حوار مع مركز أفاق للدراسات والأبحاث: مشكلة الأديان تتشكل في الخطاب الفقهي    ثمن الحرية    أمثل الأساليب في عمليّة تهذيب النفس    مزايا الشباب    العمل سرّ النجاح    العبادة وعيٌ وانفتاح لا جهل وانغلاق    اقتناء أصنام الأمم البائدة    المفاهيم الدينية بين وجوب الاعتقاد وحرمة الانكار    البناء الاعتقادي بين الاجتهاد والتقليد    
 
بحث
 
تكريم الإنسان
 
س » كم كان عمر الزهراء (ع) حين زواجها من أمير المؤمنين (ع)؟ هل صحيح أن الإجماع هو على التسع من عمرها؟
ج »
 
▪️يوجد اختلاف كبير بين العلماء في تحديد عمر سيدتنا الزهراء سلام الله عليها حين زواجها من أمير المؤمنين عليه السلام، وتترواح هذه الأقوال بين تسع سنوات وعشرين سنة.
 
▪️مرد هذا الاختلاف إلى أمرين:
 
- الأول: الاختلاف في تاريخ مولدها، فهل ولدت قبل البعثة بخمس أم بعدها بخمس أو باثنتين؟ 
 
- الثاني: الاختلاف في تاريخ زواجها من أمير المؤمنين عليه السلام، حيث إن ثمة خلافاً في أنها تزوجت بعد الهجرة إلى المدينة بسنة أو بسنتين أو بثلاث.
 
▪️المعروف عند كثير من المؤرخين - كما ينقل التستري في تواريخ النبي (ص) والآل (ع) - أنها ولدت قبل البعثة النبوية بخمس سنين، وهذا ما ذهب إليه محمد بن إسحاق وأبو نعيم وأبو الفرج والطبري والواقدي وغيرهم، وعلى هذا سيكون عمرها حين الزواج ثماني عشرة سنة أو يزيد.
 
▪️ ونقل العلامة الأمين "أن أكثر أصحابنا" على أنها ولدت بعد البعثة بخمس سنين، وعلى هذا سيكون عمرها حين الزواج تسعاً أو عشراً أو أحد عشر عاماً، تبعاً للاختلاف في تاريخ الزواج.
 
⬅️ الظاهر أنه ليس هناك إجماع على أنّ عمرها عند الزواج بها كان تسع سنوات، فقد ذهب الشيخ المفيد في "مسار الشيعة" أنها ولدت بعد مبعث النبي (ص) بسنتين، وهو ظاهر الشيخ الطوسي في المصباح، بل نقل الشيخ عن رواية أنها ولدت في السنة الأولى لمبعثه الشريف، وحينئذ إذا كانت قد  تزوجت في السنة الأولى من الهجرة فيكون عمرها حين الزواج ثلاث عشرة سنة، وإذا تزوجت في السنة الثانية للهجرة سيكون عمرها أربع عشرة سنة، وإذا تزوجت في السنة الثالثة سيكون عمرها خمس عشرة سنة.
 
 وقد رجح التستري وغيره من علمائنا القول بولادتها بعد البعثة بخمس، استناداً إلى بعض الأخبار المروية عن الأئمة(ع).. وكيف كان، فتحقيق المسألة واتخاذ موقف حاسم يحتاج إلى متابعة.. والله الموفق.

 
 
  حوارات >> دينية
الرؤیة الاجتماعیة في الفقه
الشيخ حسين الخشن



خاص / الرؤیة الاجتماعیة في الفقه.. حوار مع سماحة الدكتور الشيخ حسين الخشن (1)

أقام الحوار: الباحث حميد رضا تمدن من موقع الإجتهاد

 

 

 

إنّ المتأمل في المسار الفقهي السائد عند فقهاء الإماميّة منذ قرون متمادية يدرك بأنّ ثمة ركوداً كبيراً أصاب حركة الاستنباط، بما أسس لمنحى فقهي فردي مسيطر، وقد أخذ المنحى المذكور بالفقيه إلى أحضان الفقه الفردي، فغاب فقه الدولة، والفقه السياسي بشكل عام، وغاب الفقه الاجتماعي، وهذا الغياب – بطبيعة الحال – له أسبابه وظروفه.

 

خاص الاجتهاد: إنه لمؤسف حقاً أن يبقى التصنيف الحاكم لكل الدراسات الفقهية هو التصنيف الرباعي الموروث عن المحقق الحلي في الشرائع، وربما تمّ تعديله جزئياً من قبل بعض الفقهاء، مع أنه ليس شيئاً مقدساً ولا يظهر الصورة الحقيقية للفقه الإسلامي، وتغيب فيه الكثير من الأبواب والمطالب المهمة في ثنايا الأبحاث الفقهية.

يعتقد سماحة الدكتور الشيخ حسين الخشن (مدير المعهد الشرعي الإسلامي في لبنان وأستاذ الدراسات العليا في مادتي الفقه والأصول في المعهد ومدير دائرة الحوزات العلمية في مؤسسة السيد محمد حسين فضل الله -ره-) في حوار مع “الاجتهاد” أنّ الباحث الخبير والمطلع على الشريعة الإسلامية في أحكامها، نصوصها ومقاصدها، سوف يكتشف أنّها قد وازنت بين حاجيات الفرد وحاجيات المجتمع، وراعت متطلبات كل منهما، مع ترجيح واضح لمصلحة الجماعة في حال التزاحم بينها وبين مصلحة الفرد.

كما يعتقد الدكتور الخشن أنّ ما يمكن طرحه كأمر جديد تحت عنوان الفقه الاجتماعي هو أن يصار إلى وضع باب خاص في الفقه لدرس أحكام الفقه الاجتماعي، تماماً كما يفترض أن يكون لدينا باب لدرس أحكام الفقه الاقتصادي، أو الفقه السياسي، أو فقه البيئة، أو غير ذلك.

الرؤیة الإجتماعیّة فی الفقه وکیفية إتصاف الفقه أو الفقیه بوصفهما “الإجتماعی” ودور الفقه الاجتماعي في مسار الأمة ومكانته في حركة الاستنباط الفقهي وأخيرا آثار الفقه الاجتماعي ونتائجه، كل هذه أسئلة تطرق اليها سماحة الدكتور الشيخ حسين الخشن في حوار مع الاجتهاد والذي نقدم بين أيديكم:

 هل الخطابات الشرعية تنحصر بالفرد والفقه الفردي أم للمجتمع والفقه الاجتماعي له دور في هذا المجال؟

لا يخفى أنّ الخطاب القانوني الشرعي ليس منحصراً بالفرد كما يعتقد أو يتخيّل كثيرون، بل إنّ هذا الخطاب لديه ثلاث دوائر يستهدفها بالتكليف، والدوائر هي: دائرة الفرد، ودائرة الدولة، دائرة المجتمع.

وتوضيحاً لذلك أستعين بذكر المثال التالي، وهو أنّ المسؤولية عن إعالة الفقير والمسكين تقع – بحسب التأمل في النصوص الدينية – على عاتق ثلاثة مكلفين:

أ‌- الأفراد، وهم هنا الآباء وإن علوا حيث يلزمون بالنفقة على أبنائهم، والأبناء يلزمون بالنفقة على الفقراء من آبائهم وأمهاتهم، وكذلك الزوج حيث يلزم بالنفقة على زوجته.

ب‌- مسؤولية الدولة، فإنّ من واجب الدولة بأجهزتها المختصة أن تعيل الفقراء والمحتاجين من بيت المال، وقد خصص التشريع الإسلامي جزءاً من ميزانية الدولة لمثل هذه الحالات، ومن يقرأ عهد علي (ع) إلى الأشتر سيجد أنّ للدولة الكثير من التكاليف والمسؤوليات.

ت‌- دائرة المجتمع، أو الأمة، والمسؤولية هنا تتوجه إلى المجتمع من خلال مؤسساته ومجموع أفراده بالعمل على سدد الخلل في المجتمع بالعمل على كفالة الفقراء ورعايتهم ولو من خارج الحقوق الشرعيّة، ولا نتحدث عن مسؤولية أخلاقيّة بل مسؤولية شرعية إلزامية، فالأمة مسؤولة عن سد الخلل في الجسم الاجتماعي وإذا تقاعست فإنها ستُسأل عن ذلك أمام الله تعالى.

إنّ ما يعنيه ذلك أنّ المجتمع له شخصيّة اعتباريّة مستقلة ومغايرة لشخصية الفرد، وكما أنّ للفرد حالة طفولة وشباب وهرم وموت، كذلك المجتمع، فإنه يمر بهذه الحالات، وكما أن الفرد يمرض ويشفى كذلك المجتمع، ولا ملازمة بين الأمرين، فقد يمرض المجتمع مع أنّ أبناءه أصحاء..

وهنا تبرز أهمية العمل على تحديد العلاقة بين هذه الدوائر الثلاث، فهل هي علاقة طولية، بحيث يبدأ الأمر بالفرد فإن عجز أو تقاعس ننتقل إلى الدولة، وفي حال عجز الفرد أو تقاعس عن القيام بواجبه وتخلفت الدولة أيضاً عن القيام بواجبها، تبرز مسؤولية المجتمع؟ أم أن العلاقة بينها هي علاقة عرضية؟ وهذا يحتاج إلى متابعة.

وقصارى القول: إنّ الفقه لا يمكن أن يُحبس في الدائرة الفردية، ولا أن يقتصر الفقيه على الاشتغال في خصوص الدائرة الاجتماعية، أو الدائرة الحكوميّة، لأنّ النص الديني يتناول كل هذه الأبعاد أو الدوائر الثلاث.

وعليه، فانخراط الفقيه في عمليّة الاجتهاد والتنظير للفقه الاجتماعي – كما فقه الدولة – ليس خياراً له، بل هي من مسؤولياته، لأنّ حركة الاجتماع البشري – ككيان مستقل – تحتاج هي الأخرى إلى تقنين وتشريع، كما يحتاج الفرد إلى ذلك.

وقد تطرح في هذا المجال، وفي سبيل إثراء البحث الفقهي، فكرة التخصص في المسارات الفقهية المشار إليها، ليكون لدينا فقيه في الفقه الفردي، وآخر في فقه الدولة، وثالث في الفقه الاجتماعي .. وهذه الفكرة إنما تكون مقبولة شريطة أن يكون الفقيه ملماً – على مستوى الملكة والأهلية – بكل مجالات الفقه ومساراته وأبعاده، ومجتهداً في قواعده العامة، ولديه رؤية فقهيّة متكاملة عن هذه الأبواب والمسارات وحدودها وضوابطها، لأنه لا يمكن الفصل بهذه الطريقة الحادة بين تلك الأبواب، بسبب التداخل الكبير في أدوات الاستنباط، والترابط بينها.

ما المقصود بالفقه الاجتماعي، وهل هو غائب عن حركة الاستنباط الفقهي ؟ هل يمكن وضع باب خاص في الفقه تحت عنوان الفقه الاجتماعي؟

السؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل لدينا فقه اجتماعي؟ وإذا كان هنا الأمر كذلك فما المقصود بالفقه الاجتماعي؟ وما فرقه عن الفقه الفردي؟ وهل الفقه الاجتماعي غائب فعلاً عن حركة الاستنباط الفقهي حتى يطرح على بساط البحث باعتباره من الموضوعات المستجدة والملحة؟ أليست الكثير من أحكام الفقه الإسلامي هي أحكام اجتماعية بامتياز، وعلى رأسها أحكام الأسرة، الداعية إلى صلة الأرحام ومساعدة الآخرين، وإدخال السرور على قلوبهم، ومشاركة الآخرين في أفراحهم وأتراحهم، وكذلك أحكام أخرى قد نشير إليها؟ إذن فما الذي يمكن إضافته في هذا المجال تحت عنوان الفقه الاجتماعي؟ أليس هذا الحديث من قبيل الترف الفكري؟!

أعتقد أنّ ما يمكن طرحه كأمر جديد تحت عنوان الفقه الاجتماعي هو أمران:

الأمر الأول: أن يصار إلى وضع باب خاص في الفقه لدرس أحكام الفقه الاجتماعي، تماماً كما يفترض أن يكون لدينا باب لدرس أحكام الفقه الاقتصادي، أو الفقه السياسي، أو فقه البيئة، أو غير ذلك، وهذه الزاوية مهمة جداً، وهي تتصل بقضية إعادة تنظيم الفقه وتبويبه وتصنيفه، لأنّ التصنيف يعطي الصورة الحقيقية للإسلام ورؤيته للحياة، وإنه لمؤسف حقاً أن يبقى التصنيف الحاكم لكل الدراسات الفقهية هو التصنيف الرباعي الموروث عن المحقق الحلي في الشرائع، وربما تمّ تعديله جزئياً من قبل بعض الفقهاء، مع أنه ليس شيئاً مقدساً ولا يظهر الصورة الحقيقية للفقه الإسلامي، وتغيب فيه الكثير من الأبواب والمطالب المهمة في ثنايا الأبحاث الفقهية.

وكيف كان، ففي المرحلة الأولى من البحث يكون من المهم والضروري بمكان أن يصار إلى جمع شتات أحكام الفقه الاجتماعي، وهي كثيرة جداً وتحتاج إلى جهد يعمل على تصنيفها ونظمها في باب خاص، ليسهل أمر درسها وملاحظة قواعدها، ناهيك عن معرفة مفرداتها المختلفة،

فعلى سبيل المثال: إنّ التشريع الإسلامي يدعو إلى الترابط والتواصل بين أبناء المجتمع، وهذا أمر لا تخطئه العين، فثمة أحكام تأمر بزيارة الأرحام، ومساعدة الإخوان، وإدخال السرور على قلوبهم ولقاءهم ببشر… وتشييع جنازة المؤمن، ومشاركته في الأحزان والأفراح، وفي الوقت عينه فإنّ ثمة أحكام تحظر كل ما يؤدي إلى التناحر والتقاطع والتدبر، فيحرم قطيعة الأرحام أو الإساءة إلى كرامات الآخرين أو الاعتداء عليهم..

وهذه الأحكام بجانبها الإيجابي أو السلبي لا تندرج في كتب الفقه المتداولة في باب واحد، بل إنك تجدها متناثرة في شتى الأبواب الفقهية، وهكذا يضيع التصور الإسلامي في المجال الاجتماعي في ثنايا الأبحاث المتفرقة، فلا بدّ أن يصار كخطوة أولى إلى تنظيم تلك الأحكام والفتاوى وتصنيفها.

وتصنيف الفتاوى الفقهية لا بدّ أن يوازيه تصنيف أخر لأدلتها ومداركها، ولا سيما الروائية منها، ما يستدعي إعادة تصنيف الأحاديث بتصنيف جديد ووفق معيار يواكب تطور الحياة ويراعي معطيات الواقع المعاصر.

الأمر الثاني: اكتشاف الرؤية العامة للفقه الإسلامي، فهل هي رؤية يغلب عليها الطابع الاجتماعي أم الطابع الفردي؟

أعتقد أنّ الباحث الخبير والمطلع على الشريعة الإسلامية في أحكامها، نصوصها ومقاصدها، سوف يكتشف أنّها قد وازنت بين حاجيات الفرد وحاجيات المجتمع، وراعت متطلبات كل منهما، مع ترجيح واضح لمصلحة الجماعة في حال التزاحم بينها وبين مصلحة الفرد، والحديث عن هذه الموازنة أو ترجيح المصلحة العامة على المصلحة الفردية هو حديث يندرج في صلب بحثنا حول الفقه الاجتماعي .. وآمل أن نوفق للتطرق إليه.

أمّا فيما يتصل بتكوين هذه الرؤية الاجتماعية بخطوطها العامة، فلن يعجز الباحث الخبير في الفقه الإسلامي عن رصد جملة من الاتجاهات الأساسية والمحددات أو المؤشرات العامة، إنْ فيما يتصل بالاجتماع الإنساني العام أو فيما يتصل بالاجتماع الإسلامي الخاص، مستعيناً ومنطلقاً ومعتمداً في ذلك – أعني في تكوين تلك الرؤية الاجتماعية – على مخزون وافرٍ من النصوص والفتاوى الاجتماعيّة أو ذات البعد الاجتماعي.

وعلينا في هذا السياق أن نشير إلى أنّ حضور البعد الاجتماعي في الفقه الإسلامي لاينحصر فيما يصنف عادة بدائرة المعاملات والأنشطة الإنسانية العامة، بل إنه يمتدّ حتى إلى دائرة العبادات، التي هي – وفق النظرة الأوليّة – أعمال خاصة يؤديها الإنسان فيما بينه وبين ربه، ولكنّ التأمل يكشف عن حضور البعد الاجتماعي فيها، أليست الزكاة وفق التصنيف الفقهي من جملة العبادات؟ بالطبع هي كذلك، ولكنها عبادة يحضر فيها البعد الاجتماعي بشكل جلي.

دعْ عنك الزكاة، وخذ مثال الصلاة، فهي وإن كانت تعبّر عن حالة تواصل فردي وشخصي بين العبد وربّه، لكن مع ذلك نجد أنّ الإسلام أضفى عليها بعداً اجتماعياً خاصاً وحاكماً، فمن جهة نراه قد حثّ على أدائها ضمن الجماعة، مع ما يعنيه الاجتماع من ضرورة مراعاة التناسق والتناغم بين المصلين من حيث قيامهم سويّة وجلوسهم كذلك، وما يرافق ذلك ويلازمه – عادة – من تعارف فيما بين المصلين وتواصل وتقارب.

وهو – أعني التقارب والتواصل – مبدأ أساسي وهدف سامٍ يسعى إليه الإسلام وينشده ويؤكد عليه في كل تعاليمه المتصلة في تنظيم الاجتماع البشري، وهكذا يحرص الفقه على هيئة الجماعة ويؤكد على أن لها حرمة خاصة، ولذا لا يجوز التشويش على الجماعة ولو بالصلاة فرادى.

ومن جهة أخرى نجد أنّ الأمر لا يقف عند حدود الترغيب والحثّ على الاجتماع في الصلاة، بل الأهم من ذلك أنّ هيئة الجماعة في الصلاة لها نحو حاكمية وتقدمٍ على ما عداها، فهي تُرتب وتفرض أحكاماً خاصة تتقدم فيها مراعاة الجماعة على مراعاة الصلاة عينها، فيغتفر في الجماعة ما لا يغتفر في غيرها من النواقص والزيادات، فزيادة الركن أو نقيصته في الصلاة تكونان مبطلتين لكنهما تغتفران ويتسامح فيهما إذا كانت الصلاة جماعة.

من الطبيعي أن تصنيف الفقه الاجتماعي فتوىً ونصاً، وحكماً ومدركاً، مما تقدم الحديث عنه في الأمر الأول، سوف يعيننا ويساعدنا على بناء الرؤية العامة والصحيحة والمتكاملة حول الفقه الاجتماعي في الإسلام.

ما هي الآثار وفوائد بناء الرؤية الاجتماعية في الفقه الإسلامي؟

أعتقد أنّ الحديث عن تكوين الرؤية الاجتماعية له ما يبرره، وهو ليس حديثاً خطابياً أو ترفاً فكرياً وعديم الثمرة، كلا، بل إنّ لتكوين هذه الرؤية الاجتماعيّة على ضوء الإسلام العديد من النتائج والآثار والثمرات، وإليك بعضها:

أولاً: تقديم تصور متناسق ومتكامل عن الفقه الإسلامي: إنّ تكوين الرؤية الاجتماعية يسهم – في الحد الأدنى – في إخراج التشريع الإسلامي عن كونه مجرد أحكام متناثرة، غير مترابطة ولا واضحة الجدوى ولا بينة المعالم، إنه يخرجه عن ذلك ليقدّمه بصفته منظومة تشريعية متناسقة ومتكاملة ترمي إلى تحقيق غايات جلية، يتضح فيها دور الفرد ودور المجتمع، وهذا الأمر سينعكس إيجاباً في نفوس المسلمين، حيث إنه يعزز علاقتهم بدينهم وإيمانهم وثقتهم به، كما سيشكل داعية للإسلام أو دفاعاً عنه في وجه الأصوات التشكيكية التي تطاله من كل اتجاه، وتتساءل عن جدواه، ومعلوم أنّ إنسان اليوم لا يمكن إقناعه بالمنظومة الفقهيّة الإسلاميّة بشكل تعبدي، وإنما يحتاج إلى تبرير منطقي متماسك ومبرهن يستند إلى فلسفة فقهيّة توضح له روح التشريع ومقاصده وغاياته.

ثانياً: تقديم إطار موجِّه لحركة الاستنباط الفقهي، وهذه من أهم الثمرات في المقام، فإنّ تشكيل الرؤية الاجتماعية الحاكمة في الفقه الإسلامية سيفضي إلى وجود مبادئ وقواعد عامة تحكم حركة الاجتماع الإسلامي والإنساني، وهذه المبادئ تصلح موجِّهاً لحركة الاستنباط الفقهي، بحيث يفترض أو يجدر بالفقيه في عمله الاجتهادي أن يأخذها بعين الاعتبار حتى لا تأتي فتاواه مصادمة لها.

ثالثاً: تقديم ناظم لحركة الأحكام التدبيرية، فلو أنّ مشككاً رفض أن يكون لتلك الرؤية الاجتماعية دور في عمليّة الاستنباط الفقهي وصناعة الفتوى، فأعتقد أنه لا ينبغي التشكيك في أن يكون لها دور ناظم لحركة الأحكام التدبيرية الولايتية، فالحاكم الشرعي يفترض به أن يراعي في قوانينه وأحكامه التدبيرية تلك المبادئ العامة التي تعتمد عليها الرؤية الإسلامية للاجتماع البشري أو الإسلامي، وهذا في الواقع هو مستند الرأي الذي يمنح الحاكم حق الاستملاك القهري لأراضي الأفراد، مراعاةً لما تفرضه المصلحة العامة كشق شارع عام يرفع مشكلة سير خانقة مثلًا.

فإنّ مبنى هذا الرأي هو تقديم المصلحة العامة على مصلحة الأفراد عند التزاحم، وما ذكر في هذا المثال يمكن أن يطرح في نظائره. وعلى الفقيه أن يعمل على رسم وبيان الحدود الفاصلة بين حرية الفرد ومصلحة الجماعة، فإذا كان الفرد معتقداً – اجتهاداً أو تقليداً – بشرعية بعض الأعمال كزواج الصغيرة مثلاً، أو بإباحة بعض الطقوس، كممارسة التطبير مثلاً، وكان الحاكم الشرعي يرى من خلال المعطيات أنّ هذه الأعمال أو الطقوس مضرة بسلامة المجتمع الإسلامي أو بصورته، فإن بإمكانه أن يمنع منها.

ما هي أسباب غياب الفقه الاجتماعي على الرغم من وجود فقه عمره قرون متمادية؟

إنّ المتأمل في المسار الفقهي السائد عند فقهاء الإماميّة منذ قرون متمادية يدرك بأنّ ثمة ركوداً كبيراً أصاب حركة الاستنباط، بما أسس لمنحى فقهي فردي مسيطر، وقد أخذ المنحى المذكور بالفقيه إلى أحضان الفقه الفردي، فغاب فقه الدولة، والفقه السياسي بشكل عام، وغاب الفقه الاجتماعي، وهذا الغياب – بطبيعة الحال – له أسبابه وظروفه،

فغياب الدولة الإسلاميّة نفسها والتي تسير في قوانينها وأحكامها على ضوء الإسلام ومدرسة أهل البيت (ع)، أسهم في غياب التنظير لفقه الدولة، كونه فقهاً خارج محل الابتلاء أو ليس له موضوع خارجي، وفي المقابل فقد أنعش – هذا الغياب – الفقه الفردي، بما في ذلك الفقه الذي ينظم للفرد علاقته مع الدولة الظالمة أو الجائرة، الذي نجد وفرة في الحديث عنه ( حكم الدخول في ولاية السلطان الجائر / حكم أخذ الهدايا منه / حكم الاجتزاء بما يُدفع إليه من الزكاة والخراج، حكم الصلاة والحج والصيام معه ).

أمّا غياب الفقه الاجتماعي فيعود لجملة أسباب، ويأتي على رأسها العاملان السياسي والثقافي:

أولاً: العامل السياسي

لا يخفى أنّ القهر والظلم والاستبداد المتمادي والمستمر والقائم على خلفيّة مذهبيّة لم يدفع الأشخاص الذين يختلفون مذهبياً مع السلطة الجائرة إلى أحضان الانعزال والتقية وممارسة الشعائر ضمن بوتقة فردية خاصة حرصاً على حفظ الحياة الفردية فحسب، بل إنّه أسهم أيضاً في إيجاد انكماش وانغلاق في الذهنية الفقهيّة، وتوجساً من الآخر وخشية من أن يحتوي ويصهر الجماعة المستضعفة ضمن بوتقته، وهذا ما يفسر لنا كل التراث الفقهي الذي ينظِّر لفتاوى القطيعة مع الآخر المذهبي، فقد لاحظنا في الفقه الشيعي فتاوى أطلقنا عليها عنوان فتاوى القطيعة، وهي الفتاوى التي تنزع عن الآخر المذهبي الاحترام، فتبيح سبّه ولعنه وغيبته، وتنزع عنه الأهليّة القانونية فلا تقبل شهادته، وتنزع عنه الأهلية الدينية فلا يجوز الصلاة خلفه، وهكذا تمنعه من أن إعطاء الزكاة مع أنها تؤخذ منه، إنّ هذه الفتاوى تفكك عرى الاجتماع الإسلامي، فكيف نفهمها يا ترى؟

أعتقد أنّ ثمة عوامل عدّة أسهمت في انتشار هذه الفتاوى المساهمة في تفكيك الاجتماع الإسلامي، واستسهال إطلاقها وتقبلها، ( لنا حديث مفصل عنها في كتاب سيصدر بعون الله قريباً) ومن أهم هذه العوامل التي تتصل ببحثنا هنا:

أولاً: التنفيس عن الاحتقان المذهبي، فإنّ الشخص الذي يعيش في أجواء المظلومية والحصار والعزلة ويتعرض لصنوف التنكيل على خلفيّة مذهبيّة ضيقة سيعيش حالة حنق وغضب وحقد ضد الآخر، وهذه قد تتفجر في أي لحظة صراعاً مع الآخر، وهنا تلعب أساليب اللعن والسبّ والشتم والغيبة دوراً في شفاء الغيظ وتنفيس الاحتقان الداخلي لدى الأشخاص، وهذا التنفيس يبدو في هذا السياق حاجة نفسيّة للمضطهَد لأنه يخفف من غلوائه وينفس به عن غضبه.

ثانياً: أجواء العزلة والحصار، وتلعب أجواء العزلة والحصار والمطاردة التي تعيشها جماعة معينة مع ما يرافق ذلك من منع الجماعة المضطهدة من نشر فكرها بين أتباعها أو تجديد خطابها على أساس علمي متين، تلعب دوراً كبيراً على هذا الصعيد، بما قد يدفعها إلى شيطنة الآخر ونزع الحرمة لشدّ عصب أتباعها وحمايتهم من الذوبان والتلاشي.

ثانياً: العامل الثقافي

إنّ حالة التقهقر الحضاري الذي أصاب الأمة أسهم في إنتاج جو فكري عام يتسم بحالة من الجمود والركود إن على الصعيد الفلسفي والكلامي أو على الصعيد الفقهي أو على صعيد الاكتشافات العلميّة أو غيره من الأصعدة.

لقد انعكس هذا الجمود بشكل جلي على الفقه وأصوله، فغابت الرؤية المقاصدية، وبغيابها انكمشت ذهنية الفقيه وسادت النظرة الفردية الحاكمة في أصول الفقه، وأقصد بها النظرة التي لا ترى إلا مكلفاً ومخاطباً واحدًا فقط، وهو الفرد، فلم ير الأصولي أنّ ثمّة مكلفًا آخر بالخطابات الشرعية، وهذا المكلف هو الهيئة الاجتماعية أو الهيئة الحكومية، وأنّ هذا المكلف يختلف عن الفرد، ولكل واحد منها تكاليفه الخاصة.

ومردّ ذلك – كما قلنا – إلى غياب الرؤية المقاصدية، وابتناء الفقه على مقولات “ومسلمات” وذهنيات منغلقة من قبيل:

1- الذهنية التفكيكية: سادت – ولا تزال- في الأوساط والكتابات الفقهية النظرة الفردية التفكيكية التي تتعاطى مع الشريعة على أنها مجرد نصوص متناثرة وأحكام متشتتة لا يربطها رابط ولا ينظمها ناظم، وهذا ما تعبر عنه المقولة الشائعة القائلة: “إن الشريعة مبتنية على جمع المتفرقات وتفريق المجتمعات” ، إلاّ أنّ هذه المقولة وإن ترسخت في الذهن الفقهي وربما يذكر لها بعض الأمثلة، لكن لا يمكن قبولها بالمطلق، لأنها تكرس الشريعة كمجموعة من الأحكام المتناثرة، وهو ما لا ينسجم مع كونها نظام حياة متكامل للمجتمعات الإنسانية في مختلف الأزمنة، بل إن ذلك لا ينسجم مع واقع الحال، فإن المتأمل في الشريعة يجدها هادفة منتظمة مترابطة، وكل حكم من أحكامها يشكل لبنة في بناء الشريعة المتكامل، ومن هنا جاء الرفض القرآني لفكرة الإيمان ببعض الكتاب والكفر بالبعض الآخر، {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض} [البقرة:85] فإنّ الإسلام منظومة متكاملة، فإمّا أن تؤمن به ككل أو ترفضه ككل.

هذا على أن المقولة المذكورة ليست نصاً صادراً عن معصوم، وإنما هي عبارة لبعض الفقهاء استفادوها مما رأوه من اختلاف حكم بعض المتماثلات في الشريعة، وما أبعد ما بين ذهنية هؤلاء وذهنية بعض الفقهاء الآخرين الذين ألفوا في الأشباه والنظائر، كالشيخ يحيى بن سعيد الحلي (ت:690هـ) صاحب كتاب “نزهة الناظر في الجمع بين الأشباه والنظائر”، حيث عمل في كتابه على جمع الأحكام المتشابهة مما هو موزع في أبواب فقهية مختلفة.

2- الذهنية التعبدية: العائق الثاني أمام انطلاق عجلة الفقه المقاصدي هو سيطرة فكرة أو عقدة التعبد على الذهنية الفقهية إلى حد تغدو معه الشريعة مجرد قوالب جامدة وشكلية، وقوانين متحجرة وقشرية، والعذر الذي يتشبث به أصحاب الذهنية االتعبدية هو عدم تمكن العقل البشري من إدراك ملاكات الأحكام وعللها بشكل قطعي، لأن دين الله لا يصاب بالعقول، أما العلل والمناطات الظنية فلا قيمة لها، لأن الظن لا يغني عن الحق شيئاً.

وفكرة التعبد الشرعي هذه صحيحة في دائرة العبادات، – كما مر سابقاً- لأن العبادة هي دين الله ومن اختراعه، فلا يمكن أن تصاب بالعقول، ولهذا “يناط وجودها بأمر الشارع، فهو مصدرها وبه قوامها، ومن هنا انعقد إجماع الفقهاء على أنها من الأمور التوقيفية وأن الأصل فيها المنع حتى يثبت الإذن من الشرع، ومن تعبد الله في شيء على أنه حكمه تعالى بلا إذن منه فقد أحدث في الدين وأبدع، قال سبحانه: {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله} [الشورى:21] .

ولكنّ تعميم فكرة التعبد إلى سائر الحقول الفقهية غير العبادات كفقه المعاملات غير سديد ولا دليل عليه، لأنّه ليس من اختراع الشارع، “وليس له فيها حقيقة شرعية، وإنما هي عادات وتقاليد عرفية اصطلح الناس عليها والتزموا بها في التعاون والتعامل، والشارع أقر بعضها كما هي وألغى بعضها من الأساس وقلم أو طعم البعض الآخر في نطاق المصلحة” ، وإذا كان المبدأ العام في العبادات هو التعبد، فإن المبدأ الأساسي في المعاملات ما لم يثبت خلافه أنه لا يوجد تعبد، ولذا لا بد أن تنزل وفقاً للأدلة العليا من الشريعة، ووفقاً لمقاصدها وما نفهمه من ملاكاتها ومناطاتها ، وقد ذكر العلامة شمس الدين مثالاً لذلك، وهو تناول الملح قبل الطعام نافياً استحبابه وتعبديته وقد أشرنا إلى ذلك في بعض الأبحاث السابقة.






اضافة تعليق

الاسم *

البريد الإلكتروني *

موضوع *

الرسالة *


 


 
  قراءة الكتب
 
    Designed and Developed
       by CreativeLebanon