حوار مع مركز أفاق للدراسات والأبحاث: مشكلة الأديان تتشكل في الخطاب الفقهي    ثمن الحرية    أمثل الأساليب في عمليّة تهذيب النفس    مزايا الشباب    العمل سرّ النجاح    العبادة وعيٌ وانفتاح لا جهل وانغلاق    اقتناء أصنام الأمم البائدة    المفاهيم الدينية بين وجوب الاعتقاد وحرمة الانكار    البناء الاعتقادي بين الاجتهاد والتقليد    
 
بحث
 
تكريم الإنسان
 
س » أنا طالب علم، لدي خوف من أن أتكلم بغير علم.. ما الحل؟
ج »

وعليكم السلام

لا بد لطالب العلم في مساره العلمي أن يتسلح بأمرين أساسيين:
الأول: الاستنفار العلمي وبذل الجهد الكافي لمعرفة قواعد فهم النص واستكناه معناه ودلالاته بما يعينه على التفقه في الدين وتكوين الرأي على أسس صحيحة.
الثاني: التقوى العلمية ويُراد بها استحضار الله سبحانه وتعالى في النفس حذراً من الوقوع في فخ التقوّل على الله بغير علم. ومن الضروري أن يعيش مع نفسه حالة من المحاسبة الشديدة ومساءلة النفس من أن دافعه إلى تبني هذا الرأي أو ذاك: هل هو الهوى والرغبة الشخصية أم أن الدافع هو الوصول إلى الحقيقة ولو كانت على خلاف الهوى.
أعتقد أن طالب العلم إذا أحكم هذين الامرين فإنه سيكون موفقاً في مسيرته العلمية وفيما يختاره من آراء أو يتبناه من موقف.

 
س » كيف علمنا أن الصحيفة السجادية ناقصة؟ وهل ما وجده العلماء من الأدعية صحيح؟؟
ج »

أقول في الإجابة على سؤالكم:

أولاً: إن الصحيفة السجادية في الأصل تزيد على ما هو واصل إلينا وموجود بين أيدينا، قال المتوكل بن هارون كما جاء في مقدمة الصحيفة: " ثم أملى عليّ أبو عبد الله (ع) الأدعية، وهي خمسة وسبعون باباً، سقط عني منها أحد عشر باباً، وحفظت منها نيفاً وستين باباً"، بيد أن الموجود فعلاً في الصحيفة الواصلة إلينا هو أربعة وخمسون دعاء. آخرها دعاؤه في استكشاف الهموم، وهذا آخر دعاء شرحه السيد علي خان المدني في رياض السالكين، وكذا فعل غيره من الأعلام.

ثانياً: إن سقوط عدد من أدعية الصحيفة وضياعها دفع غير واحد من الأعلام للبحث والتتبع في محاولة لمعرفة ما هو الضائع منها، وبحدود اطلاعي فإنهم عثروا على أدعية كثيرة مروية عن الإمام زين العابدين (ع)، لكنهم لم يصلوا إلى نتائج تفيد أن ما عثروا عليه هو من الأدعية الناقصة منها، ولذا عنونوا مؤلفاتهم بعنوان مستدركات على الصحيفة، ولم يجزموا أن ما جمعوه من أدعية هو الضائع من أدعية الصحيفة. وهذا ما تقتضيه الضوابط العلمية والدينية، فما لم يعثر الإنسان على نسخة قديمة موثوقة أو قرائن مفيدة للوثوق بأن هذا الدعاء أو ذاك هو من جملة أدعية الصحيفة فلا يصح له إضافة بعض الأدعية على الصحيفة بعنوان كونها منها.

ثالثاً: لقد ابتُلينا بظاهرة خطيرة، وهي ظاهرة الإضافة على الصحيفة أو غيرها من كتب الأدعية، وهذا العمل هو خلاف الأمانة والتقوى، وقد ترتّب على ذلك الكثير من المفاسد، وأوجب ذلك وهماً للكثيرين، فتوهموا أن بعض الأدعية هي جزء من الصحيفة السجادية المشهورة، ومردّ ذلك بكل أسف إلى أن مجال الأدعية والزيارات شرعة لكل وارد، وتُرك لأصحاب المطابع والمطامع! وأعتقد أن هذا العبث في كتب الأدعية والزيارات ناشئ عن عدم عناية العلماء بالأمر بهذه الكتب كما ينبغي ويلزم، كما نبه عليه المحدث النوري في كتابه "اللؤلؤ والمرجان" مستغرباً صمت العلماء إزاء التلاعب والعبث بنصوص الأدعية والزيارات مما يعدّ جرأة عظيمة على الله تعالى ورسوله (ص)!

رابعاً: أما ما سألتم عنه حول مدى صحة الأدعية الواردة بعد دعاء استكشاف الهموم، فهذا أمر لا يسعنا إعطاء جواب حاسم وشامل فيه، بل لا بدّ أن يدرس كل دعاء على حدة، ليرى ما إذا كانت قرائن السند والمتن تبعث على الحكم بصحته أم لا. فإن المناجاة الخمس عشرة بنظرنا لم تصح وربما كانت من وضع الصوفية، وقد أوضحنا ذلك بشكل مفصل في كتاب الشيع والغلو.


 
س » ابني المراهق يعاني من التشتت، وأنا جدا قلق ولا اعرف التصرف معه، ما هي نصيحتكم؟
ج »

التشتت في الانتباه في سن المراهقة مع ما يرافقه من الصعوبات هو في حدود معينة أمر طبيعي وظاهرة تصيب الكثير من المراهقين ولا سيما في عصرنا هذا.

وعلينا التعامل مع هذه المرحلة بدقة متناهية من الاستيعاب والتفهم والإرشاد والتوجيه وتفهم سن المراهق، وأن هذه المرحلة تحتاج إلى أسلوب مختلف عما سبقها.

فالمراهق ينمو لديه الإحساس بالذات كثيرا حتى ليخيل إليه أنه لم يعد بحاجة إلى الاحتضان والرعاية من قِبل والديه.

وبالتالي علينا أن نتعامل معه بأسلوب المصادقة "صادقه سبعا.." والتنبه جيدا للمؤثرات التي تسهم في التأثير على شخصيته واستقامته وتدينه، ومن هذه المؤثرات: الأصدقاء ووسائل التواصل الاجتماعي، فإن نصيبها ودورها في التأثير على المراهق هو أشد وأعلى من دورنا.

وفي كل هذه المرحلة علينا أن نتحلى بالصبر والأناة والتحمل، وأن نبتدع أسلوب الحوار والموعظة الحسنة والتدرج في العمل التربوي والرسالي.

نسأل الله أن يوفقكم وأن يقر أعينكم بولدكم وأن يفتح له سبيل الهداية. والله الموفق.


 
س » اعاني من عدم الحضور في الصلاة، فهل أحصل على الثواب؟
ج »
 
لا شك أن العمل إذا كان مستجمعا للشرائط الفقهية، فهو مجزئٌ ومبرئٌ للذمة. أما الثواب فيحتاج إلى خلوص النية لله تعالى بمعنى أن لا يدخل الرياء ونحوه في نية المصلي والعبادة بشكل عام.
ولا ريب أنه كلما كان الإنسان يعيش حالة حضور وتوجه إلى الله كان ثوابه أعلى عند الله، لكن لا نستطيع نفي الثواب عن العمل لمجرد غياب هذا الحضور في بعض الحالات بسبب الظروف الضاغطة على الإنسان نفسيا واجتماعيا.
لكن على الإنسان أن يعالج مشكلة تشتت الذهن أثناء العمل العبادي وذلك من خلال السعي الجاد للتجرد والابتعاد عن كل الهواجس والمشكلات أثناء الإقبال على الصلاة، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، باستحضار عظمة الله عز وجل في نفوسنا وأنه لا يليق بنا أن نواجهه بقلب لاهٍ وغافل. والله الموفق.

 
س » أنا إنسان فاشل، ولا أتوفق في شيء، وقد كتب عليّ بالخسارة، فما هو الحل؟
ج »

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

أولاً: التوفيق في الحياة هو رهن أخذ الإنسان بالأسباب التي جعلها الله موصلة للنجاح، فعلى الإنسان أن يتحرك في حياته الشخصية والمهنية والاجتماعية وفق منطق الأسباب والسنن. على سبيل المثال: فالإنسان لن يصل إلى مبتغاه وهو جليس بيته وحبيس هواجسه، فإذا أراد الثروة فعليه أن يبحث عن أسباب الثروة وإذا أراد الصحة فعليه أن يأخذ بالنصائح الطبية اللازمة وإذا أراد حياة اجتماعية مستقرة عليه أن يسير وفق القوانين والضوابط الإسلامية في المجال الاجتماعي وهكذا.

ثانياً: لا بد للإنسان أن يعمل على رفع معوقات التوفيق، وأني أعتقد أن واحدة من تلك المعوقات هي سيطرة الشعور المتشائم على الإنسان بحيث يوهم نفسه بأنه إنسان فاشل وأنه لن يوفق وأنه لن تناله البركة الإلهية.

إن هذا الإحساس عندما يسيطر على الإنسان فإنه بالتأكيد يجعله إنسانا فاشلا ومحبطا ولن يوفق في حياته ولذلك نصيحتي لك أن تُبعد مثل هذا الوهم عن ذهنك وانطلق في الحياة فإن سبيل الحياة والتوفيق لا تعد ولا تحصى.


 
س » ما هو هدف طلب العلم الذي يجب أن يكون؟
ج »

عندما ينطلق المسلم في طلبه للعلم من مسؤوليته الشرعية الملقاة على عاتقه ومن موقع أنه خليفة الله على الأرض، فإن ذلك سوف يخلق عنده حافزاً كبيراً للجد في طلب العلم والوصول إلى أعلى المراتب. أما إذا انطلق في تحصيله من موقع المباهاة أو إثبات ذاته في المجتمع أو من موقع من يريد أن يزين اسمه بالشهادة الجامعية ليُقال له "الدكتور" وما إلى ذلك، فإنه - في الغالب - لن يصل إلى النتيجة المرجوة.

وعلى كل إنسان منا أن يعي أنّنا في هذه الحياة مسؤولون في أن نترك أثراً طيباً، وأن نقوم بواجباتنا قبل أن يطوينا الزمان، إننا مسؤولون عن عمرنا فيما أفنيناه وعن شبابنا فيما أبليناه، وسنُسأل يوم القيامة عن كل هذه الطاقات التي منّ اللهُ بها علينا.

وأضف إلى ذلك، إنه من الجدير بالمسلم، أن لا يفكر في نفسه وما يريحه هو فحسب في طلبه للعلم، بل أن يفكر أيضاً في أمته والنهوض بها ليكون مستقبلها زاهراً، وهذا كله يحتم عليه أن يكون سقف طموحاته عالياً ليتمكن هو وأقرانه من الطلاب والعلماء من ردم الفجوة بيننا وبين الغرب الذي سبقنا على أكثر من صعيد.

باختصار: إن مسؤوليتنا ورسالتنا وانتماءنا لهذه الأمة يفرض علينا أن نعيش حالة طوارئ ثقافية وعلمية.


 
س » ما رأيكم في الاختلاط المنتشر في عصرنا، وكيف نحاربه؟
ج »

إنّ الاختلاط قد أصبح سمة هذا العصر في كثير من الميادين، ومنها الجامعات والطرقات والساحات وكافة المرافق العامة.. والاختلاط في حد ذاته ليس محرماً ما لم يفضِ إلى تجاوز الحدود الشرعية في العلاقة بين الرجل والمرأة الأجنبيين؛ كما لو أدى إلى الخلوة المحرمة بالمرأة أو مصافحتها أو كان المجلس مشوباً بأجواء الإثارة الغرائزية أو غير ذلك مما حرمه الله تعالى.

وفي ظل هذا الواقع، فإنّ العمل على تحصين النفس أولى من الهروب أو الانزواء عن الآخرين بطريقة تشعرهم بأن المؤمنين يعيشون العُقد النفسية. إن على الشاب المسلم أن يثق بنفسه وأن يفرض حضوره ووقاره، وأن يبادر إلى إقناع الآخرين بمنطقه وحججه، وأن يبيّن لهم أن الانحراف والتبرج والفجور هو العمل السيّئ الذي ينبغي أن يخجل به الإنسان، وليس الإيمان ومظاهر التدين.

وأننا ندعو شبابنا عامة وطلاب الجامعات خاصة من الذكور والإناث إلى أن يتزينوا بالعفاف، وأن يحصنوا أنفسهم بالتقوى بما يصونهم من الوقوع في الحرام.


 
س » كيف يمكن التخلص من السلوكيات والعادات السيئة؟
ج »

إن التغلب على السلوكيات الخاطئة أو العادات السيئة – بشكل عام – يحتاج بعد التوكل على الله تعالى إلى:

أولاً: إرادة وتصميم، ولا يكفي مجرد الرغبة ولا مجرد النية وانما يحتاج بالإضافة إلى ذلك إلى العزم والمثابرة وحمل النفس على ترك ما اعتادته.

ثانياً: وضع برنامج عملي يمكّن الإنسان من الخروج من هذه العادة السيئة بشكل تدريجي؛ وأرجو التركيز على مسألة "التدرج" في الخروج من هذه العادات السيئة؛ لأن إدمان النفس على الشيء يجعل الخروج منه صعباً ويحتاج إلى قطع مراحل، وأما ما يقدم عليه البعض من السعي للخروج الفوري من هذه العادة، فهو - بحسب التجربة - سيُمنى في كثير من الأحيان بالفشل. والله الموفق


 
 
  كتب >> قراءات في الكتب
قراءة لكتاب "فقه العلاقة مع الآخر المذهبي"
الشيخ حسين الخشن



الشيخ صلاح مرسول
قراءة في كتاب "فقه العلاقة مع الآخر المذهبي - دراسة في فتاوى القطيعة"

 

مع تصاعد لغة الاحتراب والمذهبية ولغة الإقصاء للآخر، تخرج لنا لغة عكس هذا التيار المكتظ والمشحون بالعصبيات المذهبية والطائفية، لترفع الصوت عاليًا لإنقاذ الوحدة بين المسلمين والتقريب بين مذاهبهم[1]، متمثلة بهذا السِّفر النابض بروح السماحة والعقلانية، ليضرب بأسافين النقد على نصوص أصبحت يسيطر عليها صدأ الزمن.

عندما نصطدم بنصوص وفتاوى تزرع في الأمة ثقافة القطيعة، فإن هذا لا يدعو لليأس والتسليم للواقع، وإنما ذلك يخلق فينا حالة تستفز حقيقة انتمائنا الحقيقي للإسلام، ولتشعرنا بالمسؤولية أكثر، ولا يكون ذلك إلا بالاعتراف بالمشكلة أولاً، ومن ثم تشخيص الخطأ والمحاولة الجدية لمعالجته، فجهلنا بالآخر هو الذي زرع فينا المعرفة المشوّهة، فنحن لسنا مع إلغاء المذاهب أو دمجها، وإنما نرفضها لأننا نؤمن بأن المذهبية ليست شرًا مطلقًا، بل قد تُغني فكريًا وثقافيًا، وعلينا أن نعرف كيف ندير الاختلاف وننظّمه، فالقرآن الكريم قد ذم التنازع ولم يذم الاختلاف لأنه حالة طبيعية وقد يكون مصدرًا لإغناء الحياة وإثرائها.

يرى المصنف أن الاتفاق بين الفرق الإسلامية إن بنيت على الأصول المشتركة، فهذا ما سيغير واقعنا المذهبي، وما يفرضه الواقع من سؤال: ما هو المكوّن لهوية أمة من الأمم؟ ألسنا بحاجة إلى كلمة التوحيد وتوحيد الكلمة؟ لذلك نحن بحاجة إلى العمل على تـأسيس الهوية القرآنية من خلال هوية الجماعة الإسلامية كمسلمين، فالخطوة التقريبية تبدأ من المعالجة العقائدية وليس الفقهية، لأن عمق المشكلة كلامية وليست فقهية، فعلينا أن نؤصل لمرجعيتين هما: مرجعية النبي ومرجعية القرآن. فإذا كنا قد اختلفنا في علي (ع)، فدعونا نرى موقفه من الوحدة الإسلامية، وكذلك أهل البيت (ع)، فوحدة الأمة ثابت مقدس وفريضة دينية حسب رؤيتهم (ع).  

لذلك فهو يرى من ناحية أخرى أيضًا أننا بحاجة إلى فقه الوفاق لا فقه الشقاق، فداخل المذهب الواحد نرى الاختلاف فكيف بين المذاهب نفسها!، فهذا لا يمنع من التقارب، ولماذا هذه القطيعة المذهبية على مستوى مصادر التشريع؟ ألسنا بحاجة إلى جامع مشترك للأحاديث؟

فمع كل هذا الجو الاستفهامي، نطلق الكاتب ليبحث في عنوان قد يكون هو المتصدر في سلم الأولويات بوقتنا الحالي: كيف نفهم فتاوى القطيعة؟ فهذا ما يشغل بال كل مخلص مهتم بإصلاح حال هذه الأمة، فالكاتب لم ينطلق من ساحة فارغة، بل يعتبر من المؤصلين في هذا المجال، من خلال معالجاته الجادة في عدد من مؤلفاته السابقة، فقد عالج بعض أسباب القطيعة في كتابه ((هل الجنة للمسلمين وحدهم؟))، وكذلك إزالة بعض الشوائب من الإرث التاريخي في ((تنزيه زوجات الأنبياء عن الفاحشة))، وتفكيك العقلية الإقصائي في (( العقل التكفيري))، ويصل في كتابه هذا (( فقه العلاقة مع الآخر المذهبي)) ليطرح فتاوى الخلاف ذات النزعة الإلغائية والتي تبيح سب وغيبة ولعن الآخر على طاولة التشريح العلمي والموضوعي، وذلك بمنهجية فقهية اجتهادية تتبعية فريدة، مؤمنًا بضرورة وجودة قراءة اجتهادية تعيد النظر في الموروث الكلامي والفقهي من الداخل.

وينطلق الكاتب عبر بوابات رئيسية: فالأولى كانت في بيان المقصود بالآخر المذهبي، والثانية في بيان القواعد الفقهية العامة الناظمة للعلاقة مع الآخر المذهبي. ويشرع في دراسته هذه بشكل تفصيلي في فتاوى القطيعة، ويحاول معالجتها بعقل نقدي محض، بغض النظر عن الانتماء والمحسوبية، لأنه يؤمن بالنقد الداخلي لكل مذهب من المذاهب، وهذه هي الحالة الطبيعية السليمة للنقد الديني، لأن الدافع الذي يجعل من الناقد ناقدًا حقيقيًا، هو إلمامه بالتفاصيل وإطلاعه الدقيق ونيّته في البناء وإزاحة الشوائب في محاولة للوصول للحقيقة.

ومما يميّز هذا البحث أنه مبني على أصل موضوعي مسلّم به عند مشهور فقهاء الشيعة، فالآخر المذهبي يعتبر ضمن دائرة الإسلام، فهو ينطلق في بحثه عبر كلمات جمع من فقهاء الشيعة بإسلام الآخر، ومناقشة ما قد يستدل به إلى كفر من لا يؤمن بولاية أهل البيت (ع)، وكذلك ما يدل على تنزيلهم منزلة الكفار، ويخرج بنتيجة مفادها: أن الإسلام عنوان عام يندرج تحته كل أصحاب المذاهب الإسلامية، فإخراج أي أحد عن دائرة الإسلام بحاجة إلى دليل موثوق به، وهذا ما يرسم لنا الهوية الرسمية التي يتقوّم بها إسلام المكلف.

ويؤكد الكاتب على المعنى الذي يقصد به لمفردة "الإيمان" في الكتاب والسنة، وكذلك فيما يعرف في اصطلاح الفقهاء، وينتهي بخلاصة عبر مقاربة حول المفردة من خلال قول بعض الفقهاء من جهة، وما يستفاد من الشواهد القرآنية والروائية من جهة أخرى، وما أصابها من توسعة وتضييق على مستوى الرأي الفقهي الاجتهادي، وهل الإيمان مرادفًا للإسلام أم لا؟ كل ذلك بلغة علمية تتسم بالدقة وغزارة الإطلاع، أترك لكم معرفة ما يراه المصنف من رأي عندما توفقون لقراءة هذا الكتاب.

وعندما يتطرق إلى مفردة "المستضعف" يطرح أكثر من تساؤل وعنوان ويجيب عليهم، ويلاحق آراء العلماء حولها، ويستنطق القرآن من خلالها، ويرى رأي الفقه فيها، ويعالج مسألة هامة ألا وهي: هل المستضعف هو من الآخر المذهبي؟ أم هو ذات شمول أوسع؟. وكذلك الحال في المنافق، فهو ينطلق من رؤية مختلفة حول حكم المنافق، بعد أن يعرض الرأي المشهور له[2].

وقدم المصنف مقومات وشروطًا مهمة متعلقة بالناصبي والخارجي، وهل يعد الخارجي كافرًا؟ ماهي أدلة القائلين بكفرهم وغير القائلين بذلك؟ وماهي طبيعة الروايات التي توسع في مفهوم النصب؟ وكيف نعالج دلالاتها وأبعادها؟ فهل الناصبي هو المعادي والمبغض لأهل البيت كما ذهب المشهور؟ أم الناصب لهم الحرب ولو استعدادًا كما ذهب المصنف؟ كما أنه يرى ندرة وجود الناصبي في هذه الأزمنة، ويختلف عن ما ذهب إليه المشهور من كفره، لضعف الدليل حسب قوله، وليس ثمة دليل على كفر الخوارج بعنوان كونهم خوارج، بل يمكن إقامة الدليل على إسلامهم.

ولم يغفل المصنف ما يعرف بـ"الغالي"، كونه لا يقل خطورة عن الناصبي والمنافق، فقد تعرّض للموقف العقدي من الغلاة وامتداداتها في الأديان والمذاهب، فالمصنف يلتزم ببحثه بما قام بتأسيسه من ضابطة عامة مستقاة أصول الدين، وهو التوحيد والنبوة، فالغلو إذا وصل إلى نفي الوحدانية وتكذيب النبي محمد (ص) أو إنكار المعاد فهو غلوٌ مخرج عن الإسلام، ولكن إذا كان إنكارًا لضرورة من ضروريات الدين فهذا لا يوجب الكفر ... .

وينتقل المصنف إلى مقاربة مسألة العلاقة مع الآخر المذهبي من زاوية في غاية الأهمية، وهي زاوية القواعد الفقهية الناظمة لهذه العلاقة. وكيفية إدارة العلاقات في المجتمعات الإسلامية المتنوعة مذهبيًا. فهو ينطلق من قواعد عدة، يشبع فيهم البحث ببعض النقاشات التفصيلية، فيمر بقاعدتي حرمة الدم والمال والعرض وأصالة الصحة في عمل الآخر، ويتوقف عند قاعدة الإلزام ويعطي تفسيرًا خاصًا بها، وقاعدة التقية مع عدة وقفات مهمة، وقاعدة بطلان عمل الآخر التي يردها ولا يقبل بها. فالمصنف في بحثه يبني قاعدة وينطلق منها، وهي حرمة دم المسلمين بل ومطلق الإنسان، فالقرآن الكريم والسنة وروايات أهل البيت (ع) تؤكد على ذلك.

ويدخل المصنف منعطفًا هامًا للغاية فيما يتعلق بالبحث، وذلك بما سماه بفتاوى القطيعة، فقد تطرق لمحاور تعتبر ذات خطوة لم يسبقه بها باحث قبله حسب تتبعي وما سمعته من بعض العلماء الذين وضعوا الكتاب في دائرة الإطلاع. وما يميز هذا البحث أنه يلاحق الفتاوى التي تنتشر في أبواب كثيرة في كتب الفقه، وقد اتسم المصنف بالجرأة الموضوعية والعلمية التي لا تستثني الذات الانتمائية، فهو يضع أمامه بوصلة كرامة الإنسان الآخر من خلال معالجة ما قد يؤدي إلى تبرير سب الآخر وغيبته ولعنه كونه آخر مذهبي، وكل أدوات ومفاهيم الإقصاء المرجعية التي تؤدي لإبعاد الآخر المذهبي من مسؤولية وتكليف المسلم تجاه أخيه المسلم، فعندما نتأمل في فتاوى القطيعة نصاب بداء التقسيم والشرخ المذهبي النفوري، وهذا ما يجعل هذه الأمة ليست أمة واحدة دستورها القرآن الكريم، ونبيّها نبي الرحمة خاتم الأنبياء والمرسلين.

فالفقه الشيعي لم يتورط بحرمة نفوس وأموال وفروج الآخر المذهبي، ولكن ذهب البعض إلى إسقاط الجانب المعنوي كحق يمنع من غيبة الآخر المذهبي وسبّه ولعنه، فالخطير في هذا الموضوع هو إلباس اللعن والسب والغيبة لبوسًا شرعيًا وعقديًا، ليتحول إلى فعل طاعة وإيمان وعبادة، لا سيّما إذا طال بعض الرموز التي يجلها الآخرون، فردات الفعل لن تكون بسيطة، فقد تستدعي تكفير الآخر وإباحة دمه.

ويدخل المصنف في التفاصيل الفقهية التي تبني العلاقة مع الآخر المذهبي، فيعالج أهم المسائل الفقهية التي قد تكون سببًا رئيسيًا في قطع العلاقة مع الآخر المذهبي، فهل الأدلة التي استند إليها كبار فقهائنا بالنهي مثلا عن الصلاة خلفهم تامة؟ وكيف نتعاطى مع الروايات الداعية للصلاة خلفهم!، وماذا عن إطلاق الآيات القرآنية في هذا المجال؟، وكذلك مع وجود جملة من الروايات التي لا تدل على الاقتداء بهم في الصلاة!، فالمسألة لم تتوقف على الصلاة وإمامتها فحسب، بل حتى الأذان فلا يُكتفى بأذان غير الإمامي، وكذلك الحال في تغسيل الميّت والصلاة عليه، فهناك أكثر من رأي لدينا بين فقهاء الشيعة، فمنهم من أفتى بالحرمة ومنهم من أفتى بالكراهة وغير ذلك، وللمصنف وقفات عدة حول ذلك.

ويخصص المصنف محورًا خاصًا فيما يتعلق بما ينتقص من الأهلية القانونية والإفتائية والإدارية للمسلم الآخر، فهناك بعض الفتاوى قد ساهمت ولا زالت تساهم في تعميق الفجوة بين المذاهب الإسلامية، فهي تعمل على إسقاط شخصية الآخر، وعدم قبول شهادته، ولكن ما هو الدليل على ذلك؟. وقدم المصنف دراسة نقدية حول أدلة شرطية الإمامية في الشاهد، ومدى وجود دليل عام أو مطلق يستفاد منه قبول شهادة كل مسلم، وما موقف القرآن الكريم من ذلك؟. وفي هذا الإطار يتعرض المصنف لجملة من الأدلة ويناقشها ويخرج بخلاصة: "على أنه لم ينهض دليل على شرطية الإمامية في الشاهد، ويفرق بين المقصر والجاحد ومن يعتقدون بحقانية مذاهبهم فالأقرب قبول شهادتهم".

وفي شروط الإمامية في المفتي، فقد حاول المصنف معالجة الأصل العملي واللفظي في أصل مسألة الرجوع إلى فتوى الغير، وحجية قول المفتي إن لم يكن منتميًا لمذهب أهل البيت (ع)، ومن ثم استعراض أدلة شرط الإمامية في المفتي. وكذلك عالج وبحث في بعض الفتاوى التي تنفي المسؤولية الشرعية تجاه الفقراء من الطوائف الإسلامية الأخرى، فالولاية شرط في استحقاقهم للحقوق المالية، فزكاة المال والفطرة وصرف الهدي في الحج قد أفتى الفقهاء الشيعة بعدم إعطائها لغير المؤمن الشيعي، فالمصنف يعرض أقوال الفقهاء ومن ثم يقيّمها، وكذلك أدلتهم، والمصنف يدخل في دراسة متأنية كاشفة لأمر مهم في المسألة، ألا وهي أن الكثير من الروايات التي استند عليها، هي في الحقيقة ذات إجراء تدبيري مؤقت وظرفي سببه الحاجة الماسة والحصار الذي مر به الكثير من الشيعة، وإلا فإن وظيفة الإمام والحاكم تجاه الأمة التي تقر له بالطاعة هو أن يعطي الجميع دون تمييز.

هناك رأي فقهي يشترط الإمامية في حلية الذبيحة، وإن كان خلاف المشهور ولكنه موجود في تراثنا الفقهي، فالمصنف لم يغفل ذلك وقام بدراسة هذا الرأي مع ملاحظة أدلته، فالمصنف يرى حلية ذبيحة الآخر المذهبي كما هو المشهور، وقام بمناقشة ذبيحة الناصبي والمغالي والكتابي، ويناقش في المباني والقاعدة في حلية الذبيحة بشكل عام، فهل يكفي في حلية الذبيحة التسمية؟

وآخر محور كان للأقوال الفقهية في زواج الآخر المذهبي، فيعرض أدلة القائلين بعدم جواز زواج الإمامية بغير الإمامية، وأدلة جواز تزوّج الإمامية من المسلم غير الإمامي، وقد ركّز على الجانب الثاني من المسألة وهو جواز زواج المرأة الموالية لأهل البيت (ع) من المسلم الآخر المذهبي، وأضاء على بعض النماذج التاريخية في صدر الإسلام من تزويج بنات رسول الله لعثمان ابن عفان، وكذلك تزويج  سكينة بنت علي ابن أبي طالب لعمر ابن الخطاب، وتزويج فاطمة بنت الحسين لعبدالله بن عمرو بن عثمان، وتزويج سكينة بنت الحسين لمصعب بن الزبير، ورأي العلماء في ذلك مع مناقشة هادئة ذات خلاصة مهمة.

فالكتاب ذات قيمة علمية ومعرفية عالية جدًا، وأنا أتصفحه ذهبت بي مخيلتي لسِفْر فريد من نوعه وهو الأصول العامة للفقه المقارن، الذي أبدع فيه العلامة السيد محمد تقي الحكيم (رضوان الله عليه)، وجعله مدخلًا لدراسة الفقه المقارن، فما أنتجه العلامة الشيخ حسين الخشن (حفظه الله) هو كذلك نتاج فريد من نوعه، ويصلح بأن يكون مدخلًا لفقه العلاقة مع الآخر المذهبي، وسيجد القارئ حين يطلع عليه أنه أمام دراسة نقدية تصحيحية مبنية على أسس أصيلة ذات جرأة علمية بروح إسلامية أصيلة.

وقد ذيل المصنف في دراسته هذه مجموعة من الملاحق: ملحق (1): دراسة سند الشيخ الطوسي إلى علي بن الحسن بن فضال. ملحق (2): تحقيق حال يونس بن عبدالرحمن. ملحق (3): وثاقة مسعدة بن صدقة. ملحق (4): نظرة حول الصحبة والصحابة. ملحق (5): وقفة حول وثاقة النوفلي. ملحق (6): الثواب والعقاب: ضوابط ومعايير: دراسة نقدية في المبالغات الروائية. ملحق (7): حديث ((تخلّقوا بأخلاق الله)). ملحق (8): حديث الصادق عليه السلام: ((ولدني أبو بكر مرتين)). ملحق (9): دراسة سند زيارة عاشوراء المروية في مصباح الشيخ. ويختم بفوائد علمية تحتوي على عدة عناوين، منها فكرية وعقدية وأصولية وقرآنية وفقهية وتاريخية لغوية ورجالية.

ويقع الكتاب في جزئين، الجزء الأول يحتوي على 380 صفحة، والجزء الثاني يحتوي على 536 صفحة، وهو من إصدار مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، لبنان، للعام 2018م.

وأخيرًا أقول كما قال المصنف "[لابد] أن يسعى أتباع كل مذهب للعمل الإصلاحي في إطار مدرستهم الفقهية أو الكلامية، لأن انخراط الباحث في القراءة النقدية للمدرسة المذهبية الأخرى، لن يجدي نفعًا ولن يجد آذانًا صاغية، لا سيّما إذا كان النقد على طريقة تسجيل النقاط على الفريق الآخر".

فهذه المحاول الجادة في فتاوى القطيعة في الفقه الشيعي، هي محاولة لإذابة شيء من الجليد المذهبي ومحاصرة ((منطق التكفير)).



[1]  وهذا الدافع الذي انطلق منه المصنف، لهو دليل على ما يعتصر قلبه من نفور، فالدين غدا مشوّهًا بأفكار دخيلة أرادت تشويه صورته النقية، حتى صار الحديث عن الوحدة الإسلامية مستهلكًا بل مستفزًا لدى الكثيرين.

 

[2]  لم يكن هذا البحث الأول الذي يقدم فيه هذه الرؤية المختلفة، فقد قام بعرضها في كتابه القيّم: "الفقه الجنائي في الإسلام -المرتد نموذجًا-".

 






اضافة تعليق

الاسم *

البريد الإلكتروني *

موضوع *

الرسالة *


 


 
  قراءة الكتب
 
    Designed and Developed
       by CreativeLebanon