسلامية بالكتابات المتكفّلة لذلك، وكَتَبَ العلماء والفقهاء من شتّى المذاهب الإسلامية حول شرعيّة بناء المقامات وزيارتها[1]، بما لا مزيد عليه، واعتبروا ذلك من مصاديق تعظيم الشعائر
التي أَمَرَ الله تعالى بها في كتابه، بقوله: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ}[الحج: 32]، ويكفيك شاهداً على أنّ بناء المقامات وزيارتها ليست عقيدة اختصّ بها الشيعة دون غيرهم من الفرق الإسلامية، هو مراجعة السيرة العمليّة التي انتهجها المسلمون في غالب البلدان
الإسلامية، حيث ستكتشف وجود المشاهد والمقامات في هذه البلدان منذ أمد بعيد، وما قبرا أبي حنيفة النعمان والشيخ عبد القادر الجيلاني في بغداد، وقبرا الإمام الشافعي والسيدة نفيسة في القاهرة سوى نماذج ماثلة للعيان وشواهد حيّة على صدق ما نقوله. وإنّ من يراجع كتب الرحّالة المسلمين،
أمثال ابن بطوطة (ت779هـ) وابن جبير(ت614هـ) وعبد الغني النابلسي(1143هـ) وغيرهم سيكتشف– أيضاً- أنّ ظاهرة بناء المقامات والمزارات فوق أضرحة الأنبياء (ع) والصحابة والأولياء ليست جديدة، بل كانت موجودة ومنتشرة منذ القديم في بلدان المسلمين كافة، من مكة المكرمة
إلى المدينة المنورة[2] إلى بلاد الرافدين وبلاد الشام ومصر، إلى غير ذلك من البلدان الإسلامية.
وقد كانت إحدى ثمار بناء المشاهد للشخصيّات والرموز الدينيّة هي حفظ المعالم التاريخيّة- بما في ذلك القبور- من الاندراس والضياع، وحفظ هذه المعالم مهم جدّاً، لأنّه يضيء على أحداث ذلك التاريخ ومجرياته، فضلاً عن الفوائد الدينيّة المترتّبة على ذلك.
المقامات والعناية بها:
ومن أهمّ هذه الفوائد والمنافع أنّ المقامات والمزارات الدينيّة المنتشرة في بلاد المسلمين- مع ما قد يعتريها من شوائب[3]- شكّلت، ويُراد لها أن تشكّل على الدوام مصدراً للتعبئة الروحية والثقافية، وعلى المسلم الذي يقصدها للزيارة أن يتصرّف داخلها باعتباره في بيت من بيوت الله التي
يُذكر فيها اسمه، ويسبّح له فيها بالغُدُوِّ والآصال رجالٌ لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله.
كما أنّ المفترض بالزائر عندما يقصد هذه المقامات أن يستلهم روح المزور، ويستحضر مبادئه وتعاليمه وأخلاقياته ويسعى للاقتداء به والسير على نهجه وهديه، ليكون ارتباطه به ارتباطاً رسالياً، وليس ارتباطاً شخصيّاً أو عشائرياً .. ومن هنا، فإنّ المطلوب تحويل هذه المقامات إلى مراكزَ
عباديّة وثقافيّة، مع ضرورة إبعادها عن كلِّ ما يشين أو ما فيه شائبة الشرك أو الغُلُوّ[4].
وقد لفت نظري في العام المنصرم وأثناء زيارتي للإمام الرضا(ع) في مدينة مشهد الإيرانية أنّ الهيئة المشرفة على المقام قامت بعمل جليل ومفيد، وهو إنشاء معهد قرآني داخل الحضرة الرضوية يهتمّ بتعليم القرآن وتجويده وحفظه وتفسيره، كما وتُقام ليليّاً وبعد صلاتَي المغرب والعشاء في
بعض الباحات الكبيرة داخل المقام جلسات قرآنية رائعة يشترك فيها بعض القرّاء المجيدين، ليتلوَ هذا القارىء على الناس ما تيسَّر له من كتاب الله، والناس تتابع معه التلاوة بخشوع تامّ، كما أنّ إدارة بعض المقامات المشرَّفة في العراق وإيران أخذت على عاتقها القيام بمهامَّ ثقافية متنوعة،
كتحقيق الكتب وإصدار الدوريات الثقافية وإطلاق الفضائيات الدينيّة، وما إلى ذلك من أنشطة.
أجل لا بدّ لنا أن نسجّل هنا ملاحظة نقدّر أنّها ملاحظة هامة وأساسية، وهي أنّ العمارة المادية للمقامات والمتمثّلة بزخرفتها وتذهيبها وتزويقها لا يجوز أن تنسيَنا أنّ الهدف الأسمى يبقى هو عمارتها المعنوية، وذلك بإحيائها بذكر الله، وتلاوة القرآن، والدعاء، والتفاعل الروحي مع المزور
والاستلهام من معينه الفكري والمعنوي، ولا يخفى أنّ المبالغة في العمارة المادية ربّما تؤثّر سلباً على العمارة المعنوية، وهذا أمر لا يختصّ بالمقامات والمراقد الدينيّة، بل ويشمل المساجد أيضاً والتي غدا الاهتمام بزخرفتها ظاهرةً ملحوظة في بلدان المسلمين عامة، مع أنّ المبالغة في الزخرفة
والنقوش لا تليق ببيوت الله، وتُفقدها الكثير من أجوائها الروحيّة، ولعلّه لهذا ورد في بعض الروايات[5] النَّهي عن زخرفة المساجد، وهو الأمر الذي قد يُستفاد منه كراهة الزخرفة في المراقد والمقامات أيضاً.
أهمية البحث ومحلّه وأدواته
غير خفيّ أنّ بناء المقامات الدينيّة على أضرحة الأنبياء والأولياء قد استدعى منذ بداية الأمر ظهور أحكام شرعيّة خاصة ترتبط بالزيارة، وكيفيّتها وآدابها، وأحكام الداخل إلى المشاهد المشرّفة، لجهة الطهارة والنجاسة، أو الصلاة، أو كيفيّة الوقف وتزاحم الزوّار وحقّ السبق والأولويّة... إلى
غير ذلك من الأحكام التي تندرج فيما يمكن تسميته بفقه المقامات المشرّفة[6].
ولعلَّ من أساسيّات فقه المقامات الدينيّة أن يحدّد لنا ضوابط وشروط بناء المشاهد المشرّفة، ومتى يصحّ بناؤها؟ ومتى لا يصحّ ولا يشرع؟ لأنّنا إذا كنّا نواجه بعض الشوائب والممارسات الخاطئة التي تُرتكب في هذه المقامات المشرّفة، بما يبتعد عن خطِّ الشرعية الإسلاميّة، فإنّنا نواجه أيضاً
أخطاءً وتجاوزات في أصل بناء بعض المشاهد، الأمر الذي يتسبّب في الوقوع في الشبهات والإشكالات الشرعيّة على أكثر من صعيد، كما سنبيّن ذلك بالتفصيل.
إنّ البُعد العقدي والفقهي لبناء المقامات ولزيارتها يمثّل الحافز الأول الذي يدعونا ويفرض علينا وضع ضوابط محدّدة لعملية البناء، ويملي علينا ضرورة البحث والتنقيب عن صدقيّة المقامات القائمة بالفعل، والحافز الآخر على هذا الصعيد هو علمنا بأنّ ثمّة مقامات تُبنى حالياً أو بُنيت في الزمن
الغابر دون أساس صحيح كما سنرى لاحقاً.
ضرورة التنقيب والبحث
ومن هنا، فإنّنا نطلقها دعوة ملحّة إلى ضرورة البحث عن المقامات أو القبور المنتشرة في مختلف البلدان الإسلامية والتي تُنسب إلى بعض المعارف والرموز الدينيّة من الأنبياء (ع) أو الأولياء أو الصحابة أو أبناء الأئمّة أو غيرهم من مشاهير العلماء، فإنّ التحرّي والتنقيب عن قبورهم أمر في
غاية الأهمية لاعتبارات دينيّة وأخرى تاريخية، وغير بعيدٍ عن هذه الاعتبارات أنَّ الكثير من البلدان الإسلامية كفلسطين أو الأندلس أو غيرها قد وقعت تحت الاحتلال الذي عمل ليس فقط على مصادرة الأرض، بل على تبديل هُويّتها وتزوير تاريخها ومحو ذاكرتها، وبقيت تلك القبور وبقايا
الأطلال هي الشاهد الحيّ وربّما الوحيد أحياناً الذي يؤكّد على انتماء هذه الأرض وحضارتها السالفة وتاريخها الزاهي.
كما أنَّ تعاقب الدول وتبدّل القناعات والمعتقدات طَمَسَ الكثير من القبور بما في ذلك قبور المعارف والشخصيّات، فغدت أطلالاً دارسة عفا عليها الزمان وطواها النسيان، بل إنّ ذلك قد أدّى إلى قلب الحقائق، فأحيا قبوراً وأمات أخرى، وسرق قبوراً وأسندها إلى غير أهلها، كما حصل ذلك في
فلسطين عندما ادّعى اليهود أنّ بعض مقامات الأنبياء هي مقامات تخصّهم وغيّروا هويتها وأسماءها، الأمر الذي يفرض إنشاء مراكز علميّة متخصّصة في هذا المجال تعنى بدراسة مواقع المراقد والمقامات.
وإنّ متابعة ما كتبه العلامة المتتبّع الشيخ محمّد حرز الدين في كتابه "مراقد المعارف" تظهر صدق ما نقوله من ضياع حقيقة الكثير من المراقد، فقد نصّ على جهالة عشرات المراقد والمشاهد المنتشرة في بلاد المسلمين ولا سيّما العراق وإيران، مؤكّداً أنّه يضعها "تحت الفحص والتنقيب"،
دون أن يعتني في كثير من الأحيان بـ"الشهرة القُطْرية" أو "الموضعية" التي تنسب هذه المراقد إلى أسماء معينة[7].
تضافر الجهود
وتجدر الإشارة إلى أنّ موضوع "المقامات الدينيّة" هو موضوع متعدّد الأبعاد، فهو من جهة يتّصل بالجانب الفقهي والعقدي، ومن جهة أخرى يتّصل بالتاريخ وعلم الأنساب، الأمر الذي يستدعي استنفار جهود الفقهاء والمؤرّخين والنسّابين والرحالة والبلدانيين كلّ في مجال تخصّصه، ليُدْليَ
الفقيه بدلوه في مجاله الخاص، فيؤصّل فقه المقامات وزيارتها طبقاً لضوابط الاستنباط الفقهي، ويدلي المؤرّخ بدلوه في مجاله الخاص أيضاً، ليكشف لنا ما غاب عنّا من أسرار التاريخ وخباياه فيما يتصل بهذه الشخصية الدينيّة أو تلك أو مكان دفنها، ويدلي النسّابةُ بدلوه في مجال تخصّصه ليبيّن
لنا ما خفي من أنساب بعض الشخصيات وأصولهم حتّى لا نقع في حال تجاوز التخصّصات في استنتاجات خاطئة بشأن بعض الرموز، أو بإرباك معيّن، كما حصل مع بعض العلماء[8].
بعيداً عن العقل الجمعي
ونحن إذ نحاول دراسة هذه القضية فمن الضروري أن يكون الحرص على الدين هو غايتنا، وحفظ حدوده وشعائره هو هدفنا ومبتغانا، وإذا كان الأمر كذلك، فمن الطبيعي أن نعمل على التجرّد من تأثيرات العقل الجمعي الذي يعمل– لدى عامّة الشعوب- على اصطناع هُويّات خاصة يجد
الجمعُ ذاته وخصوصيّته فيها، ويترجم ذلك من خلال ممارسات قد تكون بعيدة كلّ البعد عن تعاليم الدين ومقاصده، إلاّ أنّها تُعطى صبغة دينيّة ويتمّ إلباسها لبوس الدين ويحتضنها المتديّنون، لتصبح مع الوقت جزءاً من تكوينهم الثقافي والإنساني، إنّه في مثل هذه الحالات يغدو التزام الموضوعيّة
في البحث واعتماد المنطق العلمي أمراً في غاية الصعوبة، لأنّ سطوة الجماهير ومخافة العزلة ومحاذرة ردّات الفعل المختلفة سوف تتحكّم بالباحث وتحاصره وتدفعه لمجاراة السائد أو السكوت في الحدّ الأدنى، ولكنّي أعتقد أنَّ الجهاد في سبيل الله وحفظ أصالة الدين مطلوب على جميع الجبهات
وعلى الأصعدة كافة، ولعلَّني لا أبالغ بالقول: إنّ أبرز ميادين الجهاد في الإسلام هو ميدان الإصلاح الدينيّ ومواجهة الانحراف والبدع والمنكرات، ويجدر بالعالِم الذي يستهدي رسول الله(ص) في مواقفه وسلوكه أن يكون لديه غيرة على دين الله أكثر من غيرته على مكانته الشخصيّة وحيثيّته
الاجتماعية، قال تعالى: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً}[الأحزاب: 39].
محلّ البحث
وأما عن محلّ البحث فلا بدّ أن يُفرَّق بادئ ذي بدء بين نوعين من المقامات:
الأول: المقامات القائمة بالفعل ولم تثبت صحّتها بالدليل مع إمكان أن تكون صحيحة، كما في مقامات بعض الأنبياء المنتشرة في بلاد الشام أو بلاد الرافدين منذ قرون طويلة[9]، ومن الطبيعي أن يبقى البحث مفتوحاً بشأن هذا النوع من المقامات، ومن المهمّ أن يُحافظ عليها من الاندراس، إذ
ربّما يستطيع الباحث أن يتوصّل بشأنها إلى نتيجة إيجابية مُرْضِيَة.
الثاني: المقامات التي ثبت بالدليل عدم صحّتها، أو قامت القرائن على ذلك، وهذه ليس ثمّة ما يُلزم بوجوب حفظها أو تجديد بنائها، أو تشجيع الناس على زيارتها، وما سنذكره من محاذير شرعية حول بناء المقامات ناظر إلى هذا النوع من المقامات.
من كتاب "في بناء المقامات الدينية، المشروعية-الأهداف-الضوابط".
نُشر المقال على الموقع في 29-8-2017
[1]أنظر: "شفاء السقام في زيارة خير الأنام" للشيخ تقي الدين السبكي (683-756هـ) ص257، و"الرد على الوهابية في القرن التاسع عشر: نصوص الغرب الإسلامي نموذجاً"، تأليف: حمادي الرّديسي، وأسماء نويرة، دار الطليعة، بيروت، فقد تضمّن هذا الكتاب ردود جمع من العلماء المغاربة، لاحظ في الكتاب المذكور على سبيل المثال: ردّ الشيخ عمر بن قاسم المحجوب ص157- ص166 في شأن بناء المقامات، ولاحظ الرد المتين والمحكم لقاضي المالكية في الديار التونسية العلامة إسماعيل التميمي الشريف ص193، ولاحظ من ردود الشيعة كتاب: "كشف الارتياب في أتباع محمّد بن عبد الوهاب" للسيد محسن الأمين العاملي ص 286 وما بعدها، وكتاب "الأجوبة النجفيّة في الرد على الفتاوى الوهابية" للشيخ هادي كاشف الغطاء ص35-42.
[2]يحدّثنا السمهودي ت 911 هـ عن عشرات المشاهد التي كانت منتشرة في المدينة المنورة، سواء في البقيع، أو غيره ، أنظر: وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى، مجلد 3 ص916- 924.
[3]أشار السيد محسن الأمين إلى بعض هذه الشوائب التي كانت موجودة في زمانه، أنظر: رحلات السيد محسن الأمين ص133
[4]أنظر للمؤلف: عاشوراء قراءة في المفاهيم وأساليب الإحياء ص 140. مصدر سابق.
[5] راجع وسائل الشيعة الباب 15 من أبواب أحكام المساجد.
[6]أنظر: حول هذه الأحكام والآداب: كتاب الدروس للشهيد الأول ج 2 ص22 – 25، وجواهر الكلام ج20 ص102، وكتاب المزار للسيد مهدي القزويني (ت1300 هـ) ص282، ومرآة الكمال للمامقاني ج3 ص197 وما بعدها.
[7]إليك أسماء المراقد المشكوك في أمرها، والتي وضعها العلامة حرز الدين في كتابه "مراقد المعارف" تحت البحث والتنقيب: قبر ابن حمران في الخالص من توابع بعقوبة، ج1 ص55، مرقد ابن الحنفية في "أبو صخير" من أقضية لواء الديوانية في العراق، ج1 ص59، مرقد "أبو الخير" في العتايق من قرى الحلة المزيدية الشرقية، ج1 ص98، قبر السيد أحمد الحارث في الحلة في العراق ج1 ص126، عالم وعلويان، قبور ثلاثة بالقرب من آثار مدينة الهاشمية القديمة في العراق ج2 ص6، مرقد عبد الله بن زيد، شرقي شمالي قرية الكفل ج2 ص47، مرقد عبد الله بن الكاظم جنب مدينة (الخرم– غماس) ضمن لواء الديوانية ج2 ص47، مرقد عون بن علي، يقع في صور الزرفية هي نهر من الفرات ج2 ص143، قبر محمّد بن الحسن الحسني يقع شمال شرقي مرقد ذي الكفل في العراق ج2 ص273، مرقد محمّد بن الحسن الحسني في الرحبة في العراق، ج2 ص280، مرقد محمّد بن الهادي على نهر الجربوعية في الهاشمية ج2 ص283، مرقد محمّد بن الحسن في أرض خفاجة المكرمة في العراق ج2 ص248، مرقد القاسم بن الحسن في العتيكيات بضواحي مدينة المسيّب ج2 ص194، مرقد محمّد سوار في شوشة– إيران، ج2 ص290، مرقد محمّد المهدي في مقاطعة الحمزاوية ضمن لواء الحلة المزيدية– العراق ج2 ص296، مرقد محمود سركنج في صحراء شوشتر– إيران ج2 ص298، باباكوهي في بعض قرى شوشتر – إيران ج1 ص177، قبور بنات الكاظم في مقاطعة "علاج" شرقي البصيرة ضمن لواء الحلة ج1 ص200، قبر الساري أو السِمَّري في قبائل خفاجة المكرمة شرقي مرقد ذي الكفل ج1 ص354، مرقد سلطان محمّد علم دار في شوشتر– إيران ج1 ص373، مرقد شريفة بنت الحسن في حدود قرى قناقة من توابع الحلة السيفيّة– العراق ج1 ص384، مرقد الشواي في أراضي السنية في الحلة السيفية – العراق ج1 ص396، مرقد إمام زاده صالح الحسني في شوشتر– إيران ج1 ص403. إلى غير ذلك من المراقد والقبور التي ذكر العلامة حرز الدين بأنها قبور مجهولة، أو إنّها تحت الفحص والتنقيب.
[8] سئل السيد الشهيد محمّد الصدر عن مرقد علي بن الحسين الموجود في "المحاويل" في العراق وهل أنّه من أحفاد العباس بن علي(ع)؟ فأجاب: "لم يثبت لسيدنا أبي الفضل العباس ذرّيةٌ باقيةٌ بعد واقعة الطف إلى الآن إطلاقاً"، أنظر كتاب: مسائل وردود ج3 ص139. ثم إنّه رحمة الله عليه سُئل بعد ذلك: كيف تنفون وجود ذرية لأبي الفضل العباس(ع) مع أنّ "الحمزة" الموجود قبره في الحلة (المدحتية) ينتهي نسبه إلى أبي الفضل؟! فأجاب: "لا نعلم من الذي كتب النسب هناك، علماً أنّني ربّما أكون مشتبهاً فاسألوا النسابين فإنّهم أهل الاختصاص". أنظر: مسائل وردود ج4 ص107.
[9]من قبيل قبر "شيث" في البقاع في لبنان، فهو مقام مضى على بنائه قرون مديدة، وهكذا قبر "نوح" في "الكرك" في البقاع اللبناني، وهو كسابقه قديم جداً، وقد ذكرهما ابن جبير في رحلته، وذكر أنّهما وُصفا له، لأنه لم يتمكّن من معاينتهما بنفسه، (أنظر: رحلة ابن جبير ص241).