حوار مع مركز أفاق للدراسات والأبحاث: مشكلة الأديان تتشكل في الخطاب الفقهي    ثمن الحرية    أمثل الأساليب في عمليّة تهذيب النفس    مزايا الشباب    العمل سرّ النجاح    العبادة وعيٌ وانفتاح لا جهل وانغلاق    اقتناء أصنام الأمم البائدة    المفاهيم الدينية بين وجوب الاعتقاد وحرمة الانكار    البناء الاعتقادي بين الاجتهاد والتقليد    
 
بحث
 
تكريم الإنسان
 
س » كم كان عمر الزهراء (ع) حين زواجها من أمير المؤمنين (ع)؟ هل صحيح أن الإجماع هو على التسع من عمرها؟
ج »
 
▪️يوجد اختلاف كبير بين العلماء في تحديد عمر سيدتنا الزهراء سلام الله عليها حين زواجها من أمير المؤمنين عليه السلام، وتترواح هذه الأقوال بين تسع سنوات وعشرين سنة.
 
▪️مرد هذا الاختلاف إلى أمرين:
 
- الأول: الاختلاف في تاريخ مولدها، فهل ولدت قبل البعثة بخمس أم بعدها بخمس أو باثنتين؟ 
 
- الثاني: الاختلاف في تاريخ زواجها من أمير المؤمنين عليه السلام، حيث إن ثمة خلافاً في أنها تزوجت بعد الهجرة إلى المدينة بسنة أو بسنتين أو بثلاث.
 
▪️المعروف عند كثير من المؤرخين - كما ينقل التستري في تواريخ النبي (ص) والآل (ع) - أنها ولدت قبل البعثة النبوية بخمس سنين، وهذا ما ذهب إليه محمد بن إسحاق وأبو نعيم وأبو الفرج والطبري والواقدي وغيرهم، وعلى هذا سيكون عمرها حين الزواج ثماني عشرة سنة أو يزيد.
 
▪️ ونقل العلامة الأمين "أن أكثر أصحابنا" على أنها ولدت بعد البعثة بخمس سنين، وعلى هذا سيكون عمرها حين الزواج تسعاً أو عشراً أو أحد عشر عاماً، تبعاً للاختلاف في تاريخ الزواج.
 
⬅️ الظاهر أنه ليس هناك إجماع على أنّ عمرها عند الزواج بها كان تسع سنوات، فقد ذهب الشيخ المفيد في "مسار الشيعة" أنها ولدت بعد مبعث النبي (ص) بسنتين، وهو ظاهر الشيخ الطوسي في المصباح، بل نقل الشيخ عن رواية أنها ولدت في السنة الأولى لمبعثه الشريف، وحينئذ إذا كانت قد  تزوجت في السنة الأولى من الهجرة فيكون عمرها حين الزواج ثلاث عشرة سنة، وإذا تزوجت في السنة الثانية للهجرة سيكون عمرها أربع عشرة سنة، وإذا تزوجت في السنة الثالثة سيكون عمرها خمس عشرة سنة.
 
 وقد رجح التستري وغيره من علمائنا القول بولادتها بعد البعثة بخمس، استناداً إلى بعض الأخبار المروية عن الأئمة(ع).. وكيف كان، فتحقيق المسألة واتخاذ موقف حاسم يحتاج إلى متابعة.. والله الموفق.

 
 
  مقالات >> عقائدية
إشكالات الربوبي على الأديان (1)
الشيخ حسين الخشن



أولاً: اختلاف الأنبياء وتناقض دعواتهم

ثانياً: لماذا ختم النبوّة؟

ثالثاً: الشريعة والجمود

 

 

في هذا المقالة نتوجه إلى ملاحظة ومتابعة الصنف الآخر من الإشكالات التي قد يطرحها الربوبي على الفكر الديني، وهي الإشكالات التي لا تصبّ مباشرة في محاولة إبطال النبوّات من أصلها أو البرهنة على عدم الحاجة إليها، وإنّما تتجه إلى إثارة الغبار في وجه الدين،

والتشكيك في جدواه، وإبراز بعض العناصر القلقة والآراء الشاذة التي تضمنتها نصوص الأديان أو اشتملت عليها ممارسات المتدينين.

وحيث إنّ الإشكالات التي أثارها الربوبيون وغيرهم من الجماعات اللادينية كثيرة، وبعضها إشكالات تفصيلية وتتصل بالاعتراض على بعض الأحكام أو التعاليم الفرعية، فإننا سوف نركز على الإشكالات الرئيسة تاركين الردود التفصيلية إلى مجال آخر، مع التنبيه والتذكير بأنّ

بعض العلماء والمفكرين قدموا إجابات كثيرة على ذلك كله.

وهذا استعراض لأهم ما يمكن طرحه من إشكالات وتشكيكات:

 

أولاً: اختلاف الأنبياء وتناقض دعواتهم

قد يطرح البعض السؤال التشكيكي التالي، وهو أنّه إذا كان وجه الحاجة إلى النبوات واحداً في طبيعته، وهو الإجابة على أسئلة المصير وتحديد المسار السوي الكفيل بهداية الإنسان والإرشاد إلى القانون الأمثل، فلماذا اختلفت الأديان فيما بينها؟ والاختلاف بينها ليس أمراً عابراً

وبسيطاً بل هو كبير جداً، ويصل إلى درجة التضاد والتعارض، حيث يأتي النبي اللاحق لينسخ ما حكم به النبي السابق، وتحرّم الشريعة المتأخرة ما أحلّته الشريعة المتقدمة، وهكذا تختلف الأديان في شعائرها وطقوسها. ويمتدُّ التعارض بين الأديان إلى العقائد والتصورات، ليقدّم

كل دين حزمة من العقائد المغايرة لما تطرحه الأديان الأخرى، فلو كانت هذه الأديان صادرة من عند الله تعالى وتنتسب إليه حقاً، لجاءت منسجمة متوافقة في بناها الفكرية ورؤاها العقدية كما في أحكامها وطقوسها وتشريعاتها.

 

والجواب على هذا الاعتراض يتضح من خلال النقطتين التاليتين:

 

  1. الاشتراك هو السمة العامة

إنّ الحديث عن التعارض والتضاد بين الأديان والشرائع السماويّة هو حديث مبالغ فيه، فالأديان في تصوراتها ومفاهيمها وتعاليمها وتشريعاتها تشترك في الأسس والمبادئ العامة، ويأتي النبي اللاحق ليصدق النبي السابق، قال تعالى حكاية عن لسان روح الله عيسى (ع): {وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ} [آل عمران: 50].

إنّ الأنبياء(ع) إنّما يصدرون عن نبع واحد، وهو نبع الوحي، ويسعون إلى تحقيق أهداف متجانسة، ولا مجال لأن تختلف رسالتهم في مقاصدها وغاياتها. إنّهم يسعون إلى أنسنة الإنسان وهدايته وتهذيب أخلاقه، ولذا فلا بدّ أن تلتقي رسالاتهم في عناوينها العامة وخطوطها العريضة؛ لأنّ الانسان في فطرته وغرائزه وعواطفه لا يختلف من زمان لآخر ومن جيل لآخر، فالمبدأ واحد، والمقصد واحد، والمستهدف والمخاطب واحد .

  1. الاختلاف والتغيّر وأسبابهما

أجل، إنّ نقاط الاشتراك المتقدمة، لا تلغي وجود الاختلاف بين الشرائع السماوية، والاختلاف له أسباب شتى، وبعضها يبدو طبيعياً وضرورياً، وبعضها الآخر ليس كذلك بل هو نتيجة عوامل غير مبررة:

 

  أما الاختلاف الذي هو طبيعي للغاية، فهو الذي تمليه ضرورة مواكبة الرسالة السماوية للنمو العقلي والثقافي الذي يشهده الإنسان، وللتغيّرات التي تشهدها الحياة الاجتماعيّة؛ لأنّ الإنسان وبحكم الصيرورة التاريخية هو كائن متغيّر في ثقافته، ومتطور في وعيه للمفاهيم

والقضايا الكليّة، كما هو متغيّر في طريقة عيشه وأنماط حياته، وهو - في الأعم الأغلب - يتحرّك في مسار تصاعدي؛ ولذا يكون من الضروري حدوث تغيّر في الرسالات السماوية يلائم تطوّر الإنسان، ويواكب التغيرات الجوهرية التي تشهدها حياته. ومن هنا، فإنّ الإشكال

على الأديان إنّما يرد لو كان البيان فيها واحداً وثابتاً، ولا يساير تطور الإنسان في وعيه وفهمه للأمور، ولا يراعي اختلاف الزمان وتبدل المكان، ولا تغيّر الحياة وظروفها. وهذا الأمر سوف نعود إلى بحثه في الوقفات التالية، ردّاً على إشكالات أخرى قد تطرح على الأديان.

 

  أمّا الاختلاف بين الشرائع السماويّة غير المبرر، فهو الذي نشأ من تعرّض تلك الشرائع في العديد من نصوصها الأصلية للإهمال الذي أدى إمّا إلى فقدان بعض الكتب المقدسة وضياعها، أو تعرضها للتزوير والتحريف الذي مارسه الإنسان نفسه، لغايات شتى. ونكاد نجزم أنّ

التلاشي والتلاعب قد طال كافة الكتب السماويّة السابقة على القرآن الكريم، حيث أدى الإهمال إلى ضياع بعضها واندثارها، فلم يصلنا منها شيء يوثق به أو يعتمد عليه. كما أنّ المصالح والأطماع دفعت بعض الناس إلى ممارسة التحريف والتزوير في بعضها الآخر، وهذا ما

تؤكده الدراسة الموضوعية لحال ما تبقى منها، كما يؤكده ما جاء في القرآن الكريم . وإننا نعتقد أنّ الكتاب السماوي الوحيد الذي بقي محفوظاً من الضياع أو التزوير هو القرآن الكريم، ولسنا نلقي هذا الكلام جزافاً أو من موقع الهوى الديني، بل لنا دلائل قاطعة تثبت صحة

كلامنا، وندعو الآخرين إلى دراستها والتثبت من صحتها. (يراجع ذلك في مظانه).

 

 ثانياً: لماذا ختم النبوّة؟

  ومن الاعتراضات التي ربما سجّلها بعض الربوبيين وسجلها - أيضاً - غيرهم على الفكر الإسلامي: أنّ النبوّة إذا كانت - كما يعتقد المتدينون - حاجة للبشريّة، فهذا يقتضي أن لا تتوقف النبوات الهادية عند حدٍ معيّن، بل تستمر وتمتدّ ما بقي الإنسان، مع أنّ المسلمين يعتقدون

بانقطاع الوحي السماوي مع بعثة النبي محمد لأنه (ص) وِفق رؤيتهم خاتم النبيين.

 

  إنّ عقل البشر إذا كان ناقصًا ويحتاج إلى هداية الوحي، فاللازم استمرار الوحي الإلهي واللّطف الرباني، فكيف وأنّى لهذا الوحي أن ينقطع كل هذه المدة الطويلة منذ ارتحال النبي محمد (ص) إلى بارئه وصولاً إلى يومنا هذا؟! ثمّ إذا كانت الحياة متغيّرة والاحتياجات الإنسانية

تختلف وتتبدل من زمان لآخر، فهذا يفرض ويحتم أن تكون التشريعات والقوانين متسمة بمرونة وحركيّة تجعلها صالحة للمواكبة.

 

  وفي مقام الإجابة على ذلك، قد تذكر عدة إجابات:

  1. بلوغ النبوّة لكمالها/انتهاء مرحلة بعثة الأنبياء

وهذه الإجابة ترى أنّ سبب ختم النبوّة عائد إلى أنّ البشريّة وبُعيد عصر النبي عيسى (ع) وصولاً إلى المرحلة الزمنيّة التي أُرسل فيه النبي محمد (ص) ، قد دخلت في منعطف جديد من تاريخها الحضاري، حيث وصلت إلى مستوى متقدم من المعرفة والنشاط العقلي، الأمر

الذي تقلُّ أو تنتفي معه الحاجة إلى الأنبياء والرسل، فإنّ العقل عندها سيشكّل إماماً هادياً للإنسان. ومن الطبيعي فإنّ علينا أن لا ننظر إلى المشهد من خلال ما كان عليه العرب أو غيرهم من المنقطعين عن المدنيّة والحضارة، وإنّما علينا النظر إلى المشهد العالمي بشكل عام،

ويدخل في ذلك ممالك الروم والفرس وسواها، وذلك لأنّ القرآن الكريم لم يكن موجهاً للعرب وحدهم، والنبي محمد(ص) لم يكن رسول العرب فحسب، بل هو للبشرية جمعاء، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [سبأ: 28]،

وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]. وأكبر شاهد على تدشين القرآن الكريم لمرحلة جديدة في تاريخ الإنسانيّة، وهي مرحلة طابعها العام هو تقدير النشاط العقلي، هو:

 

  • أنّ رسالة النبي محمد(ص) قد حجزت للعقل مكانة كبيرة فيها، ولهذا زخرت نصوصها بتمجيد العقل والتفكر والتأمل. ودعت إلى إطلاق سراح العقل وتحريره من كل القيود التي تكبّله، وحثّت على تفعيل مبدأ التفكر ليس في اكتشاف الكون فحسب، بل وفي التعرّف على الله تعالى وفي التأمل والتدبر في آيات الكتاب.
  • أنّ نبينا محمداً (ص) لم يعتمد في إثبات رسالته ونبوته على المعاجز الحسيّة كما كان عليه الحال في الأمم السابقة، وإنّما كانت معجزته هي القرآن الكريم في بلاغته ومضامينه العالية والعميقة والمتجددة مع الزمان.

إنّ ذلك وغيره يشهد على هذا التطور التدريجي الجوهري الذي شهدته البشرية حتى وصلت إلى مرحلة زمنية تستغني معها عن تدخل الوحي في حياة الإنسان اليومية، وهكذا دشنت الرسالة الإسلامية عهداً جديداً في تاريخ الرسالات السماوية، إنّه عهد انطلاق عجلة العقل.

  وهذا التفسير لختم النبوّة هو ما ذهب إليه المفكر والشاعر محمد إقبال، حيث رأى أنّ مولد الإسلام هو مولد العقل الاستدلالي، و«أنّ النبوّة في الإسلام لتبلغ كمالها الأخير في إدراك الحاجة إلى إلغاء النبوّة نفسها، وهو أمر ينطوي على إدراكها العميق لاستحالة بقاء الوجود

معتمداً إلى مقود يقاد منه، وأنّ الإنسان لكي يحصّل كمال معرفته لنفسه، ينبغي أن يترك ليعتمد في النهاية على وسائله هو».

  وهذه الإجابة - وهي الأولى - صحيحة من حيث المبدأ، ولكن مع تحفظ في جانب أساسي فيها، وهذا التحفظ ينطلق من إيحائها بعدم الحاجة في عصر النبوّة الخاتمة إلى هدي الوحي، واكتفاء الإنسان بهدي العقل. والتحفظ الذي نرسمه هو أنّ العقل البشري مهما سما ونبغ

واكتمل فإنّه لن يكون معصوماً عن الخطأ والضلال، ولا محصناً ضدّ النقص والانحراف، بل هو على الدوام محفوفٌ بالأهواء وقد تغلبه الشهوات والمطامع، فينزلق إلى الإضرار بالآخرين وتدمير الحياة؛ ولهذا فهو يظلُّ محتاجاً إلى هداية الوحي وتسديده ولا يستغني عمّن ينبهه

من الغفلة ويوقظه من السبات، ويرسم له المسار الصحيح، ويضع له الرؤية الصائبة. وليس ثمّة مَنْ هو أولى بهذا الأمر مِنْ خالقه عزّ وجلّ بذلك، فهو الأعلم بما يصلحه، {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14]؛ ألا ترى أنّ صانع الآلة (جهاز الكمبيوتر مثلاً) هو

الأعرف بخفاياها ونقاط ضعفها وقوتها، فيكون الأقدر على إصلاحها، كذلك هو الله تعالى، فبحكم أنّه الخالق والمدبر فهو العالم والخبير بما يصلح الناس وما يفسدهم. وعليه فالإنسان بحاجة مستمرةٍ إلى التسديد الإلهي وهداية الوحي بما يعضد عمل العقل وينبهه من الغفلة، ومن

هنا قال الإمام علي (ع) في بيان وظيفة الأنبياء(ع): (.. ويثيروا فيهم) أي في الناس (دفائن العقول) .

 

  باختصار: إنّ الحياة الإنسانية لا يمكنها أن تتحرك بعجلة واحدة، وإنما تحتاج - كما هو الحال في بعض المركبات الآلية - إلى عجلتين تكمل إحداهما الأخرى وهما: عجلة العقل المبدع، وعجلة الوحي الملهم والمسدد.

                             

                2-  استمرار النبوّة من خلال الرسالة الخالدة

وهذه الإجابة - وهي الثانية في المقام - تُعدّ مكمّلة أو مفصلة للإجابة الأولى ويمكن تلخيصها بالقول:

 

  إنّ الأمر الذي لا يُنكر أنّ البشريّة قد قطعت أشواطاً كبيرة في رحلة التكامل والخروج من حياة البداوة الفكريّة والاجتماعية، وبلغت مرحلة متقدمة نسبياً من النضج العقلي والتقدّم المعرفي والنمو الثقافي والاجتماعي والعلمي؛ وذلك بفعل تراكم الخبرات والتجارب وتنامي

المعارف وتلاقح الحضارات. ولا شكّ أنّ للأنبياء دورًا أساسيًا وكبيرًا في ذلك كله، فقد أسهمت النبوّة في تعليم الإنسان وتربيته وتهذيبه ووضعه في هذا المسار التكاملي المتنامي. وقد شاءت الحكمة الإلهية أن تواكب النبوات هذا التطور التدريجي فكان لكل مرحلة تاريخية نبيّها

الذي يقوم بدور الدليل والهادي والمربي، وكان لها رسالتها التي تشكّل مصباحاً للهداية ودستوراً للعمل. وهذا النمو والنضوج الذي بلغته الإنسانية في مرحلتها الأخيرة، احتاج إلى رسالة دينيّة نوعيّة ومتميّزة، في شكلها ومضمونها، وفي شخص حامل الرسالة، وما يتحلّى به من

مواصفات. وإننا نعتقد أنّ البشريّة لم تعدْ بحاجة إلى رسالة جديدة بعد تلك الرسالة الخاتمة؛ لأنّ أي رسالة أخرى لن تأتي بجديد يتضمّن إضافات ذات مغزى كبير ومغاير لما جاءت به وتضمنته الرسالة الخاتمة، والفضل في ذلك يعود إلى أنّ البشريّة وببركة النضج الاجتماعي

والفكري الذي وصلته أصبحت قادرة على استكمال مسيرتها التكاملية مستعينة بهداية العقل والوحي.

والوحي الذي نتحدث عنه هو عبارة عن رسالة سماويّة من نوع خاص، رسالة ذات نصّ ديني مرجعي يتلاءم وهذا المستوى من النضج العقلي والمعرفي الذي وصلته الإنسانية، وما سيؤول إليه حالها في مستقبل الأيام وما قد تواجهه من متغيرات. وملاءمة هذا النص لذلك هو

ما حتّم أن يكون نصّاً متميّزاً بخصوصيّة أو خصوصيات لا نظير لها في كل النصوص الدينيّة السابقة، بما يمنحُه قدرةً على مواكبة تغيرات الحياة ومستجداتها، بحيث تقل أو تنتفي معه الحاجة إلى رسالة جديدة، وهذا النص هو القرآن الكريم. وأما الخصوصيّات التي تُميِّزُ النص

القرآني خصوصاً والرسالة الإسلامية عموماً، فيمكن بيانها من خلال ما يلي:

الخصوصية الأولى: أنّنا أمام نصٍّ يعطي العقل مكانة عالية، ويمنحه حيزاً كبيراً ليس في اكتشاف الكون ومجاهيله فحسب، بل في فهم النصّ نفسه وسبر أغواره، بل إن العقل القطعي، يعدّ حاكماً على النص، ومقدماً عليه في صورة التعارض المستحكم بينهما. وقد أوضحنا في

الإجابة الأولى أنّ ذلك هو ما يفسّر كون المعجزة الأساس التي جاء بها النبي الخاتم (ص) - وهي القرآن الكريم - معجزة تعتمد على التفكير العقلي، بينما لم تحظَ المعاجز الحسيّة التي عرفتها النبوات السابقة بهذه الأهميّة في حياة النبي محمد (ص) بحسب ما سجّله لنا القرآن

الكريم.

  ويمكن فهم هذا الأمر على ضوء ما هو معروف من أنّ الرسالة الخاتمة تحتاج إلى معجزة خاتمة، لأنّ المعجزة الحسية هي - في الأغلب - معجزة آنية ظرفية فلا تصلح آية لرسالة خاتمة ومستمرة .

 

  والحقيقة إنّ مقارنةً سريعةً بين تجربة المسلمين التاريخية وتجربة غيرهم من أتباع سائر الرسالات السماوية، تؤكد القيمة الكبيرة التي أولتها الرسالة الإسلامية الخاتمة للعقل، حيث لم يُعهد أنّ شريعةً من الشرائع السّماوية التي سبقت الإسلام، اعتمدت العقل في إيمانها وتدينها

وبنائها العقدي، كما هو الحال في الإسلام. فلا النصوص الدينية في الكتب السماوية المتداولة لدى غير المسلمين تساعد على إعطاء مكانة مميزة للعقل في المعرفة الدينية، ولا التجربة الدينية التاريخية لغير المسلمين تساعد على تقديم صورة ناصعة ومتفائلة إزاء العقل، كيف،

وتجربة الكنيسة في القرون الوسطى القاتمة والمريرة مع حركة العقل والعلم، لا تزال محفورةً في ذاكرة العقل الغربي وغيره إلى يومنا هذا. وفي الوقت الذي شاع لدى علماء اللاهوت المسيحيين وضع الإيمان في خطّ مواز ومقابل للعقل، كما هو صريحُ كلام القديس

(Anselme) (1033-1109م) رئيس أساقفة أنتربري: «يجب أن تعتقد أولاً بما يعرض على قلبك بدون نظر، ثمّ اجتهد بعد ذلك في فهم ما اعتقدت، فليس الإيمان في حاجةٍ إلى نظر عقل» بل ذهب البابا غريغوريوس التاسع أبعد من ذلك، عندما صرّح بأنّه «لن تكون

للإيمان أي قيمة إذا كان بحاجة إلى العقل البشريّ من أجل مساعدته» نجد أنّ الإسلام قد انحاز للعقل وندد بالذين لا يستخدمون عقولهم وطاقاتهم أو حواسهم، قال تعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} [الأنفال: 22]، وبنى منظومته الإيمانيّة والعقدية على

أساس المنطق والبرهان، ولسان حاله ومقاله دوماً: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 111]. فالعقل هو الحجّة بين الله وعباده، وهو دليل معرفة الله ووحدانيته وعلمه وقدرته وحياته... كما أنّه دليل إثبات النبوّة ويوم المعاد... إلى غير ذلك من العقائد.

 

باختصار: إنّ «الأصل الأول للإسلام» والأساس الذي بني عليه هذا الدين هو «النظر العقلي». فهو «وسيلة الإيمان الصحيح» ولا يحتاج المرء إلى كبير عناء ليدرك ويكتشف انتصار القرآن للعقل والتعقّل، فالآيات التي تمتدح عمل العقل كثيرة، من قبيل قوله تعالى: {أَفَلَمْ

يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ۖ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46]، أو قوله حكايةً عن أهل النّار: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 10]، وإلى مصطلح العقل، ثمّة

مصطلحات أخرى مرادفةٌ له، كمصطلح (اللب) و(النهية) وردت في القرآن في سياق المدح، ونحو ذلك آيات التفكّر والتأمّل والتدبّر والاعتبار، هذا في الكتاب الكريم.

 

أمّا السنّة النبوية، فحديثها عن العقل وامتداحها له، واعتباره الحجّة بين الله وبين خلقه، هو حديث مستفيض ومعروف. ففي الحديث عن رسول الله (ص): «إذا رأيتم الرجل كثير الصلاة، كثير الصيام، فلا تباهوا به حتى تنظروا كيف عقله» وفي الحديث المروي عن حفيده الإمام

جعفر الصادق(ع) نراه يصرح بمرجعية العقل ويجعلها جنباً إلى جنب في مصاف مرجعية الوحي، حيث قال - حسبما روي عنه - مخاطباً تلميذه هشام بن الحكم: «يَا هِشَامُ إِنَّ لِلَّه عَلَى النَّاسِ حُجَّتَيْنِ حُجَّةً ظَاهِرَةً وحُجَّةً بَاطِنَةً فَأَمَّا الظَّاهِرَةُ فَالرُّسُلُ والأَنْبِيَاءُ والأَئِمَّةُ(ع) وأَمَّا

الْبَاطِنَةُ فَالْعُقُولُ».

 

وإننا لا نرى أي تنافٍ بين المرجعيتين (مرجعية العقل ومرجعية الوحي) بل إنّ إحداهما تكمّل الأخرى، وكما أنّ الوحي بحاجةٍ إلى العقل في تأصيل مرجعيّته وإثبات حجيّته، فإنّ العقل بدوره يحتاج إلى الوحي في تحسين ظروف عمله وترشيده، وإزالة العوائق من أمامه. وقد

مثّل بعضهم لهذه الحاجة المتبادلة بين العقل والوحي بمثالٍ لطيف، وحاصله: «إنّ العقل كالسِّراج، والشرع كالزيت يمدّه، فما لم يكن زيت لم يشعل السِّراج، وما لم يكن سراج لم يضئ الزيت، وأيضاً العقل كالبصر، والشرع كالشعاع، ولا ينفع البصر ما لم يكن شعاعٌ من خارج،

ولن يغني الشعاع ما لم يكن بصر».

 

الخصوصية الثانية: إنّ القرآن الكريم يتصفُ بمرونة وحركيّة استثنائية، ما يمكنه من مواكبة المتغيرات دون أن يبلى بمرور الزمان وتطوّر الحياة، ولا يسعنا هنا الحديث بإسهاب عن هذه الخصوصية، فقد أشبعناها بحثاً ودرساً في كتابنا «الشريعة تواكب الحياة». ولكننا نكتفي

بالإشارة هنا إلى عنصر أساسي، يعدّ دليلاً قوياً على مرونة الرسالة الخاتمة، والدليل هو أنّ هذه الرسالة قد تضمنت قواعد شرعيّة مستفادة من القرآن وسنة النبي (ص) تمنحها قدرة عالية على المواكبة والتطوير وتجديد نفسها بنفسها، ومن أشهر هذه القواعد ما يسمى بالقواعد

الحاكمة، والتي لها حق الإشراف والحكومة على كل الأحكام الشرعية الأوليّة، إلى درجة أنّ بإمكانها نقض تلك الأحكام وتغييرها، وأهمّ هذه القواعد الحاكمة: قاعدتا نفي الحرج ونفي الضرر، المستفادتان من الكتاب والسنة، قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}

[الحج: 78]، وقال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، واشتهر الحديث عن رسول الله (ص) «لا ضرر ولا ضرار» . على ضوء هاتين القاعدتين، فكل حكم من أحكام الشريعة يغدو لسبب أو لآخر موجباً للعسر والحرج أو الضرر فإنه يرتفع

ويسقط، ولنا عودة إلى هذه الخصوصية وإلى غيرها من الخصائص التي تميّز الشريعة الإسلامية في الفقرة الثانية الآتية.

 

 

 

الخصوصية الثالثة: ومن أهمّ مزايا هذا النص أنّه يتحلى بالعمق في معانيه ومضامينه، ما جعله نصّاً زاخراً ومتدفقاً بالمعاني وذا أبعاد متعددة، بحيث إنّ الإنسان العادي يمكنه أن يقرأه وينهل من معينه بما يروي عطشه، وكذلك العالم والفيلسوف يمكنه أن يقرأ النص نفسه، ليفهم

منه معنى أعمق بكثير مما فهمه الإنسان العادي. ولتوضيح هذه الخصوصية أكثر، سوف أستعين بما أوردتُه في إحدى كتبي وهو كتاب «أصول الاجتهاد الكلامي»، في الحديث عن نظرية الأعماق المطروحة في تفسير بطون القرآن الكريم، فقد ذكرت هناك أنّ المتدبر في

القرآن الكريم والمتأمل في آياته سوف يتسنى له أن يكتشف بوضوح أنّ لهذا النص أعماقاً وطبقات متعددة ومضامين سيّالة متجددة ومتدفّقة لا ينضب معينها، ولعلّ هذه هي إحدى أهم مزايا القرآن الكريم وسرّ إعجازه.

وفيما يلي، نذكر مثالاً نستعيره من السيد الطباطبائي (رَحِمَهُ الله) لتوضيح فكرة الأعماق. يقول في بيان أعماق القرآن: «يقول الله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء: 36]، ظاهر هذا الكلام، النهي عن العبادة العادية للأصنام، ويقول سبحانه: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ

مِنَ الْأَوْثَانِ} [الحج: 30]، ولكن بالتأمّل والتحليل، يُعلم أنّ عبادة الأصنام ممنوعة، لأنّها خضوع وذلٌّ أمام غير الله، ولا خصوصية لكون المعبود صنماً، كما عدّ الله تعالى طاعة الشيطان عبادةً له، قال: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} [يس: 60]. وبتحليل

آخر، يعلم أنّه لا فرق في طاعة الإنسان وخضوعه بين نفسه وغيره، فكما أنّه لا تجوز طاعة الغير، كذلك لا تجوز طاعة رغبات النفس مقابل الله تعالى، كما يشير الله تعالى إلى ذلك: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية: 23]. وبتحليل أكثر دقةً، يعلم أنّه يجب أن لا يُلتفت

إلى غير الله تعالى أبداً، وأن لا يغفل عنه أبداً، لأنّ التوجه إلى غير الله، معناه إعطاؤه الاستقلالية والخضوع وإظهار الذلّ أمامه، وهذا الإيمان هو روح العبادة، يقول الله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ ۖ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا

وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179].

 

 وهذه النظرية (نظرية الأعماق) تقوم على ركيزتين أساسيتين:

 

 الركيزة الأولى: أنّ النصّ القرآني يتّسم بالإحكام والإتقان، والشمولية والعمق، والمرونة والحيوية، بما لا يتوفّر في أيّ نصّ آخر، والمعاني القرآنية في تدفّقٍ دائمٍ وتوالدٍ مستمرّ، وهذا أمرٌ طبيعيّ، لأنّه نص إلهي يمثّل الرسالة الخاتمة، ومن الطبيعي أنّه «كلّما ارتفع مستوى

المعرفة لدى المتكلّم، وازداد علمه وثقافته، ارتفعت معاني كلامه، وكثرت مدلولات ألفاظه. فالباحثون في تفسير القوانين ونصوص الاتفاقيات، يعتمدون مبدأً قطعياً، وهو أنّ واضعي القوانين وكاتبي الاتفاقيات، بلغوا من الخبرة والثقافة حدّاً يمكّن المفسّرين من أن يتعمّقوا في

معاني كلماتهم» وعليه، فالكلام الإلهي، بما أنّه صادرٌ عن العليم الخبير الذي {وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} [طه: 98]، فهو كنزٌ لا ينفد، ونبعٌ لا ينقطع، ونورٌ لا يخبو، وللقارئ أو المستمع لكلام الله أن يتدبّر ويتفكّر فيه ما وسعه، باذلاً الجهد في اكتشاف أعماقه، وتلمّس أبعاده، ومع

ذلك، فلن يبلغ الغاية: «بحرٌ لا يدرك قعره».

 

الركيزة الثانية: إنّ الاستلهام من هدي القرآن، والاغتراف من معينه، والتعرّف إلى مضامينه، يتفاوت تبعاً لتفاوت أفهام النّاس واختلاف مداركهم ، فكلّ يغترف حسب طاقته، ويستقي مقدار ما يسع إناؤه، قال تعالى: {أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} [الرعد: 17]،

وكلّما تدبّر الإنسان في النصّ القرآني، استزاد واستفاد أكثر، وانفتحت أمامه آفاقٌ جديدة، وكلّما قرأه قراءةً واعيةً في ضوء المعطيات الواقعية، وفي ضوء الخبرات الإنسانية المتراكمة، فإنّه سوف يشعر بغزارة المعاني وتدفّقها، فإنّ معطيات الواقع ومستجدّاته، تفتح فضاءات

جديدة أمام النصّ، لجهة تكشّف معانيه ومضامينه ومقاصده. وبعبارةٍ جامعةٍ: إنّ هناك علاقةً وطيدةً بين النصّ والواقع، وكما أنّ المعرفة بالنصّ تضيء الواقع وتوجّهه، فإنّ المعرفة بالواقع بدورها تفتح مغلقات النص وتظهر مكنوناته، ما يسمح بالاستزادة المستمرة من معينه

وهديه.

 

وفي ضوء ذلك، يتّضح أنّ تقادم الزمان، وما يرافقه من تطوّر العلوم وتراكم الخبرات، له دورٌ كبيرٌ في إبراز مكنونات النصّ القرآني، وتحويل باطنه إلى ظاهر، وهذا معنى ما ورد عن ابن عباس، أنّ «القرآن يفسّره الزمان» ، أو ما ورد في الروايات عن الأئمة من أهل

البيت (ع)، من أنّ القرآن حيٌّ لا يموت، وإنّه يجري كما يجري الليل والنّهار، ففي الخبر عن الإمام الصادق (ع) «إنّ القرآن حيّ لم يمت، وإنّه يجري كما يجري الليل والنهار، وكما يجري الشمس والقمر، ويجري على آخرنا كما يجري على أولنا» وفي الحديث عن أبي

جعفر (ع) «إنّ القرآن حيٌّ لا يموت، والآية حيّة لا تموت، فلو كانت الآية إذا نزلت في قومٍ ماتوا ماتت الآية، لمات القرآن، ولكن هي جارية في الباقين كما جرت في الماضين».

 

وهكذا تنصّ بعض الأحاديث، على أنّ بعض الآيات لن تتكشَّف كلّ أعماقها إلا من قبل قوم متبصرين متعمّقين، يرعف بهم الزمان، وتجود بهم الأيام، ففي الخبر عن الإمام زين العابدين (ع)، وقد سئل عن التوحيد؟

 

قال: «إنّ الله عزّ وجلّ علم أنّه يكون في آخر الزمان أقوامٌ متعمّقون، فأنزل {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1]، والآيات من سورة الحديد إلى قوله {وَهُوَ عَلِيمٌ} [الحديد: 6]».

 

وكما أنّ لتقدم الزمان وتطوّر المعارف الإنسانية دوراً أساسياً في تكشّف بطون النصّ القرآني وأعماقه، فإنّ التدبّر، أو قل التأويل، يلعب هو الآخر دوراً أساسياً في بلوغ هذه الأعماق وتظهيرها. إذاً، هنا يأتي دور التأويل - بمعناه اللّغويّ - كجهد تفسيري يحاول تفسير الآية

بمآلاتها المتجدّدة، ومن هنا نفهم ما جاء في بعض الروايات، من أنّ «بطنه تأويله»، كما أنّ «ظهره تنزيله» ، وهكذا نفهم اعتبار بعض العلماء التأويلَ أحد الأقوال في تفسير البطون .

 

إنّنا نفهم ذلك، على الرغم من أنّ التأويل في حقيقته ليس بطناً، وإنّما هو أداة اكتشاف واستنباط. التأويل هو الاجتهاد في فهم النصّ واستنطاقه وبلوغ أعماقه.

 

وثمّة خصائص ومزايا أخرى تتحلى بها هذه الرسالة الخاتمة، وسوف نشير إليها في ثنايا العنوان الآتي.

 

وبذلك نصل إلى الخلاصة التالية، وهي أنّ فلسفة ختم النبوّة تكمن في وصول البشريّة إلى مرحلة متقدمة من حياتها العقلية والحضارية، وهذه المرحلة المتقدمة قد ساهم كل الأنبياء السابقين بوضع لبناتها وتشييد بنيانها، وكل هذا جعل من الممكن أن تتحرك البشرية وتسير

وتستمر في خط تكاملها على ضوء هداية العقل المسددة بهداية الوحي القرآني الذي شاءت يد الحكمة الإلهية حفظه من التحريف والتلاعب بالنقيصة أو الزيادة.

 

وتجدر الإشارة أخيراً إلى أنّه قد تبيّن مما سبق في مستهل هذه الإجابة أنّ البلوغ أو النضج الاجتماعي الذي وصلته البشريّة في عصر النبوّة الخاتمة هو عنصر ممهد لختم النبوة، ويضيف الشهيد مطهري إلى ذلك بأنّ النضج المذكور هو أيضاً ركن من أركان الرسالة الخاتمة،

لأنّ هذا النمو الاجتماعي سيمكن البشر «من الحفاظ على ميراثهم العلمي والديني، ويبادرون بأنفسهم إلى نشره وتبليغه وتعليمه وتفسيره» . وبذلك «ينتفي السبب الرئيس لتجديد الرسالة وظهور نبي جديد».

 

وربما يقال: إنّ حفظ القرآن الكريم من الضياع كما ضاع إرث الأنبياء السابقين(ع) ليس مردّه إلى وعي الأمة لأهميّة هذا الإرث الروحي والديني العظيم، وإنما مردّه إلى أنّ الله تعالى تكفل - بلطفه وعنايته - بحفظه وبقائه مصوناً عن عبث العابثين، وتزويرهم وتحريفهم، وهذا

ما نصّ عليه القرآن نفسه، حيث قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]، ولو أنّ عناية الله تعالى تعلقت بحفظ الكتب السابقة، لبقيت محفوظة ومصونة من كل عبث أو تزوير.

 

والجواب: إنّ تكفلَ الله تعالى بحفظ القرآن الكريم ليس بالضرورة أن يكون من خلال الوسائل الغيبية صرفاً، بل ربما كان من خلال الوسائل الطبيعية، وعلى رأسها: وعي الأمة بأهميّة هذا الكتاب المقدس، ما دفعهم إلى حفظه بشتى الوسائل. وهذا في الحقيقة ما جرى مع القرآن

الكريم، فإنه كان موضع عناية بالغة من الرسول الأكرم، الذي جمعه ورتبه ونظمه، وكذلك اهتم به الصحابة من بعده، والأمر عينه حصل مع التابعين وتابعي التابعين، وهكذا على مرور الأزمان وتعاقبها، الأمر الذي جعل شهرة القرآن الكريم فوق مستوى التواتر المفيد للقطع

واليقين.

 

     3- الإمامة وفيض النبوّة

 

وقد تُقدّم إجابة ثالثة في المقام وحاصلها: إنّ انقطاع النبوّة وختمها لا يعني انقطاع فيض النبوّة وعطاءاتها ولا رشحات نورها عن بني الإنسان، فإنّه وطبقاً لمدرسة أهل البيت (ع) فإنّ من الضروري وجود شخص مسدد وملهم ومعصوم قائم ما قامت الدنيا، وكما قال الإمام علي

(ع) فيما يروى عنه: «اللهم بلى لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة إما ظاهرا مشهوراً أو خائفاً مغموراً» ومن وظيفة هذا الإمام (ع) العمل على تجديد الدين مما قد يصيبه من التحريف والزيف والجمود، بما يعيد إليه حيويته ومرونته ونقاءه بعيداً عن عبث العابثين، فالمعصوم

هو العقل الكامل وهو الثقل الآخر مع الكتاب الكريم ولا يفترق عنه طرفة عين أبداً، كما نصّ على ذلك الحديث الصحيح المروي عن رسول الله (ص) والمعروف بحديث الثقلين إنّ الإمام المعصوم يقوم بدور النبي (ص) بدون نبوّة، وبالتالي فالختم الذي حصل هو للنبوّة، أمّا

الولاية فلم تختم.

ولكن قد يقال: إنّ هذا الإمام (ع) حسبما يرى الشيعة أنفسهم غائب منذ مئات السنين. وعليه، فغيبته(ع) تعني انقطاع فيض النبوّة الذي تتكلمون عنه، إذ ينتفي أي دور أو وظيفة له فيما أشرتم إليه من وظائف وأدوارٍ يضطلع الأنبياء بحملها، لذا لا ينفع ذلك في تقديم جواب آخر

مغاير لما تقدم.

 

ويمكن الرد على ذلك من جهتين:

 

الجهة الأولى: أن نفترض بأنّ للمعصوم - حتى لو كان غائباً عن الأبصار - وظيفةً غير مرئية ودوراً معنوياً معيناً وإن خفي هذا الدور على العامة من الناس كخفاء الشخص، وهذا ما تلمح إليه بعض المأثورات الدينية ، بيد أنّ هذا أمر يحتاج - بالإضافة إلى مؤونة الإثبات بدليل

قطعي - إلى تقديم تصوير عقلي للقضيّة يكون مقنعاً لأمثال الربوبي، وهذا أمر يحتاج إلى درس دقيق، وقد نهض بعض العلماء بمحاولة إثبات هذه المهمة مؤكداً على «أنّ الدليل الذي انتهى إلى إثبات النبوّة واستمرارها في العالم الإنساني، حيث قام البنيان الديني على أساسها هو

بنفسه يدل على إثبات ودوام الولاية» والولاية هنا لا تعني الخلافة والحكومة وإنما هي بنظره رابطة الهداية الإلهية، ولا نريد في هذا المقام تقييم هذا الكلام، لخروج ذلك عن محل البحث، ونحيل القارئ المهتم على الكتب المتخصصة.

 

 

الجهة الثانية: أن يقال: إنّ غيبة المهدي (عج) لا تشكّل فراغاً مخلاً باستمرار فيض الهداية الربانيّة، وذلك لوجود ورثة يقومون بإكمال المسيرة، وهم العلماء والفقهاء الربانيون، وهذا الأمر يحتاج إلى شيء من التوضيح، وهو ما نحاول اختصاره بالقول: إنّ الأئمة الماضين من

أهل البيت (ع) قاموا بدورهم الرسالي الكبير فأثروا الحياة الروحية والعقلية بعطاءات جليلة مثّلت منار هداية للأمة، وقدّموا أعظم ذخيرة للإنسان خلال قرنين من الزمن، ثمّ جاءت بعدها غيبة الإمام الأخيرة (عج) والتي لها ظروفها وفلسفتها الخاصة، مما لا نريد الإفاضة فيه

هنا، وفي ضوء هذه الفلسفة يبرز المهدي (عجل الله فرجه) باعتبار أنّه يمثّل البقيّة الباقية والذخيرة المعدّة لتنفيذ مشروع الخلافة الإلهية على الأرض على يد الإنسان. وادخار المهدي كذخيرة ربانيّة لقيادة هذا المشروع لا يعني إقراراً مسبقاً بفشل الإنسان نفسه وإخفاقه التام في

القيام بمسؤولياته في تحقيق متطلبات الخلافة، ليعدّ ذلك إيحاءً نفسيّاً لا شعورياً يُضعف همّة سائر الناس عن السعي في سبيل إحقاق الحق ونشر الهدى في ربوع الأرض، كلا، بل إنّ الاعتقاد بالمهدي المنتظر هو نفسه اعتقاد حركي وحيوي ويحتّم علينا أن نعمل بإخلاص ونسعى

جاهدين لنكون من الممهدين له والمنخرطين في مشروعه، وهو مشروع إقامة العدل في ربوع الأرض، لأنه (عج) يحتاج إلى قاعدة بشرية تمثّل أرضيّة صلبة مؤمنة به وبمشروعه يعتمد عليها في قيادة السفينة نحو برّ الأمان، إذ من الواضح أنّه لن يأتي المهدي (عج) لإقامة

دولته على أساس المعجزات، فذلك خلاف ما عرفته طريقة جده المصطفى(ص) الذي لم يعتمد - كما أسلفنا - على المعجزات الحسيّة القاهرة والتي تجبر الناس على الإيمان، ومعلوم أنّ المهدي (عج) سائر على هدي جده (ص) وتابع لدينه (عج). وعليه يصحّ القول: إنّ المهدي

ينتظرنا أكثر مما ننتظره نحن، إنّه ينتظر أن يرى إعدادنا العملي وقابليتنا النفسيّة والفعليّة للانخراط في المشروع التغييري العالمي. وعلى ضوء هذا الشرح لمفهوم الانتظار نستطيع القول: إنّ عقيدة المهدوية يراد لها أن تشكّل الدافع المعنوي للإنسان للسعي والعمل وبذل الجهد

في سبيل تهيئة الأرضية الملائمة للبدء بتنفيذ المشروع المذكور. وهذه المرحلة الزمنية (مرحلة الغيبة) التي لا بدّ أن نملأها بالعمل استعداداً لاستقبال القادم الموعود تحتّم وجود عناصر بشريّة فاعلة تمثّل دور القيادة والتوجيه في الأمة؛ لأنّنا في مرحلة مهمة وحساسة كونها تسبق

النهضة الكبيرة لمخلّص البشرية. ومن الطبيعي أنّ هؤلاء القادة لا بدّ أن يكونوا من النسيج عينه الذي ينتمي إليه القائد المعدّ لقيادة المشروع، وأن ينهلوا من معين القائد الأول المؤسس لهذه المدرسة وهو النبي الأكرم(ص)، وأن يستمدوا من هدي القرآن الكريم ويستلهموا شعاع

المعصومين ويستنيروا بهديهم، وليس ثمّة من يتصف بهذه المواصفات إلا الفقهاء الربانيين. ومن هنا نصّت الأحاديث الشريفة الواردة عن النبي(ص) والأئمة من أهل بيته (ع) على أنّ العلماء «ورثة الأنبياء(ع)» وأنّهم خلفاء النبي الخاتم (ص)، وترفع بعض المأثورات من

شأن العلماء إلى الحد الذي يجعلهم في مصاف الأنبياء، أو أنبياء بني إسرائيل . ومن أهمّ الوظائف التي يلزم الفقهاء القيام بها في هذه المرحلة العمل على إحياء الدين في النفوس، والاجتهاد في فهم النصوص، وتلك، أعني مهمة الاجتهاد في خطيه المشار إليهما مهمة عظيمة،

لأنها تمثل الطاقة التي تمدّ هذا الدين بالحيوية والحركيّة وتثبت قابليته لمواكبة تطورات الحياة ومستجداتها.

 

 

  وهذا في الواقع يمثّل شاهداً إضافياً على ما ذكرناه في الإجابتين الأولى والثانية من إعطاء العقل في مرحلة النبوّة الخاتمة دوراً أساسياً في مسيرة الحياة، ففتح الباب أمام الاجتهاد في النصّ الديني يعني إفساح المجال أمام العقل الإنساني لقراءة النص واستنطاقه على ضوء

الواقع وتحدياته، أو قل إيجاد حلول للواقع المعاش على ضوء مقاصد النص، وبذلك يتسنى للدين أن يظلّ مواكباً وممكِّننا للإنسان من أن يصنع تجربته على ضوء اجتهاداته النابعة من الفطرة السليمة والعقل القطعي ومن هداية الوحي القرآني.

 

ثالثاً: الشريعة والجمود

ومن الإشكالات التي تُطرح على الفكر الديني أنّه فكر محكوم بالجمود والتحجر، لأنّه يستند إلى أفكار عمرها آلاف السنين، ويعتمد على مرجعية تشريعية لا تنتمي إلى هذا العصر المتمدن. إنّ الزمان متحرك ومتغيّر، بينما النصوص التشريعية الدينية ثابتة ولا يطالها مبدأ

التغيير، استناداً إلى قاعدة متسالم عليها بين المسلمين وهي قاعدة ثبات الشريعة، المأخوذة من الحديث الشهير: «حلال محمد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة» ؟!

 

 

وفي الإجابة على هذا الإشكال نسجل الوقفات التالية:

الوقفة الأولى:

التدرّج هو سمة الشرائع ، إنّ المتأمل في تاريخ الفكر الديني سيكتشف أنّ الرسالات السماوية كانت تراعي بشكل لافت خصوصية الزمان والمكان، فالمعارف والعقائد والتعاليم الدينية الأساسية وبالرغم من أن السمة العامة لها هي الثبات، إلى حدّ يبدو معه أنّها واحدة عند كل

الأديان، إلّا أنّ ذلك لا يعني أنّ الشرائع كانت نسخة متطابقة ومتماثلة، بل إنّها مع تلاقيها في المبادئ العامة متفاوتة في طرحها ومتحركة في أحكامها التفصيلية وحتى في مقاربتها لبعض القضايا الاعتقادية، وبيان ذلك:

 

أولاً: أمّا على مستوى العقائد فيمكن تصوير التغيّر والتطور من زاوية أنّ عقول البشر في قدرتها على استيعاب المعارف الإلهية متفاوتة، فالبشرية في تطور دائم في مداركها مع تطور الزمان، ولم يُخلق البشر عارفين ومؤهلين لتلقي كل المعارف الالهية منذ البداية دفعة واحدة،

فكما أنّ الإنسان يتطور بحسب مراحل عمره، فيدرك الشاب ما لا يدركه الطفل، ويدرك الكهل ما لا يدركه الفتى، كذلك البشرية بشكل عام، فإنها تبدأ بطفولة معرفية ثم تأخذ بالترقي، وهذا يفترض تدرجاً في طرح المفاهيم الدينية والعقائد أيضاً وتكاملاً، بحيث إنّ النبوة الأولى

تؤسس لهذه المفاهيم والعقائد ولو بشكل أولي، يتناسب مع ذهنية الإنسان البدائي، ثم تأتي النبوة اللاحقة لتعمّق هذه المفاهيم والعقائد وتكشف بعض أعماقها، وقد يدخل عنصر آخر في طريقة طرح المفاهيم العقائدية وعرضها، وهذا العنصر هو طبيعة الإنسان نفسه، ومدى تمدنه

أو تخلّفه، مرونته أو رعونته.

 

 

ولنأخذ مثلاً على ذلك، وهو مفهوم الإله، فكل الأنبياء دعوا إلى الإيمان بالله الواحد الأحد، وعبادته، ولكنّ مفهوم الإله قد تطور من عهد لآخر، كما ذكر بعض المفكرين الإسلاميين فالله تعالى في المفهوم اليهودي- لو أخذنا مثلاً التوراة على الرغم من عدم خلوها من التحريف

باعتقادنا - يوصف بصفات مثل: ملك الملوك، والقيوم والسيد على العالم، وهو الملك والمدير والمتسلط، وأما عند المسيحيين فتبرز بشكل جلي صفات الرحمة والمحبة، باعتبارها من أجلى صفات الله تعالى، أما في الإسلام فقد اكتملت الصورة وتطور الطرح أكثر فأكثر، فالله

تعالى بالإضافة إلى ذلك كله هو الأول والآخر، العليم الخبير الباطن الظاهر المجيد القريب ومن له الأسماء الحسنى. وربما كان قوله (ص) – فيما روي عنه -: «إنّ مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتاً فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية.. فأنا تلك اللبنة» ،

مشيراً إلى هذه الحقيقة، فهو (ص) لم يأت لينقض أو يهدم بل ليكمِّل ويتمم.

 

 

ثانياً: أما على الصعيد التشريعي فالتغيير والتطور أكثر وضوحاً وجلاءً، أجل، إن التغير بين الشرائع السماوية لا يطال الأسس والركائز ولا الجوهر، لأنّ غاية التشريع هي إقامة العدل وتحقيق الأمن على المستوى الأخلاقي والروحي والاجتماعي، وقد نادى بذلك كل الأنبياء

(ع)، وإنما يطال التغييرُ الجوانبَ التفصيلية والفرعيات التي يفرضها تبدل الحياة وحركيتها وتطوّرها، فالإنسان كل ما كان أقرب إلى المدنية والتطور والتحضر ويقظة الضمير وخرج عن حالة البدواة والقسوة في سلوكياته والرعونة في أخلاقه كان من اللازم أن ينعكس ذلك

على التشريعات التي تنظم شؤونه وحياته، وذلك بنحوٍ من المرونة والتخفيف واليسر، وأمّا إذا كان لا يزال يرتع في أجواء التخلف وكانت حياته أقرب إلى أجواء التوحش فإنّ ذلك يفرض شدة في التشريعات وصرامة في القوانين بهدف تأديبه وتهذيبه والحدّ من عدوانيته. ولعلّ

هذا ما يفسّر لنا هذا التدرج في التخفيف الذي نلحظه بين شريعتي موسى وعيسى(ع)، فشريعة موسى (ع) كانت تتسم بنوع من القسوة التي فرضتها طبيعة بني إسرائيل، بخلاف شريعة عيسى (ع)، ولهذا نجد أنّ الله تعالى يقول عن عيسى: {وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ

وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} [آل عمران: 50]، ونلاحظ في هذا النص القرآني أنّ عيسى (ع) يؤكد أولاً على مبدأ الاستمرارية والتتابع بين شريعته وشريعة موسى (ع) {وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ} ثم يعقب ذلك بالخصوصية التي ميزت شريعته وهي خصوصية التوسعة

والتخفيف، {وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ}، ثمّ تأتي بعد ذلك الشريعة الإسلامية بسمة عامة وهي التيسير والتخفيف على الناس، قال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ

لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ۚ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ ۙ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157]، ولهذا قال النبي (ص) فيما روي عنه: «إنّما بعثت بالحنيفية السمحة».

 

وينبغي أن يعلم أنّ التشريعات التي تتسم بالقسوة والشدّة التي كانت مفروضة على بعض الأمم السابقة لم تنطلق من انتقام إلهي، أو ردة فعل، فليس إلهاً حقيقياً هذا الذي ينطلق من مثل هذه الدوافع، وإنّما كانت منطلقة من تعنت الإنسان وعنفه، فكان يحتاج في سياق تربيته وتهذيبه

إلى مستوى من التشدد القانوني والتشريعي، قال تعالى: {بِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء: 160]، حتى أنّ بعض أنواع العذاب العام الذي كانت تواجه به بعض تلك الأمم وهو عذاب الاستئصال كان سببه وصول تلك الجماعة إلى مستوى من

التردي والانحطاط والتمرد والعصيان لا ينفع معهم إلّا هذا النوع من العقاب. تصورْ - على سبيل المثال - أن نبياً كنوح يدعو قومه لمئات الناس ولا يزيدهم دعاؤه إلا عتواً وظلماً وكفراً!

 

  وإنّ مسألة النسخ المعروفة بين الشرائع هي خير شاهد على ما نقوله ونتحدث عنه من مراعاة التشريع الديني لتغيّر الظروف، واختلاف الزمان والمكان، سواء كان النسخ بين شريعتين، أو داخل الشريعة الواحدة، فالنسخ لا يعدّ عيباً ولا نقصاً في الشرائع بقدر ما يعدّ عنصر

قوة ومرونة في التشريع تسمح له بمواكبة المستجدات والتطورات والتغيرات التي طرأت على وضعية الإنسان وحياته وأنماط عيشه.

 

  قد يقال: هذا يحتّم أن يطال مبدأ النسخ الشريعة الإسلامية نفسها، فكيف لها أن تبقى دائمة وخالدة ولا تتبدل مع مرور الزمان وتغيّر الأحوال، كما هو المعروف والمعتمد عند كافة المسلمين.

 

  والجواب: إنّه قد مرّ في الحديث عن ختم النبوة أنّ الإسلام امتاز في نصوصه وقواعده التشريعية بمرونة عالية تمكّنه من مواكبة المستجدات، ولا نحتاج بعد ذلك إلى نسخ الشريعة رأساً، وهذا ما سوف يتضح أكثر فأكثر في الوقفات التالية.

 

الوقفة الثانية:

فيما يتصل بالتشريع الإسلامي ، فإنّه يخضع لجملة من القواعد التي تمنحة ديناميكية خاصة، وتسمح له بمواكبة المتغيرات، ومن أهم هذه القواعد: قاعدتا نفي الضرر ونفي الحرج، (قد أشرنا إليهما في العنوان الأول المتقدم من هذا المحور). ومفادهما: أنّ أي حكم شرعي يغدو

امتثاله في زمن أو مكان معين سبباً لوقوع الإنسان في الضرر أو الحرج فإنه يكون منفياً ومرتفعاً. وبتعبير بعض المفكرين الإسلاميين (الشهيد مطهري) فإنّ للقاعدتين المذكورتين حق النقض «الفيتو» ، وصلاحية نقض كل الأحكام الشرعية التي يغدو امتثالها بمرور الأزمان

واختلاف الأحوال حرجياً أو ضررياً.

الوقفة الثالثة:

إنّ النصوص التشريعية الواردة في الكتاب الكريم، هي - في الأعم الأغلب - نصوص تمتاز بأنّها تطرح المبادئ العامة والعناوين الكلية، الأمر الذي يكسبها مرونة عالية تجعلها قابلة للتكيف مع مختلف الظروف، فعلى سبيل المثال: إنّ نفقة الزوجة في التشريع الإسلامي واجبة

على زوجها، ولكن عندما يريد القرآن الكريم بيان هذه النفقة فإنّه لا يحددها بمبلغ معين أو أشياء معينة ومحددة، فهذا أمر يختلف باختلاف الظروف والأحوال وأنماط العيش المتغيرة، وإنما يعطي قاعدة عامة مرنة، وهي لزوم عشرة المرأة بالمعروف، {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}

[النساء: 19]، ومعلوم أنّ العشرة بالمعروف عنوان مرن، وما كان عشرة بالمعروف في زمان سابق ربما لم يعد كذلك في هذا الزمان، وعلى الزوج أن يحقق ما هو عشرة بالمعروف في زمانه لا ما هو كان عشرة في السابق.

الوقفة الرابعة:

إنّ فتح باب الاجتهاد في الإسلام يعطي ديناميكية خاصة للتشريع الإسلامي، والواقع أنّ الاجتهاد هو القوة المحركة للإسلام والتي ستمكن التشريع الاسلامي من تجديد ذاته، وتسمح ببقائه حياً في النفوس وقابلاً للحياة على أرض الواقع، وعلى المجتهد أن يراعي مبدأ أساسياً في

هذا المقام، وهو أنّ للزمان والمكان دوراً في عملية استنباط الحكم الشرعي، وهذا المبدأ قد أقرّته الشريعة الإسلامية نفسها، والمجتهد هنا عليه أن يميز بين المبادئ والوسائل، فالأولى ثابتة والثانية متحركة، وعليه أيضاً أن يستلهم دائماً مقاصد الشريعة لتلهمه في عمله

الاستنباطي. وبيان هذا الأمر مفصلاً غير متاح هنا، وقد تعرضنا له بشكل مستوفى في «كتاب الشريعة تواكب الحياة» فليراجع.

 

 

نُشر المقال على الموقع في 22-8-2018






اضافة تعليق

الاسم *

البريد الإلكتروني *

موضوع *

الرسالة *


 


 
  قراءة الكتب
 
    Designed and Developed
       by CreativeLebanon