حوار مع مركز أفاق للدراسات والأبحاث: مشكلة الأديان تتشكل في الخطاب الفقهي    ثمن الحرية    أمثل الأساليب في عمليّة تهذيب النفس    مزايا الشباب    العمل سرّ النجاح    العبادة وعيٌ وانفتاح لا جهل وانغلاق    اقتناء أصنام الأمم البائدة    المفاهيم الدينية بين وجوب الاعتقاد وحرمة الانكار    البناء الاعتقادي بين الاجتهاد والتقليد    
 
بحث
 
تكريم الإنسان
 
س » كم كان عمر الزهراء (ع) حين زواجها من أمير المؤمنين (ع)؟ هل صحيح أن الإجماع هو على التسع من عمرها؟
ج »
 
▪️يوجد اختلاف كبير بين العلماء في تحديد عمر سيدتنا الزهراء سلام الله عليها حين زواجها من أمير المؤمنين عليه السلام، وتترواح هذه الأقوال بين تسع سنوات وعشرين سنة.
 
▪️مرد هذا الاختلاف إلى أمرين:
 
- الأول: الاختلاف في تاريخ مولدها، فهل ولدت قبل البعثة بخمس أم بعدها بخمس أو باثنتين؟ 
 
- الثاني: الاختلاف في تاريخ زواجها من أمير المؤمنين عليه السلام، حيث إن ثمة خلافاً في أنها تزوجت بعد الهجرة إلى المدينة بسنة أو بسنتين أو بثلاث.
 
▪️المعروف عند كثير من المؤرخين - كما ينقل التستري في تواريخ النبي (ص) والآل (ع) - أنها ولدت قبل البعثة النبوية بخمس سنين، وهذا ما ذهب إليه محمد بن إسحاق وأبو نعيم وأبو الفرج والطبري والواقدي وغيرهم، وعلى هذا سيكون عمرها حين الزواج ثماني عشرة سنة أو يزيد.
 
▪️ ونقل العلامة الأمين "أن أكثر أصحابنا" على أنها ولدت بعد البعثة بخمس سنين، وعلى هذا سيكون عمرها حين الزواج تسعاً أو عشراً أو أحد عشر عاماً، تبعاً للاختلاف في تاريخ الزواج.
 
⬅️ الظاهر أنه ليس هناك إجماع على أنّ عمرها عند الزواج بها كان تسع سنوات، فقد ذهب الشيخ المفيد في "مسار الشيعة" أنها ولدت بعد مبعث النبي (ص) بسنتين، وهو ظاهر الشيخ الطوسي في المصباح، بل نقل الشيخ عن رواية أنها ولدت في السنة الأولى لمبعثه الشريف، وحينئذ إذا كانت قد  تزوجت في السنة الأولى من الهجرة فيكون عمرها حين الزواج ثلاث عشرة سنة، وإذا تزوجت في السنة الثانية للهجرة سيكون عمرها أربع عشرة سنة، وإذا تزوجت في السنة الثالثة سيكون عمرها خمس عشرة سنة.
 
 وقد رجح التستري وغيره من علمائنا القول بولادتها بعد البعثة بخمس، استناداً إلى بعض الأخبار المروية عن الأئمة(ع).. وكيف كان، فتحقيق المسألة واتخاذ موقف حاسم يحتاج إلى متابعة.. والله الموفق.

 
 
  مقالات >> عقائدية
النبوة ضرورة عقلية وحاجة بشرية
الشيخ حسين الخشن



أولاً: نبذة مختصرة عن النبوّة

ثانيًا: ضرورة البحث في دعاوى الأنبياء (ع)

ثالثًا: البراهين العقليّة على حاجتنا للنبوّة

 

 

إنّ النقطة الجوهريّة التي يُجمع عليها أتباع الفكر الربوبي وتشكّل مرتكزاً أساسياً ومحورياً لمذهبهم، هي أنّهم - مع كونهم يؤمنون بالله تعالى - ينكرون النبوات والرسالات السماويّة، ويرفضون كل نتائجها ومنظومتها التشريعية والغيبية، ويعتقدون أنّ كل الذين يتكلمون باسم الله

هم مدّعون واهمون ولا أساس لدعواهم.

وقد ذكرنا في مقالة سابقة (تحت عنوان "المذهب الربوبي:مفهومه ودوافع اعتناقه") أنّ هذا الرأي ليس بجديد على الفكر البشري، فقد قال به في التاريخ طائفة من الناس، ونسبه المؤرخون إلى البراهمة.

 

والحقُّ يقال: إنّ الوجوه التي ذكرها البراهمة أو نُسبت إليهم في إثبات فكرتهم النافية للنبوات هي - وبصرف النظر عمّا سيأتي في تفنيدها - أكثر قوّة وتماسكاً مما يطرحه الربوبيون المعاصرون.

 

وفي مناقشتنا للفكر الربوبي فيما يتصل بهذه النقطة، أعني إنكارهم النبوات، سوف يكون حديثنا في نقطتين أساسيتين:

 

النقطة الأولى:

وهي مخصصة للحديث عن الأدلة التي نعتمدها في إثبات ضرورة النبوة وأهميتها.

النقطة الثانية: وهي مخصصة لاستعراض أدلة الربوبي على إنكار النبوّة ومن ثَمَّ تقييم هذه الأدلة

وتفنيدها.

فإذا وُفقنا في مناقشتهم وإبطال حججهم في هذه القضيّة فيكون أساس معتقدهم قد تعرّض للانهيار.

 

وهذا المقال مخصصٌ للحديث عن النقطة الأولى، بينما نخصص مقالاً آخرًا للحديث عن النقطة الثانية.

 

والكلام في النقطة الأولى أو بالأحرى في المحور الرابع يدور حول أمرين أساسيين، نتحدث في الأول منهما - الذي هو في الواقع بمثابة التمهيد للأمر الثاني - عن ضرورة البحث والتحري حول دعاوى الأنبياء، وعدم جواز إهمالها، ثمّ نبحث في الأمر الثاني عن أهم البراهين

التي تثبت الحاجة للنبوة.

 

ولكننا وقبل أن نشرع في الحديث عن هاتين النقطتين سنستبق ذلك بتقديم رؤية مختصرة تعبّر عن نظرتنا تجاه النبوّة ودور الأنبياء (ع) في الحياة، لأنّ لهذه الرؤية دوراً في محاكمة بعض الأفكار والإشكالات التي طرحها بعض اللادينيين سابقاً وحاضراً، وإليك تفصيل ذلك كله:

 

 

 أولاً: نبذة مختصرة عن النبوة.

 

النبوة هي مقام سامٍ وجليل يُمثل موقع السفارة والوساطة بين الخالق والمخلوق، ومهمة كهذه لا ينوء بها إلا أولئك الذين بلغوا ذروة الكمال الروحي والسمو الإنساني، وتحلّوا بالخلق الرفيع والشجاعة والزهد والتواضع والنبل والحزم والعزم وغيرها من مكارم الأخلاق ومحامد

الصفات. إنّهم أشخاص ذوي قابليات وملكات خاصة، ولديهم استعداد عالٍ لتلقي وحي الله تعالى: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل – 5]، ولجلالة هذه المهمة وأهميّة هذا الموقع وحساسيته كان من الطبيعي أن يكون اختيار الرسل بيد الله تعالى، وليس بيد الناس أنفسهم،

فالنبي (ص) لا ينتخبُه الناس كما ينتخبون رئيسهم وزعيمهم مثلاً، والوجه في ذلك، أنّ إدارة الناس لشؤونهم وأمور حياتهم ونظمِ أمورهم من الطبيعي أن يُعهد بها إليهم ليختبروا إرادتهم ويجهدوا في تقديم تجربتهم، ومن الممكن أن يُجعل أمر اختيار القائد السياسي والمدير

التنفيذي بأيدي الناس أنفسهم، ضمن ضوابط وشروط محددة، لكنّ موقع السفارة عن الله تعالى هو موقع مغاير لذلك تماماً؛ لأنّ الدور المناط بالسفراء (ع) هو دور مصيري في حياة الإنسانيّة جمعاء، والمهمة الملقاة على عاتقهم هي مهمة استثنائية، فتحتاج لشخصية استثنائية

تتحلى بمواصفات خاصة، ومن أهمها صفة العصمة، التي من شأنها أن تحمي الرسول (ص) من الوقوع في شباك الغرائز أو تحت ضغط الأهواء، وأن تحصِّنَه من الأخطاء المقصودة أو غير المقصودة، حتى يصلَ وحي الله إلى الناس كاملاً غير منقوص. ومعلوم أنّ توفر

الشخص على هذه القابليات والمواصفات هو أمر لا يُعرف على وجهه الأتم إلّا من قبل الله تعالى، فإنه الأعلم بعباده بحكم أنّه الخالق لهم، قال {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك – 14]، وقال سبحانه: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام – 124].

 

ومن هنا عبّر القرآن الكريم عن النبوّة بأنّها اصطفاء إلهي، قال سبحانه: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ ۚ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [الحج – 75]، ويقول سبحانه: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ ۗ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} [القصص – 68]، وقال سبحانه: {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ

فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَىٰ} [طه – 13].

 

وقد غدا واضحاً في ضوء ما أشرنا إليه للتو أنّ الاختيار أو الاصطفاء الإلهي ليس اعتباطياً ولا عبثياً، وإنّما يقوم على ميزان دقيق. فالله تعالى عندما يختار فلاناً دون فلان لموقع النبوّة، فلعلمه الأتمّ الذي لا يتخلّف أنّ هذا الشخص هو الأنسب لهذا الموقع، وأنّه الأقدر والأجدر

على النهوض بأعباء المهمّة التاريخيّة الملقاة على عاتقه.

 

وتجدر الإشارة إلى أنّ مهمة السفارة الإلهية لا تقتصر على دور ساعي البريد، الذي يحمل الرسائل للناس ويوصلها إليهم بأمانة، دون أن يكون مطلعاً على مضمونها، أو يتحمّل مسؤولية التزام الناس بها. إنّ الرسول بين الله وخلقه هو إنسان يحمل الرسالة بيده، ويجسّد تعاليمها

في خُلقه وهديه، وإنّ مهمته في هداية الناس وتزكيتهم وتعليمهم مضامين الرسالة هي العنصر الأهم والمكمّل لعمليّة حمل الرسالة وإيصالها إليهم، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي

ضَلَالٍ مُّبِينٍ} [الجمعة 2].

 

ومن هنا فقد جسّد الرسل (ع) معنى القدوة والمثل الأعلى في المجتمعات البشرية، قال تعالى: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب – 21]، فإنّ البشر كما هم بحاجة إلى رسالة إلهية ترسم لهم معالم الطريق في المجال العقدي والسلوكي، فإنّهم بحاجة إلى أن يروا

حاملَ الرسالة شخصاً يُجسِّد قيمها وهديها من خلال سلوكه العملي، الأمر الذي يساعد على تمثّلهم لتلك القيم والأخلاق. وبعبارة أخرى: إنّ البشر بحاجة إلى قرآن صامت، وآخر ناطق حيّ، يتحرك على الأرض ويشرح مضامين القرآن الصامت، وقد كان سيدنا رسول الله (ص)

هو القرآن المتحرك الذي يجسّد تعاليم القرآن الكريم، وقد عبرت زوجته السيدة عائشة عن هذا المعنى أفضل تعبير، فقالت في وصفه (ص) عندما سُئِلت عن خُلُقه: «كان خُلُفه القرآن».

 

 

 

لهذا لم يبعث الله ملكاً رسولاً!

 

وفي ضوء ما تقدم، يتضح الجواب على ما طرحه البراهمة الذين هم سلف الربوبيين (على قول مشهور) من اعتراض على عدم إرسال الله تعالى رسولاً من الملائكة، فقد نقل عنهم أنهم قالوا: «هلا أرسل ملكاً، فإنّ الملائكة إليه أقرب، ومن الشكّ فيهم أبعد، والآدميون يحبون

الرئاسة على جنسهم فيوقه هذا شكاً».

 

إنّ هذا الكلام مردود، فإنّ نهوض النبي (ص) في مهمته المشار إليها يتوقف على كونه بشرًا؛ لأنّه لو كان النبي (ص) مجرد ساعي بريد، لأمكن أن يكون ملكاً يبعثه الله إلى الناس، فيلقي عليهم الكتاب في قراطيس يتلونها ثمّ ينصرف لشأنه، تماماً كما تلقي الطائرات بالمنشورات

على الناس لتبلِّغهم أمراً ما. أمّا إذا كان دور النبي (ص) هو هداية الناس وإرشادهم والأخذ بأيديهم في مدارج الكمال، وأن يقوم بدور القدوة والمثل الأعلى لهم، فإنّ من الطبيعي أن يكون من جنس البشر، ليتسنى لبني الإنسان أن يقتدوا به، ويتفاعلوا معه، وبغير ذلك لا تقوم

الحجة عليهم. فمقتضى الحكمة أن لا يكون الرسول ملكاً، قال سبحانه: {قُل لَّوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَّسُولًا} [الإسراء 95]، وحيث إنّ أهل الأرض ليسوا من جنس الملائكة، وإنّما هم من نسل آدم، فلا بد أن يكون الرسول إليهم

من جنسهم.

 

وهذا ما يجعلنا نفهم سرّ التأكيد القرآني على بشرية النبي (ص) وأنه «من أنفسكم». قال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة – 128]. نعم، قد كانت الحاجة تدعو إلى إرسال الله في بعض الأحيان ملكاً

للقيام ببعض المهام غير المتصلة بأداء دور النبوّة والرسالة.

 

ورغم أن هذا الأمر - أعني بشرية النبي (ص) - ينبغي أن يكون واضحاً، والغاية منه بيّنة، والحكمة فيه جليّة، إلا أنّ القرآن الكريم قد قصّ لنا عن جماعة من الناس أنهم كانوا يعترضون على كون الرسول من جنس البشر وامتنعوا عن الإيمان بهم بسبب ذلك! قال سبحانه: {وَمَا

مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَىٰ إِلَّا أَن قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَّسُولًا} [ الإسراء – 94 ]، وقد أجابهم الله بما تقدم في الآية: {قُل لَّوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَّسُولًا} [الإسراء 95]. وفي آية أخرى يقول تعالى: {وَقَالُوا لَوْلَا

أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ ۖ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنظَرُونَ * وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ} [الأنعام 8-9].

 

ومن المظنون، بل المؤكد أنّ هؤلاء الذين اعترضوا بهذا الاعتراض على إرسال رسول من جنس البشر، كانوا سيعترضون وينددون على إرسال رسولٍ من جنس الملائكة، متعللين بأنّه لا طاقة لهم باتباع الملائكة، أو غير ذلك من العلل والأعذار! ولا تفسير لذلك إلا أنّ هؤلاء

لم يوطّنوا أنفسهم على اتباع الهدى والإذعان للحق، وإنما انطلقوا من موقع العناد واللجاج، بسبب أنّ النبوّة جاءت بما يصادم مطامعهم وأهواءهم، وسحبت البساط من تحت أرجلهم، ولذا قال سبحانه: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَٰذَا إِلَّا

سِحْرٌ مُّبِينٌ} [الأنعام – 7].

 

 

 

بشرية النبي (ص) وتكريم الإنسان

 

وربّما كان الرأي المذكور المستغرب لإرسال رسل من بني الإنسان منطلقاً من توهم مفاده: أنّ بشرية الرسل (ع) فيها انتقاص من مكانتهم الرفيعة، باعتبار أنّهم السفراء الإلهيون بين الأرض والسماء، ومن كان كذلك فلا بدّ أن يكونوا فوق مستوى البشر ولا يعقل أن يتصفوا

بصفات البشر المشوبة بالضعف والنقص.

 

ولكننا نستغرب هذا الكلام ونرفضه رفضاً قاطعاً، لا لما تقدّم فحسب من عدم قيام الحجة على العباد إلا بإرسال رسول من بني الإنسان لا من جنس الملائكة، بل لأنّ صاحب هذا الكلام يتخيّل أنّ البشرّية هي صفة دونية، وتعدّ علامة نقص أو نقطة ضعف في صاحبها، وهو ما

يلتقي بالعقيدة القائلة: «إنّ الإنسان يولد في الخطيئة» (سيأتي تفنيد هذه العقيدة لاحقاً). وهذا في الواقع مخالف للتصور الإسلامي القرآني حول الإنسان، وهو تصوّر يبتني على ركيزة أساسية، وهي أنّ البشر هم خلفاء الله على الأرض، {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة –

30] ، وقد اختارهم الله وفضلهم على الملائكة للقيام بأشرف مهمة وهي إعمار الأرض عمراناً مادياً ومعنوياً، {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود – 61]، وهذا ما جعلهم في موقع التكريم الإلهي، قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ

وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء – 70].

 

 

 

النبي (ص) والخصائص البشرية

 

وبشرية النبي (ص) تعني أنّه ورغم تميّزه بملاكات روحية وخُلُقيّة عالية تؤهله للوصول إلى أعلى درجات القرب من الله تعالى، فإنّه يبقى في خصائصه وطباعه وعواطفه بشراً، فهو - كسائر النّاس - يتألّم ويمرض ويجوع ويعطش، يبكي ويضحك، يفرح ويحزن، ويعيش كلّ

الأحاسيس والانفعالات والخصائص البشريّة، ولن تمنعه بشريته من التسامي والارتقاء إلى أعلى درجات الطهارة الروحيّة.

 

وينبغي أن يُعلم أنّ الحكمة الإلهية، كما منعت من أن لا يرسل الله تعالى ملكاً رسولاً أو رسولاً من الجن إلى بني الإنسان فإنها تمنع من أن يكون بشراً مجردًا من خصائص البشرية، بحيث لا يملك غرائز البشر ولا عواطفهم ولا انفعالاتهم! ولهذا فقد أكدّ القرآن الكريم في العديد

من الآيات على بشرية النبي (ص)، قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ} [الكهف – 110]. أنا بشرٌ مثلكم، فيما أحملُه من أحاسيس وعواطف، وأواجه ما تواجهون من حاجات بشريّة، كالحاجة إلى الأكل والشرب والنوم والجنس، ويعتريني ما يعتريكم من عوارض

جسمية كالنعاس والتعب والألم والفرح والحزن. إنّ التأكيد على بشرية الأنبياء (ع) يرمي – بالإضافة إلى محاولة الحد من نزعات الغلو فيهم - إلى منع تعلل الناس أو تعذرهم عندما يُطلب منهم الاقتداء برسول الله (ص) واتباع هديه وسيرته بأنّهم لا يستطيعون أن يقتدوا به،

ليبرروا بذلك تقاعسهم عن القيام بالمسؤوليات الشرعية وتهربهم من الالتزام بما أُمِروا به أو نُهوا عنه، فالرسول (ص) بشر مثلكم، وقد استطاع أن يمتثل ذلك كله بجهده وسعيه وترويضه الدائم لنفسه، حتى وصل إلى أعلى درجات الكمال والقرب الروحي والمعنوي من الله

تعالى، كما قال الإمام علي (ص) – فيما رُوِيَ عنه -: «وإنما هي نفسي أُروّضها بالتقوى، لتأتي آمنةً يوم الخوف الأكبر وتثبت على جوانب المزلق».

 

إن الالتزام أو الإقرار ببديهة بشرية النبي (ص)، تحتّم الاعتراف بلوازم هذه البشرية أو خصائصها ومتطلّباتها، ومن هذه الخصائص: امتلاكه ذوقاً خاصّاً - كغيره من أفراد الإنسان - بحيث إنّه ينجذب إلى أشياء ويحبّها، ويبغض أشياء ويكرهها، كما ورد في الخبر الصحيح عن

أبي عبد الله الصادق (ع)، قال: «كان رسول الله (ص) عزوف النفس، وكان يكره الشيء ولا يحرّمه» إن عزوف نفسه (ص) عن بعض الأشياء، هو من مقتضيات طبيعته البشريّة، ولا علاقة له بصفته الرساليّة، وقد ورد أحاديث كثيرة عن ذوقه (ص) الخاص في المطاعم

والمشارب واللباس والتجمّل.

وبكلمة:

إنّ الرسل لم يهبطوا من السماء إلى الأرض، وإنما صعدوا من الأرض إلى السماء، دون أن يقطعهم أو يحجبهم صعودهم هذا عن الواقع، فقد كانوا - وهم المتصلون بالغيب - يعيشون الواقع بكل تحدياته وصعوباته، وقد عملوا على تجسيد آمال الناس وتحقيق طموحاتهم

وتطلعاتهم، في بناء نظام العدالة الاجتماعية، وتحقيق الاستقرار والأمن في ربوع الأرض. وجاءت تعاليمهم وإرشاداتهم لتكون بمثابة البلسم للأرواح، والدواء لأمراض النفوس والقلوب، ومدّوا أيدي المحبة للناس جميعاً، وقد «لقوا من الناس أهوالاً ومقاومة ومناهضة، وتعرضوا

لصنوف من الطرد والاضطهاد وتحملوا من التضحيات ما لا نتصوره ولا نطيقه، وما طلبوا على هدايتهم أجراً ولا حاولوا نفوذاً ولا سلطة».

 

 

 

ثانياً: ضرورة البحث في دعاوى الأنبياء (ع)

 

في مستهل الكلام في هذه النقطة، يجدر بنا التوجّه إلى الإنسان الربوبي بالقول: إنّ إيمانك بالله تعالى والذي نلتقي معك فيه هو أمرٌ يحمّلك - كما يحمّلنا - مسؤولية البحث عن هذا الإله وصفاته والتأمل في مخلوقاته، والتعرّف على مشروعه وهدفه من خلق الإنسان، ويحمِّلُك أيضاً

مسؤولية التأمل في دعاوى الأشخاص الذين يدّعون أنّهم رسل الله إلى العباد، إذ ربّما كانوا صادقين في دعواهم.

 

وهذه المسؤولية هي مما يحكم بها العقل، فهو الذي يفرض على الإنسان دفعاً للضرر المحتمل والخسارة المتوقعة أن يدرس وينظر في دعاوى الرسل والأنبياء (ع)، فلعلّهم صادقون فيما يدّعون، وليس ثمة مبرر عقلي للحكم المسبق بتكذيبهم أو تخطئتهم. ألا ترى أنّه عندما يأتينا

شخص معروف بحكمته وصدقه ويدعي أنّه يحمل رسالة من قبل شخصية ذات أهميّة كالملك - مثلاً - وهي رسالةٌ تخصُّ أصحاب المملكة جميعاً، وتفرض عليهم التزامات معينة وتضع لهم برنامجاً خاصاً، وتحذِّرهم من مغبة عدم اتباعه، فإنّ العاقل في هذه الحالة لا يستخفُّ

بهذه الدعوى ولا يكون غير مبالٍ اتجاهها، بل يجد نفسه ملزماً بالتحري عن صدقها وصدق صاحبها. ولو فرض أنّه تعامل معها بشيء من اللامبالاة أو الاستخفاف، وكانت النتيجة أنّه لحقه بسبب ذلك ضرر أو ضيم، فإنّه يكون قد أساء إلى نفسه ولا يجد العقلاء له عذرًا، والأمر

عينه يمكن قوله إزاء دعوات الأنبياء (ع).

 

 

وحاصل الكلام:

 

أنّنا نتوجه إلى الربوبي متسائلين:

أولاً:

إنّ أمامنا ظاهرة ملفتة عرفها كل هذا التاريخ البشري العريق، ألا وهي ظاهرة الاعتقاد بالنبوات والانتماء إلى دين من الأديان، كما يؤكد ذلك تاريخ أسلافنا من بني الإنسان، ولا مجال للتشكيك في الأمر. فهل من المعقول أن لا يثير ذلك فينا فضول المعرفة، ويدفعنا للتساؤل عن

سرّ هذا الاعتقاد وذلك الالتزام؟ وهل يمكن لأحد أن يدعي أنه يفهم الإنسان إذا لم يفهم الأديان؟ أتستطيع أن تفهم البشر دون أن تفهم معتقداتهم وأفكارهم؟! يقول الفيلسوف جورج سنتيانا (1863م - 1953م): «أمامنا ظاهرة تستدعي الالتفات وتستحقّ الاهتمام وهي أنّ الناس في

كل مكان على ظهر هذه الأرض يدينون بدين من الأديان، فكيف نستطيع أن نفهم الإنسان إذا كنا لا نفهم الدين؟!».

 

 

ثانياً:

إنّ أمامنا وأمامكم عدداً كبيراً من الأنبياء والرسل الذي ادّعوا أنّهم جاءوا من عند الله تعالى، وادعوا أنّهم رسل الله وأنّه يُوحَى إليهم من الله تعالى، وكانت حصيلة هذا الوحي عدداً من الكتب الدينية المقدسة من التوراة والإنجيل وصولاً إلى القرآن، فما هو موقفكم من الأنبياء

ودعواهم تلك، هل من المنطقي أن تكذبوهم بهذه السهولة؟

 

قد نتفهم إنكار الملحد للنبوات، لأن من ينكر وجود الله تعالى يكون من الطبيعي أن ينكر أو يكذب الأنبياء، فأنّ إنكار المرسِل يستلزم إنكار الرسول، وبعبارة أخرى: إنّ إنكار الرسل وتكذيبهم هو من لوازم إنكار الله تعالى وعدم الإيمان به. أمّا مَنْ آمن بالله تعالى - كالربوبي -

وقاده عقله إلى ضرورة وجود خالق ومنظم لهذا الكون، فأنّى له وبهذه البساطة أن يكذّبَ الأنبياء والرسل الذين يزعمون أنهم صلة الوصل بين الخالق والمخلوقين وأنهم سفراء الله إلى عباده!

 

لا أدري أنه كيف يتسنى للربوبي وبهذه البساطة أن يتهم هؤلاء الأنبياء (ع) بالكذب وتعمد الافتراء على الله، لمجرد شبهات من هنا أو هناك؟! فالتكذيب هو موقف انفعالي واتهام باطل ومتسرع، ليس لكونه يفتقر إلى الدليل فحسب، بل لأنّ هؤلاء الأنبياء هم أشخاص معروفون

بالصدق والأمانة والنزاهة والخلق الرفيع، وهذا ما جعل لهم تلك المكانة المميزة والمرموقة في نفوس الملايين من الناس، وشهد لهم بذلك القاصي والداني والصديق والعدو.

 

 

 

التكذيب أو التخطئة

 

ربما يقول الربوبي: أجل، إننا نقول بأنّ الأنبياء (ع) كاذبون، لكنّ كذبهم هو من نوع «الكذب الأبيض» الذي لا ضير فيه، فهم يكذبون فيما يدّعونه من منصب النبوّة أو السفارة الإلهية وذلك ليتسنى لهم أن ينشروا رسالتهم الإصلاحية الهادفة إلى تهذيب الناس، وحملهم على

الأخلاق النبيلة والسجايا الفاضلة وإبعادهم عن الظلم والطغيان ورذائل السجايا وذميم الأخلاق؛ إذ ليس هناك أسلوب أفضل وأكثر إقناعاً للعامة من ادّعاء النبوة، وأنّ الله أعدّ للمطيعين جنّة عرضها السماوات والأرض فيها ما تشتهي الأنفس، وهيّأ للعصاة ناراً تشوي الوجوه

وتبدل الجلود.

ورداً على ذلك نقول:

إنّ هذا الكلام مجافٍ للحقيقة التاريخيّة، فالأنبياء - كما هو معروف - كانوا أصدق النا قواً، واشتهروا بقول كلمة الحق ولو على أنفسهم، وقد عاشوا في مجتمعاتهم وبين شعوبهم مدة مديدة لم يعرف عنهم خلالها كذبة في قول. فقد لبث نبينا محمد (ص) في قومه أربعين سنة قبل

النبوة، عُرف عنه خلالها الصدق والنزاهة والأمانة حتى أسماه قومه «بالصادق الأمين». واستمر على هذه السيرة بعد البعثة، فكان يرفض استخدام الأساليب الملتوية والكاذبة لتثبيت دعائم رسالته، فعندما توفي ولده إبراهيم في يوم صادف فيه كسوف الشمس، وقال قائل: كسفت

الشمس حزنًا على إبراهيم، أبت نفسه (ص) استغلال هذا الأمر وخداع الناس ولو كانت الغاية نبيلة، فصعد المنبر وخاطب المسلمين قائلاً: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ الشَّمْسَ والْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّه يَجْرِيَانِ بِأَمْرِه مُطِيعَانِ لَه لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ ولَا لِحَيَاتِه».

 

هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنّ المصلح لو كان كاذباً في دعوى خطيرة على هذا المستوى، وهو أن يدّعي أنّه رسول الله وأنّه يحمل إلى الناس شريعة يزعم أنها شريعة سماويّة أُوحي إليه بها من رب العالمين، ويكذب أيضاً في زعمه وجود عالم آخر أعدّ للحساب. فهذا معناه

أنّه شخص مجبول على الكذب، وأنّه معتاد عليه، وإن لم يكن معتاداً فتكرار الكذبة سيجعله معتاداً، ومن يكذب في الكبير يكذب في الصغير ومن يكذب مرة يكذب الأخرى. والشخص الكذوب لا بدّ أن يفتضح أمره، وأن ينكشف زيفه، فحبل الكذب قصير، كما يقول المثل، ولن

يطول الخداع والتضليل، فــــــ «ما أضمر أحد شيء إلا ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه».

 

ومن جهة ثالثة، لو كان الأنبياء مجرد مصلحين وعباقرة وليسوا مبعوثين من قبل الله تعالى، وإنّما ادعوا ما ادّعوه بهدف إصلاح مجتمعاتهم، فكيف نفسر هذا التلاقي بين الأنبياء على العناوين العامة العقدية، وهي الدعوة إلى الإيمان بالإله الواحد الأحد ورفض الشرك به، وكذلك

التلاقي على الدعوة إلى الإيمان باليوم الآخر؟! ألم يكن من الضروري أن تتغير «المفاهيم الإصلاحية» المزعومة بتغير العادات والتقاليد؟ واختلاف المجتمعات؟ ثمّ لماذا نرى لدى كل الأنبياء تركيزاً على العقيدة الصحيحة القائمة على الإيمان بالإله الواحد ورفض الوثنية

والشرك، مع أنّ هذا الأمر قد لا يخدم الرسالة الإصلاحية المزعومة وهي تغيير الواقع المنحرف والفاسد، إذا كان هدف الأنبياء إصلاح المجتمع فقط، فما الذي يفرق بين الدعوة إلى الإيمان بالإله الواحد الأحد أو الإيمان بإلهين، أحدهما إله الخير والآخر إله الشر؟ ولماذا إصرار

الأنبياء على رفض الشرك بالله ورفض الوثنية وعبادة الأصنام، مع ما سبب لهم ذلك من مشاكل جمّة مع الأمم التي بعثوا فيها؟! وأدّت دعوتهم تلك إلى انقسام المجتمع قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ} [النمل - 45].

 

قد يقولنّ الربوبي: إننا معاشر الربوبيين لا نكذّب الأنبياء (ع) ولا نتهمهم بتعمّد الخداع والمكر، لكن ذلك لا يحتّم  علينا أنّ نعتقد بأنّ قولهم الحق وأنّ دعواهم النبوة مطابقة للواقع، فربما كانوا مشتبهين وواهمين، وما يتصورون أنّه وحي سماوي هو مجرد تخيلات نفسيّة، ناتجة

عن استغراقهم فيما يدعونه من وحي السماء إليهم. ومعلومٌ أنّ الإنسان إذا استغرق في أمرٍ معيّن وشغل فكره فيه، فإنّ ذلك قد يأخذ عليه بعقله ولبّه، ويسيطر على حواسه ومداركه فلا يرى سواه، حتى ليصدق تخيلاته ويقنع نفسه بصوابيتها، ومن ثم يتحوّل إلى مبشر بها.

وجوابنا على ذلك

: إن الأنبياء (ع) ليسوا أشخاصاً عاديين بل هم خيرة الناس عقلاً وحكمة واستقامة، وهم معروفون بالتوازن النفسي والنبوغ الفكري، ولم نجد في سيرة واحدٍ منهم ما يؤشِّر إلى أنّه كان ذا عقدة نفسيّة أو عصاب ذهني، وآية ذلك وعلامته في ملاحظة ما تركوه من إرث روحي

وديني وأدبي، فإنّ كلام المرء ونتاجه الفكري والأدبي والروحي هو خير مرآة عاكسة لعقله وشخصيته، ذكاءً أو بلادة، نبوغاً أو تخلفاً، قال علي (ع): «تكلّموا تعرفوا فإنّ المرء مخبوء تحت لسانه». من هنا، فإنّ المنهج العلمي المعتمد في الدراسات المعاصرة هو التعرف على

شخصيات الشعراء والأدباء والفلاسفة وخصائصهم النفسيّة وآرائهم الفكرية من خلال نتاجهم العلمي والفلسفي والأدبي. وعلى ضوء ذلك، فإنّ المتأمل والدارس الموضوعي في النتاج والإرث الروحي والثقافي والأدبي الذي خلّفه لنا الأنبياء (ع)، فضلاً عن مواقفهم وجهودهم

الجبارة التي غيّرت مسار التاريخ، ولا تزال تحظى بقبول الغالبية العظمى من بني الإنسان، سوف يذعن بأنّ هذا النتاج وهذا الجهد العظيم ليس مجرد تخيّلات وأوهام تفتّق عنها ذهن إنسان عادي ولو كان عبقرياً، وإنّما هو نتاج إنسان مسدد وملهم ويوحى إليه من قبل الله تعالى.

 

 

ثالثاً: البراهين العقلية على حاجتنا للنبوّة

 

وباتضاح ذلك نأتي إلى استعراض أدلتنا على ضرورة النبوّة بما يبطل أساس الفكر الربوبي ويهدم بنيانه. ويمكننا في هذا السياق طرح البراهين التالية التي تثبت حاجة البشرية الماسة إلى النبوّة وهديها:

 

 

 

البرهان الأول: الأنبياء هم الأدلاء على الله

 

نسأل الربوبي: هل إنّ الإله الذي تؤمن به هو إله حكيم أم لا؟

إن كان إلهك حكيماً، وهذا ما يُتوقَّع أن تجيب به، فمقتضى الحكمة أن يعلن عن نفسه ويحدد للناس سرّ خلقه لهم، ويجيب على أسئلتهم، ومن أهم هذه الأسئلة: لماذا خلقهم؟ ولماذا كان خلقُهم على هذه الحال، أي مزيجاً مركباً من المادة والروح، من العقل والعاطفة؟ ولماذا لم

يخلقهم بطريقة لا يستطيعون معها فعل الشرور وتجنبهم الآلام والمصائب؟

 

وإذا لم يجب الله تعالى على هذه الأسئلة، فهذا يعني أنه لم يفعل مقتضى الحكمة، بل قرر أن يظلّ غامضاً، وهذا شيء لا نقبله في الله تعالى؛ لأنّ عقولنا التي آمنت بالله ورأته في كل آية من آيات هذا الكون البديع والمحكم، لا يمكنها أن تتقبل فكرة أن يكون هذا الإله غير حكيم، أو

أنّه يتعمد البقاء في دائرة الغموض والالتباس. وحيث إنّ فكرة الإله الغامض الذي قرر الاحتجاب عن خلقه، وعزم على أن لا يكشف لهم عمّا يريده منهم هي فكرة غير مقبولة لدى العقل البشري، فقد رأينا أنّ الغالبيّة العظمى من بني الإنسان لم تتفاعل مع دعوى الربوبيين، وهي

دعوى قديمة كما أشرنا سابقاً. وإنما وجدناهم وعلى رأسهم أهل الحكمة والرأي وحتى الفلاسفة، تفاعلوا بشكل منقطع النظير مع دعوى الرسل، لقناعتهم أنّ الإله الأقرب إلى وجدانهم هو الإله الذي يتواصل مع خلقه ويرسل لهم رسولاً، حتى أنّ فكرة الإله الذي اندمج بالإنسان

والتي تجسدت في المسيحية بفكرة الآب والابن والروح القدس، مع أنّها مرفوضة عندنا كمسلمين رفضاً حاسماً، فهي لم تبتعد عن هذا الجو المقتنع بأنّ الخالق لا يمكن أن يبتعد عن خلقه أو ينفصل عنهم ويبقيهم في حالة من الحيرة والضياع.

 

أيّها الربوبيون، إذا كنتم توافقوننا القول إنّ من واجبنا نحن البشر أن نتعرف على الله تعالى، وأن نتحرى عن مسؤولياتنا تجاهه، فإنّ من واجب الله تعالى باعتباره الحكيم اللطيف أن يظهر ذاته ويبيّن هويته ويفصح عن نفسه، ويحدد لهم العقائد التي يلزم العباد الاعتقاد بها حتى لا

تذهب بهم المذاهب يمينا وشمالاً. إذا كنا مسؤولين عن الاعتقاد، فهو مسؤول عن بيان العقيدة وعن مستلزماتها.

 

باختصار: إنّ ثمّة سؤالاً بسيطاً لا يستطيع الربوبيون تقديم إجابة شافية عليه، والسؤال هو ما هي الغاية من الخلق؟ فلماذا خلقتنا يا رب؟ وما هو هدفك من وراء الخلق؟

 

إنّ المذهب الرسولي (الذي يؤمن أتباعه بالرسل) لديه إجابة شافية على هذا السؤال، فهو يعتقد أنّ هدف الخلق هو إتاحة المجال أمام الإنسان للرقي الروحي والمعنوي والمادي، وأن يسعى في مضمار التكامل ما استطاع إلى ذلك سبيلاً ووصولاً إلى هذا الهدف، فقد أناط الله به

مهمة جليلة، وهي مهمة إعمار الأرض وإقامة مجتمع العدل فيها، فعلى الخليفة أن يعمرها بالأمن والعدل. ومن واجبه أيضاً أن يعبد الله تعالى؛ لأنّ العبادة هي حاجة للإنسان، وهي في الوقت عينه تعبير عن شكره وامتنانه للخالق على ما أعطى الإنسان من نعمٍ لا تعد ولا

تحصى، قال تعالى في القرآن: {وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إبراهيم - 34]. إن الأنبياء (ع) قاموا بدور الأدلاء على الله تعالى، وأظهروا حكمته وهدفيته.

 

 

 

هذا هو تصوّر المذهب الديني حول هدف الخلق، فبماذا يجيب أتباع المذهب الربوبي عن السؤال حول الهدف المذكور؟ ليس لديهم جواب شافٍ ومقنع، وهذا في الواقع اتهام للرب بأنّه غير حكيم، فكيف لك أن تؤمن بإله ليس حكيماً، ألا يكون عدم الإيمان والحال هذه أفضل؟

 

إنّ الله سبحانه وتعالى حكيم ولا يفعل العبث واللهو، وهذا ما تحكم به عقولنا، وترشدنا إليه نصوص كتابنا وهو القرآن الكريم، قال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون – 115]، وقال عزّ من قائل: {لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن

كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء – 17].

 

وبكلمة أخرى: لا يعقل في حق الحكيم أن يخلق الخلق، ثم يتركهم بدون هداية، ودون أن يحدد لهم ما يفعلون، وإلى أين هم سائرون ولماذا خلقهم؟ ولهذا وجدنا أنّ القرآن الكريم قد أكّد على الهداية وعطفها على الخلق، قال تعالى: {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ} [طه

– 50]، فكل شيء، أي كل موجود، من الإنسان أو الحيوان أو النبات قد خلقه الله، ثم رسم له طريقه وأعطاه ما يلزمه من الهداية، قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ} [الأعلى 2 – 3]. فالآية تذكر الخلق وتسوية البنية، ثم تذكر الهداية بشكل منفصل، ولا شك أنّ

أحد معالم الهداية هي النبوة التي تقوم بدور أساسي في توجيه الإنسان والأخذ بيده.

 

وفي آية أخرى ينكر الله على الذين يشككون في إرسال الأنبياء (ع) بقوله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ} [الأنعام – 91] ، فالذين يشككون في إرسال الرسل لم يعرفوا الله حق المعرفة، بل هناك نقص في توحيدهم، ثم تكمل الآيات في بيان

هداية النبوّة متجاوزة مسألة إمكان بعث الأنبياء إلى الحديث عن وقوع ذلك، فالنبوّة أمر واقع، وخير دليل على الإمكان هو الوقوع، وما على الإنسان إلا أن يدرس النبوات ليكتشف هدايتها، تقول الآيات: {أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ۖ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ۗ قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا ۖ إِنْ هُوَ إِلَّا

ذِكْرَىٰ لِلْعَالَمِينَ} [الأنعام – 90].

 

وفي خبر هشام بن الحكم عن الإمام أبي عبد الله الصادق (ع) إشارة إلى كلا الطريقين الذين أشارت لهما الآيات وهما: إنّ حكمة الله تقضي ببعث الرسل، وثانيهما: إنّ الواقع والتاريخ يؤكد وجود الرسل والأنبياء، فقد سأله الزنديق من أين أثبتَّ الأنبياء والرسل؟ قال (ع): «إنا لما

أثبتنا أن لنا خالقاً صانعاً متعالياً عنا وعن جميع ما خلق، وكان ذلك الصانع حكيماً متعالياً لم يجز أن يشاهده خلقه ولا يلامسوه، فيباشرهم ويباشروه ويحاجهم ويحاجوه فيسألوه عن واجباتهم، ثبت أنّ له سفراء في خلقه يعبرون عنه إلى خلقه وعباده، ويدلونهم على

مصالحهم ومنافعهم، وما به بقاؤهم وفي تركه فناؤهم، فثبت الآمرون والناهون عن الحكيم العليم في خلقه، والمعبرون عنه جل وعز، وهم الأنبياء (ع) وصفوته من خلقه حكماء مؤدبين بالحكمة مبعوثين بها».

 

ربّما يقول الربوبي: إنّ الهدف من الخلق موجود، وعدم البوح به لا يعني عدم وجوده، ولا تتوقف معرفتنا له على إرسال الأنبياء والرسل، فعقولنا كفيلة باكتشاف الهدف ومعرفته.

 

ونعلِّق على هذا الكلام بالقول: إنّ الأجدى والأجدر بالحكيم أن يبيّن لعباده الهدف وراء خلقه لهم، وأن لا يترك الأمر إلى اجتهادات الناس؛ لأنّ عدم بيانه سيوقعهم في الحيرة والاختلاف. على أنّ معرفة الهدف ليست هي الغاية الوحيدة لبعث الأنبياء، وإنّما هناك غاية أخرى لذلك،

وهي بيان الطريق الموصل إلى هذا الهدف المذكور، وهذه الغاية لا تقل أهميّة عن بيان الهدف نفسه، وقد تكفلت النبوات ببيان الطريق الموصل إلى الله، ولم تترك الأمر إلى عقول الناس، وإلا لاختلفوا وتنازعوا، وربّما لم يهتدوا إلى ذلك سبيلاً.

 

 

 

البرهان الثاني: الأنبياء (ع) والإجابة على أسئلة النفس

 

ونقول للربوبيين: إنّ عقولنا وعقولكم التي قادتنا وقادتكم للإيمان بالله تعالى، ألا تطرح عليكم أسئلة عن واجبنا أو مسؤوليتنا تجاه هذا الإله الخالق المنعم والصانع المبدع؟ ألا يجب علينا شكره على نعمائه؟ وكيف نشكره ونعبّر عن عرفاننا لجميله علينا؟

 

إنّ مذهباً فكرياً - كالمذهب الربوبي - لا يقدِّم أجوبة على أسئلة النفس المصيرية المشار إليها ليس جديراً بالاتباع، فهذا المذهب لا يمنحكم أيها الربوبيون الأمن الداخلي ولا الاطمئنان النفسي؛ لأنّه عاجز عن الإجابة على أسئلتكم! فكيف تتبعون مذهباً يبقيكم في حالة من الضياع

والحيرة والفراغ والخوف من المستقبل؟! بينما المذهب الرسولي المؤمن بالنبوة يجيب على كل تلك الأسئلة، فهو يعطي تصوراً شاملاً عن المبدأ والمعاد، عن العلة الفاعلية والعلة الغائية، ولا يُبقي سؤالاً جوهرياً إلا وسعى للإجابة عليه، ولا نقطة غامضة إلا وحاول إيضاحها.

 

إننا نسأل الربوبيين: هل تؤمنون بالمعاد أم أنّكم لا تؤمنون به؟ والعقل الذي تتغنون به هل دفعكم إلى سؤال ماذا بعد الموت أم لا؟ إن معتنقي الديانات السماوية يؤمنون أنّ ثمّة حياة أخرى لا بدّ أن يحياها الإنسان بعد الموت وتتم فيها محاكمته لينال المحسن جزاءه وينال العاصي

حسابه؟ فهل أنّ عقلكم الذي دفعكم للإيمان بالله عاجز عن الإجابة على هذا السؤال (ماذا بعد الموت)؟ أم أنّ لديه جواباً؟ وإذا كان ثمّة جواب فهل هو بالإيجاب أم بالسلب؟

 

1-إذا كان الجواب بالإيجاب، أي نفترض أنكم آمنتم بالمعاد وأقررتم بأنَّ الحياة لا تنتهي بالموت بل ثمّة حياة ونشأة أخرى، وأنّ الدنيا مزرعة الآخرة، وأنّ الناس صائرون إلى الله وأنهم إلى ربهم يحشرون، فنحن نسألكم عندئذٍ: ما الذي على الإنسان أن يعدّه لتلك السفرة الطويلة،

وبماذا يتزوّد لتلك الرحلة المجهولة المعالم؟

 

لا يمكنني أن أصدّق، ولا يفترض بكم لو جردتم أنفسكم للحقّ، أن تصدقوا أنّ عقلكم يستطيع بمفرده أن يحدد لكم المسار الصحيح ويكشف النقاب عمّا يحتاجه الإنسان في تلك الرحلة بشكل يُطمأن به، فالعقل وإن قيل إنّه قادر على الحكم بضرورة وجود يوم للحساب يُنتصف فيه

للمظلوم من ظالمه ويُعطى فيه كل ذي حق حقه، لكنّه يظلُّ قاصراً عن إدراك كنه ذلك العالم ومعرفة موازينه وعاجز (وهذا هو الأهم) عن معرفة ما الذي يحقق ويضمن السعادة للناس في ذلك اليوم، إنّه عالم مجهول بالنسبة إلينا فهو غيب من غيب الله تعالى، وعقولنا قاصرة

عن الإلمام به بشكل وافٍ وإدراك كنهه. وكذلك، فإنّ العلم مهما تقدّم أو تطوّر فإنّه غير كافٍ لتقديم الجواب الشافي بشأن عالم الآخرة، وتحديد الأشياء الضارة والنافعة للسعادة الأخرويّة، بل إنّ العلم أساساً قد لا يستطيع أن يثبت وجود نشأة أخرى وإنْ كان لا يستطيع أن ينفي

ذلك.

 

وبكلمة أخرى: إننا لا نعقل ولا نتصور أنّ الخالق الذي قرر إعادة نشر أجساد الناس بعد الموت ليحاسبهم، يمكن أن يتركهم دون أن يحدد لهم ما هو المصباح الذي يحملونه بأيديهم، ويضيء لهم طريق الآخرة؟!

 

2-وأمّا إن كان الجواب بالنفي، أي لم تؤمنوا بالآخرة، فإننا نسألكم: لماذا تنكرونها وعلى أي أساس لا تؤمنون بها؟ هل لأن المعاد محال؟ أو لأنه لم ينهض دليل عندكم على الإيمان به؟

 

أ-أمّا دعوى استحالة المعاد، فلا أخال عاقلاً آمن بالله تعالى يتفوّه بها، لأنّ الله إذا كان قادراً على الإيجاد فإنّه قادر على الإعادة.

 

ب-وأمّا إن ادعيتم عدم نهوض دليل على المعاد، فإننا نتوجه إليكم بالسؤال: ألا تجدون أنّ ثمّة أسئلة تفرض نفسها وهي التي تُعرف «بأسئلة المصير»، وتلحّ على كل إنسان وتقتحم عليه نومه ولا تفارقه على الدوام، وعمدة هذه الأسئلة هي: نحن من أين؟ وإلى أين؟ وفي أين؟

 

فهل يعقل أن تواجهوا هذه الأسئلة، ومنها: سؤال إلى أين؟ أو ماذا بعد؟ بنحوٍ من اللامبالاة؟!

 

فإننا لم نجد لديكم إجابات على هذه الأسئلة الوجدانية، بينما الفكر الديني قد قدّم إجابات عليها وكانت إجابات مقنعة لمعظم البشر، فقال - أقصد الدين - للإنسان: إنّك من الله، وإلى الله سبحانه تعود {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}[البقرة – 156]. وقد قامت الحجّة على الإنسان بذلك

من خلال الرسل، قال تعالى: { إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَىٰ نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ ۚ وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَىٰ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ ۚ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا * وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلًا لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ ۚ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيمًا * رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء 163-165].

هكذا أجاب الفكر الديني، فبماذا تجيبون أنتم؟

 

ربما يقال: إنّ الملحدين والربوبيين يستطيعون الإجابة على هذه الأسئلة أيضاً، وذلك بإرجاعها إلى كونها نتيجة طبيعيّة لحالةِ الخوف من الطبيعة وظواهرها المخيفة.

 

ويلاحظ على ذلك بأنّ هذا الجواب التقليدي والمستهلك غير مقنع، فالإنسان قد امتلك ناصية الطبيعة، ولم يعد خائفاً منها، ومع ذلك فإنّ هذه الأسئلة لا تزال تلحّ عليه يوماً بعد يوم.

 

وقصارى القول في البرهان الثاني، هو أنّ من أبرز وجوه الحاجة إلى الأنبياء (ع) أنّهم قدموا أجوبة شافية على أسئلة المصير، وشكّلت أجوبتهم أساساً ومرتكزاً متيناً للاستقرار الروحي، لأنّها وبحقٍ قد منحت الإنسان الأمن والاطمئنان بشكل منقطع النظر: {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ

الْقُلُوبُ} [الرعد -28].

 

 

 

البرهان الثالث: الأنبياء (ع) ودورهم في الهداية المعنويّة

 

إنّ الإنسان كائنٌ متعدد الأبعاد، وأهمها: البعد المادي، والبعد الروحي، وهو متكوِّن من جسدٍ وروح، ولكل هذه الأبعاد متطلباتها، فكما هو بحاجة إلى إشباع حاجات جسده المادية فهو بحاجة - أيضاً - إلى الإشباع الروحي. وتوفّر الإنسان على البعد المعنوي والروحي أمر لا

ينكر.

 

والسؤال: ما الذي يضمن للإنسان طريق التكامل في الجانب المعنوي ويؤمن له الإشباع الروحي؟

 

وقبل الجواب نشير إلى أنّ هناك بعداً ثالثاً في الإنسان (غير البعدين المادي والروحي)، وهو البعد الاجتماعي، فالإنسان كائن اجتماعي بطبعه ولا يمكن أن يعيش بعيداً ومنعزلاً عن بقيّة الناس، والسؤال: من الذي يحدد متطلبات هذا البعد ويصيغ علاقات الإنسان مع الآخرين من

بني جنسه وينظمها؟

 

إننا نعتقد أنّ أهم وظائف الأنبياء (ص) ومهامهم هي إعداد البرنامج الذي يلبي حاجات ومتطلبات الإنسان في أبعاده الثلاثة المشار إليها، فهو برنامج يشبع متطلبات الروح والمادة ويحفظ التوازن بينهما، كما أنّه يضع له البرنامج الاجتماعي الأمثل الذي يحدد علاقاته بالآخرين

ويبيّن ما له وما عليه، والواقع أنّ الأنبياء (ع) قد قاموا بهذه المهمة على أكمل وجه وأتمّه.

 

وسوف أخصص هذا البرهان (الثالث) للحديث عن البعد الروحي في الإنسان، ودور الأنبياء في تقديم الغذاء الروحي له، بينما نخصص البرهان الرابع الآتي لبيان دور الأنبياء على الصعيد الاجتماعي، وأما البرهان الخامس فسيدور الحديث فيه عن البعد المادي وما يمكن للنبوّة

أن تقدّمه على هذا الصعيد بما يخرج الإنسان عن كونه مجرد كائن لا يهتم سوى بملذاته وشهواته.

 

وقصارى القول في بيان ما يشبع البعد الروحي، أنّ النبوات قدّمت منظومة متكاملة يضمن الالتزام بها وصول الإنسان إلى السعادة الروحية والهداية المعنوية.

 

قد يقولن قائل : إنّ ذلك كله مما يتكفل به الإنسان وحده، من خلال ما أودعه الله فيه من الفطرة السليمة والعقل السوي، مستعيناً بتجارب الآخرين وعقولهم، ومَنْ يمتلك العقل والفطرة فلا يحتاج إلى الأنبياء والرسالات السماوية.

 

والجواب: إنّ الفطرة - أو الوجدان - لا تستطيع أن تشكّل الضمانة الكافية لهداية الإنسان ووصوله إلى مرحلة الكمال على المستوى المعنوي والروحي، لأنّ الفطرة قد تتلوّث، وهي بحاجة إلى من يسددها ويصقلها ويكتشف العناصر الطيبة فيها فينميها، كما هو الحال في الطفل

الذي يحتاج إلى من يكتشف مواهبه، والشاهد على ما نقول: أننا قد رأينا الإنسان في مسيرته التاريخية ومع امتلاكه للفطرة الصافية قد وقع ولا يزال في الأخطاء الكبيرة والانحرافات الخطيرة التي أبعدته عن خط الفطرة، ما يعني أنّ امتلاكه الفطرة لم يحل المشكلة ولم يكن كافياً

لهداية أفراد البشر، قال رسول الله (ص): «كل مولود يولد على الفطرة ولكن أبويه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه».

 

وما قلناه بشأن الوجدان أو الفطرة نقوله أيضاً بشأن العقل، فإنّ العقل البشري مهما سمى وبلغ في درجات الكمال واكتشف من المعارف وأبدع في الصنع واستطاع أن يضع القوانين والنظم.. ولكنه يبقى عقلاً بشرياً، والبشر مجبول على النقص ولا يستطيع أن يتخلّص من الخطأ،

ولذا فالعقل - مع أهميته ودوره في هذا المجال - قد يخطئ في التشخيص، فيبقى بحاجة إلى هادٍ يهديه، ويصوّب مسيرته، ويسدد خطواته، كما أوضحنا ذلك في المحور الثاني، ولذا نؤمن نحن أتباع الفكر الديني أنّ الإنسان بحاجة إلى هدي الوحي وهدي العقل معاً، وهذا ما

سيتضح أكثر في ثنايا مقالات أخرى..

 

 

البرهان الرابع: الأنبياء (ع) وسنِّ القوانين والدفع نحو امتثالها

 

أمّا فيما يتصل بالبعد الاجتماعي، فإنّ الإنسان - كما قلنا - مدني بالطبع ولا يعيش إلا ضمن الجماعة، والحياة الاجتماعية لا بدّ لها من قانون يحكمها؛ لأنّ الاجتماع مظنة التصادم والاختلاف الناتج عن وجود غرائز لدى الإنسان: مثل غريزتي حبِّ الذات وحب التملك، وما ينتج

عنها من حسد وجشع وأنانية، أو غريزة الغضب وما ينتج عنها من عدوانية تجاه الآخر. إنّ ذلك سوف يدفعه إلى التعدي على الآخرين ويؤدي - لا محالة - إلى التشاجر والتنازع، الأمر الذي يفرض الحاجة إلى القانون الذي ينظم هذه الحياة، ويمنع البغي والظلم ويعطي كل ذي

حق حقه.

 

والسؤال مَنْ هو الذي يسنُّ القانون وينظم العلاقات ويرسم الحدود بين بني الإنسان؟ هل يستطيع العقل وحده دون إرشاد من الوحي أن يضع القانون الأكمل؟

 

وليكنْ واضحاً أننا لا نتحدث هنا عن التفاصيل الجزئيّة القانونيّة والتشريعيّة، فإنّ هذه الأخيرة هي أحكام متغيرة. وأخال أنّ الانسداد الذي أصاب واقعنا الإسلامي هو نتيجة الجمود الذي أصاب العقل الفقهي فحال دون تطوير الاجتهاد حتى في التفاصيل المتحركة، وهو الأمر

الذي أعطى انطباعاً بعدم صلاحيّة الشريعة للمواكبة. وإنما نتحدث هنا عن المبادئ القانونيّة الثابتة والتي تنظّم وتضبط حركة الاجتماع البشري.

 

بالعودة إلى السؤال المذكور نقول: إنّ النبوّات قدمت ولا تزال قادرة على تقديم الكثير على الصعيد التشريعي الناظم لحركة المجتمع. ويمكن أن نقدِّم وجهتي نظر في هذا المجال:

الأولى:

إنّ النبوّة تستطيع أن تسهم في تشريع القانون الأمثل والأفضل لنظم الحياة الإنسانية، وبياناً لذلك نقول: إنّ القانون ليكون كاملاً فلا بدّ أن يتوفر في واضعه شرطان:

 

أ-أن لا يكون واضع القانون مستفيداً منه استفادة خاصة.

 

ب-أن يكون عالماً بمن يقنّن لهم.

 

والوجه في الشرط الأول واضح، باعتبار أنّ المنتفع بالقانون لن يضع القانون إلا بما يخدم مصالحه، كما نلاحظ في أيامنا حيث تُفصّل القوانين على قياس الزعماء والملوك وطبقاً لمصالحهم الخاصة.

 

والوجه في الشرط الثاني واضح أيضاً، لأنّ المقنن إن لم يكن عالماً بمن يشرِّع له فسوف يأتي قانونه قاصراً، وربما أوجد المشاكل بدل أن يحلَّها.

 

وكلا هذين الشرطين لا يتوفران بصورة كاملة في الإنسان، وإنّما هما متوافران بصورتهما المثلى في الله سبحانه؛ وذلك لأنّ الإنسان في الأعم الأغلب يضع القانون الذي يخدم مصالحه ولن يستطيع التجرد عن ذاتياته وغرائزه وعواطفه، بينما الله سبحانه فهو لا ينتفع من القانون

وليس له مصلحة خاصة من وضعه إلا تربية عباده ونظم أمورهم، هذا بالنسبة للشرط الأول. وأما الشرط الثاني فتوفره بالنحو الأكمل والأتم في الله عز وجل واضح، بينما الإنسان مهما بلغ علمه ومعرفته فسوف يبقى جاهلاً بالكثير مما يصلحه ويفسده، أما الله تعالى فهو العالم

بحقيقة عباده وما يصلحهم وما يفسهدهم، قال تعالى: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك – 14].

 

وعلى ضوء ذلك تكون الحاجة إلى الأنبياء نابعة من الحاجة إلى القانون الأمثل، وربما كان قوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد – 25] مشيراً إلى هذا المعنى.

الثانية:

 

ثمّ على فرض التسليم بقدرة الإنسان على اكتشاف القوانين الكفيلة في تنظيم حياته ولو من خلال التجارب الاجتماعية وتراكم المعرفة، بيدّ أنّ القانون الإلهي ينطلق من رؤية وجودية متكاملة قد خطّت للإنسان مساراً في هذه الحياة وهو مسارٌ نابع من أنّ هذه الحياة، هي مرحلة

مهمة أنيط إلى الإنسان فيها دور خلافة الله على الأرض وكلّف بإعمارها، لتبدأ بعد ذلك المرحلة الأعم، وهي مرحلة الحياة الآخرة ليجني فيها الإنسان ما زرعه في الحياة الدنيا، فيقف بين يدي الله ليحاسبه على ما فعل وليحيا في جواره الحياة الأبدية، ويقابل ذلك رؤية مادية لا

تنظر إلى الإنسان إلّا بحجم عالم الدنيا وما يحقق له السعادة فيها دون أن تقدِّم تصوراً عما بعد الموت.

 

ثمّ إنّ الإيمان بأنّ القوانين تنتسب إلى الله تعالى يمنحها قوّة خاصة وزخماً كبيراً يساعد على تطبيقها، ويعطي المؤمن بالله دفعاً روحياً خاصاً يجعله يتحرّك لامتثالها، لأنّه في الحقيقة يعبد الله ويتقرّب إليه بامتثال هذه القوانين، كما أنّه يستحضر رقابة الله تعالى قبل رقابة الضابطة

العدلية.

 

ولو شكّك مشكك في أهميّة دور الأنبياء (ع) على صعيد تنظيم المجتمع، على اعتبار أنّ الأجدى في أمر القوانين هو أن تترك إلى العقل البشري واجتهاده الذي يراعي تغيّر الحياة، فلا أظنّ أحداً ينبغي أن يشكّك في أنّ القوانين تحتاج إلى ضمانات لتطبيقها. ولا ريب أنّه بالإضافة

إلى الرقابة القضائية التي تكفل إلى حدٍ كبير تطبيقها، فإنّها بحاجة إلى حوافز أخرى ومن نوع آخر، وهي الحوافز الروحية التي تضخ في القانون بعداً روحياً كبيراً، وليس ثمّة أقوى من الإيمان على هذا الصعيد، حيث يدفع الإنسان المؤمن إلى الالتزام بالقوانين من موقع أنّه يعبد

الله بذلك كما يعبده بالصلاة والصيام، فالحياة كلّها في شتى مواقعها وساحاتها في بيوتها وأسواقها هي معبد ومختبر لإرادة الإيمان. وأما لو كانت القوانين من وضع الإنسان نفسه فلن تمتلك القداسة نفسها التي تمتلكها القوانين والتعاليم والإرشادات التي جاء بها الأنبياء (ع)،

استناداً إلى وحي الله تعالى، أو أمضوها وأقروها، ولا يشعر أنّه يتعبّد إلى الله تعالى بالتزامها. إنّ الإيمان بالمبدأ والمعاد يسهم في بناء شخصية مسؤولة فاعلة، فالمؤمن بالله وبيوم الحساب ليس لديه عبثيّة فكرية، ولا تفلت سلوكي أو أخلاقي، وإنما هو شخص يعيش حسّ

المسؤولية والانضباط لأنه يتحرك في مسار واضح المعالم فهو من الله وإليه يعود؛ ولهذا فإيمانه يعطيه للحياة معنى وقيمة، ويجعلها متقبلاً لظروفه مهما كانت مرّة وصعبة، ولذا فهو في أصعب الأحوال التي تمرّ عليه وأقساها يندفع بإيجابيّة عالية للرضا بما قسم الله تعالى له،

لأنّ كل ما ألمّ ونزل به هو بعين الله تعالى، وهو سوف يعوّضه رضوانا وسلاماً أبدياً على كل معاناته وآلامه وصبره على الأذى، ولن يضيع أجره، دون أن يعني ذلك الاستسلام لهذا الواقع بل إنّ المؤمن مدعو للعمل على تغيير الواقع نحو الأفضل بالطرق الملائمة والمشروعة،

وهكذا يغدو الإيمان طاقة خير مبدعة وخلاقة وليس سبباً للجمود ولا للكراهية. فالمؤمن شخصٌ ملتزم وليس متعصباً وشتان بين الأمرين، فالمتعصب إنسان مريض يفتك به الحقد، وقد يقتله قبل أن يقتل غيره، أما الإنسان الملتزم فهو يعيش الانتماء للقضيّة التي يؤمن بها ويمارس

إيمانه بكل شجاعة.

 

وقصارى القول: إنّ حاجتنا إلى الأنبياء (ع) على الصعيد الاجتماعي هي حاجتنا إلى من يضع القوانين، أو على الأقل إلى ما يضخّ في القوانين والتشريعات روحاً وحيويّة خاصة، هي روح الإيمان بالله تعالى.

 

 

 

البرهان الخامس: الأنبياء والمنظومة الأخلاقية

 

إنّ الإنسان في رحلته في هذه الحياة معرّض للسقوط والغرق في وحول المادة وشباك الغريزة، فقد ينحدر وينحرف عن الخط المستقيم، ويبتعد عن القيم وتصبح الدنيا وزخارفها كل همّه وتغدو نظرته للأمور نظرة ماديّة بحتة، يقيس الأمور بالأرباح والخسائر المادية، ولهذا فهو

بحاجة إلى منظومة من القيم الأخلاقية التي تسدد خطاه وتصوّب مسيرته وتكون منارات هداية له. ولا يكفي التنظير في هذا المقام، فالأخلاق لا يكتسبها الإنسان من المعلم والأستاذ كما يكتسب مادة الرياضيات مثلاً، وإنما يكتسبها من خلال سلوك المعلّم، فلا بدّ من وجود مثلٍ

أعلى يتمثّل الخُلق السوي ويجسدّه في حياته فيشكّل من خلال ذلك منارة وعَلَمَ هداية، وهذا ما يربي الإنسان على الآداب والأخلاق.

 

باختصار: إنّ الحياة تحتاج إلى القيم والأخلاقيات والمعنويات وبدون ذلك تتحول إلى جحيمٍ لا يطاق، وإلى ما يشبه الحياة الحيوانية القائمة على الافتراس والتوحش.

 

والسؤال: من الذي يضع ويقرّ المنظومة الأخلاقية الهادية للإنسان، ومَنْ الأجدى بأن يشكّل علم هداية على هذا الصعيد؟

 

ربما يجيب الربوبيون بأنّ الأخلاق فطريّة في الإنسان النبيل ولا تحتاج إلى وحي مقدس. ونحن نعتقد بفطرية المبادئ الأخلاقية، لكننا لا نرى ذلك كافياً، لأنّ الفطرة قد تتلوث، فتحتاج إلى من يعيدها إلى أصالتها، وقد قدمنا كلام أمير المؤمنين علي (ع) وهو يحدد وظيفة الأنبياء

(ع)، حيث قال (ع): «ليستأدوهم ميثاق فطرته» ، أي ليطلبوا إلى الناس أداء ميثاق الفطرة. ولهذا لن نجد أصلح لمهمة وضع الضوابط الأخلاقية من رسل الله الذين يتلقون من خلال الوحي ما ينفع الإنسان ويهذب أخلاقه ويزكي نفسه، فإنّ خالق الإنسان ومصممه هو الأعلم بما

يصلحه وينقذه من أوحال الانحطاط وبراثن الأحقاد. وبالفعل فقد لاحظنا أنّ المنظومة الأخلاقية التي يحتاجها الإنسان قد تكفّلت بها الأديان السماوية، وشكّلت حجر الزاوية في رسالتهم، ومن هنا لخّص النبي محمد (ص) هدف نبوته بالقول المروي عنه: «إنما بعثت لأتمم مكارم

الأخلاق» وقد أُثِرَ عن نبي الله عيسى بن مريم (ع) أنه قال: «لا تظنّوا أنّي جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء. ما جئت لأنقض، بل لأكمل».

 

وفي مهمة التربية الأخلاقية، لا تكفي الفكرة والموعظة المجردة، بل لا بد من المثل والنموذج الذي يعمل على تجسيد الفكرة في سلوكه وتمثلِّها في حياته. ومن هنا كانت المشيئة الإلهية أن يتمّ اختيار الأنبياء (ع) من جنس البشر لا من جنس آخر كالملائكة مثلاً.. فإنّ البشر

يتفاعل مع جنسه، ويُحتج عليه بنوعه، ومن غير المنطقي أن يؤمر بالاقتداء بكائن يحمل مؤهلات تختلف عن مؤهلاته، فذلك لا يقطع عذر الإنسان لو أراد التهرّب من الأخذ والالتزام بمكارم الأخلاق.

 

وبما ذكرناه يتضح أنّ وجود الدين ورسالته الأخلاقية الهادفة ضرورة للبشرية، وإذا لم يكن هناك أديان في المجتمع فعلينا وعلى كل العقلاء أن يعملوا على بثِّ روح الدين في المجتمعات، لما يعني ذلك من بث القيم والأخلاق. إنّ الدين من خلال تشريعاته الأخلاقية والعبادية

والشعائرية يفترض أن يساهم في تنظيم الحياة، وتهذيب الأخلاق.

 

باختصار: إنّ تعاليم الأنبياء (ع) الآمرة بالعدل والإحسان وردّ الأمانة وحفظ السرّ ومساعدة الفقير وكفّ الأذى عن الآخرين، أو الناهية عن السرقة والاعتداء على الغير والتجسس عليه وفضح معايبه وكشف أسراره.. هي ضرورة وحاجة ماسة للإنسان، وهذه التعاليم حتى لو

قال بها المصلحون، ونادى بها الحكماء، أو كانت - في جانب معيّن - تعاليم فطريّة أو يدركها العقل، فإنّ صدورها من الناطقين باسم الله تعالى، وهم الأنبياء (ع) له وقعه الخاص في النفوس وتأثيره البالغ. فإنّ ذلك يساهم في إيجاد وخلق رقابة ذاتية عند المؤمن بالله بما يدفعه

لامتثال تلك القوانين والتزام تلك الأخلاق حباً بالله أو خوفاً من حسابه، وهذا معنى ما جاء في القرآن أنّ وظيفة النبي إنقاذ الناس من الضلال إلى الهدى وأنّ وظيفة الكتاب المقدس هو هداية الناس، قال تعالى {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ

وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} [الجمعة – 2].

 

 

الأخلاق ورفد القانون

 

ولقائل أن يقول: إنّ القوانين الوضعيّة كفيلة في حال تطبيقها بضبط الإنسان والحدّ من نزعته العدوانية، والرقابة والمحاسبة القضائية في هذا المجال تكفي لضمان تطبيق تلك القوانين، فلا موجب للحديث عن الأخلاق وعن الرقابة الإلهية، فحديث الأخلاق والروح والرقابة الإلهية

هو حديث الشعوب غير المتحضرة والتي تتراجع فيها سلطة القضاء والقانون، وتسودها شريعة الغاب، فيراد التخفيف من عدوانية الإنسان فيها ومن وحشيته، وذلك بصياغة منظومة أخلاقية توصي بالتزام الأخلاق النبيلة.

والجواب:

إنّ الذين تعاملوا مع الإنسان بهذه الطريقة جنوا على البشرية، وجرّوا عليها الويلات. إنّ تجويف الإنسان من البعد الروحي والأخلاقي حوّل الإنسان إلى ما يشبه الآلة الجامدة والوحش الكاسر الذي همّه «الأنا» وتأمين مصالحه ولو على حساب أوجاع الآخرين.

 

إنّنا لا نضع الأخلاق بديلاً عن القانون، وإن كنا نتطلع إلى عالم يسوده الخلق السوي ولا يعود الإنسان فيه بحاجة إلى الرقابة القانونية، ولكنّ هذا أشبه بالحلم في أن نعيش في مدينة ملائكية فاضلة؛ لأننا عندما نتحدّث عن الإنسان فنحن نتحدّث عن عالم تتشابك فيه المصالح

والمبادئ، وتتصارع فيه النفس اللوامة مع النفس الأمّارة، وتتزاحم فيه الغرائز والعواطف، وكثيراً ما ينتصر الحقد على الحبّ، وتنتصر الغريزة على العقل، وتتقدّم المصالح على المبادئ، وتلتهم الغرائز إنسانيّة الإنسان وتحوله إلى وحش كاسر يفتك دون رحمة ويقتل دون

إحساس أو شعور بالذنب. ومن هنا تنشأ حاجتنا إلى القانون الذي ينظّم ويحاسب ويحاكم، وحاجتنا إلى النظام الذي يحكم بالعدل ويمنع التعدي ويأخذ على يد الظالم والمجرم والمفسد، ولا شكّ أنّ صرامة القانون ستساهم في إيجاد قوّة ردعٍ كبيرة في النفوس، وبذلك تحصل العبرة

ويتعظّ الكثيرون من ذوي النوايا الإجرامية، وبهذا الاعتبار أو اللحاظ يكون القانون بما في ذلك قانون العقوبات رغم قسوته مظهر رحمة بالإنسانية، إذ لولاه لساد الهرج والمرج وعمّت الفوضى، فمبدأ المحاسبة أو نظام العقوبات هو لحماية الحياة الإنسانيّة وحفظ استقرارها،

وهذا ما أشارت له الآية المباركة، وهي قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} [البقرة – 179]، فمحاسبة الفرد على إجرامه لا ترمي إلى التشفّي أو الانتقام منه، وإنّما تهدف

إلى إصلاحه وتأديبه من جهة، وإصلاح وحماية المجتمع من جهة أخرى.

 

هذه هي فلسفة القانون ومبرّر وجوده، بيد أنّ ذلك على أهميته لا يفقد القيم الأخلاقيّة وعلى رأسها قيم الحبّ والعفو والتسامح وغيرها أهميتها في المجال الاجتماعي والإنساني، شريطة أن نعمل على تحويل هذه القيم إلى ثقافة عامة نبشّر بها ونربي الأجيال عليها، وهذا سوف

يساعد على تحقيق الغاية التي من أجلها وضعت القوانين وسُنت الدساتير والشرائع، وهي تحقيق الانتظام والاستقرار الاجتماعي والاقتصادي والأخلاقي؛ إنّ مفعول قيمة المحبّة - إذا أحسنّا تربية الأجيال عليها - هو أقوى من كلّ القوانين وأبلغ أثراً من كلّ القرارات، فالقوانين

بإلزاميتها وقسوتها وصرامتها تستطيع أن تحاسب المعتدي وتقتصّ من المجرم أو تزجّه في السجون، لكنّها لن تملك أن تصنع منه إنساناً فاعلاً ينبض بالحبّ والعاطفة، إنساناً مشاركاً في صنع الحياة. القانون - ولو كان عادلاً - لا يعرف العاطفة ولا الرحمة، وإن كان مبدأ العقوبة

هو مظهر رحمة بالإنسانية كما أسلفنا، أمّا قيمة الحبّ - عنيت بذلك حبّ الإنسان للإنسان وحبّه للخير وللجمال - إذا ترجمناها إلى ثقافة عامة نبشّر بها وجسّدناها في سلوكنا وسلوك مَنْ حولنا وحوّلناها إلى نماذج تحتذى وتقتدى، فإنّها ستخترق كلّ الحواجز والسدود وستخفف من

الظلم والتعدّي والجريمة، فتكون بذلك صنواً للقوانين والتشريعات ومكمّلة لها، بل إنّها قد تلغي الحاجة إليها في الكثير من الأحيان، لأنّ المتحابيْن في الله أو في الإنسانية لن يسمحا لخلافهما في أيّ أمر من الأمور أن يتحوّل إلى صدام واحتراب.

 

إنّنا نحتاج ونحن في زمن تتقدم فيه الأحقاد إلى قيمة الحبّ، لا لأنّها تُخفِّف من حالات التحاكم إلى القانون والقضاء فحسب، بل نحتاج إليها حتى بعد تطبيق القانون وبعد الترافع إلى القاضي وصدور الحكم. فإنّ صرامة القانون وشدّته قد تُنَمِّي الأحقاد في النفوس وتجعل الشخص

الذي طاله سيف القانون يفكر بالانتقام ويخطط له، ومن هنا نجد أنّ الكثيرين من الناس الذين يُحكمون قضائياً بدخول السجون يخرجون منها بعد انتهاء محكوميتهم وهم أكثر إجراماً وعدوانيّة، ولهذا يكون من الضروري والملحّ العمل على إصلاح السجناء وفْقاً لبرنامج تربويّ

هادف، لا تركهم في حالة مزرية، لتكون النتيجة ما هي عليه الحال في الكثير من السجون في بلداننا والتي يدخلها الشخص بسبب جنحة صغيرة ويخرج منها مجرماً محترفاً!

 

وإننا على يقين بأنّ رسالة الدين هي رسالة حبّ لا رسالة كراهية أو حقد، وأنّ من أهمّ القيم التي بشّر بها الأنبياء هي قيمة الحب، بالرغم من كون هذه القيمة أصبحت غائبة عن قاموسنا كما هي غائبة عن مجتمعات المتدينين! وقد تناولنا علاقة الدين بالحب في كتاب مستقل وهو

كتاب «وهل الدين إلا الحب؟» فليراجع.

 

ومن جهة أخرى، فإنّ منْ ينبض قلبه بالحبّ، حبّ الله وحبّ الإنسان، لن يتصرّف مع من يعتدي عليه أو يظلمه من منطلق التشفّي أو الانتقام ولو قدر عليه وتمكّن منه، بل سيسمو به الحبّ ليعفوَ ويسامح، فالعفو عند المقدرة شيمة الكرام، والتشفّي والانتقام ولو من الظالم هو شيمة

اللئام، يقول أمير المؤمنين عليّ (ع) فيما يُروى عنه: «فلا يكن أفضل ما نلت في نفسك من دنياك بلوغ لذة أو شفاء غيظ، ولكن إطفاء باطل وإحياء حقّ».

 

 

 

لهذا كانت النبوّة من أصول الدين

 

وإذا كانت النبوّة قد مثّلت - كما سلف - استجابة وتلبية لاحتياجات الإنسان، وكان لها هذا الدور الكبير في بنائها فرداً ومجتمعاً، وقامت بهذه الوظيفة العظيمة في هدايته وإرشاده، كان من الطبيعي أن تكون أصلاً من أصول الدين، ويتوقف الانتساب إلى الدين على الإيمان بها. إنّ

الإيمان بالنبوة يعني حكماً بناء تصورنا عن الحياة وتحديد مواقفنا وسلوكياتنا فيها على ضوء ذلك الإيمان. ومن هنا فإننا نعتقد أنّ للإيمان كيمياءً خاصة، وهو ليس مجرد طقوس جوفاء وفارغة من الروح والمعنى، إنّ الإيمان الحقيقي لا بدّ أن يحدث تغييراً شاملاً وتاماً في حياة

الإنسان وبنائه الثقافي في تصوراته وسلوكه وعلاقاته ومشاعره، فكل ذلك لا بدّ من صوغه على ضوء الاعتقاد بالنبوّة، قال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ۚ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ ۚ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۖ غُفْرَانَكَ

رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة – 285].

 

ونظير هذه الآية قوله تعالى: {قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [آل عمران – 84].

 

ونلاحظ أنّ الآية الأولى أكّدت على لزوم الإيمان بالرسل، والثانية على ضرورة الإيمان بما أُنزل على الرسل، واشتركت الآيتان في عدم جواز التفريق بين الأنبياء، فإيماننا بهم لا يصحُّ تجزئته، فالجميع رسل الله أو أنبياؤه ولا يحق لنا أن ننكر أحداً منهم، أو نأخذ منه موقفاً سلبياً

حتى لو كان أتباع هذا النبي (ص) ظالمين منحرفين، وقد عدّت بعض الآيات التفريق بين الرسل كفراً، قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَٰلِكَ سَبِيلًا} [النساء - 150].

 

 

 

وإذا سأل سائل: ولماذا توقفت النبوات إذن؟

 

نقول: إنّ هذا السؤال مشروع وستأتي الإجابة عليه في مقالة أخرى إن شاء الله تعالى.

 

 

نُشر المقال على الموقع في 19-6-2018

 






اضافة تعليق

الاسم *

البريد الإلكتروني *

موضوع *

الرسالة *


 


 
  قراءة الكتب
 
    Designed and Developed
       by CreativeLebanon