حوار مع مركز أفاق للدراسات والأبحاث: مشكلة الأديان تتشكل في الخطاب الفقهي    ثمن الحرية    أمثل الأساليب في عمليّة تهذيب النفس    مزايا الشباب    العمل سرّ النجاح    العبادة وعيٌ وانفتاح لا جهل وانغلاق    اقتناء أصنام الأمم البائدة    المفاهيم الدينية بين وجوب الاعتقاد وحرمة الانكار    البناء الاعتقادي بين الاجتهاد والتقليد    
 
بحث
 
تكريم الإنسان
 
س » من المقصود في الزيارة: السلام على عليّ بن الحسين.. هل هو زين العابدين (ع) أم الأكبر أم الرضيع؟
ج »

الظّاهر - بحسب السّياق - أنّ المُراد به هو عليّ الأكبر الشّهيد لدوره الكبير وحضوره في المعركة، ولعظيم مُصيبته على الإمام الحسين (ع)، أمّا الطفل الّرضيع فيكون ُمندرجاً في فقرة أخرى وهو قوله في الزّيارة - وعلى أولاد الحسين -  والتي تشمل سائر أولاده بمن فيهم الإمام زين العابدين (ع) والبنات أيضاً .

 


 
س » يوجد لديّ إشكالات كثيرة على الاستدلال بحديث الثقلين على العصمة، فهو يشمل إجماع العترة وليس آحادهم، ويشمل العباس عم النبي (ص)، فهل هؤلاء معصومون؟؟
ج »

أولاً: إنّ حديث الثقلين لا شكّ فيه من حيث السّند وهو مُستفيض حتى في روايات السّنة ناهيك عن روايات الشيعة ، وأّما من حيث الدّلالة فإنّه وبصرف النّظر عن كون القرآن الكريم أفضل من العترة أم عدم كونه كذلك ، فلا ريب في دلالة الحديث على أن التمسّك بالعترة يُشكّل صمّام أمان للأمّة يمنعهم ويعصمهم من الضّلال - ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا - ، ولا شكّ في دلالته أيضاً على أن العترة لا يفترقون عن القرآن الكريم ، ولا يُتصور أن يصدر عنهم ما يُخالف القرآن وهذا ما يدل عنه قوله في الحديث - لن يفترقا - .


- ثانياً : إنّ ما ذكرتموه بأنّ المراد بالحديث هو إجماع العترة هو كلام ضعيف ولا وجه له لأنّه إن أريد بالعترة ما هو أوسع من الأئمة من أهل البيت (ع) ليشمل العباس وذريته أو غيره، فمن المعلوم أنّ هؤلاء أعني العباسيين لا ميزة لهم عن سائر الصّحابة والنّاس فهم يُخطئون كغيرهم ويُمكن أن ينحرفوا كما انحرف غيرهم، وبالتالي فلا يُعقل أن يكون لرأيهم أو إجماعهم أيّ قيمة أو أن يُشكّل إجماعهم أو قولهم عاصماً للأمّة  عن الضّلال ، ما يعني أن نظر الحديث فقط إلى خصوص شريحة من العترة وهم الذين لا يُمكن أن يقعوا في الضّلال والانحراف، وهؤلاء لا فرق بين الواحد منهم أو الجميع ، فكما يكون قول الجميع حُجّة وعاصماً عن الضّلال ، كذلك قول الواحد، والقرينة على ذلك أنّه حين قال النبيّ (ص) هذا الكلام لم يكن من العترة التي يؤمَن وقوعها في الضّلال إلا عليّ (ع)، أما الحسن والحسين (ع) فكانا طفلين صغيرين، فهل كان الحديث لا قيمة له آنذاك لأنّه بعد لم يتحقّق إجماع العترة؟ من الواضح أن هذا بعيد جداً لأنّ كلامه (ص) ساري المفعول من حين إطلاقه ولا يتوقف على مرور عقود من الزّمن حتى يتشكّل إجماع العترة.


 
 
  مقالات >> عقائدية
وقفة مع منهج الفكر الربوبي (عقلاً وعلمًا)
الشيخ حسين الخشن



في هذا المقال سوف نتناول فصلين:

 

أولاً: الربوبي والعقل

 

ثانيًا: الربوبي والعلم

 

 

ما هي المرجعيّات التي يستند إليها المذهب الربوبي في إثبات رؤاه وتصوراته الاعتقادية؟ وبعبارة أخرى: ما هي مصادر المعرفة المعتمدة لديه في بناء الرؤى والأفكار والتصورات وغير ذلك؟ هل هي العقل فقط؟ أو العقل والعلم أيضاً؟ وماذا عن الوجدان والفطرة مثلاً؟ وماذا

عن الوحي؟
 

 

ربما تساءل الكثيرون: ألا تكفي العقول التي زوّد الله بها الناس ميزاناً لمعرفة الحق وهادياً يقوّم المسيرة الإنسانية؟ ولماذا نحتاج إلى الوحي السماوي؟ إننا وببركة عقولنا في غنى عن تعاليم الأنبياء!

 

 

  • أولاً: الربوبي والعقل

 

والواقع أن التساؤل الأخير قد تبناه الربوبي، فنراه يصرّح بأنّه لا يؤمن إلا بمرجعيّة العقل، وأنّه لا رسول سواه بين الله وخلقه، وبالتالي فهو لا يتقبل الاحتجاج عليه بالوحي والنص المقدس. إنّه يرى نفسه في حلٍّ من النصوص الدينيّة، إذْ لا يعتبرها حجّة ودليلاً، وهذا الالتزام

يعطي الربوبي فسحة ومتسعاً، فهو لا يواجه ما قد يُواجهه المتديّن من مشكلة تعارض النص مع العقل.

 

وعلى ضوء ذلك، فإنّ الطريق الصحيح في مواجهة الفكر الربوبي يتمثّل في أحد أمرين:

 

أ -إمّا مناقشة المنهج الذي يتبناه ويعتمد عليه، وبيان خطأه في الاقتصار على مرجعيّة العقل.

 

ب -وإمّا الاكتفاء في مناقشته ومحاججته بما تحكم به العقول، بعيداً عن الوحي، إلزاماً له بما ألزم به نفسه.

 

ومع أنني سأحرص - في المحاور اللاحقة - على أن تكون معظم الاستدلالات والنقاشات في مواجهة الربوبي معتمدة على الدلائل والبراهين العقلية إلزاماً له بما ألزم به نفسه، لكنْ مع ذلك سأخصص هذا المحور لبيان وجوه الضعف والخلل في منهج الربوبي المقتصر على

مرجعيّة العقل في مجاليْ الفكر والسلوك، وذلك بتسجيل الملاحظات والمناقشات التالية:

  1. العقل لا يرفض مرجعيّة أخرى

 

المناقشة الأولى: إنّ الاكتفاء بالعقل وحده باعتباره الموصل إلى الله والدال عليه، والحجّة بينه وبين خلقه ومصدر التشريع ورفض أي مرجعية عداه، هو كلام لا يمكن لنا أن نوافق عليه، أو نجاري الربوبي في تبنّيه، إذ يواجه الربوبي (الذي يؤمن بالله تعالى حسب الفرض)

سؤال في هذا المقام، وهو: منْ قال لكم إنّ الله تعالى لم يجعلْ رسولاً بينه وبين خلقه سوى العقل؟ ومن أين لكم الجزم والاطمئنان بذلك؟ أليس من الممكن والمحتمل أنّ هذا الإله قد اعتمد طريقاً آخر بديلاً عن العقل أو إلى جانب العقل يكون وسيلة التواصل بينه وبين خلقه؟

 

    وفي الإجابة على هذه الأسئلة نقول: من الطبيعي والبديهي أنّ الوحي ليس هو من أقنعهم بانحصار وسيلة التواصل بين العبد وخالقه بالعقل وحده، فهم ينكرون الوحي، ولا يؤمنون به، كما أنّ الفطرة ليست حاكمة بهذا الانحصار، هذا لو كانوا يؤمنون بالفطرة، وعليه فلا يبقى

 

أمامهم إلا أن يدّعوا أنّ العقل هو الذي أقنعهم بذلك، ولكننا كغيرنا من البشر (ونتحدث هنا عن مئات الملايين من الناس) لا نجد أنّ عقولنا تحكم بانحصار طريق التواصل بين الله تعالى وبين خلقه بالعقل وحده، فنحن وغيرنا من ذوي العقول مع أننا نعتقد بدورٍ محوري للعقل في

 

العلاقة مع الله تعالى، ولكننا لا نجد مانعاً من أن يختار الله رسلاً يرسلهم إلينا من بني جنسنا، بل إننا نعتقد بضرورة ذلك كما سيأتي.

 

 

فما يذكره الربوبيون من أنّ العقل هو الطريق الوحيد للعلاقة مع الله والتعرّف عليه، هو كلام لا يمتُّ إلى العقل بصلة؛ لأنّ من مزايا أو خصائص القضايا العقليّة أن يتلاقى عليها ويلتفت إليها كافة العقلاء، وأما ما ينفرد بالاعتقاد به أشخاص قليلون أو جماعات محدودة فهذا لا

يكون من أحكام العقل في شيء. بل إنّ انفراد الإنسان بــــ «رأي عقلي» مع عدم تفهّم الآخرين من ذوي العقول له، سيكون مؤشراً على أنّ هذا الرأي ليس مما يحكم به العقل. وأعتقد أنّ الربوبي لو وطّن نفسه على اتباع الحقيقة بعيداً عن الأغراض والأهواء، فلن يقتنع بكفاية

العقل كصلة وصل وحيدة وحصريّة بين الخالق والمخلوق، وهذا ما سنتوقف عنده بشكل أكثر تفصيلاً فيما يأتي.

 

أجل، إنّ بعض الناس الذين يعيشون أجواء ثقافية معينة وينشأون عليها ويتربون فيها، سيؤثر ذلك بكل تأكيد على قناعاتهم ويجعلهم يتخيلون أنّ ما يحملونه من أفكار هي ممّا يحكم به العقل المودع لديهم. وأفكار كهذه - لو صح وصفها بالعقلية - ليست حجة دامغة في حدِّ نفسها؛

لأنّ ما هو حجة من العقل ويمكن إلزام الآخرين بمدركاته هو العقل الفطري المودع لدى الإنسان، وليس العقل المكتسب الخاضع للعوامل الثقافيّة والتربوية المختلفة والمتغيّرة. إلّا إذا رجعت أحكام العقل المكتسب إلى أسس بديهية أو فطرية وقد أشار الإمام علي (ع) في بعض

الأشعار المنسوبة إليه إلى هذا التقسيم الثنائي للعقل، وأسمى العقل الفطري بالمطبوع، وأسمى العقل المكتسب بالمسموع، وأكدّ على مرجعية العقل الفطري، قال (ع):

 

رأيـــــــت الــــــعــــــقــــــل عــــــقـــــــلـــــيـــــــن                      فـــــمــــــطــــبـــــوع ومــــســــــمــــــوع

 

ولا يــــــــنـــــــــفـــــــــــع مـــــــــســــــمــــــــــــوع                      إذا لـــــم يـــــك مـــــــطـــــــبــــــــوع

 

كــــمــــــا لا تــــــنـــــــفـــــــع الــــــشــــــمـــــــــس                      وضـــوء الـــــعـــــقـــــل مــــمـــــنــــوع

 

 

 

مغالطة مرفوضة: على أنّ ما يقوله الربوبي حول أنّ المتدين يتعرّف على إلهه من طريق النصوص الدينية، بينما هو - أي الربوبي - يتعرّف على ربه من خلال العقل، هو الآخر كلام مرفوض ومجاف للحقيقة، ويُعد مغالطة بيّنة. فنحن إنّما نثبت قضيّة وجود الله تعالى (وهي

كبرى عقائدنا وأساسها المتين) من خلال العقل، وليس من خلال الوحي. وهكذا فإنّ العقيدة الثانية في سلّم العقائد الدينية وهي النبوّة، نعتمد في إثباتها على العقل الذي قادنا للإذعان والتصديق بالنبوّة بعد أن رأينا البرهان الساطع، (وسنذكر لاحقاً كيفيّة الاستدلال العقلي على

النبوّة). وهكذا فإنّ الاعتقاد بيوم القيامة، وهو من أمهات العقائد الدينيّة نعتمد في إثباته على العقل. إلى غير ذلك من مجالات الإفادة من حكم العقل في مجال بناء العقائد، ولكنّ هذا كله لا يمنع من الاستعانة بهداية الوحي للتعرّف أكثر على بعض صفات الله تعالى أو بعض

القضايا التي قد لا تنكشف للعقل بشكلٍ تام.

  1. العقل وإمكانية الخطأ

 

المناقشة الثانية: إنّ العقل الذي نقدّر ونثمن دوره ونؤمن بمرجعيته في مجال بناء العقيدة، وفي غيره من المجالات هو عقل إنسان، والإنسان مجبول على النقص، وليس معصوماً، وبالتالي فعقله مهما سما وترقى وأبدع يظل في معرض الخطأ والانحراف والتشويش ويصاب

بالشلل أحياناً، أو تغلب عليه الغريزة والأطماع، فيحتاج في كثير من الأحيان ولا سيما عندما يتعلّق الأمر في التفاصيل إلى مصباح يضيء له الطريق. والمصباح - باعتقادنا - هو الوحي الإلهي، يقول  أمير المؤمنين (ع): "فبعث فيهم رسله وواتر إليهم أنبياءه ليستأدوهم ميثاق

فطرته، ويذكّروهم منسي نعمته، ويحتجوا عليهم بالتبليغ، ويثيروا لهم دفائن العقول".

 

إنّ الاكتفاء بمرجعيّة العقل والتضحية بمرجعية الوحي مثّل خسارة كبرى للإنسان، وحرمه من نبع زاخر ومصدر ثري يغنيه فكرياً وروحياً ومعنوياً وأخلاقياً.. مع أنّ الإنسان كما هو بحاجة إلى الغذاء الفكري فإنّه بحاجة إلى الغذاء الروحي، ولا أعتقد أنّ ثمّة تراثاً روحياً عرفته

البشرية يمتلك الغنى والعنق كذاك الذي تركه الأنبياء (ع) والأولياء. ولو أنّه يتمُّ استثمار هذا التراث كما ينبغي لأسهم إلى حدٍ كبير في وضع حد للثقافة الاستهلاكية المادية التي اجتاحت الإنسان وفرّغته من القيم الروحية والأخلاقيّة، ودفعته إلى ممارسة الطغيان والعدوان، وقد

نجم عن ذلك الكثير من المآسي والكوارث التي أصابت الإنسان ولا تزال تصيبه إلى يومنا هذا. فما معنى أن ترى في هذا العصر الذي يدّعي أهله التمدن والتحضر، ملايين الناس يتضورون جوعاً ولا يجدون ما يسدُّ رمقهم أو يقتاتون على الفتات، بينما تجد في ضفة أخرى من

هذا العالم ملايين آخرين يعيشون حالة من التخمة والبطر!؟

 

إنّ هذه هي النتيجة الطبيعية لتغييب الوحي وقِيَمه الزاخرة بالمعنويات والأخلاقيات، وإبعادها عن حياة الإنسان.

  1. العقل وإرسال الرسل

 

المناقشة الثالثة: ثمّ لو أننا سلّمنا مع الربوبي بأنّ العقل يمثّل مرجعية وحيدة في مجال علاقتنا بالله تعالى، فإننا نريد التعرف على طبيعة موقف العقل من إرسال الرسل من قِبَله تعالى، فهل العقل يحكم باستحالة إرسالهم؟ أو أنّه يحكم بعدم الحاجة إليهم؟ أو أنّه لا يحكم سوى بعدم

ثبوت صدقيّة الأشخاص الذين ادعوا أنهم رسل الله تعالى؟

 

من الواضح أنّ الربوبي لا يدعي ولا أظنّه يجرأ على ادعاء الاستحالة (استحالة إرسال الله رسلاً إلى خلقه)، فهذه القضيّة لا يمكن لعاقل أن يدرجها في عداد القضايا المستحيلة والممتنعة التحقق والثبوت، وكيف تكون مستحيلة ولا يلزم منها محذور عقلي، كمحذور التناقض أو

غيره. وعليه فإذا انتفى احتمال الاستحالة، فلا يبقى إلا أن يقال: إنّها (قضيّة إرسال الرسل) إمّا من القضايا الضرورية التحقق كما هو رأي الدينيين، أو أنها ممكنة التحقق، ولا احتمال آخر في المقام، فالحصر بين هذه الاحتمالات الثلاثة عقلي، وحيث إنّ الربوبي لا يؤمن بأنّها

ضرورية الوقوع، فلا يبقى أمامه إلا أن يدرجها في دائرة الإمكان؛ لأنّ كل قضيّة لا تكون ضرورية الامتناع ولا ضرورية التحقق، ستكون لا محالة ممكنة كما ذكر المناطقة والفلاسفة. ما يمكن أن نجاري الربوبي فيه، هو أنّ قضية إرسال الرسل من قبله تعالى هي من القضايا

الداخلة في دائرة الإمكان، بمعنى أنّ من الممكن حصولها وتحققها، ومن الممكن عدم حصولها.

 

وإذا كانت المسألة ممكنة، فإنّ ثمّة سؤالاً آخر يفرض نفسه في المقام، وهو أنّه كيف يتسنى لنا إثباتها أو نفيها؟ ومن الواضح أنّ الإثبات أو النفي لا يكون إلا بدليل، كما يحكم العقل بذلك، فإنّ العقل (الذي نتفق مع الربوبي في أنّ له جدارة الإيمان بالله تعالى، وأنّه يمثّل مرجعاً

وحجة على الخلق) يقول للإنسان: إنّ الممكنات لا يمكنك الجزم بنفيها ولا إثباتها إلا بدليل، وكما قال الفيلسوف المسلم الشهير أبو علي ابن سينا: «كل ما طرق سمعك فذره في بقعة الإمكان حتى يذودك عنه واضح البرهان» . فهل من دليل على الإثبات أو النفي في المقام؟

 

إنّ المؤمنين بمبدأ النبوّة - ونحن منهم - يستندون في الإثبات إلى حكم العقل القاضي بلزوم بعث الأنبياء (ع)، وهذا ما سيأتي توضيحه، ويستندون أيضاً إلى الواقع، فإنّ خير دليل على الإمكان هو الوقوع، فقد عرف تاريخ البشرية جماعة كبيرة من الأشخاص ذوي الصدق والنبل

الذين ادعوا النبوّة والرسالة، ونحن صدقناهم لأنّهم أقاموا الدليل على ذلك، كما سيأتي.

 

لكن ماذا عن الربوبي؟ وكيف يستطيع أن يقيم دليلاً على نفي النبوّة؟ إنّ النفي ليس فاقداً للدليل فحسب، بل إنّه مجازفة كبيرة لأنه يصطدم بواقع مفاده أنّ أشخاصاً كثيرين بلغوا الآلاف جاؤا على مرّ التاريخ وقالوا للناس إنا رسل الله إليكم، وهذه رسالتنا وتعاليمنا، وهذه أدلتنا

وحججنا التي تثبت صدقنا، فهل يكذِّب الربوبي هؤلاء جميعاً أو يحكم باشتباههم وخطأهم وخطأ كل هؤلاء البشر الذين صدّقوهم وآمنوا بهم؟! وكيف يتسنى للعاقل وبجرّة قلم إصدار حكم عام بكذب هؤلاء الأنبياء أو اشتباههم؟!

 

لا أخال أنّ العقل يسمح للإنسان أن يتبنى موقفاً متسرعاً بتكذيب أو تخطئة كل هؤلاء الرسل والحكم باشتباه أتباعهم. اللهم إلا إذا درس سيرتهم جميعاً، وتثبّت من خطأهم أو كذبهم، فهل يا ترى هناك ربوبي واحد درس سيرة كل هؤلاء الأنبياء (ع) أو مدعي النبوة كما تحلو له أن

يسميهم، وتمعّن في مضامين رسالتهم، وتأمل فيما قدموه من أدلة أو براهين لإثبات نبوتهم، وتسنى له بعد الدرس والتمحيص الجزم بأنّ كل هذه الرسالات هي نتاج أشخاص أذكياء لا أنبياء، أو أنّ دعواهم النبوة هي وهم وزيف، أو خداع وتضليل؟!

 

على أنّ مجرد أن يقول الربوبي أنّي درست سيرة فلان أو فلان أو فلان من الأنبياء، ولم أقتنع بنبوتهم أو اقتنعت بعد الدرس أنهم ليسوا أنبياء، فهذا لا يبرر له تكذيب أو تخطئة كل الأنبياء وإنكار مبدأ السفارة الإلهيّة بين الله وخلقه والمتمثلة بالرسل والأنبياء؛ وذلك لأنّ الاستقراء

الناقص لا يبرر إصدار حكم بالتعميم، كما هو واضح ومبرهن في منطق الاستقراء.

 

فالملاحظة المنهجيّة الثالثة التي نسجلّها على الربوبيين، هي أنّهم لا يمتلكون دليلاً يثبت أو يبرر رأيهم النافي والمنكر للرسالات السماويّة بشكل حاسم، الأمر الذي يفرض على العاقل في هذه الحالات أن يتابع البحث والتحري في هذه المسألة ولا يضعها في دائرة الإهمال؛ لأنّها

قضيّة محورية وجوهرية وتتصل بالمصير. والذي يفرض عليه البحث والتحري هو عقله دفعاً للخسارة المحتملة المترتبة على عدم الإيمان بالنبوّة.

  1. العقل لا يرفض المعجزة

 

المناقشة الرابعة: إنّ ثمّة مفارقة غير مفهومة وقع فيها الربوبيون، وهي أنّهم في الوقت الذي يصرّون فيه على اعتماد المنهج العقلي، فإنّهم وبالصرامة نفسها يصرّون على رفض المعجزة، وكأنّ الإيمان بالمعجزة ينافي العقل، وهنا نسأل الربوبيين: هل العقل فعلاً ينكر

المعجزات؟ وهل كلّفتم أنفسكم عناء دراسة هذه المعجزات أو الكرامات، وتبيّن لكم بعد الدرس أنّها مجرد خرافة؟!

 

إنّ رمي المعجزة بالخرافة قبل دراستها ليس أمراً منطقياً ولا عقلياً، ولكنّ الربوبي يوحي للناس بأنّ معنى أن تكون عقلانياً هو أن ترفض المعاجز ولا تصدق بها، وهذا كلام تهويلي خطابي، وفيه مصادرة غير مبررة، وهو مما لا وجه لها عقلاً؛ لأنّ العقل لا يستخف ولا يستهين

بأي ظاهرة. والرسولي المؤمن بالأنبياء يقولها بكل يقين: إنّ الإيمان بالمعجزة لا يتنافى مع المنهج العقلي، بل العقل هو الذي قادنا إلى الإيمان بالمعجزة وما يترتب عليها.

 

وبيان ذلك: أنّ المعجزة في حدّ نفسها كظاهرة حسية مغايرة للمألوف وخارقة للقوانين الطبيعية، لا تشكّل دليلًا على صدق مدّعي النبوة، وإنما تحتاج إلى ضمّ مقدمة أخرى يحكم بها العقل، وهي أنّ من القبيح على الله عز وجل أن يُظهر الإعجاز على يد شخص يدّعي كذباً أنّه

رسول ربّ العالمين؛ لأنّ إظهار المعجزة على يدي الكاذب مقارنًا لادّعائه النبوة، يتضمن إقراراً إلهياً بصدقه، وهو خلاف الحكمة، لأنه يشكّل إغراءً للناس بالجهل والضلال. والله عز وجل بمقتضى حكمته أجلّ وأكرم من أن يضل عباده أو يوقعهم في الحيرة. فيكون الأساس في

دلالة المعجزة على صدق النبوة هو حكم العقل هذا، وليس مجرد خرق قوانين الطبيعة!

 

    وعليه، لا يسوغ للربوبي الذي يدّعي أنّ مرجعيّة العقل هي الأساس عنده، أن يرفض المعجزة أو يستخفَّ بها ويتهمها بالخرافة، أو يحكم بكونها مستحيلة عقلاً، وكيف يستحيل على خالق هذا الكون بقوانينه أن يجمّد هذه القوانين بشكل ظرفي ومؤقت لمصلحة كبيرة وحكمة

جليلة تتصل بهداية خلقه وإرشادهم إلى طريق الهدى والصواب!

 

    ومن هنا، فلسنا نحن المتدينون متناقضين مع أنفسنا عندما نتحدّث عن وجود طريقين للمعرفة، وهما طريق العقل وطريق الوحي، فهذان الطريقان ليسا متنافيين أو متناقضيْن، كما يحاول البعض أن يصوّر أو يوحي، في مغالطة مفضوحة تريد الإيحاء بأنّ اتباع الوحي هو

عمل غير عقلي ولا عقلائي، أو تحاول إيجاد خصومة مفتعلة بين المنهج العقلي والمنهج الديني، فالعقل هو الذي قاد للإيمان بالله تعالى وقاد إلى الإيمان بالوحي، والوحي بدوره يسدد العقل ويرشده في الكثير من المحطات.

 

المعجزة: مقاربة عقلية وعقلائية

 

    وتوضيحاً لكيفية دلالة المعجزة على صدق الرسل والأنبياء بطريقة منطقيّة وعقلائية، فإننا نستحضر المثال التالي من حياة العقلاء، وهو أنّه لو جاءنا شخص من مكان ناءٍ وبعيد وادعى أنّه طبيب ماهر، وارتبنا في دعواه وأردنا منه أن يثبت صحة مدعاه، فأمامه عدّة طرق

عقلائية لإثبات ذلك:

 

الطريق الأول: أن يظهر لنا شهادة موثوقة من جامعة معروفة، تثبت تخرجه من هذه الجامعة، وتصادق على شهادته. وهذا الطريق رغم اعتماده عند العقلاء فقد يتعرض للتزوير، وينتحل البعض صفة الطبيب كذباً وزوراً، لكنّ التزوير في عالمنا اليوم قد أصبح من السهل

اكتشافه، وكما قال المثل: "حبل الكذب قصير".

 

الطريق الثاني: أن يثبت لنا صدقه من خلال التجربة العمليّة الناجعة، بأن يقوم - مثلاً - وعلى مرأى ذوي الاختصاص بعمل جراحي دقيق وحساس ولو لمرة واحدة أو أكثر، وينجح في ذلك، بما يعرب عن مهارته ويدلل على أنّه طبيب حاذق في هذا المجال.

 

الطريق الثالث: امتحانه من قبل أهل الخبرة من الأطباء المعروفين بنزاهتهم، بسؤاله عن بعض القضايا التي لا يعرفها إلا أهل الاختصاص، مما يكشف عن مصداقيته وصحة دعواه.

 

        وهذه الطرق الثلاثة هي طرق عقلائيّة عامة، ولا تختصّ بالمجال الطبي بل يمكن تطبيقها في غيره من التخصصات. ومن الموارد التي يمكن اعتماد هذه الطرق وتطبيقها فيها، هي مسألة اختبار دعوى النبوّة، فإذا تمّ اختبار طريق منها أو أكثر، فإنّ العقل سيحكم بصدقيّة

النبي (ع)، ويمكننا القول: إنّ هذه الطرق متحققة ويمكن اختبارها بأجمعها بالنسبة للأنبياء (ع)، وإليك بيان ذلك:

 

        أما الطريق الأول، فإنّ الوثيقة التي تثبت انتساب الأنبياء (ع) إلى الجامعة الإلهية التي تعلِّم وتدرّب وتخرِّج رسل الله حقاً هي عبارة عن الكتاب السماوي الذي يأتوننا به، والذي يمثّل بحق شهادة بينة على صدقهم وذلك من خلال ما يمثله من حكمة بليغة، وروحانية متميزة

ودستور أخلاقي راق بالمستوى الذي يعجز البشر العاديون عن الإتيان بمثله، مهما بلغوا من الفطنة والذكاء. وهذا ما نعتقده وندعيه في شأن القرآن الكريم وندعو الآخرين إلى اختبار دعوانا هذه، فقد استطاع هذا الكتاب بحكمته أن يبني أمة ويفجر طاقاتها وينقلها من حالة التخلف

والجهل إلى نور العلم ورحاب الحضارة، وما تزال رسالته ومضامينه غضة طرية ومواكبة لشتى الأزمنة والعصور.

 

      وأما الطريق الثاني، فيتمثّل بالعمل الإعجازي الخارق للمألوف والمعهود من نواميس الطبيعة والذي يقوم به النبي (ع) عندما يُطلب منه ذلك، بحيث تظهر على يديه –بشكل تلقائي ودون تعليم أو محاكاة لشيء موجود - آيةٌ معجزة لا لبس فيها، ولا تعتمد على خدعة بصريّة

أو لعبة معينة.

 

 

 

      وربما يقال: إنّ المعجزات ليست أمراً خارج نطاق القوانين، فربما كانت تعتمد على قوانين معينة، ولكن حيث لم يتسن لنا اكتشافها، خلنا أنّها تمثّل خرقاً للقوانين. مع أنّها في الواقع تمثِّل خرقاً للمألوف من القوانين، وليست خرقاً للقوانين نفسها.

 

 

      ونقول : لسنا نمنع من ذلك أو ننفيه، فهذه وجهة نظر قد تكون سليمة ولكنها لا تفقد المعجزة قيمتها الإثباتية؛ وذلك لأنه عندما يأتينا شخص بهذه المعجزة المرافقة لدعوى النبوّة ودون سابق تصميم وإنذار، ومع كونه من خارج نطاق أهل التخصص أو المتدربين على

أيدي ذوي الخبرة، فهذا يمثل شهادة صدق على دعواه.

 

      وكيف كان، فالمعجزة - في رأيي - لا تنحصر بالعمل الحسي الخارق للقوانين الطبيعية، فقد تكون عملاً أو جهداً رسالياً تربوياً يعمل على صناعة الإنسان وانتشاله على ضوء دستور بديع من دركات الحضيض إلى الأعالي حيث الحياة السامية والرقي والتكامل، وبكلمة

أخرى: إذا كان إقدام مدعي صفة الطبابة على عمل جراحي في جسد إنسان معين هو شهادة على صدقه في دعواه، فإنّ قيام مدعي النبوّة بعملٍ إصلاحي كبير في المجتمع، معتمداً ومستنداً إلى منظومة فكرية وأخلاقية وروحية غير معهودة في زمانه، هو الآخر شاهد على صدق

دعواه.

 

      وأمّا الطريق الثالث، فإنّ الأنبياء (ع) كانوا يُسألون ويختبرون من قبل بعض الناس لإثبات صدقهم، وذلك بسؤالهم عن أخبار غيبية لا يعلمها أحدٌ من الناس بحسب وسائلهم المتاحة لهم، وقد جاءت إخباراتهم صادقة ومطابقة للواقع، مع أنه لم يكن ثمّة مؤشرات اجتماعية أو

سياسية تساعد على التنبؤ بما قالوه وتوقّع حدوثه، ولا مجال لدعوى أنّها مجرد تحليلات صادرة عن إنسان حكيم قرأ المعطيات بدقة نظر وتنبأ بها.

 

      ما رأيكم - أيها الربوبيون - لو أنّ نصاً صدر عن شخص متخصص قبل آلاف أو مئات السنين يتحدث فيه عن نظريّة علميّة في منتهى الدقة لم تكن معروفة آنذاك بل كشف عنها مستقبل العلم الحديث، ألا يكون ذلك دليلاً على نبوغه العلمي؟ وهكذا الحال في إخبار نبي من

الأنبياء (ع) عن أمر جلل سوف يحدث في المستقبل مع أنّه لا وجود لمؤئشراتٍ تساعد على وقوعه، ويكون تنبؤه به مقروناً بدعوى النبوة وأنّ مصدره في ذلك هو وحي الله؛ فإنّ ذلك سيكون دليلاً قوياً وحاسماً على صدقه في ادعاء النبوّة أو - على الأقل - مؤشراً على ذلك، وإذا

ما انضم إليه مؤشرات أخرى، فإنّ ذلك سيورث اليقين بصدق. 

 

      وثمة طرق أخرى لاختبار صدقيّة الأنبياء (ع)، ومن أبرزها دراسة حياتهم وأقوالهم وأفعالهم، والمقارنة بين ما جاءوا به وبين الموروث الثقافي في مجتمعهم، وملاحظة مدى استقامتهم ونزاهتهم وابتعادهم عن الأطماع والأهواء، والتزامهم العملي بما جاءوا به ودعوا

الآخرين إليه، إلى غير ذلك من الشواهد المستمدة من حياتهم، فإنّ حياة الإنسان هي أهم مختبر لصدقية طروحاته ومقولاته.

 

إنّ الأنبياء الذين صدّقهم الناس من إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله عليهم اعتمدوا هذه الطرق العقلائية لإثبات دعواهم، هذا ما ندعيه ويدعيه التاريخ الديني، وليس أمام الربوبي سوى التثبت من ذلك بدراسة تاريخ الأديان دراسة تحقيق ونظر، ولا يحقّ له التسرع

برفض ذلك ورمي هذه الأمور بالخرافات واتهام المؤمنين بالرسالات السماوية بأنهم غير عقلانيين، فإنّ الاتهام المتسرع هو حرفة العاجز وسلاح الضعيف والفاشل، فالعاقل لا يتسرع إلى الإنكار قبل التحري والبحث، والقوي في حجته لا يتهرب من الحوار ولا يتخذ مواقف

مسبقة دونما برهان أو دليل، بل سيرة العقلاء ودأب الحكماء قائم - في مثل هذه الحالات - على طلب الحجّة والبرهان، كما جاء في القرآن الكريم: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة – 111].

 

    وربما قال الربوبي: إنّ لديّ بعض الشكوك في صدقيّة هذا التاريخ الديني، وليس ثمة ما يضمن صحته.

 

      ونقول له: إننا قد نوافقك الرأي على ذلك، فنحن لدينا الكثير من الشكوك أيضاً، إلّا أنّ ذلك لا يعفينا من مؤونة البحث والتحري عن الحقيقة، فالحقائق لا تأتي إلينا دائماً بل علينا أن نذهب إليها ونفتش عنها، نقول هذا مع أننا نزعم أنّ النص الديني الإسلامي المتمثل بالقرآن

هو نص لم يتعرض للتزوير والتحريف، وما عليك أيها الربوبي إلا أن تختبر ذلك بدرس هذا النص دراسة موضوعية بعيدة عن الأحكام المسبقة. ونحن نعلم بأنّ لديك العديد من الأسئلة والإشكالات على بعض المفاهيم القرآنية، ولسنا ننكر عليك ذلك فهذا حقك، ولكنّ نصيحة

العقل تقول: إنّ نصاً دينياً كالقرآن وبهذا الزخم التاريخي الهائل الذي جعله يأسر قلوب مئات الملايين من العقلاء، وتنهمر دموعهم عند تلاوة آياته، فإنّ من الخفة بمكان استسهال رميه بالخرافة، أو التعامل معه بهزءٍ وسخرية. فكرْ - أيها الربوبي - ملياً وتدبر تدبراً سوياً واسأل

أهل الحكمة قبل التسرع بالرفض، فلربما كان ثمة وجه يرفع الشبهة أو جوابٌ يزيل الاعتراض.

 

ثانيًا: الربوبي والعلم

 

      ويتردد على ألسنة الربوبيين الحديثُ عن احترام العلم وتقديره وأنّه وسيلة التعرف على الله تعالى، يقول بعضهم: "الإنسانية ستتعلم أكثر عن مفهوم الإله عن طريق العلم والكون. فهذا هو الطريق الوحيد الذي يمكننا من المعرفة أكثر حول الإله، من خلال دراسة الخلق،

وليس من خلال الكتب المقدسة للأديان التي هي من صنع مؤسسيها" .ويضيف: "يبدي العديد من الناس الغضب من الإله للمرض، والكوارث. ولكنْ للعلوم الإنسانية القدرة على إزالة وتحييد كل هذه. بدراسة مبادئ الطبيعة استأصلنا العديد من الأمراض وحمينا أنفسنا من معظم

الكوارث الطبيعية".

 

     وتعليقاً على هذا الموقف نقول: إنّ احترام العلم من قبل الفكر الربوبي هو أمر جيّد وموضع ترحيب وتقدير من قبلنا نحن المتدينين ولا سيّما المسلمين، فنحن نجلّ حركة البحث العلمي التي هي حصيلة معرفيّة تنتج عن حركة العقل في فهم الظواهر الكونية مستعيناً بالحواس

 

والتجارب البشرية. فمرجعيّة العلم لا يمكن إبعادها عن مرجعيّة العقل؛ لأنّ النتائج الحسيّة والتجريبيّة تحتاج إلى عقلٍ يوازن ويقارن ويستخلص. ولكنْ لنا بعض الملاحظات التي نسجّلها هنا، وهي:

 

أولاً: إنّ إيحاء الربوبي أنّه إنسان علمي بينما المتدين هو إنسان غيبي وغير علمي، هو أمر مرفوض بتاتاً، فالعلم بالنسبة إلينا هو أمر مقدس، ونحن كمسلمين - على الأقل - نعتبر أنّ الكون بكل آياته وقوانينه ومظاهر جماله وجلاله هو الكتاب الأكثر دلالة على الله تعالى. وإنّ

أهمّ برهانٍ ركّز عليه القرآن الكريم في إثبات وجود الخالق هو برهان النظم، الذي ينطلق من الخلق إلى الخالق ومن النظم إلى الناظم، فإنّ التأمل والتفكر في الخلق يهدي الإنسان إلى الخالق، وملاحظة النظام البديع هي خير آية على وجود المنظّم المبدع، وهكذا فنحن نستعين 

بالعلم لا لإثبات وجود الله فحسب، بل ولإثبات العديد من المعتقدات الدينية ومنها وحدانية الله تعالى وسائر صفاته من الحكمة والقدرة والعلم. فبالتأمل في هذا الكون وملاحظة ما تكشفه حركة البحث العلمي عن دقائقه وأسراره ووحدة النظام الحاكم فيه، نتعرف أكثر فأكثر على

خالقنا مصمم هذا الكون، فوحدة النظام تدل على وحدة المنظم، وعظيم الصنع فيه يدل على قدرة الصانع وسعة علمه، كما أننا نتعرّف من خلال التأمل في العديد من الظواهر الكونية على فكرة المعاد والبعث، إلى غير ذلك من مجالات الإفادة من نتائج البحوث العلمية . ولا

يقتصر الأمر على الاعتقاد بمكانة العلم وتثمين دوره، بل تخطاه إلى الفعل، فقد كان للعلماء المسلمين إسهامات جليلة وعظيمة في شتى العلوم التجريبية والطبيعية، وإنّ أسماء علماء المسلمين المبدعين في شتى العلوم معروفة للقاصي والداني، وقد نوّه بها علماء الغرب ومفكروه

وعامة المستشرقين وفي كتابه «الإسلام» يشير روجيه غارودي إلى جهود بعضهم، من أمثال الخوارزمي رائد الجبر الذي «أحدث انقلاباً في الرياضيات» بابتكار نظام العدّ العربي، والبتّاني الذي يرى بأنّ الإنسان يتوصل بالإلمام بعلم الفلك إلى إقامة البرهان على وحدانية الله

وحكمته، وابن سينا الفيلسوف والطبيب الذي ترجم جيرار دو كرومون كتابه «القانون في الطب» إلى اللاتينيّة ليظلّ الموسوعة الكبرى في الطب إلى عصر النهضة، إلى ابن خلدون عالم الاجتماع الشهير الذي يكتب «مؤلفاً مدهشاً في التاريخ الكلي وسوسيولوجيا عظمة

الحضارات وانحطاطها». إلى غير ذلك من المبدعين الكبار والذين ساهموا في إثراء الحضارة الإنسانية، بحسب غارودي الذي أضاف: "لكنّ الأساسي في مساهمة العالم الإسلامي لم يكن المنهج التجريبي ومقداراً مدهشاً من الكشوف فحسب، بل إتقانه ربط العلم والحكمة

والإيمان بعضها ببعض. والحكمة، التي حاشا لها أن تقيّد عمل العلم الذي يصعد من سبب إلى سبب، ترتفع من غاية إلى غاية، من غايات دنيوية إلى غايات أسمى حتى لا يُستخدم العلم لتدمير الإنسان أو تشويهه بل لتفتّحه حين نحدّد له أهدافاً إنسانية. ذلك أن العلم التجريبي

والرياضي لا يقدّم لنا أهداف هذا العمل القويّ. فالحكمة، وهي النظر في الغايات، استخدام آخر للعقل، وهو استخدام تركه الغرب على وجه الضبط يمر: فلا الفلسفة ولا اللاهوت يؤديان هذا الدور التكاملي بين العلم الذي يقدّم الوسائل والحكمة التي تبحث في الغايات. «والعقل»

الغربي، المحبوس في البحث في الوسائل التي تُعتبر غايات في ذاتها، يقود العالم إلى التدمير بفعل استعماله دون حكمة، الذرة والصاروخ والمورّثة (الجين).

 

ثانياً: إنّ إيمان الربوبي وتقديره للعلم يفترض أن يدفعاه إلى عدم التسرع برمي الأفكار الدينية وحتى المعاجز المنقولة عن الأنبياء (ع) بالخرافات والأوهام، فإنّ العالِم الذي يحترم علمه يتوقف إزاء الظواهر التي لا يفهم كنهها ولا يسارع إلى إنكارها، فالمسارعة إلى الإنكار دأبُ

الجهلة وأنصاف المتعلمين، أمّا العلماء فإنّ علمهم يدفعهم إلى التواضع والإقرار بأنّ ثمّة مجهولاتٍ وأسراراً في هذا العالم، وأنّ تطور العلم كفيل بكشف الكثير منها، وكما قال الشاعر:

 

فقل لمن يدعي في العلم فلسفة                     حفظت شيئاً وغابت عنك أشياء

 

لقد كان الفيلسوف الأمريكي جورج سنتيانا (1863م - 1953م) «يزدري (كما ينقل عنه ول ديورانت) العلماء الذين يتوهمون أنّهم قد أثبتوا بطلان الدين بالعلم، من غير أن يبحثوا عن أصل الأفكار والعادات التي نبعت عنها تلك العقائد الدينية، ومن غير أن يعرفوا معنى العقائد

الدينية الأصلي وعملها الحقيقي ، فعلى العالم أن لا يغتر بعلمه مهما بلغ، وأن لا ينظر إلى الطروحات الدينية نظرة استخفاف أو سخرية، فهذا ليس دأب العلماء ولا يليق بهم، إنّ العلماء حقاً والذين يقدرون العلم يتثبتون من كل الظواهر ولو كانت هامشية، فكيف بظاهرة بمستوى

وحجم وتأثير الظاهرة الدينيّة!

 

وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ تثميننا لدور العلم حتى في المجال الديني، ورفضنا لأية دعوة تسعى إلى تكبيل حركة العلم الهادف، ليس رأياً خاصاً ولا يمثل اتجاهاً شاذاً في نطاق المعاهد والحوزات الدينيّة، بل إنّ هذا الرأي هو المشهور وهو الاتجاه الأكثر حضوراً في المجال

الديني. أجل، ثمة اتجاه سلفي متزمت لم يعِ الفواصل بين العلم والدين بشكل جيد، فضيّق على حركة البحث العلمي، ووقف موقفاً سلبياً من بعض الأفكار والنظريات العلميّة، كنظرية كروية الأرض أو غيرها من النظريات والأفكار. ولكن حسبنا أنّ هذا الاتجاه يكاد ينحسر، وهو

اتجاه شاذ ومدان ومرفوض من غالبية علماء المسلمين على اختلاف مذاهبهم ومدارسهم.

 

من كتاب: عالم دون أنبياء! دراسة نقدية في الفكر الربوبي

نُشر المقال على الموقع في 2-6-2018






اضافة تعليق

الاسم *

البريد الإلكتروني *

موضوع *

الرسالة *


 


 
  قراءة الكتب
 
    Designed and Developed
       by CreativeLebanon