مقام لم يثبت اعتبارها (4): مقام مالك الأشتر في بعلبك - لبنان
الشيخ حسين الخشن
رجّح الباحث المعاصر الشيخ جعفر المهاجر أنّ مدفن مالك الأشتر النخعي هو في مدينة "بَعْلَبَكَّ"، وذلك في كتابه "مالك الأشتر سيرته ومقامه في "بَعْلَبَكَّ""، واعتمد فيما اختاره على بعض المعطيات والشواهد المستفادة من المصادر التاريخية، والتي
رأى فيها ما يشهد لكون القبر الموجود حالياً في "بَعْلَبَكَّ" والمعروف "بقبر سيدي مالك" هو نفسه قبر مالك الأشتر، وفيما يلي نقدِّم ملخّصاً لهذا الرأي، ثم نحاول تقييمه وتقييم المستندات التي اعتمد عليها.
في بادئ الأمر نقل الشيخ المهاجر ثلاثة نصوص عَثَر عليها تتحدّث عن القبر الموجود في "بَعْلَبَكَّ" المنسوب إلى الأشتر، وهذه النصوص هي:
النصّ الأول: ما عن أبي الحسن علي بن أبي بكر الهروي (ت611هـ) في كتابه (الإشارات إلى معرفة الزيارات) وجاء فيه العبارة التالية: ""بَعْلَبَكُّ"، على باب البلد من جهة الشمال قبر مالك الأشتر النخعي، والصحيح أنَّه بالمدينة".
يقول الشيخ المهاجر: "إنّ ما يهمّنا من نصّ الهروي ليس رأيه، وإنّما ما عاينه وأخبر به، ما يهمّنا بالذات هو ما يستفاد من كلامه، أنّ ما يعرف اليوم بقبر (سيدي مالك) كان في زمان المؤلف، أي في القرن السادس للهجرة معروفاً بأنّه قبر مالك بن
(هكذا) الأشتر النخعي، وأيضاً أنَّه كان من القبور التي كانت مقصودة بالزيارة وإلاّ فلماذا ذكره في كتابه الموضوع على "الزّيارات". ولا يهمّنا رأيُه حيث قال: "والصحيح أنّه (يعني قبرَ مالك) في المدينة"، وذلك لسببين:
الأول: لأنّه انفرد به، ولو كان صحيحاً لشاعَ وذاعَ وقاله غيرُه.
الثاني: إنّ المؤلّف عرضَ في كتابه نفسه، في ستِّ صفحات، لقبور المدفونين في "المدينة" من صحابة وتابعين وفقهاء، ولم نره ذكر الأشتر من بينهم. ولو أنّ قوله "والصحيح أنَّه بالمدينة" كان عن علم ودراية لأشار إليه إشارة ما.
فذلك دليلٌ قاطعٌ على أنّ رأيه واضح البطلان.
النص الثاني: وهو عن ياقوت الحموي (ت:626هـ/1228م).
وهو مَنْ هو في تمكّنه بعلم البلدان، بحيث نستغني عن التعريف به وبكتابه الشهير (معجم البلدان) حيث قال: "بها ("بَعْلَبَكُّ") قبر يزعمون أنَّه قبر مالك الأشتر النخعي، وليس بصحيح". ونعلّق على كلامه بمثل ما علَّقنا به على كلام سابقه.
النصّ الثالث: وهو عن أحمد بن يحيى بن فضل الله العُمري (ت:749هـ/1348م). والعُمري كان من كبار موظّفي الدولة المملوكيّة (مهمندار. من الفارسيّة، مهمان: ضيف، دار: صاحب)، ولقد اهتمّ بمثل ما اهتمّ به الهرويُّ من قبل، أعني ذكر
المزارات. وكان من قوله:
".. وأمّا سائر المزارات فكثيرةُ جدّاً. نذكر منها ما يحضرنا ذكره في هذا الوقت، ممّا هو ببلاد الشام. على ما يغلبُ على الظن صحّتُه. لا كما يزعمه كثير من الناس في نسبة أماكن لا حقيقة لها".
"فمن ذلك قبر مالك بن (كذا!) الأشتر النخعي. قيل إنّه على باب مدينة "بَعْلَبَكَّ" من الشمال".
ومع أنّ العمريَّ ذكر القبر في سياق المزارات التي يغلب عنده على الظنّ صحّتها، فإنّنا لا نعلّق كبير أهمية على شهادته في هذا النطاق. بل إنّ ما هو أكثر أهمية عندنا، هو شهادته بأنّه بعد ما يقرب من قرن ونصف القرن من تسجيل الهروي لما
اقتبسناه عنه قبل قليل، كان من المشهور والمعروف أيضاً بين الناس أنّ هذا القبر نفسه هو قبر الأشتر، كما أنّه من المزارات المعروفة المقصودة في المنطقة. بحيث اطّلع عليها العُمري بحكم عمله، وأثبت كلَّ ذلك في كتابه"[1]، هذه حصيلة كلام
الشيخ جعفر المهاجر.
ولكنّنا نجد أنّ هذا الرأي ضعيف جداً ولا يمكن التعويل عليه، وقد وقع صاحبه في العديد من الأخطاء التاريخية والرجاليّة والتحليلية، وفيما يلي نسلّط الضوء على بعض الملاحظات التي ترد على هذا الرأي:
الملاحظة الأولى: إنّ المعروف بين المؤرّخين أنّ وفاة مالك الأشتر كانت في مصر، وسوف أكتفي هنا بنقل نصّين لاثنين من كبار المؤرّخين يشهدان لما نقول:
النص الأول: هو للمؤرّخ إبراهيم بن محمد الثقفي(ت283 ه)، فقد روى: "عن عاصم بن كُليب عن أبيه أنّ علياً عليه السلام لما بعث الأشتر إلى مصر والياً عليها، وبلغ معاوية خبره، بعث رسولاً يتبع الأشتر إلى مصر يأمره باغتياله، فحمل معه
مِزْوَدين (المزود وعاء الزاد) فيهما شراب، وصَحِب الأشتر [فاستسقى الأشتر] يوماً فسقاه من أحدهما، ثم استسقى ثانية فسقاه من الآخر وفيه سم، فشربه، فمالت عنقه، فطلبوا الرجل ففاتهم"[2].
وهذا النصّ واضح الدلالة على أنّ رسول معاوية قد تَبِعَ مالك الأشتر إلى مصر وسقاه السم، فمات هناك، كما توحي بذلك عبارة "فمالت عنقه" والتي هي كناية عن الموت.
والشيخ المهاجر ملتفتٌ لدلالة هذا النصّ على موت "مالك" في مصر، ولكنّه ناقشه من جهة السند، فقال: "لا عبرة بروايةٍ عن عاصم بن كليب الكوفي... ذلك لأنّ الراوي المزعوم للخبر ابن كليب توفي سنة 37 ه 657 م. أي قبل مقتل الأشتر بسنة،
فكيف يمكن أن يروي ملابسات قتله؟!" ويضيف: "خلاصة القول: إنّه من الجليّ أنّ هذه الروايات بيّنة الوضع، وعليه فإنّها لا تستحق بذل الجهد في مناقشة ما في متنها"[3].
ولا أخفي القارىء أنّ كلام الشيخ المهاجر هذا قد أثار تعجّبي واستغرابي، لا لرميه النص المذكور بالوضع دون دليل فحسب، بل لوقوعه في خطأ فادح، حيث زعم أنّ عاصم بن كليب توفي في سنة 37 ه، أي قبل وفاة الأشتر رضي الله عنه بسنة،
وهذا أمرٌ واضح البطلان لدى مَنْ كان له أدنى اطلاع على كتب الرجال[4]، فإنّها نصّت على وفاة عاصم في سنة 137 هـ، وليس في عام 37 هـ، فهل التبس الأمر على الشيخ المهاجر وخلط بين التاريخين؟!
النص الثاني: هو للمؤرخ الشهير اليعقوبي (ت284 ه) حيث يقول: "فلمّا بلغ معاوية أنّ علياً قد وجّه الأشتر عَظُم عليه، وعلم أنّ أهل اليمن أسرع إلى الأشتر منهم إلى كلّ أحد، فدسّ له سمّاً، فلمّا صار إلى القلزم من الفسطاط على مرحلتين نزل منزل
رجلٍ من أهل المدينة يقال له [...]، فخدمه وقام بحوائجه، ثم أتاه بقعبٍ (قدح ضخم) فيه عسل، قد صيّر فيه السمّ، فسقاه إياه، فمات الأشتر بالقلزم، وبها قبره"[5].
وهذا النص هو أكثر وضوحاً وصراحة من سابقه في أنّ الأشتر مات بالقلزم في مصر، وأنّ قبره فيها، فكيف يتمّ تجاوز أو تجاهل هذا النص التاريخي الهام؟!
الملاحظة الثانية: خلو المصادر التاريخية التي أرّخت لحياة "مالك" وسيرته وطريقة إرساله من قبل الإمام علي (ع) إلى مصر لِيَلِيَ أمورها بعد أن اضطربت أمورها على "محمّد بن أبي بكر" من أيّة إشارة إلى وفاته في "بَعْلَبَكَّ"، أجل غاية ما هناك
أنّ ثلاثةً من الأعلام، وهم الهروي، والحموي، والعمري قد أشاروا في ثنايا كلامهم إلى وجود قبر يُنسب إلى مالك الأشتر في مدينة بعلبك، وقد تقدّمت نصوص هؤلاء الأعلام، إلاّ أنّ هذه النصوص لا يمكن التعويل عليها فضلاً عن ترجيحها على
نصّيّ اليعقوبي والثقفي المشار إليهما في الملاحظة الأولى، لا لأنّ النصوص الثلاثة متأخرة زمناً عن نصّي اليعقوبي والثقفي بعدّة قرون[6] فحسب، بل لأنّ أصحابها قد كذّبوا[7] نسة القبر الموجود في "بعلبك" إلى مالك الأشتر، وبما أنّهم
من أهل الخبرة والمعرفة- كما شهد لهم بذلك الشيخ المهاجر- فَلِمَ نَرِدُّ شهادتهم بدون دليل يثبت خطأهم؟!
وخلاصة القول: إنّنا لم نجد سبباً مقنعاً يفسّر لنا صمت المؤرخين إزاء "رواية" وفاة "مالك" على باب مدينة "بعلبك" وربما يقال: إنّ مردّ ذلك إلى أنّ ما جرى مع "مالك" كان عملية اغتيال سياسي بامتياز، وعمليات من هذا القبيل تحصل عادة في جنح
الظلام، على أنّ مُدَبِّر عملية الاغتيال- وهو معاوية- أراد تضييع الحقيقة وإبعاد الشبهة عنه، ومن هنا يكون من مصلحته الترويج لرواية مقتله في "العريش" أو "القلزم"، أو غيرهما من الأماكن البعيدة عن مركز حكمه، وأمّا "بَعْلَبَكُّ" فهي قريبة جدّاً من
دمشق ممّا سيوجّه أصابع الاتهام إلى "معاوية" مباشرة في حال انكشف أنّها– أي "بَعْلَبَكَّ" - كانت مسرحاً لعملية الاغتيال.
ولكنَّ السؤال الذي نطرحه إزاء هذا الكلام أنّه إذا كان الأمر كذلك فما الذي أدرى الناس في "بَعْلَبَكَّ" بأنّ هذا الرجل الذي مات مسموماً على باب المدينة هو مالك الأشتر؟ مع أنّ من مصلحة منفّذي الجريمة الذين يعملون وفق تخطيط مُحْكَم وتدبير تام
إخفاء آثار الجريمة والتخلّص من جثة القتيل، لا أن توضع على باب المدينة! ثمَّ مَن الذي كشف هذا السرّ ومتى؟ هذا لو تماشينا مع الافتراض المتقدِّم القائل بأنَّ معاوية كان حريصاً على السرّية والتكتّم على عملية القتل أو الاغتيال.
الملاحظة الثالثة: إنّ من المفهوم أن يأمر معاوية بتصفية الأشتر عن طريق دسّ السمّ إليه فيما لو كان قد وصل إلى مصر أو شارف على الوصول إليها أو سلك طريقاً بعيداً عن بلاد الشام، أمّا لو كان مالك قد اختار المرور إلى "مصر" عبر "بَعْلَبَكَّ"
القريبة جداً من "دمشق" مركز السلطة الأموية وكانت عيون "معاوية" تلاحقه فأعتقد أنَّ الظفر الأكبر لمعاوية سيكون في اعتقال "مالك" وجلبه إلى الشام مخفوراً، ومن ثم يستطيع- معاوية- بعد ذلك أن يتدبّر أمره، إمّا بحبسه وتغييبه في السجون لو لم
يُرِدْ قتله، ولو أراد قتله والتخلّص منه فلن تعوزه الحيلة إلى قتله بطريقة أو بأخرى، إمّا باعتماد طريقة خفيّة لذلك كأن يدسّ السمّ له، أو باعتماد طريقة علنية، كما فعل مع "حِجر بن عَدي" وصحابته في مرج عذراء، أو أن يمكِّن أهل الشام من
الاقتصاص من "مالك" باعتبار أنّه كان رأس الحربة في مواجهتهم يوم صفين وأذاقهم يومها الويلات، ومؤكَّدٌ أنّ قتل "مالك" أهون على معاوية من قتل "حجر"، ولا سيّما أنّ "مالكاً" هو أحد قادة الثورة على "عثمان"، ومعلوم أنّ "شرعيّة" حكم
"معاوية" قامت على فكرة الثأر من قَتَلَةِ "عثمان".
إنّ إحضار شخصيّة كمالك أسيراً مخفوراً إلى دمشق– لو كان ممكناً دون مخاطرة- سيحقق أكثر من نتيجة إيجابية لمعاوية، ممّا قد لا يحقّقه مقتله على باب مدينة "بَعْلَبَكَّ":
1- إنّ إحضاره إلى "دمشق" أسيراً سيسهم في رفع معنويات أهل الشام ويشفي غيظهم ويأخذ لهم بثأرهم ممّن جرّ عليهم المصائب والويلات يوم "صفين".
2- إنّه سوف يوهمهم بأنّ الله قد استجاب دعاءهم، حيث إنّه– أعني معاوية- كان قد دعاهم وطلب إليهم أن يدعوا الله ليكفيَهم مالكاً، "فكانوا يدعون الله عليه كلّ يوم"[8].
3- إنّ معاوية سيوجّه ضربة معنويّة قاسية إلى جمهور الإمام عليّ(ع) عموماً وجيشه على وجه التحديد من خلال أسر "مالك"، وهي بالتأكيد ضربة سيكون وقعها أشدّ وأقسى من اغتيال مالك بطريقة جبانة وهي طريقة دسّ السمّ إليه.
الملاحظة الرابعة: إنّ مالكاً هو الشخصيّة المعروفة جدّاً وذات الصيت المشهور في إيلام أهل الشام يوم صفين، ولذا، لا يمكن أن يجازف في سلوك طريق إلى مصر يمرّ عبر مدينة "بَعْلَبَكَّ" المجاورة لدمشق الشام، حيث مركز معاوية ومعقله، وحيث
عيونه مفتوحة! إنّ هذا أمر مستبعدٌ جداً، ولا أعتقد أنّ شخصاً خبيراً وقائداً محنكاً كمالك يمكن أن يختار مثل هذا الطريق أو يُقدم على ارتكاب مثل هذه المغامرة، وهو الذي "كان يعرف- على حدِّ تعبير الشيخ المهاجر نفسه- ولا ريب أنّ عيون معاوية
المبثوثة في العراق ستُخْطِرُه فوراً باتجاهه إلى مصر، أي إنّه لا يستطيع أن يتّكل على جهل معاوية بخروجه، ليسير قاصداً مصر البعيدة دون حذر"[9].
الملاحظة الخامسة: إنَّ هذه الطريق التي تمرُّ على "بعلبك" ليست هي الطريق المثلى لقاصد مصر، بل من غير المألوف ولا المنطقي، أن يسلكها من هو في الكوفة في مسيره إلى مصر، بسبب بعدها وتعرّجها، ما يضطر سالكها إلى التأخّر في
الوصول إلى المقصد، مع أنّ الوقت بالنسبة إلى الأشتر ثمين جداً، لأنّ أحوال مصر مضطربة، فهو بحاجة إلى الوصول إليها بأقصى سرعة لينظم أمورها ويقطع دابر الفساد.
وأمّا تبرير اختيار مالك لهذا الطريق دون سواه باعتباره "متفرّع الدروب عامراً بالغادين والرائحين حيث يسهل الاندماج في حركته الكبيرة التي يستحيل مراقبة كلّ من يعبرها مراقبة دقيقة"[10]، فهو تبرير ضعيف، لأنّ دعوى أنّ هذا الطريق
كان مزدحماً بالمارّة إلى الحدّ الذي يضيع مالك بينهم غير ثابتة، على أنّ هذه الخصوصية عينها لو صحّت ستجعل اختيار هذا الطريق غير آمن لسالكيه، للسبب عينه، وهو كثرة الغادين والرائحين الذين قد يتعرّف بعضهم على مالك فينكشف أمره.
الملاحظة السادسة: إنّ دعوى "الإطباق الجماهيري التاريخي المزمن والمستمرّ على نسبة القبر في "بعلبك" للأشتر"[11]، هي دعوى مبالغ بها، إذ يبدو لنا أنّ هذا الإطباق المزعوم منقطع الأوّل والآخر، فكلمات المؤرّخين المُشار إليها لو سلّمنا
بدلالتها على أنّ القبر كان مزاراً تؤمّه الناس، (وتجاوزنا عمّا يمكن أن يقال من أنّه لو كان مزاراً بالفعل لكان قد بُني على القبر مشهد كسائر المشاهد التي كانت في تلك الآونة (القرن السادس للهجرة وما تلاه) منتشرة في بلاد الشام، مع أنَّ النصوص
الثلاثة متّفقة على توصيفه بالقبر "قبر مالك" ولم يَرِد فيها أيّة إشارة إلى وجود مشهد لمالك)، فإنّ غاية ما تثبته أنّه كان مزاراً في القرن السادس للهجرة، أمّا ما سبق ذلك من القرون وصولاً إلى زمان وفاة صاحب القبر ودفنه، فلا نجد ما يثبت ذلك،
وبالتالي فما الذي يمنع من أن يكون هذا "المزار" قد ظهر في بدايات القرن السادس وهو القرن الذي ظهرت فيه العديد من المشاهد في بلاد الشام، ومنها "مشاهد كثيرة لأهل البيت(ع)"، كما يقول ابن جبير في رحلته، ويضيف بأنّه "قد احتفل الشيعة
في البناء عليهم"[12]، ومن المعلوم أنّ بعض هذه المشاهد التي ظهرت في تلك المرحلة الزمنية لم يثبت انتسابها إلى أصحابها من أهل البيت(ع)، فقد بُنِي مشهد في دمشقَ منسوب إلى الإمام علي(ع)، وهو كما يقول ابن جبير "من أحفل المشاهد"
فيها، كما أنّه يتحدّث عن مشهد آخر منسوب إلى سكينة بنت الحسين(ع) وذلك في الجبانة بغربي البلد[13]، ومن المعلوم عدم صحّة هذين المشهدين، فعليّ(ع) مدفون في النَّجف، وسكينة مدفونة في المدينة، فلعلَّ قبر مالك الأشتر قد بُني في تلك
المرحلة دون أساس صحيح، كما هو الحال في سائر المقامات، التي قد يقف وراء بنائها بعض الاعتبارات الواهية أو العصبيات أو الاشتباهات.
وكما لم يثبت اتصال هذا "الإطباق" من زمن ظهور القبر وإلى زمن موت مالك، فإنّه لم يثبت اتصاله بزماننا، فما الذي يثبت أنَّ القبر الموجود فعلاً والمسمّى بقبر (سيدي مالك) هو ما تحدّثت عنه تلك النصوص، وذلك في ظلّ عدم وجود شهرة-
فضلاً عن الإطباق– متواصلة جيلاً بعد جيل أو سيرة مستمرّة على زيارته باعتباره قبراً لمالك الأشتر، وما الذي يمنع أن يكون هذا القبر لشخص آخر من أهل الديانة والفضل اسمه مالك وقد تمّ دفنه في تلك البقعة في بعض الأزمنة وبسبب جلالته
وديانته أطلق الناس عليه اسم "سيدي مالك"، وإن كان احتمال التطابق بين هذا القبر وبين ما حدّثتنا عنه المصادر وارداً، إلاّ أنَّ من الصعب حصول الوثوق والاطمئنان بهذا الأمر ما لم تدعمه شواهد أخرى، ولا يخفى أنّ وصف "سيدي" منتشر في أوساط المسلمين السنّة، فهم يقولون "سيدي حِجِر" وسيدنا "الحسين(ع)"... ولم يُعرف استخدام هذا الوصف في الوسط الشيعي.
الملاحظة السابعة: بصرف النظر عمّا تقدّم، فإنّ الدليل الذي عدّه الشيخ المهاجر "بالغ القوة" على ترجيح رواية دفن مالك في "بَعْلَبَكَّ" على سائر الروايات، هو ما جاء على لسان "معاوية" بعدما بلغه الخبر بمقتل أو اغتيال "مالك"، حيث وقف خطيباً
بالناس وقال: "أمّا بعد، فإنّه كانت لعليّ بن أبي طالب يمينان، قُطعت إحداهما يوم صفين (يعني عمار بن ياسر)، وقُطعت الأخرى اليوم، ويعني الأشتر"[14]، معتبراً- أي الشيخ المهاجر- أنّ قول معاوية "وقطعت الأخرى اليوم" هو الدليل القوي
على ترجيح رواية مقتل "مالك" في "بَعْلَبَكَّ"، والوجه في ذلك "أنّ "بَعْلَبَكَّ" هي البلد الوحيد من بين كلّ البلدان التي قالت الروايات إنّ الأشتر قد اغتيل أو قُتل فيها التي يمكن لأجهزة "معاوية" أن تنهي إليه في "دمشق" نجاحها في القضاء على "الأشتر"
في اليوم نفسه الذي نُفِّذت فيه المهمة، وبالمقابل يستحيل مثل ذلك من "القلزم" أو "عين شمس" أو "العريش" أو "غور الأردن""، ويضيف الشيخ المهاجر معلّقاً على هذه الفقرة: "إنّ القيمة الإضافية لدلالة هذا النصّ هو (هي) في عفويّته، أي في
صدوره عن قائلها (قائله) عفو الخاطر، بحيث لم يُتح له أن يدقّق في كلّ مضامينه. ويبدو أنّ الفرح قد أخذ من "معاوية" مأخذه، بحيث اندفع إلى تحلية الخبر بمؤثرات إضافية من نوع ما يوحي بأنّه خبر طازج وأنّ المخاطبين هم أوّل من علم به، دون
أن يلتفت إلى لازمه"[15].
ولكننا لا نجد في الفقرة المذكورة دليلاً على ترجيح رواية مقتل الأشتر في "بَعْلَبَكَّ"، لأنّ الظرف الذي استخدمه المتكلم (معاوية) في خطابه وهو كلمة "اليوم"، ليس من الواضح أنّه قصد بها المدلول الحرفي للكلمة، وهو ما يعادل (24 ساعة) أو
(12ساعة)، ليكون ذلك دليلاً على ترجيح رواية "بَعْلَبَكَّ"، باعتبار أنّها البلد الوحيد الذي يمكن وصول الخبر عن أي حادثة تقع فيها إلى دمشق في نفس اليوم، وإنما أراد معاوية من كلمة "اليوم" المقطع الزمني الحاضر
(ولو امتد لعدة أيام أو أسابيع وربّما أشهر) مقابل المقطع الزمني المتقدّم، والقرينة على ذلك هي:
أوّلاً: (قرينة داخلية) وهي أنَّ معاوية استخدم كلمة اليوم في مقابل "يوم صفين"، ومعلوم أنّ معركة صفين لم تقع في يوم واحد.
ثانياً: (قرينة خارجية) وهي شيوع استخدام كلمة "اليوم" لدى العرب بمعنى المرحلة أو الحقبة الزمنيّة المعينة المشتركة في وصفٍ معيّن، فيُقال: "يوم المظلوم على الظالم أشدّ من يوم الظالم على المظلوم"[16]، مع أنّ انتصار المظلوم وانتصافه
من ظالمه قد لا يحتاج إلى يومٍ بأكمله، وقد يتحقّق بعدد من الأيام أو الشهور، وهكذا يُستخدم "اليوم" بمعنى الحقبة الزمنية، فيُقال: "يوم الإسلام" بمعنى عصر الإسلام في مقابل "عصر الكفر".
وأمّا ما ذكره من أنَّ معاوية قد اندفع تحت تأثير الفرح واستخدم كلمة "اليوم" دون أن يلتفت إلى لازمها، فقد يُعترض عليه بأنَّ معاوية صاحب الحنكة والدهاء ما كان مرتجلاً فيما أقدم عليه ليفضح خطّته بكلمة ارتجالية، وهي خطّة حاكها جيّداً وجنّد
لها عيونه، ليرصدوا حركة "مالك"، مقدمةً للتخلّص منه، ولا سيّما أنّ الكلمة صدرت منه في "خطبة عامة" بعد أن بلغه مقتل الأشتر، وطبيعة الأمور تفترض أنّه قد انتظر اجتماع الناس في مناسبة عامّة، أو طلب هو اجتماعهم، ليقوم خطيباً فيهم
ويبشّرهم بالخبر السار! ما ينفي عن خطابه الارتجال والعفوية.
الملاحظة الثامنة: وأمّا ما يذكره الشيخ المهاجر في سياق نفيه لصحة رواية مقتل مالك الأشتر في مصر قائلاً: "وهل من المعقول أن يضيع قبر رجلٍ كالأشتر في مصر إن كان قد قتل فيها؟![17]، فهو كلام مستغرب:
أولاً: إنّ القبر لم يضع أبداً، بل هو لا يزال معروفاً ومزوراً إلى يومنا هذا، وهو واقع في منطقة "المرج" التي تُعدُّ اليوم من ضواحي مدينة "القاهرة"، ويُعرف قبره هناك بقبر الشيخ العجمي[18]، وصور القبر والمقام منشورة ومتداولة على
الكثير من المواقع الإلكترونية.
ثانياً: على فرض التسليم بضياع القبر، فما الغرابة في ذلك؟ ألم تضع الكثير من قبور صحابة النبي(ص) وكذا أصحاب أمير المؤمنين(ع)؟! وما الذي يمنع أن يكون التشدّد الذي مارسته الدولة الأيوبية عندما حكمت في مصر سبباً في ضياع قبر مالك وغيره من القبور؟
من كتاب "في بناء المقامات الدينية: المشروعية، الأهداف، الضوابط"
نُشر على الموقع في 23-5-2018
[1]مالك الأشتر.. سيرته ومقامه في "بعلبك" ص147 – 150.
[2] الغارات للثقفي ج1 ص261.
[3] مالك الأشتر: سيرته ومقامه في بعلبك، ص120-121 وراجع أيضاً ص135.
[4] ويقول ابن حبان (354 هـ) في كتابه: "مشاهير علماء الأمصار وأعلام فقهاء الأقطار" ص260: عاصم بن كليب بن شهاب الجرمي من متقني الكوفيين، مات سنة سبع وثلاثين ومائة"، وذكر ذلك ابن حبّان أيضاً في كتاب "الثقات" ج7 ص256، وراجع أيضاً: ميزان الاعتدال للذهبي (ت748 هـ) ج2 ص356، كما أنّ وفاته في سنة 137 هـ تبدو جليّة من خلال التعرّف على طبقته في الحديث، فهو- أي عاصم- ممن روى عنه سفيان بن عينية وسفيان الثوري وغيرهما من أعيان القرن الثاني الهجري، أنظر: تهذيب الكمال للمزي ج13 ص537، على أن والده وهو كليب قد عُدّ من أصحاب أمير المؤمنين(ع)، أنظر: رجال الشيخ الطوسي ص80، وقد خطّأوا من عدَّ كليباً من صحابة النبي(ص)، أنظر: تقريب التهذيب لابن حجر العسقلاني، ج2 ص44، على أنّ عاصم بن كليب ينقل لنا أحداثاً قد حصلت في سنة 130 هـ، فكيف يكون قد مات في سنة 37 هـ ! أنظر: الإصابة لابن حجر العسقلاني ج3 ص222.
[5] تاريخ اليعقوبي، ج2 ص194.
[6] بما أنّ وفاة الهروي كانت في سنة 611 هـ، ووفاة ياقوت الحموي في سنة 626 هـ ووفاة العمري في سنة 749 هـ، فهذا معناه أنّ النصوص الثلاثة تعود إلى بداية القرن السابع الهجري (وعلى أحسن التقادير إلى نهاية القرن السادس) ومنتصف القرن الثامن.
[7] أمّا تكذيب الهروي والحموي لذلك فواضح وجليّ كما لا يخفى على من يراجع نصّيهما، وأمّا العمري فقد أوحى الشيخ المهاجر أنّه- العمري- يغلب على ظنّه صحة نسبة القبر الموجود في بعلبك إلى مالك، وهذا اشتباه آخر وقع فيه الشيخ، لأنّ اسم الإشارة "ذلك" الوارد في كلام العمري "فمن ذلك قبر مالك" مرتبط بقول العمري السابق على هذه الفقرة عما يزعمه "كثير من الناس في نسبة أماكن لا حقيقة لها"، وأحد الأمثلة على الأماكن التي لا حقيقة لها قبر مالك الأشتر على باب مدينة العمري، هذا ما يُفهم من كلام العمري، أما إرجاع اسم الإشارة إلى ما جاء قبل ذلك من حديث العمري عن المزارات التي يغلب على الظن صحّتها فهو خلاف الظاهر.
[8] الكامل في التاريخ ج3 ص353.
[9] مالك الأشتر: سيرته ومقاومة في بعلبك، ص110-111.
[12]رحلة ابن جبير ص39، وينقل العلامة السيد محسن الأمين أنّه قد وجدت صخرة على قبر السيدة زينب(ع) تعود إلى القرن السادس، مكتوب عليها: "هذا قبر السيدة زينب المكناة بأم كلثوم، بنت سيدنا علي رضي الله عنه"، وليس فيها تاريخ، وصورة خطّها تدلّ على أنّها كُتبت بعد الستمائة من الهجرة، أنظر: أعيان الشيعة ج7 ص136.
[14]الطبري ج4 ص 72، والكامل في التاريخ ج3 ص353.
[15]مالك الأشتر، م.س، ص156 .
[16] كما قال أمير المؤمنين (ع)، أنظر نهج البلاغة ج4 ص 54.
[17] مالك الأشتر، م.س، ص138.
[18] أنظر: مراقد المعارف، ج2 ص223.