قراءة نقدية في صورة الإله لدى الربوبيّين
الشيخ حسين الخشن
أولاً: نقد رؤية الربوبيين حول الإله
ثانياً: رد اعتراضهم على صورة الإله لدى الأديان
ثالثاً: الربوبي وعبادة الله تعالى
التصور الربوبي حول الإله
يصرّح الربوبيون بأنّ الإيمان بالله تعالى هو محور عقيدتهم وأساس فكرتهم، ومن هنا يؤكدون بشكل حاسم رفضَهم للإلحاد، وقد أظهروا احتفاءهم ببعض الفلاسفة الغربيين الذين انتقلوا من تبني الإلحاد إلى تبني الربوبية، ولكنْ أيُّ إلهٍ هذا الذي يؤمن به الربوبي؟ ما هي صفاته؟
ما هي علاقته بالإنسان؟ وما هو واجبنا تجاهه؟ ثمّ ما هو موقف الربوبي من مسألة الإيمان بيوم القيامة أو الحياة بعد الموت؟
يحرص الربوبيون على التأكيد بأنّ صورة الله عندهم بسيطة وبعيدة عن التعقيد، وأنّهم يعرضون "فكرة الخالق عن طريق القوانين الطبيعية" وبحسب ما يقوله أحدهم فإنّ: «الله قوة كونية هي مصدر الخلق ومصدر القوانين والرسوم والنماذج الموجودة في جميع أنحاء الطبيعة».
ويقول ربوبي آخر: «الربوبية هي الإعتقاد بوجود خالق للكون، ولكنه لا يتدخل في شؤون الكون. وأنّ الأديان كلها من نتاج البشر، والدعوات والصلوات لا تستجاب، والحوادث اليومية ليست ناتجة عن رغبة إلهية، إنّما هي نتائج طبيعية لأسباب تحدث في الحياة. وكل شيء
مفتوح، لا شيء مقدّر مسبقاً. فالربوبيون يعتمدون المنهج العلمي، ويعتمدون على أنفسهم في حلِّ مشكلاتهم وتحقيق أهدافهم في الحياة. وأخلاق الربوبي ناتجة عن التزامه الذاتي بالخير وابتعاده عن الشر، وناتجة عن تحضره وتحضر مجتمعه».
وأضاف «هناك بعض الربوبيين يعتقدون أن الله أو الإله أو خالق الكون يتدخل في الكون. وبعضهم يؤمن بنوعٍ من الحياة بعد الموت».
ويعترض بعض الربوبيين على الفكر الديني بأنّه قدّم الإله وصوّره باعتباره رجلاً، وهو الأمر الذي أتاح اضطهاد المرأة، يقول أحدهم: «المشكلة الأخرى حول فكرة الإله في الأديان السماوية أنها صوّرته كرجل، أي أنّ الإله هو ذكر، وهذا سيجعل النساء منفيات شعورياً ولا
شعورياً إلى مقام أقلّ في المجتمع. ومن هنا نجد أنّ هذا انعكس على هذه المجتمعات بطريقة غير مباشرة ومباشرة حيث أصبحت المرأة تخضع للرجل».
هذا فيما يتصل بصفات الإله، وأما بالنسبة للحياة بعد الموت، فليس للربوبيين موقف واضحٌ وحاسم برفض المعاد أو الإيمان به.
والمتحصل مما تقدّم:
أولاً: أنّ الربوبي يؤمن بإلهٍ خلق الكون، بيد أنّه لا يتدخل في شؤون الناس ولا في شؤون الكون، وما يجري في العالم من حوادثَ لا علاقة لله تعالى به، فهو لا يجري عن إرادته ووفق تقديره ومشيئته، لأنّه تعالى لم يقدّر شيئاً مرسوماً على الناس.
ثانياً: إن الربوبي يعترض على الصورة التي قدمتها الأديان عن الإله، حيث قدمته باعتباره ذكراً الأمر الذي مهّد لاضطهاد الأنثى!
ثالثاً: في علاقة الإنسان بالله لا يرى الربوبي ضرورة للعبادة، وإذا كان لا بدّ من شكره فمن خلال أعمال الخير التي تقدم نفعاً للإنسانية.
وحيث إنّ الموقف الربوبي ليس حاسماً في مسألة نفي المعاد، بل صرّح بعضهم بوجود نوعٍ من الحياة بعد الموت، لذا لن نعقد بحثاً معهم حول هذا الموضوع، وإنّما نتطرّق إلى مناقشة رؤيتهم حول الإله وصفاته وعلاقتنا به. وذلك من خلال النقاط الثلاث المشار إليها.
النقطة الأولى: نقد رؤية الربوبي حول الإله
إن التصور الذي قدمه الربوبيون حول الإله هو تصور ناقص ويعاني الكثير من الثغرات، مهما حاولوا تجميله. وفيما يلي نسجل ثلاثة اعتراضات على التصور المذكور، وأعتقد أنها كافية لبيان الخلل الكبير الذي يعانيه:
الاعتراض الأول: الإله الغامض
ولعلّ أول ما يلاحظه الناقد للفكر الربوبي هو أنّ صورة الله تعالى عنده هي صورة ساذجة وبسيطة، ولا تصمدُ رؤيته في هذا المقام أمام النقاش العلمي، حيث تواجهها الكثير من الاعتراضات. والحقيقة أنّ الإنسان لا يشعر وهو يتأمل في التصوّر الربوبي عن الإله أنّه أمام إلهٍ
يملأ العقل والروح والوجدان، ولا يجيب هذا التصور على كل أسئلته ولا يروي عطشه.
فإله الربوبيين - كما تقدّمه كلماتُهم - هو إلهٌ غامض لم يُظْهِرْ نفسه بما فيه الكفاية للناس ولا حدد لهم هدف الخلق، ربما لأنّه ليس لديه هدف أصلاً! وهو فوق ذلك عاجزٌ مكبّل اليدين معزولٌ عن التصرف أو لنقلْ إنّه قد قرر واختار عزل نفسه عن التصرف في العالم، وإلا فكيف
يسكت عن كل ما يجري باسمه في هذا العالم، أليس لدينا على مرّ التاريخ آلاف الأشخاص الذين ادعوا أنهم رسل الله وحملوا للناس شرائع وتعليمات نسبوها لله تعالى، وترتب على ذلك الكثير من الانقسامات بين الناس، حيث آمن بالأنبياء من آمن وكفر بهم من كفر، وأريقت
دماء وشنت حروب. وعليه، فإن السؤال البديهي الذي يطرح نفسه هو: أنّه إذا لم يكن لله رسل حقاً، فكيف يسكت عما جرى أو يرضى أن يجري كل هذا باسمه، مع أنّه بريء منه دون أن يقول: لا علاقة لي بكل هؤلاء الذين يتكلمون باسمي؟ فلا نريد منه أن يتدخل بطريقة
مباشرة لمنع هؤلاء من التقوّل عليه لكن أليس من الحكمة أن يبين للناس أنه لا يوجد له ممثل ولا رسول؟
كما أنّه ليس من الواضح ما إذا كان هذا الإله الذي يؤمن به الربوبي عالماً بما يفعله خلقه، وما يقومون به من أعمال الخير أو الشر. وإذا كان يعلم فلا يُدرى ما هو موقفه من ذلك؟ هل هو راض بذلك أو رافض له؟ وإذا كان رافضاً وغير راض بأفعال الشر فماذا يترتب على
رفضه وعدم رضاه؟ وكيف يترجم انزعاجه؟
وغير خافٍ أنّ فكرة الإله الغامض والذي تعمّد عدم إظهار نفسه، لا يمكن لصاحب الفكر السوي أن يقنع بها أو يتقبلها، وإلا فأي إله هذا الذي لا يفصح عن هويته وعن الهدف الذي خلق الخلق من أجله؟! أليس مقتضى اللطف والحكمة أن يرشد خلقه ويوجههم إلى الهدف من
خلقهم؟ وما هو مطلوب منهم، وما هو الحجة عليهم؟! ثم هل يمكن أن ينعزل الله عن خلقه؟ وهل هو من عزل نفسه باختياره؟ وهل ينعزل لعجزه عن التدخل أم لغير ذلك من الأسباب؟
كل هذه الأسئلة لم يقدِّم لنا الربوبي أجوبة مقنعة عليها، الأمر الذي يدفعنا للاعتقاد أنّ أهمَّ صفات الإله التي يحكم بها العقل، لا توجد في إله الربوبيين، وأهمّها القدرة والعلم والحكمة.
ربّما يقال: إن الله تعالى لم يُرِد كشف نفسه لأحد، وإذا أراد أن يكشف نفسه للناس فلماذا يكشف نفسه كما يقول بعض الربوبيين لواحدٍ أو لأفراد منهم ولا يكشفها لكل فرد منا؟!
وفي الإجابة على هذا الكلام فإننا نسأل صاحبه: ما المقصود بأن الله لم يكشف نفسه؟ هل المقصود أنّ الله تعالى خفيٌ ومجهول حيث لم يظهر نفسه للناس؟ أو المقصود أنّه خفي حيث لم يوحِ لكل واحد من الناس؟
إن أراد الأول، أي خفاء الله في ذاته من حيث لم يُظهِر نفسه للناس، فإننا نسأله: هل تؤمن بإلهٍ خفي لا تعرف عنه شيئاً؟! إنّ الإله الحقيقي الذي نؤمن به، ويُفترض بك أن تؤمن به أنت، لم يخفِ نفسه أبداً، بل كشف نفسه لكل الناس من خلال هذا الكون وما فيه من دلائل وآيات
ودقة ونظمٍ وانسجام، وكما ورد في بعض الأدعية: "عميت عين لا تراك عليها رقيباً».
ويقول الشاعر:
وفــــي كـــــــــل شــــــــيء لـــــــــــه آيـــــــــــة تــــــــــــدلّ عـــــلــــــى أنّـــــــه واحــــــــــد
وإن أراد الثاني، وهو الأرجح، أعني أنّ الله تعالى خفيٌّ من حيثُ لم ينزل الوحي على كل واحد من الناس، فهذا كلام مستغرب ومرفوض؛ فتنزل الوحي يحتاج إلى لياقة وأهليّة خاصةٍ لا يتهيّأ لها كل إنسان، فكما لا يتسنى لكل الناس أن يكونوا سفراء دولتهم في الدول الأخرى،
فإنّه لا يتسنى لجميع الناس أن يكونوا رسل الله إلى الخلق، والله تعالى وإن كان يصطفي من عباده رسلاً، بيد أنّ الاصطفاء لا يكون اعتباطاً، وإنّما لعلمه تعالى بأهليّة الذين يصطفيهم ويختارهم لهذا الموقع، قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى
الْعَالَمِينَ} [آل عمران 33].
الاعتراض الثاني: إله منزوع الصلاحية!
ثمّ إنّنا نسأل الربوبي: ماذا تعني بقولك: إنّ الله لا يتدخل في شؤون الكون وفي الحياة الإنسانية؟ هل تقصد بذلك أنّ الله تعالى فقد القدرة على التدخل بعد أن خلق الكون، أو لنقل إنّه لم يكن له هذه القدرة من الأساس؟ أم تقصد أنّه تعالى قادر ولكنّه قرر طواعية عدم التدخل؟
إن اخترت الأول، أعني عدم قدرة الله على التدخل، فهذا يعني إقراراً منك بأنّ إلهك عاجز وضعيف، ومن كان كذلك لا يستحق أن يكون إلهاً، فالإله لا يمكن أن يكون فيه أي نقص، فهو مصدر الكمال والقوّة، وهو الغني والقوي المقتدر، وكيف لإلهٍ أن تكون له القدرة على إيجاد
هذا الخلق البديع ثم لا تكون له القدرة على التدخل والتصرّف في شؤونه؟!
وإن اخترت الثاني، أعني أنّ الله هو منْ قرر عدم التدخل طواعية بالرغم من قدرته على ذلك، فإنّ لنا أن نسألك: منْ أخبرك بأنّ الله تعالى اتخذ مثل هذا القرار؟ هل أخبرك بذلك الوحي؟ بالطبع لا يمكنك دعوى ذلك، لأنك لا تؤمن بالوحي أصلاً. أم أنّك تزعم أنّ هذا الأمر مما
يحكم به العقل؟ فإن زعمت هذا، فإنّ ردّنا عليك هو أولا: إنّ العقل لا يستطيع التنبؤ بمثل هذا الأمر، لأنّ قرارًا كهذا لا يُعرف إلا من قبل الله تعالى دون سواه، وأنت لا تؤمن بأنّ ثمّة وسيلة تواصل مباشر بين الله وبين الناس أصلاً. وأمّا العقل، فإنّه بنظرك القائد والمحرّك
للإنسان لكنه ليس رسولاً يتلقى وحي الله.
ثانيًا: إذا كان الله تعالى قد اتخذ مثل هذا القرار، فإننا نسألك: ما الوجه في اتخاذه له؟ لا يمكننا أن نصدّق أنه اتخذه لا لغاية ولا لهدف، فهو الحكيم الذي لا يمكن أن يفعل شيئاً عبثاً أو بدون فلسفة معينة. ونظيره في الوهن أن يقال: إنّه يريد أن يخلد إلى الراحة مثلاً أو التفرغ
لأعمال أخرى، فهذه كلها وجوه لا تليق بجلال عظمته، فهو المطلق اللامحدود في علمه وقدرته.
ربما يقول الربوبي: إنّ الله تعالى إذ قرر عدم التدخل، فلغاية وحكمة. والعقل وإن لم يكن لديه الاطلاع على قرار الله تعالى بشكل مباشر، لكنه يستطيع معرفة ذلك وحكمته من خلال التأمل والتدبر؛ وذلك لأنّ الله عندما خلق الخلق والكون على أساس القوانين فهذا معناه أنّه أراد
لهذا الكون أن يسير وفقها، كما أنّه عندما خلق الإنسان كائناً يملك اختياراً وحرية تامة، فهذا مؤشرٌ على أنه قد أراد للإنسان أن يتحرّك في هذه الحياة بإرادته واختياره وأن يصنع تجربته بنفسه ويحقق النجاح والتقدّم بعيداً عن تدخل الإرادة الإلهيّة.
أقول: هذا المعنى لو كان هو المقصود للربوبي، فإننا نوافقه الرأي من حيث المبدأ، فنحن نعتقد أنّ الكون يتحرّك وفق منطق السنن والقوانين، وما يسمّى بمبدأ الأسباب والمسببات. فسقوط التفاحة من الشجرة إلى الأرض - مثلاً - ليس معناه أنّ الله تعالى قد أسقطها بشكل مباشر
ومنع من ارتفاعها إلى الأعلى، وإنّما يخضع ذلك لقانون الجاذبية الذي هو مِنْ صنع الله تعالى، وهكذا الحياة كلها تخضع لقوانين خاصة ولا تقوم على التدخل الإلهي المباشر في تفاصيل الأحداث والمجريات اليومية. والإنسان بدوره يخضع للقوانين، وأهمُّ قانون يحكم حياة
الإنسان هو قانون حرية الاختيار والإرادة، فالإنسان ليس مقهوراً ولا مجبوراً على انتهاج سلوك أو اتجاه معين. كما أنّ للإنسان ميزة أخرى في هذا المقام، وهي أنّه مؤهل وقادر على اكتشاف القوانين الحاكمة على هذا الكون، وذلك من خلال عقله القادر على البحث والتحري
والاكتشاف.
إننا نعتقد بذلك كله، ولكنّ هذا المعنى لا يعني أنّ الله تعالى لا قدرة له على التدخل في الكون أو في أفعال الإنسان، أو أنّه يمكن لهذا الكون أن يستمر بدونه تعالى، أو أنّه قد عزل نفسه عن ذلك ولم يعد له شغل فيه، كما يرى المفوّضة . فالكون بقوانينه قائم بالله تعالى حدوثاً
وبقاءً، ولا يمكن أن يستغني عنه تعالى طرفة عين أبداً أو أن يستمر بقوانينه ولو لبرهة قصيرة من الزمن إذا رفع الله تعالى لطفه وعنايته عنه. وليس حاله تعالى مع الكون، كما هو حال الإنسان مع ما يصنعه من أشياء، فلو قام الإنسان بصناعة طائرة معينة مثلاً، فإنّ الطائرة
بحاجة إلى الصانع ابتداءً لا بقاءً، فربما مات الصانع وبقي المصنوع (الطائرة) فعّالاً لسنوات طويلة. وإنّما المثال الأقرب لتصوير حالنا مع الله هو مثال الإنسان والعقل، فإنّ استمرار الإنسان بالعمل المنتج والمتوازن رهنٌ بسلامة العقل، فالعقل هو القائد للإنسان ولا يستغني عنه
للحظة، كذلك الكون بالنسبة لله، فهو تعالى مصدر الطاقة التي تمدُّ الكون والإنسان بالحياة، وإذا نضبت الطاقة تجمّد الكون وتوقفت الحياة، فالقضية هنا ليست في عجز القوانين (القابل) بل في قوّة الخالق وشدّة حضوره (الفاعل)، التي تجعل من المستحيل في حقه أن يغيب عن
مملكته طرفة عين أبداً حتى لو كانت هذه المملكة تسير وفق منطق القوانين. وأيّ تصوّر يفترض إمكان غياب الله عن خلقه هو تصور ينبئ عن جهل صاحبه بالخالق تعالى ومحاولة مقايسته بالمخلوق، قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ۚ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 67] ، وهذا ما يفسر لنا تأكيد القرآن على أنّ الكون قائم بالله وأنّه لو أشاح بنظره المعنوي عنه طرفة عين لزال وفني، قال سبحانه: { إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا ۚ وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ
أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ ۚ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [فاطر 41].
ثمّ إنّ إيماننا بأنّ الكون قائمٌ على مبدأ القوانين، لا يمنعُ أبداً من أن يكون خالقُ القوانين قادراً على تعطيلها أو تجميدها في بعض الحالات، لسبب تقتضيه المصلحة التي يرتأيها ويقدِّرها. فهو عزّ وجلّ بإمكانه أن يجعل لهذه القوانين نهايةً في حال شاء بَعْثَ الناس للحساب مقدمة
لحياة أخرى، وله أيضاً أن يجمدها مؤقتاً كما يحصل في حالة المعجزات التي ترمي إلى إقامة الحجة على خلقه وتسديد نبي من أنبيائه، ولسنا نجد مانعاً عقلياً من ذلك كما أسلفنا بحث ذلك في المحور الثاني.
الاعتراض الثالث: الله والتقدير
تقدّم أنّ الربوبي يعتقد أن لا شيء مقدّرٌ سلفاً، ولنا أن نتوقف هنا معه وقفة نقدية لنسأله: ما الذي تقصده بذلك؟ هل المقصود نفي التقدير العلمي، بمعنى نفي علم الله تعالى بما يحدث في العالم؟ أو أنّ المقصود هو نفي التقدير التكويني بشكل عام، بمعنى نفي صلته وعلاقته جلّ
وعلا بشكل كلّي بما يحدث في هذا العالم؟ أو أنّ المقصود نفي التقدير التكويني في المجال الإنساني فقط، بمعنى نفي صلته المباشرة عن أفعال الإنسان؟
إن قصد الربوبي الوجه الأول، فإننا حتماً نخالفه الرأي، لأنّ الخالق لهذا الكون وما فيه ومن فيه لا يمكن أن يكون جاهلاً بمآله وما يصير إليه، فعلمه غير محدود ولا متناهٍ، ودليلنا على أنّ علمه كذلك (ولا نظنّ أنّ الربوبي يرفض هذا الدليل)، هو أنّ خالق الشيء هو الأدرى به
والأعلم بحاله، فلا مجال لنتصوّرَ خالقاً مبدعاً في خلقه وصانعاً متقناً في صنعته وهو في الوقت نفسه جاهل بمخلوقه ومصنوعه! إنّك عندما تنظر إلى دقة آلة مخترعة فسرعان ما تعترف لصانعها بالذكاء وتشهد له بالعلم.
وإن قصد الوجه الثاني، وهو نفي صلته (تعالى) وعلاقته الكليّة بالكون والإنسان، فكلامه مرفوض، فإنّ مردّه إلى أنّه تعالى قد اعتزل العالم، وهذا نوع من التفويض الذي تقدّم في الاعتراض الثاني بطلانه.
وأمّا إن قصد الوجه الثالث، فنحن نوافقه الرأي فيما لو أراد نفي قدرته القاهرة لإرادة الإنسان بشكل كامل. فنحن المسلمون ويوافقنا آخرون، نرفضُ عقيدة الجبر التي تنصّ على أنّ الله تعالى هو الخالق لأفعالنا والقاهر لإرادتنا، بحيث يغدو الإنسان في هذه الحياة مسيراً لا مخيراً،
ويكون - أمام القدر - كريشة في مهبّ الريح، وإنّما نؤمن ونعتقد أنّ الإنسان حرٌ ومختار وتصدر عنه معظم أفعاله وتصرفاته وأقواله بكامل إرادته ووعيه دون جبر أو قسر؛ ولذا كان مسؤولاً عن أفعاله وأقواله، ويستحق المدح والثناء على فعله الحسن واللوم والمؤاخذة على
فعله القبيح، أمّا لو كان مجبراً على فعل الشر فيكون ذمه على ذلك قبيحاً لأنّ الإنسان لا يُذم على ما ليس بالاختيار.
النقطة الثانية: رد اعتراضهم على التصور الديني عن الإله
للربوبيين أكثر من اعتراض على الرؤية الدينية إزاء الإله، أو لنقل على صورة الإله لدى الأديان، ومن هذه الاعتراضات:
أ -أنّ إله الأديان هو إله جلاد يدعو للعنف ويحب سفك الدماء.
ب -أنّه إله يتدخل في الكون بشكل مستمر، ويعطي أنبياءه صلاحية تعطيل القوانين الكونية تحت عنوان المعجزة.
ج -أنه إله ذكر، أو يقدم باعتباره ذكراً، وهو الأمر الذي أسّس لاضطهاد الأنثى لدى أتباع الأديان.
ونحن قد ناقشنا فيما سبق كلامهم حول تدخل الإله في الكون (الاعتراض الثاني)، وأما اعتراضهم الأول، فسيأتي الرد عليه في المحور السادس. فيبقى أن ندرس هنا ما نسبه بعض الربوبيين إلى الفكر الديني من أنّه قدّم الإله باعتباره رجلاً! وهذا في الواقع كلام مستغرب
ومجافٍ للحقيقة، وأعتقد أنّ مجرد طرح السؤال عن جنس الله تعالى وأنّه ذكر أو أنثى هو جهل بحقيقته تعالى؛ لأنّ الانقسام إلى الذكور والإناث هو من خصائص المخلوق، ولا يشمل الخالق. ومن خصائص الذكر أو الأنثى أنهما يتزاوجان وينجبان، والله فوق ذلك كله وأسمى من
أن يحتاج إلى الزوجة أو الولد، كما وصف نفسه في كتابه: {وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص 4]، ولو كان ذكرًا لكان له نظير وكفوء. والله تعالى يقول أيضًا: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى 11]، ولو كان ذكرًا أو أنثى لكان له مثيل، فهو تعالى حقيقةٌ مغايرةٌ لما عليه خلقه.
أجل، ثمة اعتقاد شعبي حول ذكورية الإله كان منتشراً في الكثير من الأوساط، ولكنّ تحميل الدين وزر مثل هذا الاعتقاد هو تجنٍ على الدين. وقد نُقل عن الفيلسوف الهولندي باروخ سبينوزا (1632-1677 م) رفضه لهذا الاعتقاد بشجاعة، معتبراً أنّ «تصوير الله بصورة
المذكر» ينعكس «على تبعية المرأة للرجل وخضوعها له على الأرض». ويُرجع سبينوزا هذا التصوّر عن الإله إلى النظرة الذاتيّة التي تسيطر علينا وتمنع من رؤية الحقائق على واقعيتها، فهو يؤكد "أنّ تلك النظرة الشخصيّة قد أفسدت علينا فهم الله سبحانه وتعالى فهماً صحيحاً
فأخذنا ننسب إليه صفاتنا نحن، لماذا؟ لأننا أبصرناه من نافذة نفوسنا، ولم نتجرد لنطل عليه من جانب الحقيقة والواقع، فنحن مثلاً نتصور الله في صورة المذكر دائماً ولا نرضى أن نصبغه بصبغة التأنيث، نقول هو ولا نقول هي، وليس ذلك إلا نتيجةً لخضوع المرأة لسلطان
الرجل".
القرآن والإله الذكر!!
ولكن يبقى تساؤل في المقام، وهو أنّه إذا لم يكن الله تعالى ذكراً، فلماذا وصف نفسه في القرآن الكريم بأوصاف الذكر، سواء على صعيد استخدام الأسماء أو الأفعال أو الضمائر. فلاحظ على سبيل المثال قوله تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ۚ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} [البقرة
255] استخدمت هذه الآية في التعبير عن الله تعالى والإشارة إليه ضمير «هو»، ولم تستخدم ضمير الأنثى «هي». ونظيرها ما في قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص 1]. واستخدمت الآية أيضاً أسماء مذكرة، فعبرت عن الله تعالى بأنّه «الحي القيوم» ولم تقل: «الحيّة
القيّومة». والأسماء المذكرة كثيرة في القرآن، وامتد التذكير إلى الأفعال، فاستخدمت الآية فعلاً مذكراً فقالت: «تأخذه». وليس «تأخذها»؟!
والجواب على ذلك يتضح من خلال ذكر المقدمات التالية:
المقدمة الأولى: إنّ اللغة العربية لا تتضمن تعابير محايدة يمكن إطلاقها على الجنسين (الذكور والإناث) معاً، أو على ما هو خارج عن الجنسين، أو هو فوقهما كالله سبحانه وتعالى، بل هي لغة تعتمد على ثنائية تعبيرية، هي ثنائية المذكر والمؤنث. فنراها تميّزُ بين الجنسين في
الضمائر والأفعال وأسماء الإشارة، وهذا بخلاف بعض اللغات الأخرى، ففي الفارسية على سبيل المثال، كما يوجد تعابير خاصة بأحد الجنسين، فإنه يوجد تعابير محايدة، تطلق على الجنسين معاً. فضمائر المخاطب - مثلاً - تطلق على المذكر والمؤنث على حد سواء، فتقول:
«شما» أي «أنتم» في مخاطبة المذكر والمؤنث، بينما في العربية، فإنّ ضمير المخاطب المذكر يختلف عن ضمير المخاطب المؤنث، فللمذكر يستخدم ضمير «أنتم» وللمؤنث يستخدم ضمير «أنتن». وهكذا في الأفعال، ففي العربية نقول: «تفضلْ» للذكر، و«تفضلي» للمؤنث،
بينما في الفارسية ثمة فعل جامع للمذكر والمؤنث وهو «بفرما». وهكذا في غيرها من الأمثلة والموارد. وعليه فلا مناص من أن يطلق القرآن النازل باللغة العربيّة على الله تعالى تعابير خاصة بأحد الجنسين، لأنّه لا وجود تعابير محايدة.
المقدمة الثانية: إنّ الموجودات على نوعين:
الأول: هو ما ينقسم إلى مذكر ومؤنث، كما هو الحال في الإنسان والحيوان، (المخلوقات المتوالدة). ولكل من المذكر والمؤنث ضمائر وأسماءُ إشارة وأسماءٌ موصولة خاصة بها في لغة العرب، فتقول: هذا الغلام هو الذي اصطاد ثُعْباناً، وهذه البنت هي التي خافت من الأَسد.
والمذكر في هذه الحالة يسمى المذكر الحقيقي وكذلك المؤنث.
الثاني: ما لا ينقسم إلى مذكر ومؤنث، كما في الأشياء الجامدة، من قبيل الأرض والجبال والنجوم وسائر الأشياء، واسم الله تعالى من هذا القبيل.
وقد ذكر علماء العربية أنّه في الموارد التي يكون الشيء مما ينقسم إلى جنسين، وهما الذكور والإناث، تكون مراعاة التذكير والتأنيث ضرورية ولازمة. وأمّا في المواضع التي لا تنقسم إلى مذكر ومؤنث، فيتعين إدراجها في مقام التعبير إما تحت المذكر أو المؤنث. فإذا أدرج
الشيء تحت المذكر وعومل معه معاملة المذكر في الضمائر والإشارة والموصول من قبيل كتاب أو بيت أو عشب، قيل له مذكر مجازي، وإذا أدرج تحت المؤنث وعومل معه معاملة المؤنث في ذلك، من قبيل صحيفة ودار ووردة، قيل له: مؤنث مجازي.
ويرد سؤال هنا عن القاعدة المعتمدة في التأنيث أو التذكير المجازيين؛ قال بعض النحويين ليس هناك قاعدة في معرفة التذكير والتأْنيث المجازيين، بل المدار في معرفة ذلك على السماع، وذلك بالرجوع إلى كتب اللغة». وعليه فالتأنيث في لفظ «الشمس» حيث يقال: هذه
الشمس، أو كما ورد في القرآن الكريم: {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت} [الكهف 17]. والتذكير في لفظ القمر، حيث يقال: القمر طالع، أو كما جاء في القرآن الكريم: {وَانشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر1]، إنّ التذكير والتأنيث المشار إليهما لا تفسير لهما إلا السماع، ونحوهما سائر الموارد. ولم
ينطلقا من أي اعتبار قيمي، يقول المتنبي:
ومــا الــتــأنـيــث لاسـم الشـمـس عـيــب ولا التــذكـــيــــر فـــخــــر لــــلـــــهـــــلال
المقدمة الثالثة: وهي بمثابة النتيجة لما تقدّم، حيث يمكن القول: إنّ تعامل اللغة العربية مع اسم الله تعالى وأوصافه تعامل المذكّر مرجعه إلى السماع ولا قاعدة قياسية له. وكون المسألة سماعيّة لا يعني أنّها مبتنية على خطأ، وقد جرى القرآن على الخطأ، فالسماع لا يوصف
بالخطأ؛ لأنّ اللسان العربي العام قد جرى على ذلك، فيصبح السماع قاعدة مطردة، والخروج عليه هو المخالف للقاعدة وهو الخطأ.
والجري القرآني على ما جرى عليه العرب في لغتهم واعتادوه في استعمالاتهم هو أمر له مبرراته البلاغية والتبليغية، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم 4].
وممّا يشهد بكون التذكير في اسم الله تعالى ليس منطلقًا من عقدة أو عقيدة احتقار الأنثى، أنّا وجدنا العرب والمسلمين قد يؤنثون بعض الألفاظ المتصلة بالله تعالى، فيقولون: الذات الإلهية، أو الحضرة الربوبية، ويقولون في الجمع: قالت الآلهة، ونظائر ذلك كثير في لغتهم.
النقطة الثالثة: الربوبي وعبادة الله
عن علاقتنا بالله وواجبنا تجاهه يؤكّد الربوبيون أنّه لا يجب علينا في هذا المجال شيء مرسوم، فالله كما لم يضعْ لنا قوانين وشرائع خارج ما يوحي به العقل الإنساني، فهو - أيضاً - لم يأمرنا بطقوس خاصة ولم يلزمنا بعبادته والتقرّب إليه. نعمْ، ألزمنا بشيء واحد وهو القيام
بأعمال الخير. ولفت نظري قول بعض الربوبيين: «والدعوات والصلوات لا تستجاب». بينما يقول آخر: «لا نصلّي إلا صلاة الشكر والتقدير».
وربما يذهب البعض إلى أكثر من ذلك فيدعي عدم جدوائيّة العبادة، وأنّ واقع المتدينين يثبت ذلك، فهم يؤدون طقوساً جوفاء، ولم تغيّر من حياتهم شيئاً، ولذا فلا حاجة لنا بها، ولا ضرورة لإرباك حياتنا وأنفسنا بهذه الأعمال الشاقة والمتعبة وغير المنتجة.
والواقع أنّ ثمّة تخبطاً ملحوظاً في كلمات الربوبيين في هذا المقام، فمنهم من ينكر فكرة العبادة ولا يؤمن بجدواها، ويصف الديانات السماوية بأنّها ديانات العبادة، ومنهم من يرى أنّ العبادة هي فعل الخيرات والصالحات. وبصرف النظر عما يبدو تخبّطاً في كلامهم، فسوف
أسجلّ عدّة تعليقات تطال مجمل الأفكار التي ترددت في كلام الربوبيين أو غيرهم من اللادينيين على هذا الصعيد:
التعليق الأول: العبادة والاعتراف بالجميل
إنّ من يؤمن بوجود الله تعالى لا يسعه أن يتنكر لفكرة عبادته، وذلك لأنّ العبادة - من جهة أولى - هي تعبير عن شكرنا له تعالى، وهو يستحق الشكر والامتنان، اعترافاً بجميله، فهو المنعم والمتفضل علينا بخلقنا وبكل ما أولانا من نِعَمٍ لا تعدُ ولا تحصى. صحيح أنّه تعالى لا
يطلب منا الشكر لحاجة له في ذلك، لأنّه غني عن العالمين، ولكنّه أهلٌ للشكر وهو يستحقه، ولا يسع أي عاقل أن ينكر ذلك، وأنّى له أن ينكر والعقل يحكم بلزوم شكر المنعم! والعبادة -من جهة أخرى - تمثّل حالة التجاء واستناد إليه تعالى، وعندما نلتجئ إليه عزّ وجلّ في كل
أحوالنا ولا سيما في حالات الضعف البشري والخوف والقلق الذي يواجهنا في الحياة، فإن ذلك اللجوء يمنحنا إحساساً بالأمن وشعوراً بالاطمئنان، كما قال الله تعالى: {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد 28]، فنحن نلتجئ إلى خالقنا وهو القوي والعزيز وهو العطوف والرحيم،
بل هو الأرحم والأرأف بنا من أهلينا وأولادنا وإخواننا ومن كل الناس، ولا يطلب على إحسانه ونعمه أجراً ولا شكراً.
والحقيقة أننا نستغرب من الربوبي كيف يؤمن بالله تعالى، ثم في الوقت عينه يسدّ على نفسه أبواب رحمته، ولا يريد أن يستفيد منه أو يستمد منه أهمَ ما يمكن أن يعطيه ويمنحه هذا الإله لخلقه؟! وهو أن يُشكّل ملجأً وكهفاً حصيناً لهم يشعرهم بالأمن والسكينة والاطمئنان، {الَّذِينَ
آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد 28].
ربما يقول الربوبي: إنّنا لا ننكر مبدأ العبادة من أصله ولا نرفض فكرة شكر الخالق وامتنانه على نعمه وإحسانه وعرفان جميله، إلا أننا ننكر العبادة المرسومة التي يؤديها المتدينون، ونرفض اعتماد طقوس خاصة في التعبد تعبيراً عن الشكر والامتنان. وبذلك يكون الربوبي قد
انسجم مع نفسه حيث يرفض العبادة التي يمارسها المتدينون لعدم إيمانه بكونها وحياً إلهياً، وفي الوقت عينه لم يرفض مبدأً عقلياً وهو لزوم شكر المنعم.
وتعليقاً على ذلك نقول:
أ - إذا أقرّ الربوبي بالمبدأ العقلي القاضي بلزوم شكر المنعم، فإنّ من الجدير به أن يقرَّ أيضاً بمبدأ آخر، وهو أنّ الله تعالى هو الجهة الأمثل لتعليمنا كيفيّة الشكر، لا لأنه الأعلم فحسب، بل لأن شكره - خصوصاً إذا أريد تحويله إلى مراسم خاصة يواظب عليها العباد - بالطريقة
المستقاة منه هو المتعين، وذلك حذراً من وقوعنا في فخ المغالاة في ذلك أو الإفراط والتفريط فيما لو ترك الأمر إلينا وحرصاً على انتظامنا في طريقة شكر موحدة وذات إيقاع متناغم، كما هو الحال في العبادات التي نؤديها نحن المسلمون في انتظام وانسجام.
ب - أجل، إننا لا ننكر أنّ بإمكاننا أداء وظيفة الشكر لله تعالى من خلال قيامنا بتقدير النعم الإلهية، وتوقيرها تقديراً عملياً يتمثل بالسعي في بذل شيء من طاقاتنا وما أولانا الله من نعم في سبيل مساعدة عيال الله المحتاجين والتخفيف من معاناتهم، وهذا ما يَعدُّه الإسلام شكراً عملياً
للخالق عز وجل، ويعتبره من أفضل أنواع العبادة لله سبحانه . دون أن ينفي ذلك حقه علينا في تعليمنا وتوجيهنا إلى طريقة محددة للشكر، يطلبها منا تحقيقاً لبعض الأهداف والغايات الراجعة إلينا، ومنها ما أشرنا إليه من الظهور بمظهر الانتظام والابتعاد عن المغالاة.
باختصار: إنّ هناك طريقين لشكر المنعم:
الأولى: هي طريقة الشكر المحددة من خلال الوحي، وهذه الطريقة توقيفية ولا تجوز الزيادة عليها ولا النقيصة فيها، وهي من حقه تعالى على عباده، وإنما افترضها عليهم وأرشدهم إليها حرصاً منه عليهم ولأن ذلك يصب في مصلحتهم.
الثانية: هي الطريقة المفتوحة أمام الناس، ليشكروا ربهم بطريقتهم الخاصة، بألسنتهم المختلفة، أو بقلوبهم الحانية العامرة بالحب، أو بعقولهم المؤمنة بربها، أو بأعمالهم الإنسانية التي تخدم الآخرين وتساعدهم وتحنو عليهم.
ونحن من جهتنا نؤمن بشرعيّة الطريقين، بينما يصرّ الربوبي على اعتماد الطريقة الثانية فقط دون حجة مقنعة أو دليل واضح.
التعليق الثاني: كيف ينظر الربوبي إلى المعصية؟
لم نجد في أدبيات الربوبيين حديثاً عن معصية الإنسان لربه، ويفترض أن لا يتنكروا لمبدأ العصيان؛ فإنّ المعصيّة لا تعني سوى تجاوز الحدود المسموحة، والإنسان الذي يعبث بهذا الكون ويسيء إلى جماله، أو يعتدي على أخيه الإنسان فيقلق أمنه وراحته، هو متجاوز لإرادة
الله تعالى حتماً، وعاصٍ له؛ لأنّ الله تعالى لا يمكن أن يرضى بالظلم أو يقر العدوان، وهذا أمر واضح ومن بديهيات العقول. والسؤال: ما الذي على الإنسان المعتدي والمتجاوز لإرادة الله أن يفعله؟ أليس المطلوب منه أن يستغفر أو يتوب ويتعهد أمام الله تعالى أن لا يعود
لممارسة الخطأ السابق؟! فهذا الاستغفار تعبيرٌ طبيعي عن الندم، ويمثّل التزاماً وتعهداً أمام الله بعدم العودة إلى تجاوز الحد وممارسة الطغيان والعدوان. ولكنّ الفكر الربوبي خالٍ من هذا المعنى بتاتاً، وهذا يشكل ثغرة كبيرة فيه؛ لأن عدم إحساس الإنسان بالخطأ تجاه ربه سيزيد
من جرأته على ارتكاب التجاوزات والتعديات، ويفقده الشعور برقابة الله تعالى، مع أنّ الشعور بهذه الرقابة الإلهيّة هي أكبر ضابطة تساعد على كبح جماح الإنسان والحدّ من انسياقه مع الغرائز والأهواء.
التعليق الثالث: لماذا لا يستجاب الدعاء؟!
من أين للربوبي أن يقول: إنّ الصلوات والدعوات لا تستجاب؟! هل أوحى الله له بذلك وأعلمه بأنّه لا يقبل دعاء من دعاه ولا يحقق رجاء من رجاه؟! وأي وحيٍ هذا الذي نزل عليه، وهو لا يؤمن بمبدأ الوحي أساساً! أم أنّ العقل هو منْ حكم بذلك؟! وأنّى للعقل الذي حكم بوجود
الإله (على ما يعتقد الربوبي نفسه) أن ينفي أو ينكر عدم إصغاء الله لعباده؟! أم أنّ الحسَّ والتجربة أثبتا ذلك وحكما به؟ وهل جرّب الربوبي أن يصلّي لله تعالى وأن يدعوه بإخلاصٍ ومع ذلك وجد أنّ الله تعالى لم يستجب له؟!
ربما يقول: إنّ دليلي على عدم استجابة الله لأدعية الداعين، هو أنّا وجدنا الكثير من الناس يدعون الله تعالى ولا يستجاب لهم.
ولكننا نقول له: إنّ غيرك قد جرّب الدعاء ورأى نتائجه وآثاره، وعاين الكثيرين من الذين استجيبت دعواتهم، مع الإشارة إلى أنّه لم يدّع أحدٌ أنّ الدعاء هو الحلُّ السحري لكل مشكلاتنا، بحيث يستغني الإنسان بالدعاء عن العمل والسعي والأخذ بمنطق السنن ومبدأ الأسباب
والمسببات. والمتدينون لا يزعمون أنّ طلبات الداعين مستجابة دائماً، فللدعاء شروط وضوابط، وثمة موانع تمنع من استجابة الدعاء، وهذا أمر مفصل في النصوص الدينية بما فيه الكفاية، فلا يمكنك أن تتوقع أن يُستجاب دعاؤك بطلب الرزق - مثلاً - دون أن تسعى في الحياة
لتوفر فرص العمل والعيش الكريم، ولا يمكنك أن تتوقع من الله تعالى أن يستجيب دعاءك بطلب الشفاء دون أن ترجع إلى الأطباء وتأخذ بمشورتهم وإرشاداتهم..
ولهذا لا يحق للربوبي أن ينفي كون الصلاة والدعاء والاستغفار حاجة للإنسان، وهو مدعوٌ إلى الاستماع إلى العباد الداعين ليرى الآثار الروحية والنفسية والتربوية التي تنجزها الأدعية وتحققها.
التعليق الرابع: تشوّه العبادة
إنّ إشكال البعض حول فاعليّة العبادة ربما يكون لها شيء من الصدقيّة، لجهة أنّ ممارسة العبادة في الأديان ومنها الإسلام، قد تعرّضت للكثير من التشويه وأخطر تشويه هو تحويل العبادات إلى طقوس جوفاء. والطقوسيّة فرّغت العبادة من مضمونها الفاعل، لتصبح جسداً لا
روح فيه، وشكلاً دون مضمون. إنّ العبادة هي حالة انفتاح روحي على الله تعالى، فلا بدّ أن تخترق شغاف القلب لتجعل الإنسان يحلّق في فضاء الروح ويشعر بالاطمئنان والسلام، {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد 28].
والتشويه الآخر هو تفريغها من بعدها الإنساني والاجتماعي، مع أنّ ميزة العبادة خصوصاً في الإسلام أنّها لا تقتصر أبداً على حالة توجه العبد إلى خالقه بالذكر والدعاء، وإنما تمتد إلى كل نشاط اجتماعي وإنساني يعود بالخير والنفع على بني الإنسان، لتشمل مساعدة الفقراء،
وزيارة الأرحام والإخوان وطيب الكلام والبِشْر في وجوه الأنام وإزالة الأذى عن الطريق إلى غيرها من أنشطة الخير والأعمال الاجتماعية. ومن هنا، فإنّ الزكاة في الإسلام بما تعبِّر عنه من تكافل اجتماعي هي عبادة لله تعالى، وقد نصّ الفقهاء على أنّها تحتاج إلى نيّة القربة
والابتعاد عن الرياء.
والتشوّه الثالث الذي أصابها في بعض الأوساط، هو فهم العبادة على أنّها تساوق العبوديّة الأمر الذي قد يفسّره البعض خطأً باعتباره تدريباً للإنسان العابد على تقبل المهانة والذلة. وذاك الفهم وهذا التفسير خاطئان، لأنّ العبادة في إيحاءاتها المباشرة تعلّم العابد على الانعتاق
والتحرر من كل عبوديّات الأرض، فمن يركع لله العزيز المقتدر لا يمكن أن يركع لغيره، وعبوديتنا لله هي حالة الخضوع الوحيدة التي تزيد العبد عزاً وفخراً ولا تشعره بالذلة والمهانة، وقد قالها سير الأحرار والزّهّاد بعد رسول الله (ص) أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع):
«إلهي كفى بي عزاً أن أكون لك عبداً، وكفى بي فخراً أن تكون لي رباً، أنت كما أحبّ فاجعلني كما تحب».
التعليق الخامس: الأبعاد الثلاثة للعبادة
ولكن ماذا عن هدف العبادة ومغزاها، فالقرآن يقول: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات 56]. فهل من المعقول أن يخلقنا الله لنعبده؟ أهو يحتاج إلى عبادتنا أم أنه يريد معاقبتنا بهذه التكاليف العبادية الشاقة من صلاة وصوم وحج وغيرها؟
والجواب: إنّ العبادة في الإسلام ليست مجرد صلوات وأذكار وصيام وحج وعمرة، كما قد يفهمها البعض، مع أنّ هذه من أمهات العبادة ولها وظيفتها الجليلة على صعيد تهذيب الإنسان وتزكيته، وإنما العبادة في الإسلام، هي ذات مفهوم يتسع للكثير من الأعمال العقلية
والجسدية والروحية والعلمية والإنسانية. وبتصنيف آخر للعبادة ربما أشار إليه بعض الباحثين، يمكن القول إنّها على ثلاثة أنحاء:
أ - العبادة الشعائرية، المتمثلة بالتزام ما جاء عن طريق الوحي من أعمال عبادية، واجبة كانت أم مستحبة، كالصلاة والصوم، والحج والعمرة، والذكر والدعاء.. وهذه العبادات يفترض بها أن تصقل شخصية الإنسان وتهذبها، وأن تمنحه الأمن والسلام الروحي من خلال علاقته
بالله تعالى، ولجوئه إليه. فالصلاة هي حالة ارتباط روحي بالله تسمو بالعبد إلى آفاق روحية عالية، وكذلك الصوم والحج والهدي، فكل ذلك يرمي إلى إيصال الإنسان لحالة التقوى، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البـــقــــرة
21]، وقال سبحانه: {لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَٰكِن يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنكُمْ} [الحج 37].
ب - العبادة الاجتماعية، من خلال الانخراط في شتى الأنشطة الاجتماعيّة، وأعمال الخير والبر التي تمدّ جسور التواصل الإنساني بين الناس. فمساعدة الفقراء والمحتاجين، وزيارة الأرحام والإخوان، وتشييع جنازة الأخوة والأصدقاء، والابتسامة في وجوه الآخرين، وكل ما
يساعد على نشر حبال المودة والترابط.. إنّ ذلك كله عبادة لله تعالى ومقرِّب نحوه، ويكتسب الإنسان عليه من الأجر والثواب كما يكتسب المصلي والصائم، وما أحوجنا إلى هذا النوع من العبادات في زماننا هذا الذي هو بحق زمن التدابر وقطع الأرحام وفقد الحرارة في
العلاقات بين الأهل والأخوة. وعن هذا النحو من العبادة تحدثت العديد من النصوص الدينية، كما في المروي عن رسول الله (ص): «نظر الولد إلى والديه حباً لهما عبادة». وعن الإمام علي (ع) وهو يحدثنا عن عبادة الله بالكلام الطيب: «إن من العبادة لين الكلام وإفشاء
السلام». وعن رسول الله (ص) متحدثاً عن عبادة الله تعالى في طلب الرزق الحلال: «العبادة عشرة أجزاء تسعة أجزاء في طلب الحلال». وغير بعيد عن هذا المجال الرائع لعبادة الله، يأتي ما يمكن أن نسميه بالعبادة الأخلاقية، المتمثلة بالحفاظ على النواميس الأخلاقية التي
تحفظ للإنسان إنسانيته وكرامته، وتبعده عن الانحطاط إلى الحالة البهيمية. في الحديث عن الإمام علي (ع): «أفضل العبادة العفاف» وفي حديثٍ آخر عنه (ع): «غضّ الطرف عن محارم الله سبحانه أفضل عبادة».
أ - العبادة الكونية، وذلك بأن يعبد الله من خلال القراءة الواعية والمتدبرة في الكتاب المنظور، والتعرف على آيات جماله وجلاله في هذا الكون الفسيح، والعبادة هنا هي علم وعمل، عقل وقلب، علم يكتشف وعمل يبدع، عقل ينظم وقلب يسدد ويصوب، لتتم الإفادة من كل
الاكتشافات في سبيل رقي الإنسان لا في سبيل تسلطه وتكبّره، في سبيل البناء لا في سبيل الدمار. وفي الإشارة إلى هذه العبادة جاء الحديث النبوي الشريف: «تَفَكُّر ساعة خير من قيام ليلة» وعن الإمام علي (ع): «التفكر في ملكوت السماوات والأرض عبادة المخلصين»
وهنا وعندما ينخرط الإنسان في هذه العبادة الكونية سوف يتملكه إحساس بالتواضع، لأنه كائن صغير في هذا الكون الفسيح، وهو مع سائر المخلوقات التي لا تعد ولا تحصى، يسير في حركة دائبة وخاضعة للقوانين المحكمة التي أبدعتها يد القدرة الإلهية، التي أتقنت كل شيء
وبكلمة أخرى: إنّ هذه العبادة الكونية في آفاق السماوات والأرض، تشعر الإنسان أنه كائن صغير في هذا المعبد الكبير/الكون الذي يتحرك بانتظام، وهو ينطق بملء فيهِ ويخاطب - بلسان الحال - كل ذي لبّ: إنّ النظام يحتاج إلى منظّم، والجمال يحتاج إلى ريشة تخطّ وأنامل
تبدع، كما ويحتاج - في المقابل - إلى ذوق يتلمس ووجدان يقر بالجميل ويعرف بالفضل والإحسان، وهذا هو الدرس العظيم لهذه العبادة، وهو الذي يعطيها هذا الوزن لتغدو تفكر ساعة أفضل من قيام ليلة. والدرس الآخر لهذه العبادة هو درس الانتظام، فإنّه إذا كانت هذه الكائنات
بأجمعها تتحرك في مسار منتظم وبديع ولا تتخلف عنه طرفة عين أبداً، فالحري بالإنسان أيضاً أن يتحرك في خط سوي مستقيم فلا يعبث ولا يدمر.
نُشر المقال على الموقع في 10-6-2018