حوار مع مركز أفاق للدراسات والأبحاث: مشكلة الأديان تتشكل في الخطاب الفقهي    ثمن الحرية    أمثل الأساليب في عمليّة تهذيب النفس    مزايا الشباب    العمل سرّ النجاح    العبادة وعيٌ وانفتاح لا جهل وانغلاق    اقتناء أصنام الأمم البائدة    المفاهيم الدينية بين وجوب الاعتقاد وحرمة الانكار    البناء الاعتقادي بين الاجتهاد والتقليد    
 
بحث
 
تكريم الإنسان
 
س » كم كان عمر الزهراء (ع) حين زواجها من أمير المؤمنين (ع)؟ هل صحيح أن الإجماع هو على التسع من عمرها؟
ج »
 
▪️يوجد اختلاف كبير بين العلماء في تحديد عمر سيدتنا الزهراء سلام الله عليها حين زواجها من أمير المؤمنين عليه السلام، وتترواح هذه الأقوال بين تسع سنوات وعشرين سنة.
 
▪️مرد هذا الاختلاف إلى أمرين:
 
- الأول: الاختلاف في تاريخ مولدها، فهل ولدت قبل البعثة بخمس أم بعدها بخمس أو باثنتين؟ 
 
- الثاني: الاختلاف في تاريخ زواجها من أمير المؤمنين عليه السلام، حيث إن ثمة خلافاً في أنها تزوجت بعد الهجرة إلى المدينة بسنة أو بسنتين أو بثلاث.
 
▪️المعروف عند كثير من المؤرخين - كما ينقل التستري في تواريخ النبي (ص) والآل (ع) - أنها ولدت قبل البعثة النبوية بخمس سنين، وهذا ما ذهب إليه محمد بن إسحاق وأبو نعيم وأبو الفرج والطبري والواقدي وغيرهم، وعلى هذا سيكون عمرها حين الزواج ثماني عشرة سنة أو يزيد.
 
▪️ ونقل العلامة الأمين "أن أكثر أصحابنا" على أنها ولدت بعد البعثة بخمس سنين، وعلى هذا سيكون عمرها حين الزواج تسعاً أو عشراً أو أحد عشر عاماً، تبعاً للاختلاف في تاريخ الزواج.
 
⬅️ الظاهر أنه ليس هناك إجماع على أنّ عمرها عند الزواج بها كان تسع سنوات، فقد ذهب الشيخ المفيد في "مسار الشيعة" أنها ولدت بعد مبعث النبي (ص) بسنتين، وهو ظاهر الشيخ الطوسي في المصباح، بل نقل الشيخ عن رواية أنها ولدت في السنة الأولى لمبعثه الشريف، وحينئذ إذا كانت قد  تزوجت في السنة الأولى من الهجرة فيكون عمرها حين الزواج ثلاث عشرة سنة، وإذا تزوجت في السنة الثانية للهجرة سيكون عمرها أربع عشرة سنة، وإذا تزوجت في السنة الثالثة سيكون عمرها خمس عشرة سنة.
 
 وقد رجح التستري وغيره من علمائنا القول بولادتها بعد البعثة بخمس، استناداً إلى بعض الأخبار المروية عن الأئمة(ع).. وكيف كان، فتحقيق المسألة واتخاذ موقف حاسم يحتاج إلى متابعة.. والله الموفق.

 
 
  مقالات >> فكر ديني
ظاهرة تزايد المقامات: ظروفها وأسبابها
الشيخ حسين الخشن



 إنّ ممّا يضاعف مسؤوليّتنا إزاء "بناء المقامات وتزايد عددهاا"  هو أنّ التجاوز في هذا المجال قد بلغ حدّ الظاهرة التي عمّت مختلف البلدان

والأقطار الإسلامية، من بلاد الشام إلى العراق وإيران وأفغانستان وغيرها؛ يقول العلامة السيد مهدي القزويني (ت1300): "وفي العراق والعجم قبور كثيرة منسوبة إلى أولاد الأئمّة لم تثبت صحّتها"[1]، ويشير المحدِّث النوري إلى ظاهرة خطيرة في زمانه وهي أنّه "قد عُيّن مكان دفن

الكثير من الشخصيّات المهمة مع أنّه لا أصل لذلك التعيين ولم يذكره أحد ولم نقف له على مستند، مثل البيت المنسوب إلى أمير المؤمنين (ع)، ومثل الكثير من القبور التي منها ما لا أصل له، ومنها ما نقطع بعدم صحّته.. "[2].

 

وفي بلاد الشام أيضاً ثمّة مقامات كثيرة منتشرة منذ زمن بعيد لم تثبت صحّة الكثير منها، بل إنّ هناك أكثر من علامة استفهام حولها، كما سنذكر بعض الأمثلة على ذلك، نقول هذا مع علمنا بكثرة مَنْ دُفن في بلاد الشام من "الأنبياء والأوصياء والعلماء والصلحاء، فإنّهم لا يعدون ولا يحصون" كما قال الشيخ الحرّ العاملي[3].

 

وأمّا في إيران فإنّ ظاهرة بناء المقامات الدينيّة لأبناء وأحفاد الأئمّة (ع) ولا سيّما في العقود الأخيرة، غدت ظاهرة مستغرَبة للغاية، لا لتزايد هذه المقامات يوماً بعد يوم فحسب، بل لأنّها تُبنى أحياناً على أسس واهية واعتبارات تلامس حدّ الخرافة، وتشير الأرقام الرسميّة (طبقاً لما نقلته بعض

الصحف الإيرانية والعهدة على كاتب المقال) إلى أنّه وقبل انتصار الثورة الإسلامية في إيران كان عدد المقامات التي تُنسب إلى أولاد الأئمّة وأحفادهم وهو ما يُعرف بالفارسية بـ (إمام زاده) قد وصل إلى (1500) مقام، لكن هذا العدد ارتفع في عام 2008م إلى (10691) مقاماً، أي إنّه يبرز

لدينا في كلّ سنة (300) إمام زاده![4] وتشير إحصائية أخرى نُقلت عن معاون منظمة الأوقاف والأمور الخيرية إلى تزايد عدد مقامات ما يعرف بـ "إمام زاده" من 5959 مقاماً في عام 1382 ه.ش إلى 8000 مقام في عام 1387 ه.ش أي بزيادة حوالي 2041 مقاماً خلال خمسة

أعوام[5].

 

ويشير بعض الباحثين والعلماء الإيرانيين إلى أنّ المناطق التي يتزايد فيها بناء المقامات أكثر من غيرها هي المناطق الأكثر جمالاً واعتدالاً مناخياً في إيران، (من قبيل منطقتَي جيلان ومازندران) حيث يستغلّ بعض الأشخاص المشاعر الدينيّة للمؤمنين ويبنون مقاماً ويُنسب إلى أحد أبناء الأئمّة

(ع) ولا سيّما الإمام موسى الكاظم (ع) ويجمعون من خلال ذلك الأموال التي تعود بالفائدة على متولّي الضريح، الأمر الذي استلفت نظر بعض العلماء الكبار فرفعوا الصوت عالياً وندّدوا بهذه الظاهرة المريبة، وسعى بعضهم[6] في هدم بعض تلك المقامات وقطع العديد من الأشجار

"المقدّسة" والتي اتُّخذت ذريعةً لاستغلال عامّة الناس وسلب أموالهم[7].

 

وتجدر الإشارة إلى أنّ بناء المقامات الدينيّة في إيران دون أساس صحيح ليس بالأمر الجديد، بحسب الظاهر، وقد ألمح إلى ذلك العلاّمة السيد الخونساري في كتابه "روضات الجنّات"، حيث إنّه وبعد أن يتحدّث عن قبور أولاد الأئمّة (ع) الموجودة في أرض الرَّيّ (جنوبي طهران) وجبالها

العالية، وكذا الموجودة في مدينة قم، يضيف قائلاً: "وأمّا غير ذلك الموضِعَين من ديار العجم فلم يثبت به قبر أحد من أولاد الأئمّة (ع) والأنبياء(ع)" باستثناء أربعة قبور يشير الخونساري إليها محدّداً مواضعها[8].

 

وما قد يُقال من أنّ أبناء الأئمّة (ع) وأحفادهم وبسبب ما لاقوه أو تعرّضوا له من مظالم تفرّقوا في البلاد البعيدة ولجأوا إلى الأماكن النائية حيث المأمن والمأوى، وقد كانت إيران هي إحدى تلك الملاذات التي لجأوا إليها ودُفنوا في ربوعها، فهو وإن كان صحيحاً إلاّ أنّه ليس كافياً وحده لإثبات

صدقيّة أيّ مرقد من المراقد ما لم ينهض دليل على صحته. أجل، إنَّ ذلك سيشكّل حافزاً إضافياً يدفع باتجاه المزيد من البحث والتدقيق في أمر تلك المقامات، إذ ربّما نكتشف صدقيّتها.

 

إزاء هذا الواقع لا بدّ أن نعيد التأكيد على ضرورة فتح هذا الملف، لينطلق البحث العلمي الهادىء والهادف في دراسة كلّ المقامات المحتملة الصدقيّة، كما لا بدّ لنا أن نتحلّى بجرأة النطق بالحقّ إزاء كلّ المقامات التي لا أساس لها من الصحّة ولا حظّ لها من المصداقية، إنّنا بحاجة إلى علماء

يتّخذون مواقف حاسمة وحازمة وجريئة في مواجهة كلّ أنواع التضليل والخداع الدينيّ والمتاجرة بالمقدّسات، هذه الجرأة التي رأيناها عند الفقيه الكبير الشيخ عبد الحسين الطهراني عندما رفض استلام المال المبذول إليه لبناء بعض المقامات التي لم يتعيّن محلّها عنده كما سيأتي، ورأيناها عند

المحدّث والمتتبّع الشيخ النوري في مواقف عديدة له على هذا الصعيد، مع أنّه رجل أخباري النزعة واعتمد في بعض كتبه على الأحاديث الضعيفة وأكثر من الاستشهاد بالمنامات[9].

 

 

أسباب الظاهرة

 

   وإذا كان الأمر كما قدّمنا من وجود مقامات كثيرة في بلدان المسلمين لا أصل لها من الصحّة أو لم تثبت صحّتها، فإنّ السؤال البديهي الذي يطرح نفسه هنا هو: كيف بُنيت هذه المقامات؟ وما هي الدوافع إلى بنائها؟

 

وفي مقام الإجابة على ذلك نقول: إنّ بناء المقامات قد يكون انطلق من دوافع طيبة ومشاعر صادقة ونبيلة، إلا أنّ صدق المشاعر ونبل العواطف، والذي هو محل تقدير، لا يصحّ اعتماده مستنداً في بناء المقامات وتشييدها، لأنّ صدق المشاعر لا يمنع من الخطأ والاشتباه، على أنّ من المؤكّد أنّ

ظاهرة تشييد المقامات، لها في بعض الأحيان دوافع غير سليمة أو غير منطقية، ولذا لا يمكن لنا أن نعتبر أنّ أصل بناء المقام هو شاهد على مصداقيّته، كما سنوضح ذلك لاحقاً، وفيما يلي نشير إلى بعض الدوافع غير السليمة أو الاعتبارات الأخرى التي لا علاقة لها بالدين في بناء المقامات:

 

 

أولاً: الجهل والاشتباه

 

 والدافع الأول الذي يمكن ذكره في المقام، هو الجهل والاشتباه، والجهل أو الاشتباه لهما أسبابهما المختلفة، فربما كانت أسباباً عاطفيّة، حيث يندفع بعض الناس من منطلقات عاطفية إلى بناء بعض المقامات وتشييد بعض المراقد، اعتماداً على بعض المعطيات الواهية ولأدنى شبهة أو ملابسة، كرؤيا منام، أو حدوث كرامة في بعض الأمكنة.

 

وعلى سبيل المثال، فإنَّ بناء مقام لأمير المؤمنين علي(ع) في أفغانستان، لا منشأ له ظاهراً سوى الجهل بالمعطيات التاريخية وحصول تشابه في الأسماء، كما سنذكر لاحقاً.

 

  وإنّ وجود مقام في بعض قرى البقاع اللبناني باسم "النبي محمّد العوسجي" ناشئ على الأرجح من الجهل، لأنّه لم يعهد في الأنبياء - على كثرتهم - أنَّ اسم أحدٍ منهم هو محمّد غير نبينا محمد(ص)[10].

 

   وهكذا، فإنّ انتشار بعض الأضرحة أو الأماكن التي ينسبها العامة إلى نساءٍ نبيّات في بعض بلاد الشام هو شاهد ومؤشّر على أنّ الجهل يفعل فعله في النفوس، حيث لم يُعهد أنّه تعالى أرسل أنبياء من النساء، ويُرجّح أن تكون هذه الأضرحة هي لبعض النساء الصالحات، وقد أطلق عليها بعض الناس صفة "النبيّات" جهلاً واشتباهاً.

 

والاشتباه له أسبابه المختلفة وإليك بعضها:

 

 أ- فقد يكون سبب الاشتباه هو الاعتقاد الشائع بأنّه إذا انكشف قبر أو نُبِش، وبَانَ أنّ جسد الميت المدفون فيه لا يزال طرياً، فإنّ هذا دليل على أنّ هذا الميت هو ولي من الأولياء وصاحب كرامة، فيبنى له مقام ومشهد، مع أنَّ الأمر ليس بالضرورة أن يكون كذلك، كما سيأتي أيضاً.

 

ب- ومن جملة الأسباب أيضاً أنّ بعض الناس كانوا يتخيَّلون في الأزمنة السابقة أنّ ظهور كرامة عند ضريح معين، كشفاء مريض أو نحو ذلك، يكشف عن أنّ صاحبه هو نبيّ من الأنبياء وليس ولياً من الأولياء، باعتبار أنّ الكرامة لا تظهر إلاّ على أيدي الأنبياء ولا تظهر على يد الأولياء،

يقول الشيخ عبد الغني النابلسي(ت1143هـ) في رحلته إلى بلاد "بَعْلَبَكَّ" والبقاع المسمّاة "حلّة الذهب الإبريز في رحلة بَعْلَبَكَّ والبقاع العزيز": "ومررنا في الطريق، فقرأنا الفاتحة لنبيّ الله عزّ الدين ونبيّ الله الرشادي حين قربنا من قبريهما بقدر ما نميّز، ولعلّهما من الأولياء الأمجاد، ولكنّ

إطلاق النبوّة عليهما وعلى أمثالهما أيضاً في هاتيك البلاد، باعتبار ما عليه غالب أهل تلك القرى من الاعتقاد، في إنكار كرامة الوليّ، فإذا رَأَوْها قالوا هو نبيّ، كما بعض الفضلاء في "بَعْلَبَكَّ" لنا هذا أفاد، أو أنّ ذلك باعتبار الجهل وعدم الرشاد، أو أنّه واردٌ على أصله، والله أعلم بالمراد"

[11].

 

ج- وتُعتبر الخلافات المذهبية من جملة الأسباب التي أدّت إلى ضياع الحقيقة في أمر كثير من القبور، يقول العلامة حرز الدين: "ولا يخفى أنّ سبب جهالة كثير من القبور أنّه كان في القرن التاسع الهجري في العراق زوابع وفعاليات طائفيّة بين الشيعة والسُّنّة في أوائل العهد الصفوي، فعُفيت لذلك كثير من قبور العلويين، وبعضها أُبقيت وسُمّيت بأسماء الأنبياء، وأخرى بأسماء النساء، لكي لا يشملها الهدم والنبش والتخريب"[12].

 

د- ومن جملة مناشىء الاشتباه وأسبابه، انصراف الذهن إلى الفرد الأبرز عند إطلاق الاسم المسمّى به أكثر من شخص، ومن أمثلة ذلك- بحسب ما يرى السيد محسن الأمين-: أنّه عندما يُقال: إنّ في مصر قبراً ومشهداً للسيدة زينب، فإنّ الناس سوف يتوهّمون أنّه قبر السيدة زينب الكبرى بنت أمير المؤمنين (ع)، ولا سبب لذلك "إلاّ تبادر الذهن إلى الفرد الأكمل"[13]، مع أنّ المدفونة في مصر في رأي العلامة الأمين هي زينب بنت يحيى المتوّج بن الحسن الأنور بن زيد الأبلج بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب(ع).

 

 

ثانياً: تنافس البلدان والمذاهب

 

وربّما كان لتنافس البلدان أو المذاهب، والذي غذّته ولا تزال النوازعُ العصبيّة وحِرْصُ الإنسان على تحقيق الهويّة الخاصة به، دورٌ في بناء بعض المقامات على أسس واهية، في محاولة لمضاهاة البلدان أو المذاهب الأخرى أو الفخر عليها؛ وقد حدّثنا بعض أساتذتنا أنّ أهالي إحدى القرى في

بعض الدول الإسلامية فكّروا– ذات يوم- في قتل بعض الأشراف ليبنوا على ضريحه مقاماً، وربّما كان السبب الذي دفعهم إلى هذا التفكير العدوانيّ أنّهم أرادوا أن لا يفخر عليهم أبناء سائر القرى بوجود مقامات فيها دون قريتهم!

 

ونحن نعلم أنَّ العصبيّة للبلدان تفعل الكثير، فقد دفعت هذه العصبية إلى اختلاق الأحاديث المكذوبة على لسان رسول الله(ص) في مدح بلدان وذمّ أخرى، ولذا فإنّ أحاديث فضائل البلدان لا بدّ أن تخضع للدرس الدقيق، لأنّه قد كثر فيها الوضع والاختلاق، ولا سيّما ما ورد في مدح الشام وذمّ العراق أو الحجاز[14].

 

وهكذا فإنّ العصبيّة المذهبيّة قد عملت على اختلاق مناسبات دينيّة وإحيائها، في مقابل مناسبات المذهب الآخر، فكان أن جُعل "يوم الغار" مقابل "يوم الغدير"، ويوم مقتل "مصعب بن الزبير" في مقابل يوم عاشوراء الذي قُتل فيه الإمام الحسين (ع)[15].

 

 

ثالثاً: البناء التذكاري

 

ومن جملة الدوافع التي نخالها سبباً معقولاً في بناء بعض المقامات "الدينيّة" غير الثابتة: إقدام بعض الناس بداعي الحبّ والعاطفة الجيّاشة التي تسيطر على القلوب تجاه هذه الشخصيّة أو تلك، إلى تشييد مقام تذكاريّ لها في بعض الأماكن، ولا سيّما إذا كان هذا المكان قد أقامت فيه تلك الشخصيّة

ردحاً من الزمن، أو صلّت فيه، أو وقعت فيه حادثة معبّرة أو مؤلمة تتّصل بتلك الشخصيّة، أو رُؤِيَت تلك الشخصيّة في المنام في ذلك المكان.

 

وقد يندفع بعض البعيدين عن مركز الأحداث ومحور الحركة المتّصلة بالشخصيّات المقدّسة إلى بناء مقامات استذكارية لها في بلدانهم، بهدف التفاعل مع تلك الشخصيّات دون أن يتحقّق شيء من الملابسات المشار إليها (إقامة الشخصيّة في المكان، أو صلاتها فيه، أو وقوع حادث مؤلم فيه)،

وهذا ما يفسِّر وجود بعض المقامات لبعض الشخصيّات والرموز في أماكن يُقطع بعدم وصول تلك الشخصيّة إليها ولا دفنها فيها، وعلى كلّ التقادير فإنّه ومع مرور الوقت يحصل الالتباس، فيتوهّم بعض الناس أنّ تلك الشخصيّة مدفونة في هذا المشهد التذكاري؛ يقول العلامة المتتبع آغا بزرك

الطهراني تعليقاً على وجود مقام يُنسب إلى الإمام أمير المؤمنين(ع) في مدينة بلخ الأفغانية والتي عُرفت بمزار شريف: "الظاهر من عادة الشيعة أنّهم كانوا يبنون أبنية تذكارية لرجالهم، كما بَنَتِ الإسماعيليّة عدة أماكن في زمان واحد تحت عنوان "رأس الحسين"، فإنّها بناء تذكاري ضدّ بني

أمية، وليس المقصود أنّ رأس الحسين مدفون بها، كما أنّ لنا مكانات [هكذا، والصحيح أمكنة] عديدة باسم "مقام المهدي" ومن هذا القبيل: "مزار شريف" للإمام علي(ع) في بلخ وهرات، ومزار "طفلان مسلم" قرب سرخس بخراسان، و"شهر بانو" بالريّ، نعم إنّ العوام بعد مرور الزمن عليها

كانت تعتقد إنّها  معتبرة"[16].

 

 وغير مستبعد أن يكون المشهدان المنسوبان إلى أبي ذرّ الغفاري رضي الله عنه في بلدتي "ميس الجبل" و"الصرفند" العامليّتين- جنوب لبنان- من الأبنية التذكارية التي هدف بانوها إلى تخليد ذكرى أبي ذرّ بسبب حادثة معيّنة، من قبيل مروره في هاتين البلدتين أو صلاته فيهما أثناء نفيه إلى الشام في عهد عثمان[17].

 

 

رابعاً: المصالح الماديّة

 

وربّما انطلق بعض الناس من منطلقات ماديّة بحتة في بناء بعض المقامات، لأنّ بناء المقام يساهم في إيجاد حركة اقتصادية حوله، فينتفع بذلك بعض المحيطين بالمقام من خلال حركة الزائرين وما ينتج عنها من نشاطٍ تجاري واقتصادي وعمراني. يذكر صاحب كتاب "حبيب السير" وهو

يتحدّث عن كيفية ظهور مرقد الإمام علي(ع) في أفغانستان أنّ: "بعض الشيادين [يقصد البنائين] لما رأوا هذه الحادثة أخذوا في نقل المنامات الكاذبة لتشخيص بعض النقاط بدعوى كونها من مراقد الأولياء، وقبراً من قبور الأنبياء وأولاد بعض الأئمّة الأطهار، ويرتزقون من الشاردين والواردين وكلّ ذي حاجة جاء إلى ذلك المحلّ.."[18] .

 

إنّ هذا لا يعني أنّنا ندين النشاط الاقتصادي والتجاري الذي تشهده المدن المقدّسة سواءً التي تُقصد للحج أو  التي تُقصد للزيارة، فهو نشاط مشروع ولا محذور فيه، وقد قال تعالى وهو يحدّثنا عن فلسفة الحج: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ}[الحج: 28]. ممّا يشمل بإطلاقه المنافع الاقتصادية، فضلاً عن

المنافع الروحيّة والثقافيّة وغيرها، ونحن نعلم أنّ بعض المدن الإسلامية، إنّما قامت وأُنشئت في الأساس بسبب وجود قبر لبعض الشخصيّات الدينيّة فيها، كما هو الحال في مدينتي النجف الأشرف وكربلاء وغيرهما. بيد أنّ الشيء المدان هو أن يتحرّك الإنسان بدافع مادي وتجاري بحت إلى

تشييد مقامات دينيّة على أسس واهية، إذ لا شكّ بأنّ هذا العمل هو من أسوأ أنواع الاتجار، كونه يمثّل اتجاراً بالدين وتلاعباً برموزه[19].

 

وإنّ الاتجار بالدين والاسترزاق بالمقدّسات ليس بالأمر الجديد، فقد عرفه الإنسان منذ زمنٍ قديم، حيث عمد الأحبار والرهبان وتجار الهيكل إلى استغلال المشاعر الدينيّة بغية أكل أموال الناس بالباطل، إما عن طريق صكوك الغفران وبيع الجنان للحمقى والمغفّلين، كما كان يفعل بعض الرهبان،

وإمّا عبر بيع تراب الأرض المقدّسة كما كان يفعل بعض السدنة في مرقد الإمامين العسكريين (ع) في مدينة سامراء، حيث إنّهم لما رأوا اهتمام المؤمنين ورغبتهم الأكيدة بزيارة السرداب الذي كان بيتاً يسكنه ويتعبّد به الإمام علي الهادي (ع)، ومن ثَمَّ انتقل إلى ولده الإمام الحسن العسكري(ع)،

ومن بعده إلى ولده الإمام الحُجّة (عج)، فجعلوا- أيّ السدنة- "يأخذون تراب ذلك المكان ويعطونه للزائرين بإزاء دراهم معدودة، فأدّى ذلك أن حُفرت تلك البقعة مقدار درجتين، ثم تصدّى إلى طمّها العلامة الكبير الشيخ عبد الحسين الطهراني رحمه الله، ثم حفرها بعض السَّدَنة لمقاصدهم الخاصة

وسمّوها بئر صاحب الزمان... ومع ذلك فقد جعلوا الآن قبّة تحت الرخام بمقدار أن يدخل الكفّ فيه لأخذ التراب، وربّما وضعوا التراب فيها من الخارج لإعطائه للزائرين الذين لا يعلمون حقيقة التراب"[20].

 

وما أحوجنا إلى حزم الشيخ عبد الحسين الطهراني في مواجهة السَّدَنة المعاصرين الذين يتّجرون بالدين ويصدّون عن سبيل الله، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}[التوبة : 34].

 

من كتاب "في بناء المقامات الدينية، المشروعية - الأهداف – الضوابط".

 



[1]المزار ص138

[2]اللؤلؤ والمرجان ص137

[3]أمل الآمل في علماء جبل عامل ج1 ص16

[4] أنظر جريدة جمهوري إسلامي بتاريخ 25/01/1390 ه.ش، عنوان المقال "تأمل در إمام زاده هاى صحيح السند إيران" للكاتب السيد حسين شريفي.

[5] المصدر نفسه.

[6] ومنهم حُجّة الإسلام والمسلمين قرباني وكيل السيد القائد الخامنئي (حفظه الله) في محافظة جيلان وإمام جمعة رشت، وهكذا حُجّة الإسلام مير حسين أشكوري.

[7] المصدر نفسه، ولأهمية المقال المشار إليه فإنّنا ننقله للأخوة القراء مترجماً في الملحق رقم (1) من ملاحق هذا الكتاب.

[8] أحدها: قبر أحمد بن موسى المعروف بشاه جراغ في شيراز، والثاني: قبر السيد علي بن محمّد الباقر الواقع بالقرب من بلدة كاشان، المعروف بإمام زاده مشهد باركرس، والثالث: قبر ولده أحمد بن علي في أصفهان، والرابع: قبر السيد أبي الحسن الملقّب بزين العابدين بن علي بن نظام الدين... أنظر: روضات الجنات، ج4 ص212.

[9] حتّى صار محلاً للانتقاد من بعض الأعلام، ومنهم السيد الإمام الخميني(رحمه الله)، أنظر: أنوار الهداية في شرح الكفاية، ج1 ص 245.

[10]أنظر: كتاب الكشكول للشيخ إبراهيم آل عرفات ص78.

[11]حلة الذهب الأبريز في رحلة "بعلبك" والبقاع العزيز ص90

[12] - مراقد المعارف، ج1، ص385.

[13] أعيان الشيعة ج7 ص140.

[14]أنظر: لسان الميزان لابن حجر ج1 ص200 ذكر في ترجمة أحمد بن عبد الله بن محمّد بن مشكان أنّ له في فضائل الشام أحاديث منكرة .

[15] يقول الذهبي في أحداث سنة 389هـ: "كانت قد جرت عادة الشيعة في "الكرخ" و"باب الطاق" بنصب القباب وإظهار الزينة يوم الغدير والوقيد في ليلته، فأرادت السنّية أن تعمل في مقابلة هذا أشياء، فادّعت أنّ اليوم الثامن من يوم الغدير كان اليوم الذي حصل فيه النبيّ (ص) وأبو بكر في الغار، فعملت فيه ما تعمل الشيعة في يوم الغدير، وجعلت بإزاء عاشوراء يوماً بعده بثمانية أيام إلى مقتل "مصعب بن الزبير"، وزارت قبره بمسكن كما يزار قبر الحسين..."، أنظر: تاريخ الإسلام ج27 ص25.

 [16]الذريعة إلى تصانيف الشيعة ج4 ص134، وقد ورد هذا النصّ في هامش تلك الصفحة.

[17] راجع حول ما هو مشهور عن مجيء أبي ذر الغفاري إلى جبل عامل ودوره في نشر التشيع فيه ما ذكرناه في كتابنا: "الحر العاملي موسوعة الحديث والفقه والأدب"، ص159.

[18]أنظر: تحفة العالم في شرح خطبة المعالم ج1 ص262- 263 .

[19] والاتجار من خلال الدين هو الذي يقف- ظاهراً- خلف اختراع السبحة الخاصة التي تعرف بـ"سبحة أم البنين"، والتي راجت في هذه الأيام في أوساط البسطاء والسُّذج من دون أن يكون له مستند شرعي!

[20] كما يقول المحدِّث النوري في كشف الأستار طبقاً لما ينقله عنه السيد الجلالي في مزارات أهل البيت وتأريخها ص143، وقد أضاف السيد الجلالي قائلاً: "والعلماء هم المسؤولون عند الله لتركهم النهي عن المنكر وردع الجهال عن مثل هذه الخرافات التي ما أنزل الله بها من سلطان، وبراء منها كلّ شيعي خبير".

 






اضافة تعليق

الاسم *

البريد الإلكتروني *

موضوع *

الرسالة *


 


 
  قراءة الكتب
 
    Designed and Developed
       by CreativeLebanon