حوار مع مركز أفاق للدراسات والأبحاث: مشكلة الأديان تتشكل في الخطاب الفقهي    ثمن الحرية    أمثل الأساليب في عمليّة تهذيب النفس    مزايا الشباب    العمل سرّ النجاح    العبادة وعيٌ وانفتاح لا جهل وانغلاق    اقتناء أصنام الأمم البائدة    المفاهيم الدينية بين وجوب الاعتقاد وحرمة الانكار    البناء الاعتقادي بين الاجتهاد والتقليد    
 
بحث
 
تكريم الإنسان
 
س » كم كان عمر الزهراء (ع) حين زواجها من أمير المؤمنين (ع)؟ هل صحيح أن الإجماع هو على التسع من عمرها؟
ج »
 
▪️يوجد اختلاف كبير بين العلماء في تحديد عمر سيدتنا الزهراء سلام الله عليها حين زواجها من أمير المؤمنين عليه السلام، وتترواح هذه الأقوال بين تسع سنوات وعشرين سنة.
 
▪️مرد هذا الاختلاف إلى أمرين:
 
- الأول: الاختلاف في تاريخ مولدها، فهل ولدت قبل البعثة بخمس أم بعدها بخمس أو باثنتين؟ 
 
- الثاني: الاختلاف في تاريخ زواجها من أمير المؤمنين عليه السلام، حيث إن ثمة خلافاً في أنها تزوجت بعد الهجرة إلى المدينة بسنة أو بسنتين أو بثلاث.
 
▪️المعروف عند كثير من المؤرخين - كما ينقل التستري في تواريخ النبي (ص) والآل (ع) - أنها ولدت قبل البعثة النبوية بخمس سنين، وهذا ما ذهب إليه محمد بن إسحاق وأبو نعيم وأبو الفرج والطبري والواقدي وغيرهم، وعلى هذا سيكون عمرها حين الزواج ثماني عشرة سنة أو يزيد.
 
▪️ ونقل العلامة الأمين "أن أكثر أصحابنا" على أنها ولدت بعد البعثة بخمس سنين، وعلى هذا سيكون عمرها حين الزواج تسعاً أو عشراً أو أحد عشر عاماً، تبعاً للاختلاف في تاريخ الزواج.
 
⬅️ الظاهر أنه ليس هناك إجماع على أنّ عمرها عند الزواج بها كان تسع سنوات، فقد ذهب الشيخ المفيد في "مسار الشيعة" أنها ولدت بعد مبعث النبي (ص) بسنتين، وهو ظاهر الشيخ الطوسي في المصباح، بل نقل الشيخ عن رواية أنها ولدت في السنة الأولى لمبعثه الشريف، وحينئذ إذا كانت قد  تزوجت في السنة الأولى من الهجرة فيكون عمرها حين الزواج ثلاث عشرة سنة، وإذا تزوجت في السنة الثانية للهجرة سيكون عمرها أربع عشرة سنة، وإذا تزوجت في السنة الثالثة سيكون عمرها خمس عشرة سنة.
 
 وقد رجح التستري وغيره من علمائنا القول بولادتها بعد البعثة بخمس، استناداً إلى بعض الأخبار المروية عن الأئمة(ع).. وكيف كان، فتحقيق المسألة واتخاذ موقف حاسم يحتاج إلى متابعة.. والله الموفق.

 
 
  مقالات >> متنوعة
دور الزمان والمكان في الاجتهاد المعاصر
الشيخ حسين الخشن



دور الزمان والمكان في الاجتهاد المعاصر



مستهل الكلام

في عالم يضجّ بالتغيّر والتطور، ليس التغيّر أو التطور في أنماط العيش والوسائل التقنيّة وغيرها من منجزات الثورة الصناعية فحسب، بل التغيّر في الأفكار والرؤى أيضاً، في عالم كهذا: هل يعقل أن يبقى الفقه الإسلامي جامداً؟ وإذا كان الجواب بالنفي، فماذا أعددنا في وجه هذه التغيّرات التي تجري من حولنا شئنا أم أبينا؟ وماذا فعلنا لنثبت حيويّة هذا الفقه وقدرته على المواكبة؟ وماذا بذلنا من جهود ثقافيّة وفكرية وفقهية لإقناع الجيل الإسلامي المعاصر - قبل إقناع الآخرين - بأهليّة وقابلية المنظومة الفقهية التقليدية المتوارثة في إدارة الحياة وتنظيمها وإسعاد الإنسان وإيجاد الحلول لكل مشكلاته؟ وهل إنّ مقولات مثل: "الإسلام هو الحل" أو "ما من واقعة أو معضلة إلا ولها في الإسلام حكم أو حل" وأمثالها ما زالت مقنعة وكافية أم أنها غدت مقولات فضفاضة واستهلاكية وربما كلمات تخديريّة؟!

"الفقه ومواكبة الحياة المتغيّرة" هو التحدي الأكبر الذي يُواجهنا اليوم ويفرض نفسه على العقل الفقهي الاجتهادي بكل مدارسه وأطيافه ومؤسساته ومجاميعه العلميّة التي تعنى بدرس العلوم الشرعية، وقد بلغ التحدي ذروته في السنوات الماضية عقيب تجربة مريرة ومؤلمة حاولت من خلالها بعض الجماعات التكفيرية المتطرفة تقديم صورة مشوهة عن الفقه الإسلامي، من خلال ممارسات السبي والقتل والتمثيل بالجثث وغيرها من أعمال الإجرام التي مارستها بحق المسلمين في أكثر من بلد إسلامي تحت عنوان تطبيق الشريعة، ما أساء إلى صورة الإسلام والمسلمين بشكل غير مسبوق.

ولن يسعنا الحديث عن دور فاعل للعلوم الشرعيّة في عالمنا المعاصر إلا إذا حسمنا بعض النقاط المحورية والأساسية، وعلى رأسها قضيّة دور الزمان والمكان في التأثير على الحكم الشرعي، فهل أحكام الشريعة فوق الزمان والمكان؟

وإذا كان للزمان دخل في أحكام الشرع، فهل هو يؤثر على الحكم الشرعي نفسه أم على موضوع الحكم الشرعي ومتعلقه؟ وماذا عن دور الزمان والمكان في التأثير على فهم النص وتشكيل وعي الفقيه والمجتهد؟ وهل يكفي لمجتهد اليوم أن يكون ملماً بوسائل الاستنباط الفقهي المعروفة وحافظاً لآيات الأحكام وأحاديثها وشروحها والمتون فقط، دون أن يكون عالماً بزمانه ودون أن يتوفر له الوعي المنفتح على آفاق الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والقانونية المعاصرة؟!   

 إنّ الحديث عن دور الزمان والمكان في عمليّة استنباط الحكم الشرعي ومدى تأثر الحكم الشرعي بتغيّر الزمان والمكان، هو من أهمّ الأبحاث المطروحة اليوم، وإن كانت لها جذور تاريخية. وأعتقد أنّ على العقل الفقهي والأصولي أن يولي هذه المسألة أهميّة خاصة، وفق مقاربات جادة وغير محكومة لهاجس الخروج عن الإجماع أو خوف التأسيس لفقه جديد أو غيرها من هواجس تعيق الفكر عن الإبداع والتجديد.

مفهوم الزمان والمكان

  وبداية، لا بدّ أن نحدد المقصود بالزمان والمكان اللذين من المحتمل أن يكون لتغيّرهما وتبدلهما تأثير على الحكم الشرعي، ويمكننا القول: ليس المقصود المعنى الفلسفي أو الفيزيائي لهاتين الكلمتين، فإنّ من البديهي أنّ الزمان بآناته المتوالية والمتعاقبة أو المكان بأرجائه الجغرافية المختلفة لا دور لهما في تغيّر الأحكام إلا في بعض الحالات. وإنّما يتصوّر أن يكون الزمان والمكان عنصرين مؤثرين في الأحكام من خلال ما يكتنفهما ويصاحبهما من تغيّرات في الفكر والسلوك والعواطف والعادات وأنماط العيش.

منهج البحث ومساره

  إذا اتضح ذلك نقول: إنّ الزمان والمكان بهذا المعنى، يمكن أن يتصوّر لهما تأثير في عملية التقنين والتشريع أو ما يتصل بها في عدة مستويات. وقبل أن نذكر هذه المستويات، نتطرق إلى بيان مقدمة علميّة أصوليّة نطرحها أمام القارئ بشكل مختصر ومبسّط. وخلاصتها أنّ عملية التشريع تتقوم بثلاثة عناصر:

  •  الحكم: وهو التشريع الصادر من الله لتنظيم حياة الانسان، وذلك من قبيل الإلزام الشرعي بالفعل (الوجوب) أو الترك (الحرمة)، ويرد الوجوب بصيغة "يجب" أو "افعل" أو نحو ذلك، والتحريم بصيغة "يحرم" أو "لا تفعل"، إلى غير ذلك من الأحكام الشرعية، والحكم الشرعي يمرّ بمرحلة ثبوتية وأخرى إثباتية[1]
  • المتعلق: وهو فعل المكلف الذي ينصبّ عليه الحكم من الوجوب أو التحريم أو غيرهما من الأحكام، فالشرب والأكل والجهاد والصلاة ..هي متعلقات الأحكام.
  • الموضوع: هو ما يتعلق به فعل المكلف (ولهذا يسمى متعلّق المتعلّق).

والمثال الذي يوضح العناصر الثلاثة المذكورة هو قول المشرع في الأمر مثلاً: "يجب إكرام الفقير"، فـ" يجب" هو الحكم، وهو بيد الشارع، و"الإكرام" هو المتعلّق وهو من فعل المكلف، و"الفقير" هو الموضوع.

 ونحوه في النهي قوله مثلاً: "يحرم شرب الخمر"، فـ "يحرم" هو الحكم، و"الشرب" هو المتعلق، و"الخمر" هو الموضوع. 

وباتضاح ذلك نقول: إنّ دخالة الزمان والمكان في عملية التشريع يمكن تصورها في العناصر الثلاثة المشار إليها، أعني في الحكم الشرعي نفسه، وفي متعلقه، وفي موضوعه. ودخلهما في الحكم إنما هو بلحاظ دخلهما في ملاكات الحكم ومبادئه، لأنّ أحكام الشريعة - بحسب الرأي الصحيح - ليست أحكاماً جزافية، وإنما هي أحكام منطلقة من مصالح ومفاسد كامنة في متعلقاتها.

وإلى ذلك، فثمة مجال رابع لا يبتعد عن فضاء العمليّة الاجتهادية الفقهيّة ويمكن الحديث فيه عن دخالة الزمان والمكان، وهو دخالتهما ( الزمان والمكان ) في فهم النص، لأنّه بعد وصول الخطابات الشرعيّة إلى المكلفين والمخاطبين بها فقد تتنوع الاجتهادات في فهم المراد منها، لا سيما أن النصّ الخبري قد أحاطت به بعض الظروف والملابسات ما تسبب بخفاء مدلوله أو الشك في صدوره، أو ضياع القرائن المحتفة به، إلى غير ذلك مما يحيط به من التباسات. إنّ ذلك يجعل الحكم الشرعي غير واضح بالبداهة، فيحتاج التعرّف عليه إلى عمليّة اجتهادية يتولاها الفقيه، ومن هنا يبرز أمامنا تساؤل عن دور الزمان والمكان في فهم النص؟

ومن خلال ذلك، اتضح أنّ الكلام عن دور الزمان والمكان في الحكم الشرعي ينبغي أن يقع في أربع مراحل:

الأولى: دخالتهما في الحكم الشرعي

الثانية: دخالتهما في متعلق الحكم.

الثالثة: دخالتهما في موضوع الحكم.

الرابعة: دخالتهما في فهم النص الديني.

 

المحور الأول:

دور الزمان والمكان في التأثير على الحكم الشرعي

 

  المعروف لدى فقهاء الإسلام أنّ أحكام الشريعة الإسلامية مستمرة وباقية إلى يوم الدين، و" أن حلال محمد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة"، وهذا المعنى - من حيث المبدأ - لا ينبغي التشكيك فيه، إلا أنّ ذلك إنّما هو في الحكم الصادر عن النبي (ص) بصفته التشريعية وكونه مبلغاً لوحي الله تعالى، وهذا ما يسمى بالحكم التشريعي، وأما الحكم الصادر عنه (ص) بصفته قائداً للمجتمع، وما يسمى بالحكم التدبيري أو الولايتي أو السلطاني، فالأصل فيه أن يكون ظرفياً وليس دائمياً. وإننا نرجح أنّ مروحة الأحكام التدبيرية في الإسلام ليس قليلة ولا نادرة كما يظن، بل هي واسعة جداً، ولكن المسار الفقهي العام - ونتيجة لظروف تاريخية معينة -  ساهم في انكماش ذهن الفقيه ما أدى تغييب البعد التدبيري في شخصية النبي (ص) وكذلك في شخصية الأئمة من أهل بيته (ع)، الأمر الذي دفع الفقهاء إلى حمل الكثير من النصوص الصادرة عن المعصومين(ع) من موقعهم القيادي في الأمة على بيان الحكم التشريعي، مع أنّها أحكام تدبيرية وظرفية ولا إطلاق أزماني لها.

 وبالعودة إلى الحكم التشريعي، فإنّ كونه ثابتاً ولا يتغيّر بمرور الزمان وتغير المكان، لا ينفي أن الشرّع الإسلامي نفسه قد لحظ عنصري الزمان والمكان في الكثير من أحكامه، لأنّ من الطبيعي أنّ أي مشرع أو مقنن - يريد لتشريعاته وقوانينه أن تكون واقعيّة وليست مثاليّة، وأن تكون خالدة لا مؤقتة -، لا يمكنه أن يغفل أو يتجاهل دور تبدل الزمان والمكان في جعل التشريعات. وإنّ المقنن والمشرع الإسلامي لا يشذّ عن هذه القاعدة، ولا سيما بناء على ما هو المختار من أنّ الأحكام الإلهية تابعة للمصالح والمفاسد الكامنة في الأمور الواقعية، وليست هذه الأحكام مجرد أوامر أو نواهي اعتباطية ومزاجية، فالزمان والمكان عنصران مؤثران على ملاكات الأحكام، ويؤخذان بعين الاعتبار في عملية التشريع، وإنّ فكرة النسخ سواء بين الشرائع المختلفة أو داخل الشريعة الواحدة هو خير دليل على أن المشرّع يراعي اختلاف الزمان والمكان.

  1. نماذج دالة

وبالإمكان أن نذكر جملة من الأمثلة الحيّة على مراعاة الإسلام في تشريعاته للزمان والمكان، وهي أمثلة تتصل في الأغلب بنمط الحياة المتغير، كقضية اللباس، وآداب التجمل والزينة:

  • ما ورد في شأن اللباس، فإنّ الإسلام فيما عدا إلزامه بأصل الستر الملائم للرجل والمرأة[2]، لم يلزم بنوعيّة أو كيفيّة خاصة من الثياب، وإنّما ترك لذوق الإنسان أن يتحرك ويبدع ويأتي بالجديد، من دون الجمود على لباس فرضته العادات أو التقاليد في بعض المجتمعات، ولهذا وجدنا أنّ السلف الصالح وفيهم أئمة أهل البيت (ع) وغيرهم قد اختلفت طريقتهم في كيفية ونوعية اللباس، فقد روي أنّ رجلاً قال للإمام جعفر بن محمد الصادق (ع): "أصلحك الله، ذكرت أنّ علي بن أبي طالب كان يلبس الخشن، يلبس القميص بأربعة دراهم وما أشبه ذلك، ونرى عليك اللباس الجيد؟!  قال: فقال: إنّ علي بن أبي طالب (ع) كان يلبس ذلك في زمان لا ينكر ولو لبس مثل ذلك اليوم لشهر به، فخير لباس كل زمان لباس أهله.."[3]. وفي رواية أخرى عنه (ع): قال له سفيان بن عيينة: "إنّه يروى أنّ علي بن ابي طالب (ع) كان يلبس الخشن من الثياب وأنت تلبس القوهي (ثوب أبيض نسبة إلى قوهستان) المَرَويّ؟! قال: ويحك، إنّ علياً كان في زمان ضيق، فإذا اتسع الزمان فأبرار الزمان أولى به"[4].
  • ما ورد في شأن حلق شعر الرأس أو إطالته: فمن جهة نجد أنّ رسول الله (ص) - على ما في الرواية - كان يطيل شعر رأسه، ففي الحديث عن الإمام الصادق (ع) عن آبائه عن علي (ع) قال: "كان رسول الله (ص) يرجّل شعره وأكثر ما كان يرجّل شعره بالماء.."[5]. ومن جهة أخرى نجد أنّ حفيده الإمام الصادق (ع): "كان يحفي رأسه إذا جزه"[6]، والإحفاء بمعنى الاستقصاء والمبالغة في حلقه. فلو استفيد من الحديثين أنّ سيرة الإمام الصادق (ع) كانت قائمة على إحفاء شعر رأسه بينما سيرة جده المصطفى (ص) على إطالته فلا تنافي بين السيرتين، ولا نخال أنّ الإمام الصادق يخالف سيرة جده (ص) لو كان فعله (ص) تشريعاً، ولذا فالأرجح أنّ المسألة تدخل في باب العادات المتغيرة من زمان لآخر.
  1. اكتشاف الملاك بين العقل والنقل

ويبقى الأمر المهم في المقام، أنّه إذا استفيد من الشارع أن هذا الحكم مقيّد بزمان أو مكان خاصين، أو أنه يتغير بتغيّر الزمان أو المكان كبعض الأمثلة المتقدمة فلا نواجه مشكلة، لكن قد لا يبيّن الشارع ذلك بشكل واضح، وهنا قد يقال: إنّ المحكم في هذه الحالات هو قاعدة "حلال محمد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة"، أو ما يسميه الأصوليون بالإطلاق الأزماني، ولن يكون بمقدورنا الحديث عن تقيّد الحكم بزمان أو مكان خاصيْن، حتى لو احتملنا ذلك، إذ أنّى لنا أن نعرف ملاكات الأحكام ومناطاتها؟ّ!

باختصار: إنّ السؤال الذي يطرح نفسه: كيف نصل إلى اكتشاف علة الحكم لنعرف ما إذا كان مقيداً بزمان دون آخر أو بمكان دون آخر؟ وهل من وسيلة إلى ذلك؟

والجواب: هناك طريقان إلى ذلك:

  • طريق النص الشرعي: بأن يرد في النص بيان مناط الحكم وعلته التي يدور مدارها.
  • طريق العقل القطعي.

والطريق الأول لا مجال للريب فيه، ولكن السؤال الملّح هو عن الطريق الثاني، وأنّه هل تصل عقولنا إلى إدراك علل الأحكام ؟

لا يتردد معظم الفقهاء بالقول: إنّه لو أدرك العقل المصلحة أو المفسدة الباعثة على جعل الحكم، فإنّه يصح تعميم الحكم حيث وجدت، وسلبه حيث انتفت، لأنّ ما أدركه العقل هو علة الحكم، وعندما يدرك العقل العلة فلا بدّ أن يدرك المعلول، لكنهم يشككون بمقدرة العقل على اكتشاف علل الأحكام وملاكاتها إلاّ في موارد نادرة، ويقولون: إنّ عقولنا قاصرة عن إدراك تلك المصالح والمفاسد بشكل قطعي، وأمّا مجرد الظن بها فلا ينفع ولا يغني عن الحق شيئاً[7]. ومن هنا، فيلزمنا التعبد بما ثبت في الشرع والالتزام بعدم تغيره بتبغير الزمان، سواء أدركت عقولنا كنهه أم لم تدركه، لأنّ ذلك مقتضى إيماننا بالله الحكيم وكتابه المصون ورسوله المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى.

ولكن يمكن أن نسجّل على هذا الكلام ملاحظة أساسية، وهي ما أشار إليه جمع من الفقهاء المعاصرين من أنّ التعبد الشرعي لا يصح جعله معياراً عاماً في كافة الحقول الشرعية، بل لا بدّ من الفصل بين حقل العبادات وغيره من الحقول، وبيان ذلك أنّ لدينا عدة حقول تتوزع عليها أحكام الشريعة:

الحقل الأول: العبادات

 وفي العبادات من الطبيعي أن يكون التعبد هو القاعدة المحكمة والمتبعة، لأنّ طابعها العام هو الثبات على مرّ الأزمنة، ولا يحتمل أن تكون العبادة واجبة في زمان دون زمان أو مكان دون مكان أو لقوم دون آخرين إلا بمقدار ما لاحظه المشرع نفسه كالقصر في السفر والإتمام في حال الحضر. كما أنّ دور الشارع هنا هو التأسيس، فلا بدّ من متابعته والتعبد بما جاء في نصوصه، وهذا لا يعني - بالطبع - أنّ العبادات هي تكاليف اعتباطيّة وأنّ التعبد فيها غير مفهوم، بل إنّ التعبد فيها ينطلق من أسس مفهومة، فالصلاة أو الصوم أو الحج وسائر العبادات لها أبعاد اجتماعية وروحية وتربوية كما هو معلوم والتعبد هنا هو في قالب العبادة وكيفيتها، حيث لا مجال للتبديل أو التغيير في ذلك.

الحقل الثاني: وهو المعاملات

إنّ المعاملات من البيع والإجارة والمضاربة والشركة.. هي في الأصل أمورٌ عقلائيّة وقد تبانى عليها كافة العقلاء، وهذا ما يجعلها بعيدة عن التعبد الشرعي. يقول بعض الفقهاء في تبرير جواز بيع الكلب المعلم على الصيد: "وليست المعاملات دائرة مدار التعبّد المحض والمصالح السريّة الخفيّة نظير الأحكام العباديّة، فلا محالة تنصرف أدلّة المنع - على فرض إطلاقها - إلى صورة بقاء الكلب على طبعه الأوّلي من دون أن يقع تحت التعليم الصحيح ، أو فرض تمحّض منافعه في الأمور المحرّمة شرعاً"[8].

وقال فقيه آخر بشأن المعاملات: "لا مجال للتعبد فيها إطلاقاً، بل لا بد أن تنزل الأمور وفقاً للأدلة العليا والقواعد العامة في الشريعة ولا بدّ أن تنزل على مقاصد الشريعة وعلى ما يفهم من مناطاتها"[9].

وإننا عندما نتأمل في المعاملات نكتشف ذلك بوضوح، أنّ الشارع جرى فيها على طبق السيرة العامة للبشر مهذباً ومنظماً، فحرم منها ما فيه إخلال بنظام السوق وما فيه ظلم وأكل مال بغير حق أو ما إلى ذلك.

على سبيل المثال

  1. قضيّة بيع الثمرة قبل نضوجها، فإنّ النبي (ص) قد نهى عنه نهياً تدبيرياً، بسبب ما رآه من شجار وخلافات، وذلك بحسب ما يقول الإمام جعفر الصادق (ع) بحسب ما روي عنه، فقد سُئِلَ عنْ شِرَاءِ النَّخْلِ والْكَرْمِ والثِّمَارِ ثَلَاثَ سِنِينَ أَوْ أَرْبَعَ سِنِينَ؟ قَالَ: لَا بَأْسَ بِه، إِنْ لَمْ يُخْرِجْ فِي هَذِه السَّنَةِ أَخْرَجَ فِي قَابِلٍ وإِنِ اشْتَرَيْتَه فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ فَلَا تَشْتَرِه حَتَّى يَبْلُغَ فَإِنِ اشْتَرَيْتَه ثَلَاثَ سِنِينَ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ فَلَا بَأْسَ. وسُئِلَ عَنِ الرَّجُلِ يَشْتَرِي الثَّمَرَةَ الْمُسَمَّاةَ مِنْ أَرْضٍ فَهَلَكَ ثَمَرَةُ تِلْكَ الأَرْضِ كُلُّهَا؟ فَقَالَ: قَدِ اخْتَصَمُوا فِي ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّه (ص) فَكَانُوا يَذْكُرُونَ ذَلِكَ فَلَمَّا رَآهُمْ لَا يَدَعُونَ الْخُصُومَةَ نَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ الْبَيْعِ حَتَّى تَبْلُغَ الثَّمَرَةُ ولَمْ يُحَرِّمْه ولَكِنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ خُصُومَتِهِمْ "[10].
  2.  وفي صيغ العقود يمكن الإفادة من فكرة استبعاد التعبديّة في المعاملات، وذلك لتأييد القول بأن كل ما يعتبره العقلاء وسيلة للتعاقد فهو مقبول شرعاً، ويظهر أثر ذلك في نظرتنا إلى المعاملات الجديدة كعقد التأمين أو غيره، وينعكس ذلك أيضاً على اللغة المعتمدة في إنشاء العقود، فقد ذهب جمع من العلماء إلى اعتبار العربية شرطاً في إنشاء عقد البيع وغيره من العقود والإيقاعات، وذلك تأسياً برسول الله (ص) الذي كان يجري عقوده بالعربية[11]، ولكن لا يخفى بعد هذا الكلام، لبعد التعبد في ذلك، ولم يعلم أنّه (ص) فعل ذلك بعنوان التشريع وبيان الحكم الإلهي[12]، فالنبي (ص) لما كان عربياً ويعيش في بيئة عربية، فيكون تكلمه وإنشاؤه للعقود بالعربية، جرياً على سجيته الإنسانية لا من جهة استحباب أو لزوم العربية شرعاً في إنشاء العقود والإيقاعات.

الحقل الثالث: المجال السياسي والنظامي

 وهو عبارة عن الأحكام التي ترتبط بالعلاقات الدوليّة، وتنظيم عمل السلطة وتشكيلاتها الوزارية والنيابية والبلدية والآليات الجديدة لإدارة السلطة والحياة السياسية، وما يتصل بتنظيم علاقة الحاكم بالمواطنين، ونظام التعيينات، أو قضية الانتخابات وأحكام الجنسيّة، ويدخل فيه كل ما يتصل بحفظ النظام العام، في مجال تنظيم الطرقات والملاحة والبناء وتنظيم المدن وحركة المواصلات على أنحائها إلى إدارة عملية الجهاد والحرب إلى غير ذلك، وبديهي أنّ هذه القضايا في الإجمال لا تبتني على اعتبارات غيبية وتعبدية لا نفقه مناطاتها، وإنما هي مبتنية على ملاكات واضحة ومقاصد جليّة، من قبيل: حفظ النظام العام، وحفظ كرامة الإنسان، وحفظ عزة الأمة ووحدة المجتمع الإسلامي ونحو ذلك من المقاصد الكليّة. ولذا كان من الطبيعي أن يخضع هذا الحقل للكثير من المرونة، وأن تتغيير الأحكام فيه بتغيّر الزمان والمكان وتبدل الظروف والتحولات السياسيّة وتغيّر موازين القوى.

وعلى سبيل المثال فإنّ بعض الأخبار دلّت على أنّ عرض الطريق العام هو خمسة أذرع أو سبعة، فقد روى الطبراني بإسناده عن جابر عن النبي الأكرم (ص) قال: "حد الطريق سبعة أذرع "[13]، وعن الإمام الصادق (ع): "والطريق يتشاح عليه أهله، فحده سبع أذرع"، وفي رواية أخرى: "خمسة أذرع"[14]، وقد أفتى بعض الفقهاء في الماضي والحاضر بمضمون الخبر، يقول الفقيه السيد أبو القاسم الخوئي إنّ الخمسة أذرع هو "حد الطريق المعين من قبل الشرع، بل الأفضل أن يكون سبعة"[15].

ولكن يمكن الملاحظة هنا بأنّ هذه الروايات التي تحدد الطريق بخمسة أو سبعة أذرع لا تملك إطلاقاً أزمانياً وأحوالياً، وإنّما هي ناظرة إلى الزمان والمكان الذي تكون فيه وسيلة النقل هي الحيوانات، بل هو يتسع ويضيق حسب حاجة الناس إليه، وهي متغيرة من وقت لآخر ومكان وآخر.

مثال آخر: في إدارة العلاقة مع الآخر الديني، نسأل: هل يحكمها نظام الذمة أو يمكن ابتكار نظام جديد يقوم على أساس فكرة التعاقد المبني على الشراكة؟ وهل يتعيّن علينا أخذ الجزية؟ ماذا عن المشركين؟ هل يتعيّن وضعهم أمام خيارين، إمّا السيف، أو الإسلام ولا يمكن إقرارهم على دينهم؟ وماذا عن قضية السبي، وهل بإمكاننا اعتماده اليوم؟ وهنا يوجد متسع كبير لتقديم قراءة جديدة مغايرة للسائد.

وثمّة مؤشرات عديدة تؤيد فكرة أصالة عدم التعبد في الحقلين المتقدمين أعني في القضايا السياسية والنظامية، ومن تلك المؤشرات: قلة النصوص في باب المعاملات، هو مؤشر آخر يؤكد على أنّ دأب الشارع هنا هو على الإمضاء وليس التأسيس، ما يعني أنّها بعيدة عن التعبد ومتروكة للعقل الفقهي ليستفيد من قواعد الشريعة ومقاصدها الكلية.

الحقل الرابع: الأحوال الشخصيّة

 من الزواج والطلاق والميراث وما يلحق بها، وهذا الحقل يمكن أن نعدّه من الموارد الإشكالية التي قد تختلف فيه النظرة من باب لآخر أو من مورد لآخر، فالنكاح - مثلاً - توجد فيه خصوصية معينة، وقد عرف عنهم أنّ فيه شائبة التعبد، مع أنّ هذه العبارة ليست نصاً، ولا يمكن أن تقف مانعاً أمام حركة البحث الاجتهادي. ولكن مع ذلك فإنّ موضوعات من قبيل: أحكام الزواج تحليلاً وتحريماً، ومن يحل الزواج بهن ومن يحرم .. وإنْ كانت تهدف إلى تنظيم الاجتماع البشري، ولكنّها أحكام تعبدية تتسم بالثبات، ويمكن أن نسميّ ذلك بالتعبد النظامي، وما قلناه في النكاح نقوله في الطلاق، فأحكام الطلاق في خطوطه العريضة هو حقل تعبدي، ولا مجال لحملها على زمانٍ أو مكانٍ خاصين، ومنها أحكام العِدة على اختلافها وحتى صيغة الطلاق، وضوابطه وشروطه، لأنّ المشرّع لا بدّ أن يضع الحدود منعاً من الفوضى والهرج والمرج. وهكذا الحال في المواريث والوصايا، فإنّها من القضايا التي ينطبق عليها ما أسميناه بالتعبد النظامي.

 ولا يمنع ذلك من وجود مناطق عديدة يمكن طرح السؤال عن مدى التعبد فيها، ففي النكاح مثلاً يمكن أن نسأل: هل يمكن أن يكون الحكم الشرعي بأن سكوت البنت كاشف عن رضاها هو حكم تعبدي ولا يقبل التغير ولو بتغير الظروف؟ يقول الفقيه السيد اليزدي: "ورد في الأخبار أن إذن البكر سكوتها عند العرض عليها وأفتى به العلماء لكنّها محمولة على ما إذا ظهر رضاها وكان سكوتها لحيائها عن النطق بذلك"[16].

وعلق بعض الفقهاء قائلاً: "يمكن اختلاف الحكم حسب اختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص والحالات، فلو فرضنا ورود أخبار دالَّة - بإطلاقها - على كفاية الرضا - كما هو كذلك ، لكانت محمولة على اقتضاء خاص لأحد المذكورات لا الحكم بالكفاية مطلقاً"[17].

وفي الطلاق يمكن أن نسأل: ألا يعد مرض فقد المناعة المعروف بـ" الأيدز" موجباً للفسخ كما هو الحال في مرض العنن؟ 

وأكتفي بهذا القدر من الحديث التأملي النقدي في الفكرة السائدة حول تعميم التعبد إلى كل المجالات والمسارات الفقهية.

 

المحور الثاني:

 دور الزمان والمكان في تغيير متعلّق الحكم الشرعي

بعد أن تحدثنا عن دور الزمان والمكان في تغيير ملاك الحكم، يأتي الكلام للحديث عن دورهما في تغيير المتعلق، والمتعلق هو فعل المكلف، فهل يتغيّر الحكم الشرعي تبعاً لتغيّر المتعلّق؟ وهل يؤثّر تبدل الزمان والمكان في تغيير متعلق الحكم؟ وهل يخلق تغيرهما عناوين ثانوية ترد على المتعلّق؟

أشكال تغيّر المتعلق

والجواب: إنّ التغير الذي يطرأ على متعلق الحكم بسبب اختلاف الزمان وتغير المكان هو على عدة أشكال وصور، نشير إليها تباعاً:

  • التغيّر المباشر الذي ينتفي معه صدق المفهوم عرفاً.

 الشكل الأول: هو التغير في مفهوم المتعلق، والمثال الذي يمكن طرحه في المقام هو تأثير الزمان على تغير مفهوم العشرة بالمعروف التي أمر بها الزوج تجاه زوجته، قال تعالى: {وعاشروهن بالمعروف} [النساء 20 ]، فإنّ العِشرة على صعيد السكنى كانت تتحقق بشيء بسيط من تهيئة أسباب المعيشة في الزمن السابق أو في بعض البلدان الفقيرة والبعيدة عن التمدن والتطور، بينما مع تطور الزمان أصبحت العشرة بالمعروف تحتاج إلى العديد من المتطلبات، وما كان في السابق عشرة بالمعروف ربما لم يعد اليوم كذلك، فلو أنّ شخصاً أراد لزوجته أن تعيش دون غسالة للثياب أو ثلاجة ( برّاد) أو دون إنارة كهربائية، فلن يكون ذلك من العشرة بالمعروف في زماننا مع أنّ ذلك كان سابقاً داخلاً فيها.

  • التغيّر فيه بسبب تغيّر علّة الحكم.

والشكل الثاني: التغير الذي يطرأ على علة المتعلق بسبب تغير علة الحكم، ومثاله الحكم بكراهة أو حرمة[18] تلقي الركبان لأجل الشراء منهم[19]، فالتلقي هو متعلق الحكم بالكراهة، (هذا بناءً على القول بالكراهة، وعدم الالتزام بالحرمة التدبيرية) وقد وقع الكلام أنّ الكراهة هل تشمل زماننا هذا، أم تختص بالزمان السابق حيث كان الركب القادم يجهل بسعر المتاع في البلد المقصود؟ يمكن القول: إنّ علة كراهة أو حرمة التلقي هي الحيلولة دون غبن هؤلاء قبل وصولهم إلى السوق، وبناء عليه فلم يحصل تغيّر في مفهوم التلقي، ولكن التغيّر هو في العلة.

وربما يقال: إنّ هذا المثال مرده إلى ما جاء في المحور الأول من تغير علة الحكم، ولا علاقة له بالمتعلق.

  • التغير في صفة المتعلق.

والشكل الثالث: هو التغيّر الذي يطرأ على صفة المتعلق التي يرجّح الفقيه أنّ لها دوراً في الحكم، من قبيل تغيّر طريقة اللعب بالشطرنج، فبناءً على الرأي المشهور بحرمة اللعب به، فإنّ الشطرنج كان أداة من أدوات القمار وكان اللعب به يجري على نحو لهوي قماري، وقد تغيّر الوضع حالياً، فقد غدا اللعب به بغرض الترويض الذهني، فربما يستظهر الفقيه "أنّ دليل التحريم لا يشمل مثل زماننا الذي أصبح فيه الشطرنج علماً وفناً خاصاً يتبارى فيه الأذكياء للكشف عن قواهم الذهنية"[20].

  • التغير بسبب طروء عنوان ثانوي على المتعلق.

وذلك أنّ الزمان والمكان قد يكون لهما دور مهم في طروء عناوين ثانوية ترد على المتعلق مما يوجب تغيّر حكمه. والعناوين الثانوية التي تؤثر على المتعلق كثيرة، من قبيل عنوان هتك الدين أو هتك كرامة المؤمن وإهانته، فكل عمل مباح في الأصل أوجب فعله - لسبب من الأسباب - هتك حرمة الدين فإنه يغدو محرماً في هذه الحالة، والمراد بالهتك والتوهين هو ما يوجب الذل والهوان للدين [21]، بنظر العرف السائد.

 والعناوين الثانوية التي تطرأ غالباً على متعلقات الأحكام وتكون سبباً لارتفاع الحكم الشرعي الثابت لهذه المتعلقات بعناوينها الأولية، كثيرة، منها: "الضرر" و"الحرج" و"الإكراه" و"الاضطرار" و"الهتك" وغير ذلك.

المحور الثالث

 دور الزمان والمكان في تغيير موضوع الحكم الشرعي

 من المعلوم أنّ الأحكام الشرعية تتبع موضوعاتها سلباً أو إيجاباً، فتثبت للحكم فعليته بثبوت موضوعه وتنتفي الفعلية بانتفائه. وإذا كان اختلاف الزمان والمكان لا سلطة له على تغيير الحكم الشرعي بشكل مباشر، فإنّ له سلطة أو دوراً في تغيير الحكم بشكل غير مباشر، وذلك بتوسط تغيير ورفع موضوع الحكم.

  1. أنحاء تغيّر الموضوع

لتغيّر الموضوع أنحاء عدّة:

النحو الأول: التغيّر الحسي، كما في حالات الانقلاب، من قبيل انقلاب الخمر خلاً مثلاً، فإنّ انعدام الموضوع ( الخمر ) وحدوث موضوع جديد ( الخل ) سيعقبه تغيّر الحكم حتماً، لأنّ الحرمة كانت منصبة على الخمر، وهذا لم يعد خمراً بل هو خل، والكلام عينه يجري في حالات الاستحالة، كاستحالة الكلب ملحاً، أو الخشب النجس رماداً أو نظير ذلك، فمع تحقق الاستحالة فعلاً ترتفع حرمة الشرب في المثال الأول، والنجاسة في المثال الثاني. ومن مصاديق الاستحالة في زماننا: ما يجري في الجيلاتين ( gelatin) المأخوذ من عظم أو جلد حيوان غير مذكى أو لا يقبل التذكية كالخنزير، فإن العمليّة الجارية هنا هي نوع استحالة، ولم يعد يصدق على المأكول أنه لحم خنزير أو لحم حيوان غير مذكى، وبالتالي فلا مبرر للحرمة، ومن هنا جوّز بعض الفقهاء المعاصرين تناول المأكولات التي أدخل الجيلاتين المذكور عليها[22].

النحو الثاني: التغيّر في بعض خصائص الموضوع والتي يمكن استظهار أنّها علة للحكم. ونذكر لذلك مثالاً، وهو أن الفقهاء حكموا ببطلان بيع كل ما لا منفعة فيه، ومثلوا لذلك ببيع الدم والسباع والحشرات كالعقرب والحيّة والصرصار ونحوها، واستدلوا على بطلان هذا النوع من التكسب بقوله تعالى: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} [البقرة 184][23]. فالحكم الشرعي هنا هو بطلان البيع، وقد فرضوا أنّ موضوعه هو ما لا نفع فيه، وأمّا الحشرات والسباع والدم فهي مصاديق لما لا نفع فيه (الموضوع)، وحيث إنّ تطوّر الحياة العلميّة التي قاد زمامها الإنسان كشف عن وجود فوائد جمّة في معظم المذكورات، فهذا سيؤدي إلى تبدل الحكم بالمنع من بيع هذه الأمور إلى الحكم بالجواز، لا لأنّ حكم الله تغيّر، بل إنّ حكم الله ثابت وباق، وهو بطلان بيع ما لا منفعة فيه، وإنّما الذي تغيّر هو الموضوع، فأصبح للدم منفعة كبيرة بإنقاذ المرضى والجرحى والمحتاجين إليه، وهكذا أصبح للعقارب والحيات والسباع فوائد طبية عديدة.

 وبتدقيق النظر في هذا المثال، يتضح أنّ التغيّر لم يطرأ على ذات الموضوع، فالحشرات باقية على ما هي عليه، وكذلك الدم، وإنّما طرأ التغيّر على خصوصية النفع، حيث إنّ تطور العلم بدّل اللانفع إلى نفع، والمفروض أنّ الفقيه قد استظهر أنّ النهي الشرعي عن بيعها ليس لأعيانها، وإنّما لعلة عدم النفع فيها. 

النحو الثالث: التغير في شبكة العلاقات، بمعنى أنّ تغيّر الزمان والمكان قد يصاحبه تغيرٍ في شبكة العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المحيطة بالموضوع، وتغيّر في منظومة المعرفة الإنسانية رقياً أو تخلفاً، الأمر الذي قد تُدَّعى دخالته في الموضوع وتأثيره عليه، وبعبارة أخرى: يدّعى أنّ تغيّر العلاقات المشار إليها، هو نوع من تغيّر الموضوع الموجب لتغير الحكم أيضاً، وإن كان تغيّراً خفياً في الموضوع.

وهذا ما يظهر من كلام السيد الإمام الخميني (رحمه الله) فيما طرحه في أواخر عمره، قال (رحمه الله): "أمّا فيما يخص الدروس والتحصيل والتحقيق في الحوزات، فإنّي أعتقد بالفقه التقليدي والاجتهاد الجواهري ولا أجيز التخلف عنهما؛ فالاجتهاد بذات الأسلوب يعتبر صحيحاً، وهذا لا يعني أنّ الفقه الإسلامي ليس مرناً، فالزمان والمكان عنصران مصيريان ومهمان في الاجتهاد. والمسألة التي كان لها حكم معين في السابق، قد يكون لها حكم جديد بعد تغيّر العلاقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية الحاكمة في نظام ما. وهذا يعني أنّه بالمعرفة الدقيقة للعلاقات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المحيطة بالموضوع الأول الذي يبدو ظاهرياً أنّه لم يتغير عن السابق، فإنّ ذلك الموضوع أصبح في الواقع موضوعاً جديداً يتطلّب حكماً جديداً"([24]).

والمثال الذي نطرحه لتوضيح هذا النحو من التغيّر الذي أشار له الإمام الخميني هو مثال حدّ الردة، فإنّ هذا الحدّ كان مطبقاً في السابق في ظلّ نظام يرتكز على أساس الدين، وتقوم العلاقة بين الأفراد وبين السلطة على أساس ديني، فإنْ كان المواطن متبعاً وملتزماً دين الدولة فهذا يعطيه حصانة خاصة، وإذا خرج عن الدين فهذا يعدّ بمثابة الخروج على الدولة، كما كان يحصل في الردات التي جرت زمن النبي (ص)، فإنّ المرتدين كانوا ينقلبون إلى صفّ أعداء الإسلام. وقد تغيّرت الظروف وأصبحت الدولة لا هوية دينية لها، والذي ينظّم علاقتها بأبنائها هو مواطنيتهم والتزامهم بأنظمة الدولة العامة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى: فإنّ النظام الإسلامي في حال قيامه فمن الطبيعي أن يعمل على نشر الهداية، وتوفير وسائل الإقناع وإقامة الحجة، من خلال الدعاة والوعاظ والكُتّاب والمفكرين، معتمدين على مختلف الوسائل التي تدحض الباطل بالمنطق والبرهان، وتحاصر فكر الإلحاد والكفر، أمّا في أيامنا، فإننا نفتقد في الكثير من بلدان المسلمين نظاماً إسلامياً يعمل على تبليغ الإسلام والذب عنه. بل إنّ سيل التشكيكات ينهال باستمرار على الإسلام، في عقائده ومبادئه وشريعته. ولا تنفك وسائل الإعلام والدعاية غير الإسلامية، تقتحم على المسلمين بيوتهم ونواديهم بالكثير من الإشكالات، التي تسمِّم عقولهم وتبعثهم على التشكيك بدينهم؛ فيتحصل من ذلك أنّ ثمّة تغيّراً ملحوظاً في شبكة العلاقات الثقافية والسياسية التي كانت محيطة بتطبيق حد الردة، ومعه فقد يقال بعدم لزوم تطبيق حدّ الردة مع حدوث هذا التغيّر.

مثال آخر: وهو ما أسلفنا بيانه من أنه قد حدث تغير بين زمان النبي (ص) وزمان الخلفاء من بعده، على صعيد جوهري، وهو قوة المجتمع والدولة ما أوجب تغيّراً في الحكم، بحسب ما يروى عن الإمام علي فقد سئل عن قول الرسول (ص): "غيروا الشيب ولا تشبهوا باليهود"، فأجاب (ع): "إنّما قال ذلك والدين قل، فأمّا الآن وقد اتسع نطاقه وضرب بجرانه فامرؤ وما اختار"[25].

وهذه النظريّة لو أخذ بها، فإنها ستمنح الشريعة الإسلاميّة قدرةً عالية على مواكبة التغيّرات التي تحدث بمرور الزمان وتغيّر الظروف وتبدّل الأحوال، وسوف يجيب ذلك على إشكال جمود الشريعة وعجزها عن تلبية الكثير من متطلبات عصر التمدن، أو مشكلة الانسداد التي يشعر بها الفقيه المطلع على الواقع وعلى غربة التشريع الإسلامي عن الكثير من مفاصله.  

  1. الإشكالات على هذه النظرية

وهذه النظرية قد تواجه العديد من الاعتراضات، نشير إلى اعتراضين منها:

الاعتراض الأول: إنّ هذا المنهج في الاستنباط يصادم أصالة ثبات الشريعة، المستفادة من الحديث المعروف: "حلال محمد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة"[26].

والجواب: إنّ هذا الإشكال مندفع، لأنّ المفروض أنّ الحكم الشرعي هو مؤطر من قبل الشريعة نفسها بهذا الإطار الخاص، فالخروج على هذا الإطار هو الذي يشكّل خروجاً على مسلمة "حلال محمد حلال إلى يوم القيامة"، وليس الأخذ به، فإذا استفدنا من الشريعة نفسها ارتباط الحكم بموضوعه – بهذا التفسير للموضوع – فهذا يعني أنّ الحكم مع تغيّر الظروف أو تغيّر الموضوع تنتهي فاعليته بإمضاء صاحب الشريعة.

الاعتراض الثاني: لزوم تأسيس فقه جديد، فهذا المنهج سيغيّر صورة الفقه المعهودة ويؤسس لفتاوى غير مألوفة، بحيث إنّ الشريعة وبمرور الزمان قد تتغير صورتها ونغدو أمام صورة جديدة.

والجواب: إنه إذا أريد بتأسيس فقه جديد الأخذ ببعض الأصول أو القواعد التي قد تؤدي إلى تحريم ما قام الدليل على حليته، أو تحليل ما قام الدليل على حرمته أو نحوه من تجاوز أحكام شرعيّة منصوصة، أو أدى إلى الخروج من مسلمات فقهية، فهذا سيكون مرفوضاً حتماً، وأما إن أريد بتأسيس فقه جديد تغيّر في الفتاوى والالتزام بفتاوى جديدة غير مألوفة ومخالفة للمشهور أو للإجماع، فلا ضير من الأخذ بما يؤدي إلى ذلك، حتى لو أدى إلى اهتزاز في المنظومة الفقهية الاجتهادية التقليدية، فهذه المنظومة هي حصيلة أنظار اجتهادية، وذلك ليس حجة علينا.

ولعلّ الخشية من تأسيس فقه جديد انطلقت من وحشة الفقيه الذي تربى على منظومة تفكير معينة تتوجس من المخالفة أو الخروج على إطار التفكير السائد، وربما أعاق التهويل بهذا الأمر حركة العقل الفقهي عن التجديد وأدى إلى تحنيطه أو تعليبه أو تأطيره ضمن قوالب جامدة ساهمت في إبعاد الشريعة الإسلامية عن واقع الحياة.

 

المحور الرابع

دور الزمان في فهم النص وتطبيقاته

هل لتغيّر الزمان والمكان دور في فهم النص؟ بحيث يكون له قراءات متعددة بتعدد الأمكنة واختلاف الأزمنة؟ أم أنّ فهمه ثابت ولا علاقة له بحركة الزمان وتغير المكان؟

ويمكن بحث هذه المسألة على مستويين:

الأول: دور الزمان والمكان في خلق فهم جديد للنص.

الثاني: دورهما في إيجاد تطبيقات جديدة له.

المستوى الأول:

 هنا لا يسعنا الحديث عن دور الزمن والمكان في فهم النص، إلا بمقدار ما يخلقه تغيّر الزمان والمكان من وعي جديد واجتهاد حديث في فهم النص، بفعل أن تعاقب الأزمان يسهم في إحداث تراكم معرفي وفي فتح آفاق رحبة أمام فهم جديد للنص أو اكتشاف بعض أعماقه وفتح بعض مغاليقه، ولا سيما عندما لا يكون هذا النص بشرياً لينحصر في بعد معين أو عمق محدد، بل هو نص إلهي صادر عن خالق الإنسان، العالم بما يصلحه ويفسده في الحاضر والمستقبل والعالم بأسراره وما تخبىء له الأيام من تطورات، قال تعالى:  {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير} [الملك 14]، ولهذا لما سئل الإمام الصادق (ع): ما بال القرآن لا يزداد على النشر والدرس إلا غضاضة – طراوة -؟ قال: لأنّ الله تبارك وتعالى لم يجعله لزمان دون زمان، ولا لناس دون ناس، فهو في كل زمان جديد، وعند كل قوم غض إلى يوم القيامة"[27].

وعن الإمام الباقر (ع): " إن القرآن حي لا يموت ، والآية حية لا تموت ، فلو كانت الآية إذا نزلت في الأقوام ماتوا فمات القرآن ، ولكن هي جارية في الباقين كما جرت في الماضين"[28].

إنّ أمثال هذه الأحاديث تستفز الباحث وتجعله في حالة استنفار فكري وقلق معرفي على الدوام، فلا يستسلم لفهم السلف - رغم جلالتهم - ولا يركن لتفسيرهم - رغم احترامه لهم -، لأنّ فهم المجتهد ليس حجة على المجتهد الآخر وكم ترك الأول للآخر، وينبغي أن يُعد ذلك من معاجز الإسلام الكبرى لأنّه يعطي هذا الدين ليونة ومرونة تكسبه قدرة على مواكبة متغيرات الحياة، ويحول دون ابتلائه بالجمود والتقوقع كما هو الحال في بعض الأديان السابقة على الإسلام، التي عمد كهنوتها الديني إلى احتكار تفسير النص كأنّما هو ألغاز وأحاجي لا يفك رموزها إلاّ فئة معينة وأشخاص محددين.

المستوى الثاني:

وأما دور الزمان والمكان في إيجاد تطبيقات جديدة للنص، فهذا مما لا مجال للتشكيك فيه، وقد أشار إليه الإمام الصادق (ع) فيما روي عنه: "ولو كانت إذا نزلت – أي الآية – في رجل ثمّ مات ذلك الرّجل ماتت الآية، لمات الكتاب، ولكنّه حيّ يجري فيمن بقي كما جرى فيمن مضى"[29]، وعلى سبيل المثال عندما يقول تعالى: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة} [الأنفال 60] فإنّه يقدم مبدأ ثابتاً لا يبلى ولا يتغير رغم اختلاف العصور ولا يكسبه تغير المكان أو الزمان فهماً جديداً، ولكنه يقدم له تطبيقات ومصاديق جديدة، فبينما كان إعداد القوة ذات يوم يتحقق برباط الخيل، فإنّه في أيامنا لا يتحقق في ذلك بل بما يلائم عصرنا من وسائل الحرب وأسلحتها الدفاعية والهجومية.

ثمار أخرى لإلمام الفقيه بالعصر وتياراته وأفكاره

وعلى ضوء ما تقدم، يمكن القول: إنّ انفتاح الفقيه على قضايا العصر ومستجداته وإلمامه بمجمل تياراته الفكرية والسياسية وغيرها وتوفره على الوعي الكامل لمجريات الأحداث من حوله، ينبغي أن يعدّ من الفرائض لا من النوافل، وإذا قرأ الفقيه في كتاب الفقه والحديث صفحة واحدة، فعليه أن يقرأ في كتاب الحياة صفحات لأنّ: "في التجارب علم مستأنف"[30].

 ولمعرفة الفقيه بالزمان والمكان وإلمامه بتيارات العصر ثمار عديدة تضاف إلى ما تقدم، وإليك أهمها:

الثمرة الأولى: أنّها تجعله ملماً بالمستجدات ومواكباً للتطورات المتلاحقة على مختلف الأصعدة ما يمكنه من تقديم الموقف الشرعي المناسب إزاءها.

ولهذا يرى الإمام الخميني أنّ الاجتهاد التقليدي لم يعد كافياً في أيامنا هذه، يقول (رحمه الله): "ومن هنا فلا يكفي الاجتهاد المصطلح عليه في الحوزات بل حتى ولو وجد إنسان هو الأعلم في العلوم والمعرفة في الحوزة لكنه غير قادر على تشخيص مصلحة المجتمع، أو لا يقدر على تشخيص الأفراد الصالحين والمفيدين من الأفراد غير الصالحين ويفتقد – بشكل عام – للرأي الصائب في المجال الاجتماعي والسياسي والقدرة على اتخاذ القرار.. فإنّ مثل هذا الإنسان يكون غير مجتهد في المسائل الاجتماعية والحكومية ولا يمكنه التصدي لاستلام زمام المجتمع"[31].

الثمرة الثانية: إنّ متابعته للتطورات والمستجدات ستمكنه من تشخيص الموضوعات بشكل جيد، فيعالج حينها المسائل بطريقة واقعية بعيدة عن الافتراضات والاحتمالات التجريدية التي قد يغرق فيها نتيجة لعدم وضوح الموضوع لديه في كثير من الحالات،ولهذا تأتي فتواه معلقة من قبيل: (إن كان كذا فكذا وإلاّ فكذا)، وهذا ما قد يوقع المكلف العادي في كثير من الإرباك والتحير نتيجة عدم إلمامه هو الآخر بالموضوع.

الثمرة الثالثة: إنّها تجعله بمنأى عن الوقوع في الألاعيب السياسية وشباك المنافقين وحبال المغرضين وأصحاب المطامع والذين يكيدون للإسلام وأهله ويريدون غطاء دينياً، في الحديث عن الإمام الصادق (ع): "العالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس"[32].

الثمرة الرابعة: إنّ المعرفة بقضايا العصر وأنماط حياته وطرق تفكير أبنائه ستساعد الفقيه على التجديد في الأسلوب والطرح والخطاب، لأنّه إن لم يتمكن – بحكم ثبات الكثير من أحكام الشريعة – من التجديد في المضمون، فلا أقل من أن يجدد في الأسلوب.

ولنعم ما قاله العلامة المرحوم الشيخ محمد جواد مغنية (ره) في هذا المجال: "كل شيء فينا وحولنا يتحرك ويتغير أردنا ذلك أم لم نرد، ثرنا أم استسلمنا، وعلى كل فرد أن يتحمل مسؤولية هذه الحياة المتطورة حسب ظروفه وكفاءته، وإذا كانت القدرة على استخراج الحكم من الأدلة الأربعة كافية وافية في مجتهد الأمس حيث كانت الحياة على وفاق ووئام مع الشرع الإسلامي وأحكامه ونصوصه، فإنّ مجتهد اليوم يجب بالإضافة إلى هذا الشرط أن يتوفر له الوعي الديني المستنير المنفتح والوعي الزمني لمجرى الحوادث وحقائق الحياة من حوله، وأن يتخلى عن الوهم أنّ الإسلام قادر على مقاومة كل تهديد لمجرد ما فيه من مزايا وخصائص، وأن يكون ذا فكر مبدع وخلاق، وأن يتحرر من القيود والتقاليد التي لا يفرضها عقل ولا دين لكي يستطيع أن يوائم بين النصوص ومقتضيات العصر.. وبعد فإنّ المجتهد المطلق حقاً وواقعاً في عصرنا هو الذي يخلق ويبدع على أساس المصلحة في حدود المبادئ العامة، أمّا الظاهري المغلق على عقله ودنياه فيستحيل الاجتهاد في حقه حتى ولو حفظ آيات الأحكام وأحاديثها والمتون وشروحها وثنيت له الوسادة وألف مائة كتاب ورسالة[33].

 

 


[1] الحكم الشرعي يمر بمرحلتين أساسيتين: وهما:

  1. مرحلة الثبوت، أو مرحلة الملاك، وهي التي يلاحظ فيها المشرع ما عليه الفعل من مصلحة أو مفسدة، وإذا لاحظ وجود مصلحة بدرجة معينة فيه تولدت إرادة لذلك الفعل بدرجة تتناسب مع المصلحة المدركة، ثم يعتبر الفعل على ذمّة المكلف.
  2. مرجلة الإثبات وهي مرحلة إبراز الحكم إلى المكلفين بجملة معينة، نظير ما يعرف لدى المقنن الوضعي من نشر القانون في الجريدة الرسمية.

 

[2] أراد الإسلام للمرأة أن تبتعد عن التبرج وهو حكم يهدف إلى تحصين المجتمع وإرساء الأمن الأخلاقي والحؤول دون تحويل المجتمع خارج نطاق الدائرة الزوجية إلى حالة فوضى أو طوارئ جنسيّة، مما يهدد بنسف استقرار الأسرة والمجتمع.

[3] الكافي، ج 1، ص 411، وسائل الشيعة ج5 ص17، الحديث 7 الباب 7 من أبواب أحكام الملابس.

[4] المصدر نفسه الحديث 11.

[5] مكارم الأخلاق ص 69، سنن النبي للطبطبائي ص147.

[6] تهذيب الأحكام ج1 ص62.

[7] يقول الشيخ الأنصاري:" نعم ، الإنصاف أن الركون إلى العقل فيما يتعلق بإدراك مناطات الأحكام لينتقل منها إلى إدراك نفس الأحكام ، موجب للوقوع في الخطأ كثيرا في نفس الأمر ، وإن لم يحتمل ذلك عند المدرك"، انظر: فرائد الأصول ج 1 ص 62. وقال السيد الشهيد:" لا شك في أن الأحكام الشرعية تابعة للمصالح والمفاسد وان الملاك متى ما تم بكل خصوصياته وشرائطه وتجرد عن الموانع عن التأثير كان بحكم العلة التامة الداعية للمولى إلى جعل الحكم على طبقه وفقا لحكمته تعالى، وعلى هذا الأساس فمن الممكن نظريا أن نفترض إدراك العقل النظري لذلك الملاك بكل خصوصياته وشؤونه، وفي مثل ذلك يستكشف الحكم الشرعي لا محالة استكشافا لميا، اي بالانتقال من العلة إلى المعلول. ولكن هذا الافتراض صعب التحقق من الناحية الواقعية في كثير من الأحيان لضيق دائرة العقل وشعور الانسان بأنه محدود الاطلاع، الامر الذي يجعله يحتمل غالبا أن يكون قد فاته الاطلاع على بعض نكات الموقف، فقد يدرك المصلحة في فعل، ولكنه لا يجزم عادة بدرجتها وبمدى أهميتها وبعدم وجود اي مزاحم لها، وما لم يجزم بكل ذلك لا يتم الاستكشاف" انظر: دراسات في علم الأصول – الحلقة الثالثة ص .

[8] دراسات في المكاسب المحرمة ج 1 ص 500.

[9] الاجتهاد والحياة 21.

[10] الكافي ج 5 ص 175.

[11] المكاسب للشيخ الأنصاري.

[12] عمدة المطالب ج2 ص115.

[13] المعجم الأوسط، ج 9، ص 96.

[14][14] وسائل الشيعة، الحديث 5 و6، ب 11 من أبواب إحياء الموات.

[15] منهاج الصالحين ج2 ص162.

[16] العروة الوثقى ج 5 ص 624.

[17] مدارك العروة ج 30 ص 165.

[18] على الخلاف في ذلك بين فقهاء المذاهب، قال الشوكاني: " الجمهور قالوا : لا يجوز تلقي الركبان ، واختلفوا هل هو محرم أو مكروه فقط ؟ "، نيل الأوطار، ج 5، ص 267، والمشهور عند الإمامية هو القول بالكراهة، ولكنّ بعض فقهائهم أفتى بالحرمة، أنظر: رياض المسائل في بيان الأحكام بالدلائل، ج 8، ص 168.

[19] قال العلامة الحلي في التذكرة:" تلقّي الركبان منهيّ عنه إجماعاً. وهل هو حرام أو مكروه ؟ الأقرب : الثاني ؛ لأنّ العامّة روت أنّ النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) قال : " لا تتلقّوا الركبان للبيع "، انظر: سنن أبي داوود، ج 2، ص 133. ومن طريق الخاصّة : قول الباقر ( عليه السلام ) قال : " قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : لا يتلقّى أحدكم تجارة خارجاً من المصر ، ولا يبيع حاضر لباد ، والمسلمون يرزق الله بعضهم من بعض "، وصورته أن ترد طائفة إلى بلد بقماش ليبيعوا فيه ، فيخرج الإنسان يتلقّاهم فيشتريه منهم قبل قدوم البلد ومعرفة سعره . فإن اشترى منهم من غير معرفة منهم بسعر البلد، صحّ البيع ؛ لأنّ النهي لا يعود إلى معنى في البيع ، وإنّما يعود إلى ضرب من الخديعة والإضرار ؛ لأنّ في الحديث " فإن تلقّاه متلقّ فاشتراه فصاحبه بالخيار إذا قدم السوق "، فأثبت البيع مع ذلك . إذا ثبت هذا، فإنّه لا خيار لهم قبل أن يقدموا البلد ويعرفوا السعر، وبعده يثبت لهم الخيار مع الغبن، سواء أخبر كاذباً أو لم يخبر . ولو انتفى الغبن، فلا خيار ..". انظر: تذكرة الفقهاء ج 12 ص 170.

[20] قواعد نافعة في الاستنباط، للشيخ محمد باقر الإيرواني، ص 190.

[21] انظر: ما قاله السيد الخوئي حول ذلك، المسائل الشرعية ج2 ص339.

[22] المسائل الفقهيّة، المعاملات، ص 274.

[23] راجع: ايضاح الفوائد ج1 ص401.

[24] الثقافة الإسلامية، العدد الثالث والأربعون، ذو القعدة - ذو الحجة 1412هـ، ص44.

[25] نهج البلاغة قصار الحكم 17.

[26] ففي الخبر الذي رواه الكليني عن علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى بن عبيد، عن يونس، عن حريز عن زرارة قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الحلال والحرام فقال: "حلال محمد حلال أبدا إلى يوم القيامة، وحرامه حرام أبدا إلى يوم القيامة ، لا يكون غيره ولا يجئ غيره ، وقال : قال علي عليه السلام : ما أحد ابتدع بدعة إلا ترك بها سنة"، انظر: الكافي ج 1 ص 58.

[27] بحار الأنوار ج89 ص15.

[28] تفسير العياشي، ج 2، ص 203.

[29] بحار الأنوار ج23 ص4.

[30] كما ورد في الحديث عن علي (ع)، انظر: الكافي ج8 ص22.

[31] منهجية الثورة الإسلامية - مقتطفات من أفكار وآراء الإمام الخميني ص163.

[32] الكافي ج1 ص27.

[33] الإسلام بنظرة عصرية ص103.

 


تحميل الملف



اضافة تعليق

الاسم *

البريد الإلكتروني *

موضوع *

الرسالة *


 


 
  قراءة الكتب
 
    Designed and Developed
       by CreativeLebanon