حوار مع مركز أفاق للدراسات والأبحاث: مشكلة الأديان تتشكل في الخطاب الفقهي    ثمن الحرية    أمثل الأساليب في عمليّة تهذيب النفس    مزايا الشباب    العمل سرّ النجاح    العبادة وعيٌ وانفتاح لا جهل وانغلاق    اقتناء أصنام الأمم البائدة    المفاهيم الدينية بين وجوب الاعتقاد وحرمة الانكار    البناء الاعتقادي بين الاجتهاد والتقليد    
 
بحث
 
تكريم الإنسان
 
س » أنا طالب علم، لدي خوف من أن أتكلم بغير علم.. ما الحل؟
ج »

وعليكم السلام

لا بد لطالب العلم في مساره العلمي أن يتسلح بأمرين أساسيين:
الأول: الاستنفار العلمي وبذل الجهد الكافي لمعرفة قواعد فهم النص واستكناه معناه ودلالاته بما يعينه على التفقه في الدين وتكوين الرأي على أسس صحيحة.
الثاني: التقوى العلمية ويُراد بها استحضار الله سبحانه وتعالى في النفس حذراً من الوقوع في فخ التقوّل على الله بغير علم. ومن الضروري أن يعيش مع نفسه حالة من المحاسبة الشديدة ومساءلة النفس من أن دافعه إلى تبني هذا الرأي أو ذاك: هل هو الهوى والرغبة الشخصية أم أن الدافع هو الوصول إلى الحقيقة ولو كانت على خلاف الهوى.
أعتقد أن طالب العلم إذا أحكم هذين الامرين فإنه سيكون موفقاً في مسيرته العلمية وفيما يختاره من آراء أو يتبناه من موقف.

 
س » كيف علمنا أن الصحيفة السجادية ناقصة؟ وهل ما وجده العلماء من الأدعية صحيح؟؟
ج »

أقول في الإجابة على سؤالكم:

أولاً: إن الصحيفة السجادية في الأصل تزيد على ما هو واصل إلينا وموجود بين أيدينا، قال المتوكل بن هارون كما جاء في مقدمة الصحيفة: " ثم أملى عليّ أبو عبد الله (ع) الأدعية، وهي خمسة وسبعون باباً، سقط عني منها أحد عشر باباً، وحفظت منها نيفاً وستين باباً"، بيد أن الموجود فعلاً في الصحيفة الواصلة إلينا هو أربعة وخمسون دعاء. آخرها دعاؤه في استكشاف الهموم، وهذا آخر دعاء شرحه السيد علي خان المدني في رياض السالكين، وكذا فعل غيره من الأعلام.

ثانياً: إن سقوط عدد من أدعية الصحيفة وضياعها دفع غير واحد من الأعلام للبحث والتتبع في محاولة لمعرفة ما هو الضائع منها، وبحدود اطلاعي فإنهم عثروا على أدعية كثيرة مروية عن الإمام زين العابدين (ع)، لكنهم لم يصلوا إلى نتائج تفيد أن ما عثروا عليه هو من الأدعية الناقصة منها، ولذا عنونوا مؤلفاتهم بعنوان مستدركات على الصحيفة، ولم يجزموا أن ما جمعوه من أدعية هو الضائع من أدعية الصحيفة. وهذا ما تقتضيه الضوابط العلمية والدينية، فما لم يعثر الإنسان على نسخة قديمة موثوقة أو قرائن مفيدة للوثوق بأن هذا الدعاء أو ذاك هو من جملة أدعية الصحيفة فلا يصح له إضافة بعض الأدعية على الصحيفة بعنوان كونها منها.

ثالثاً: لقد ابتُلينا بظاهرة خطيرة، وهي ظاهرة الإضافة على الصحيفة أو غيرها من كتب الأدعية، وهذا العمل هو خلاف الأمانة والتقوى، وقد ترتّب على ذلك الكثير من المفاسد، وأوجب ذلك وهماً للكثيرين، فتوهموا أن بعض الأدعية هي جزء من الصحيفة السجادية المشهورة، ومردّ ذلك بكل أسف إلى أن مجال الأدعية والزيارات شرعة لكل وارد، وتُرك لأصحاب المطابع والمطامع! وأعتقد أن هذا العبث في كتب الأدعية والزيارات ناشئ عن عدم عناية العلماء بالأمر بهذه الكتب كما ينبغي ويلزم، كما نبه عليه المحدث النوري في كتابه "اللؤلؤ والمرجان" مستغرباً صمت العلماء إزاء التلاعب والعبث بنصوص الأدعية والزيارات مما يعدّ جرأة عظيمة على الله تعالى ورسوله (ص)!

رابعاً: أما ما سألتم عنه حول مدى صحة الأدعية الواردة بعد دعاء استكشاف الهموم، فهذا أمر لا يسعنا إعطاء جواب حاسم وشامل فيه، بل لا بدّ أن يدرس كل دعاء على حدة، ليرى ما إذا كانت قرائن السند والمتن تبعث على الحكم بصحته أم لا. فإن المناجاة الخمس عشرة بنظرنا لم تصح وربما كانت من وضع الصوفية، وقد أوضحنا ذلك بشكل مفصل في كتاب الشيع والغلو.


 
س » ابني المراهق يعاني من التشتت، وأنا جدا قلق ولا اعرف التصرف معه، ما هي نصيحتكم؟
ج »

التشتت في الانتباه في سن المراهقة مع ما يرافقه من الصعوبات هو في حدود معينة أمر طبيعي وظاهرة تصيب الكثير من المراهقين ولا سيما في عصرنا هذا.

وعلينا التعامل مع هذه المرحلة بدقة متناهية من الاستيعاب والتفهم والإرشاد والتوجيه وتفهم سن المراهق، وأن هذه المرحلة تحتاج إلى أسلوب مختلف عما سبقها.

فالمراهق ينمو لديه الإحساس بالذات كثيرا حتى ليخيل إليه أنه لم يعد بحاجة إلى الاحتضان والرعاية من قِبل والديه.

وبالتالي علينا أن نتعامل معه بأسلوب المصادقة "صادقه سبعا.." والتنبه جيدا للمؤثرات التي تسهم في التأثير على شخصيته واستقامته وتدينه، ومن هذه المؤثرات: الأصدقاء ووسائل التواصل الاجتماعي، فإن نصيبها ودورها في التأثير على المراهق هو أشد وأعلى من دورنا.

وفي كل هذه المرحلة علينا أن نتحلى بالصبر والأناة والتحمل، وأن نبتدع أسلوب الحوار والموعظة الحسنة والتدرج في العمل التربوي والرسالي.

نسأل الله أن يوفقكم وأن يقر أعينكم بولدكم وأن يفتح له سبيل الهداية. والله الموفق.


 
س » اعاني من عدم الحضور في الصلاة، فهل أحصل على الثواب؟
ج »
 
لا شك أن العمل إذا كان مستجمعا للشرائط الفقهية، فهو مجزئٌ ومبرئٌ للذمة. أما الثواب فيحتاج إلى خلوص النية لله تعالى بمعنى أن لا يدخل الرياء ونحوه في نية المصلي والعبادة بشكل عام.
ولا ريب أنه كلما كان الإنسان يعيش حالة حضور وتوجه إلى الله كان ثوابه أعلى عند الله، لكن لا نستطيع نفي الثواب عن العمل لمجرد غياب هذا الحضور في بعض الحالات بسبب الظروف الضاغطة على الإنسان نفسيا واجتماعيا.
لكن على الإنسان أن يعالج مشكلة تشتت الذهن أثناء العمل العبادي وذلك من خلال السعي الجاد للتجرد والابتعاد عن كل الهواجس والمشكلات أثناء الإقبال على الصلاة، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، باستحضار عظمة الله عز وجل في نفوسنا وأنه لا يليق بنا أن نواجهه بقلب لاهٍ وغافل. والله الموفق.

 
س » أنا إنسان فاشل، ولا أتوفق في شيء، وقد كتب عليّ بالخسارة، فما هو الحل؟
ج »

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

أولاً: التوفيق في الحياة هو رهن أخذ الإنسان بالأسباب التي جعلها الله موصلة للنجاح، فعلى الإنسان أن يتحرك في حياته الشخصية والمهنية والاجتماعية وفق منطق الأسباب والسنن. على سبيل المثال: فالإنسان لن يصل إلى مبتغاه وهو جليس بيته وحبيس هواجسه، فإذا أراد الثروة فعليه أن يبحث عن أسباب الثروة وإذا أراد الصحة فعليه أن يأخذ بالنصائح الطبية اللازمة وإذا أراد حياة اجتماعية مستقرة عليه أن يسير وفق القوانين والضوابط الإسلامية في المجال الاجتماعي وهكذا.

ثانياً: لا بد للإنسان أن يعمل على رفع معوقات التوفيق، وأني أعتقد أن واحدة من تلك المعوقات هي سيطرة الشعور المتشائم على الإنسان بحيث يوهم نفسه بأنه إنسان فاشل وأنه لن يوفق وأنه لن تناله البركة الإلهية.

إن هذا الإحساس عندما يسيطر على الإنسان فإنه بالتأكيد يجعله إنسانا فاشلا ومحبطا ولن يوفق في حياته ولذلك نصيحتي لك أن تُبعد مثل هذا الوهم عن ذهنك وانطلق في الحياة فإن سبيل الحياة والتوفيق لا تعد ولا تحصى.


 
س » ما هو هدف طلب العلم الذي يجب أن يكون؟
ج »

عندما ينطلق المسلم في طلبه للعلم من مسؤوليته الشرعية الملقاة على عاتقه ومن موقع أنه خليفة الله على الأرض، فإن ذلك سوف يخلق عنده حافزاً كبيراً للجد في طلب العلم والوصول إلى أعلى المراتب. أما إذا انطلق في تحصيله من موقع المباهاة أو إثبات ذاته في المجتمع أو من موقع من يريد أن يزين اسمه بالشهادة الجامعية ليُقال له "الدكتور" وما إلى ذلك، فإنه - في الغالب - لن يصل إلى النتيجة المرجوة.

وعلى كل إنسان منا أن يعي أنّنا في هذه الحياة مسؤولون في أن نترك أثراً طيباً، وأن نقوم بواجباتنا قبل أن يطوينا الزمان، إننا مسؤولون عن عمرنا فيما أفنيناه وعن شبابنا فيما أبليناه، وسنُسأل يوم القيامة عن كل هذه الطاقات التي منّ اللهُ بها علينا.

وأضف إلى ذلك، إنه من الجدير بالمسلم، أن لا يفكر في نفسه وما يريحه هو فحسب في طلبه للعلم، بل أن يفكر أيضاً في أمته والنهوض بها ليكون مستقبلها زاهراً، وهذا كله يحتم عليه أن يكون سقف طموحاته عالياً ليتمكن هو وأقرانه من الطلاب والعلماء من ردم الفجوة بيننا وبين الغرب الذي سبقنا على أكثر من صعيد.

باختصار: إن مسؤوليتنا ورسالتنا وانتماءنا لهذه الأمة يفرض علينا أن نعيش حالة طوارئ ثقافية وعلمية.


 
س » ما رأيكم في الاختلاط المنتشر في عصرنا، وكيف نحاربه؟
ج »

إنّ الاختلاط قد أصبح سمة هذا العصر في كثير من الميادين، ومنها الجامعات والطرقات والساحات وكافة المرافق العامة.. والاختلاط في حد ذاته ليس محرماً ما لم يفضِ إلى تجاوز الحدود الشرعية في العلاقة بين الرجل والمرأة الأجنبيين؛ كما لو أدى إلى الخلوة المحرمة بالمرأة أو مصافحتها أو كان المجلس مشوباً بأجواء الإثارة الغرائزية أو غير ذلك مما حرمه الله تعالى.

وفي ظل هذا الواقع، فإنّ العمل على تحصين النفس أولى من الهروب أو الانزواء عن الآخرين بطريقة تشعرهم بأن المؤمنين يعيشون العُقد النفسية. إن على الشاب المسلم أن يثق بنفسه وأن يفرض حضوره ووقاره، وأن يبادر إلى إقناع الآخرين بمنطقه وحججه، وأن يبيّن لهم أن الانحراف والتبرج والفجور هو العمل السيّئ الذي ينبغي أن يخجل به الإنسان، وليس الإيمان ومظاهر التدين.

وأننا ندعو شبابنا عامة وطلاب الجامعات خاصة من الذكور والإناث إلى أن يتزينوا بالعفاف، وأن يحصنوا أنفسهم بالتقوى بما يصونهم من الوقوع في الحرام.


 
س » كيف يمكن التخلص من السلوكيات والعادات السيئة؟
ج »

إن التغلب على السلوكيات الخاطئة أو العادات السيئة – بشكل عام – يحتاج بعد التوكل على الله تعالى إلى:

أولاً: إرادة وتصميم، ولا يكفي مجرد الرغبة ولا مجرد النية وانما يحتاج بالإضافة إلى ذلك إلى العزم والمثابرة وحمل النفس على ترك ما اعتادته.

ثانياً: وضع برنامج عملي يمكّن الإنسان من الخروج من هذه العادة السيئة بشكل تدريجي؛ وأرجو التركيز على مسألة "التدرج" في الخروج من هذه العادات السيئة؛ لأن إدمان النفس على الشيء يجعل الخروج منه صعباً ويحتاج إلى قطع مراحل، وأما ما يقدم عليه البعض من السعي للخروج الفوري من هذه العادة، فهو - بحسب التجربة - سيُمنى في كثير من الأحيان بالفشل. والله الموفق


 
 
  مقالات >> فكر ديني
مداميك نهضة الأمة: التفكيك والبناء



العلاقة مع الآخر بين التعايش والانغلاق

لسماحة الشيخ حسين الخشن

 

بسم الله الرحمن الرحيم

والحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا ونبينا وهادينا وحبيب قلوبنا أبي القاسم محمد بن عبد الله، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وأصحابه المنتجبين، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، والسلام عليكم جميعًا ورحمة الله وبركاته..

وإنه لمن دواعي السرور، أن نكون معكم في هذه الجمعية التي تحمل راية الأدب والفكر في رحاب هذا البلد الطيب الذي تسوده حالة رائعة من الانسجام والوئام والتعايش بين أبنائه على اختلاف تنوعاتهم، وهذه الجو هو نعمة من الله لا بد أن تشكروا الله عليها، وأن تعملوا على حفظها، في وسط هذه المنطقة التي تعيش على صفيح يغلي بالتوترات العصبية والمذهبية.

  1. هل بقي مجال للتعايش؟!

وبالانطلاق إلى ما أريد أن أطرحه بين أيديكم؛ لابد أن أتساءل معكم: هل بقي مجال للتعايش في ظل هذا الاحتراب والتقاتل والتدابر الذي يسود عالمنا العربي والإسلامي، وتموج به أمتنا؟ ثم ألم تستهلك كل هذه الكلمات، كلمات التعايش والحوار والتقارب والوحدة الإسلامية حتى غدت مستفزة في بعض الأحيان؟ ألم تصادر العصبيات المقيتة واقعنا، وتفسد أحلامنا وآمالنا في العيش في عالم عربي أجمل وأفضل؟!!

هل تُراني وأنا أطرح هذه الأسئلة أبشر باليأس؟ كلا فاليأس غريب عن ثقافتنا وعن ديننا، الإيمان قرين الأمل، أن تكون مؤمنًا يعني أن يَعْمُرَ الأملُ قلبك وعقلك وحياتك، واليأس قرين الكفر، ولذا عده الله مدخلاً إلى الكفر {لا تيأسوا من روح الله}، قالها يعقوب لبنيه {إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون}.

إذًا هي أسئلة لا تنطلق من إنسان يعيش اليأس؛ وإنما يعيش القلق على مستقبل الأمة، ويحلم بمستقبل أفضل. وكلّه أمل بإمكانية التغيير، ولكنّ الأمل لا يحلّ المشكلات ولا يصنع المعجزات إن لم يكن مقرونًا بالعمل، لذا لا نريده أملاً حالمًا يعيش في المثاليات، بل أملاً واقعياً يدفعنا إلى ميادين العمل، لنترجم هذه الشعارات إلى واقع ملموس، حتى لا نبقي شعارات التعايش والتقارب والإصلاح والتغيير شعارات تعيش في البروج العاجيّة.

التعايش ليس حالة رومنسية نعيشها، التعايش ليس شعرًا نتغنى به أو ننظمه، ولا شعارًا نرفعه، ولا شعورًا تنبض به القلوب دون أن يُترجم على أرض الواقع، التعايش الحقيقي الذي يُجدي كعلاج لمآزقنا هو التعايش الذي نحوّله إلى ثقافة، ومن ثم إلى منهج حياة، وإذا أردنا أن نحوّل التعايش إلى منهج حياة فأمامنا مهمتان جليلتان تمثلان دعامتين لنهوض إنساننا وأمتنا:

المهمة الأولى، هي مهمة التفكيك، والمهمة الثانية هي مهمة البناء، وعلينا البدء بعملية التفكيك ثم يليها عملية الصياغة والبناء من جديد.

           

                  2. المهمة التفكيكية

 والمهمة التفكيكية، هي في غاية الأهمية، وحاجتنا إلى التفكيك تنبع من أن عقولنا وثقافتنا قد أصابها الكثير والكثير من التحجر والتكلس والجمود، فتحتاج إلى من يحركها ويزيل الصدأ عنها، تحتاج إلى عمل يعيدها إلى نبضها وحيويتها. أن تعود إلى نبضها الاجتهادي، نعم إننا بحاجة إلى عقل اجتهادي يعيد النظر في كل موروثنا. لا تغرّنّكم كل دعاوى فتح أبواب الاجتهاد التي نتغنى بها. إنّي لا أرى أبوابًا مشرعة للاجتهاد، وإنما هي نوافذ صغيرة لا تستطيع أن تلبي حاجات الواقع، ولا نستطيع أن تقدّم حلولاً لكل مشكلاتنا.

إنّ العقل الاجتهادي التفكيكي يفترض أن ينطلق في مسارات عدة، بما يرفع التكلس والتحجر ويحاصر العصبيات القاتلة، ويفتح آفاقاً كبيرة أمام نهوض الأمة، ودعوني هنا أشير إلى بعض العُقَد التي تحتاج إلى أن نعمل على تفكيكهها، كمقدمة ضرورية للوصول إلى مجتمع إسلامي آمن ومتعايش ومتآخٍ، وما أشير إليه هو البعض دون أن أكون في مقام الحصر:

العقدة الأولى: هي العقدة الكلامية، فعلم الكلام الإسلامي هو - بحسب وضعيته التاريخية - علم أسس لمنطق الإقصاء وتضليل الآخر وتفسيقه وتبديعه، وربما تكفيره. وذلك لأنّ هذا العلم قد ارتكز على مقولات إلغائية، من أخطرها: مقولة "الفرقة الناجية والفرق الهالكة"، وهو الأمر الذي أورثنا - أو ساهم في ذلك - هذا الواقع المتشظي الذي غدا معه التعايش مستحيلاً. لا يظنن أحد أنّ فكرة الفرقة الناجية تتصل بالرؤية الأخروية ولا صلة لها بعالم الدنيا، كلا، إنّ منطق الفرقة الناجية يتصل اتصالاً وثيقًا بواقعنا وحياتنا؛ لأنك عندما تُخرِج الآخر من الجنة وتحتكرها لنفسك وجماعتك، فإن ذلك يُعدّ مقدمة لإخراج الآخر من دائرة التعايش والاحترام. إنّ شخصاً تراه من أهل النار كيف تتعايش معه؟! هذه كذبة سَمِجة، فعندما تمد يدك إليه، فأنت في قرارة نفسك تمدّ يدك إلى إنسان تعتقد أنه من أهل النار، هذا الاعتقاد سوف يجرّؤك على انتهاك حرمته، وصولاً إلى سفك دمه؛ لأنك إن سفكت دمه فإنك إنما تسفك دم إنسان من أهل النار، وتعجّل به إلى مصيره الأسود، وفي ظلال هذا المنطق نبتت مقولات التضليل والتفسيق والتبديع، ناهيك عما بين هذا وذاك من نزع الحرمة عن الآخر. هذه عقدة أساسية أمام فكرة التعايش وهي بحاجة إلى تفكيك وتفنيد.

العقدة الثانية: هي العقدة الفقهية، فإنّ فقهنا - وبإيحاء من الرؤية الكلامية الإقصائية بالإضافة إلى عوامل أخرى - قد ابتنى على أساس الشقاق لا على أساس الوفاق، وأنتج لنا الكثير من الفتاوى التي تنزع الحرمة الأخلاقية عن الآخر، فتُجيز لعنه، وتبيح سبه وغيبته، وتنزع عنه أيضاً الأهلية الدينية فلا تجيز الصلاة معه أو خلفه، وكذلك تسقط عنه الأهلية القانونية، فلا تُقبل شهادته، والفتاوى في هذا المجال كثيرة، ومنتشرة في كتب الفقهاء على اختلاف مذاهبهم، إنّ هذا الفقه المبتني على هذه الفتاوى قد ساهم أيضاً في خلق واقع متشظِ، وساهم في تكريس القطيعة بين أبناء الأمة. إنّ لدينا تراثًا من فتاوى القطيعة، وهو تراث فقهي من نِتاج رجال اجتهدوا في ظل بيئة معينة، ورؤية خاصة، وبالتأمل فيما أنتجوه يكتشف الفقيه أنّ الكثير من هذا الفتاوى ما هي إلا آراء نظرية تفتقر إلى دليل مقنع بل إنها مخالفة لروح القرآن وللكثير من قواعد الإسلام، وأخطر ما في الأمر أنّ هذا الفقه، وأتكلم بصورة عامة عابرة للمذاهب، قد أسس لقواعد تعمل على التنظير للقطيعة مع الآخر وتبريرها وإعطائها نحواً من "الشرعية"، فنحن نلاحظ أنّ فقيهاً من مذهب معين يسوغ مخالفة المذهب الآخر بالقول: إنّ أفضل أو أقرب طريق للوصول إلى الحقيقة هو أن الأخذ بعكس ما هو موجود في المذهب الآخر؛ لأن "الرشد في خلافهم"، ويأتيك فقيه من الجهة الأخرى، ليقول لك، إنّ عليك أن تترك الأخذ بالسنة النبوية إذا "صارت شعاراً للرافضة"، أو للمذهب الفلاني، إنّ هذا التفكير الفقهي شائع ومنتشر، وقد يوجد استثناءات دون شك، وتوجد آراء أخرى تخالف هذه التوجهات، لكنّ التوجه العام الذي حكم فقهنا كان يسير نحو تكريس القطيعة مُضْفياً عليها غطاءً دينياً.

العقدة الثالثة: التي لا بدّ أن تستهدفها عملية التفكيك، هي العقدة التاريخية، فنحن أمّة تقدس تاريخها بكل شخوصه وأحداثه، حتى لكأنّها ترغب بالسكون في هذا التاريخ والجمود فيه، وهذا التقديس يحول دون انطلاق قراءة نقدية جادة تهدف إلى غربلة هذا التاريخ وتصفيته وتمييز غثّه من سمينه وصحيحه من سقيمه. هل تُراني أدعو إلى القطيعة مع التاريخ؟ الجواب: كلا، فنحن نعتز بهذا التاريخ، لأن فيه الكثير من عناصر القوة ونقاط الضوء، لكنّ ما أدعو إليه هو أن لا نسكن في هذا التاريخ، وأن نبذل قصارى الجهد في قراءته قراءة سُننية، تستلهم دروسه وعبره، كما أمرنا الله في كتابه القرآن الكريم، {لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب}، أن تقرأ التاريخ قراءة سُننية يعني أن تركّز على اكتشاف القوانين الحاكمة على هذا التاريخ، لتأخذ بها بما ينفعك في حاضرك ومستقبلك، وأما قراءة التاريخ قراءة من يستوطن في هذا التاريخ، أو قراءة من يستعيد أحداثه ومشكلاته ليوتر حاضره ويتقاتل باسم رجالاته، إن قراءة كهذه لن تزيدنا إلا تخلفاً وتمزقاً وتشرذماً. إنّ القرآن الكريم قد أعطانا قاعدة ذهبية في كيفية قراءة التاريخ والتعامل معه، قال تعالى: {تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون}، هذا هو منطق القرآن في التعامل مع التاريخ، وإذا حاكمْنا أنفسنا ووزناها بميزان هذا المنطق القرآني، فسوف نكتشف أننا ماضويون، حتى لو كنا نأخذ من هذا العالم المعاصر ومن ثورته التقنية والعلمية كل جديد، فاستخدامنا لأحدث الوسائل التقنية لن يجعلنا أمة متحضرة وتعيش العصر، لأنّ التجديد لا يعني أن تحمل أحدث الأجهزة أو أن تجدد في لباسك وسيارتك.. التجديد يبدأ بثورة في الفكر والعقل، وأن تمتلك رؤية ومنهجاً تسير عليه في حياتك.

إنّ هذه العُقد الثلاث: وهي العقدة الكلامية والفقهية والتاريخية، هي التي تحاصرنا، ففي ضوئها وظلالها يعيش إنساننا المسلم، إنها تضلله وتلاحقه وتضغط عليه، وأضف إلى هذه العقد الدور الكبير الذي لعبته السلطة في بلاد المسلمين، والتي اعتمدت نهجاً كسروياً استبدادياً في إدارة الحكم، ما ساهم إلى حدٍ كبير في تكريس هذا الواقع المتشظي، ولا أريد الإسهاب في الحديث عن دور السلطة مع أنّ علينا أن نضعها في الحسبان لأنّ دورها كان ولا يزال أساسياً في هذا المجال وهو يحتاج إلى دراسة مستقلة.

 في هذا السياق المنغلق على الذات والمحتكر للحقيقة وللجنة، والمشيطن للآخر والمقصي له، نشأت الجماعات والفرق، ونجم عن ذلك سعي كل جماعة للانغلاق على ذاتها، فأخذت تبني حول نفسها جدرانًا سميكة، أكانت جدراناً حقيقية أو مجازية، لتفصل جماعتها عن الآخر. نعم لقد نجحنا في بناء جدران حول أنفسنا لتعزل أحدنا عن الآخر أو تحميه من الذوبان في فلكه، وهكذا غدونا كمن يعيش في كهوف مظلمة وزنازين مقفرة. ولئن استطاعت الفرق المحظية تاريخياً لدى السلطة أن تمارس الإقصاء والقهر في حق سائر الفرق، فقد كانت ردة فعل الفرق الضعيفة والمضطهدة أن تعمل على شيطنة الآخر، وتصويره بصورة مرعبة ومخيفة. وإلى الآن ترانا نصر على أن نحوط أنفسنا بأسوار من الجهل! مع أن الجدران في العالم كله قد سقطت، ولا بد أن تسقط كل الجدران والعوازل، والمتقوقعون الذين يفكرون ويعتقدون أنهم بهذا التقوقع حول ذاتهم وعصبياتهم المذهبية يستطيعون أن يحموا قبائلهم المذهبية الضيقة هؤلاء واهمون، فنحن في عصر انفتاح المعلومة، ولن تستطيع بعد اليوم أن تمنع أو تحجر الفكر الآخر ولا أن تسيطر على العقول. والقوي ليس الذي يضع الأسوار حول نفسه، القوي هو الذي يتسلح بقوة المنطق والمعرفة.

كانت هذه إطلالة على الدعامة الأولى التي نحتاجها لتغيير واقعنا وصولاً إلى واقع يسوده الوئام والتعايش   

               

               3. مهمة البناء

والدعامة الأخرى لنهوض الأمة، هي البناء، ومهمة البناء لا تقل أهمية عن مهمة الهدم والتفكيك، فبعد أن نقوم بعملية التفكيك، تكون مهمتنا الثانية هي العمل على إعادة بناء ثقافتنا على أسس مختلفة، أن نبني على أسس قرآنية منطقية عقلية نقدية، ومن أهمها:

  • الابتعاد عن القراءة الحرفية الجامدة والتجزيئية لكتاب الله تعالى، والاستعاضة عنها بالقراءة الكلية والمقاصدية التي تستلهم هذا الكتاب في مقاصده الكلية وآفاقه الرحبة.
  •  قراءة الموروث الروائي قراءة تميّز بين ما هو ثابت وما هو متغير، وبين ما هو شرع وبين ما هو تدبير ظرفي مؤقت، وتلك مهمة عظيمة وجليلة، ولعلّ من أكثر الأفكار التي سادت في علم أصول الفقه ضرراً على الفكر الإسلامي هي النظر إلى كل هذا التراث الروائي على أنّه فوق التاريخ وأنه عابر للزمان والمكان، والحال أنّ الأمر ليس كذلك وأن ما يتضمنه التراث من أحكام تدبيرية وظرفية لا يقلّ عن الأحكام التشريعية.
  • تأصيل العلاقات الإنسانية على أساس المبدأ القرآني الذي ينص على احترام الإنسان وتكريمه، {ولقد كرمنا بني آدم}.
  •  تعميق مبدأ السلم في التعامل بين الجماعات والدول، فالسلام هو المبدأ الأساس في العلاقات الدولية والإنسانية بين الجماعات، وأما الحرب فهي استثناء، وتفرضها حالة العدوان على الأمة أو الظلم الذي تتعرض له الجماعة.
  • بناء الشخصية الإسلامية على أساس القيم الأخلاقية والإنسانية والتي أكد عليها القرآن، وعلى رأسها، قيمة الرفق، والرفق ليس مجرد سلوك خلقي يتعامل به الإنسان مع زوجه وأولاده وجيرانه؛ وإنما هو منهج حياة، يجعل الشخصية المسلمة مصدر أمن وأمان، بدل أن يتحول المسلم إلى شخصية تعيش حالة من الغرور الديني والاستعلاء على الغير، بل وشخصية مخيفة ترتعد لرؤيتها الفرائص، وهذا أكبر تشوّه تعرضت له الشخصية الإسلامية.     

              4. إعادة الثقة بالذات

ودعوني لا أسهب في تفصيل الكلام عن المبادئ التي تشكل أسسًا لعملية البناء والنهوض؛ لأني أعتقد أنّ علينا قبل ذلك كله أن نعمل على حلّ معضلة والتداوي من مرض مدمر، وفي حال لم نعمل على التداوي منها، فإنّ كل جهودنا تذهب سدى، والمرض هو فقْدُ شريحة كبيرة من المسلمين ثقتهم بذاتهم وعدم إحساسهم بمسألة الانتماء ولا بالهوية الدينية. إنّ المسلم المعاصر لا يعيش غربة عن دينه فحسب، بل غدا يشعر في كثير من الأحيان بالخجل لانتمائه إلى هذه الأمة، ولذلك ترون هذه الحالة من الاستلاب أو الارتداد. إنّ المسلم إذا ذهب إلى مكان معين في العالم ربما يخجل أن يعرّف بهويته، وهذه حالة مرضية، وخطورة هذا المرض أنه يصيب جهاز المناعة في الأمة. إذا كان أخطر مرض يصيب الفرد هو المرض الذي يصيب جهاز المناعة لديه، فإنّ أخطر الأمراض التي تصيب الأمة أيضاً هي الأمراض التي تصيب جهاز المناعة فيها، وجهاز المناعة في أية أمة هو ثقتها بذاتها وبهويتها وإحساسها بانتمائها الديني والحضاري.

ولذا علينا أن نعمل بكل جهد واجتهاد لإعادة ثقة المسلم بهويته، وهذا الأمر لا يكون بخطابات رنانة، ولا بكلمات معسولة، هذا الأمر يكون بثورة ثقافية اجتهادية، وبرؤية متكاملة ومراجعة نقدية لكل واقعنا، فهل نملك جرأة المراجعة لكل موروثنا وواقعنا!؟.

إنّ هذه المراجعة النقدية هي أكثر من ضرورية، والخطوة الأولى في عملية المراجعة، تبدأ بطرح الأسئلة الجريئة، ووظيفة هذه المنتديات هي أن تطرح الأسئلة الجريئة، لماذا تخلفنا؟ لماذا أصابنا ما اصابنا؟ هذه الأمة التي تمتلك هذا الكتاب العظيم، وتمتلك هذا التاريخ المشرق، وتمتلك كل عناصر القوة، وكل هذه الطاقات وتملك العدد والعدة، لماذا هي أمة ضعيفة متناحرة متقاتلة، تعيش على هامش الأمم ولا يحسب لها أحد حسابًا ولا يقيم لها وزناّ في هذا العالم؟!

دعونا نمتلك الجرأة ولا نتهيب من طرح أي سؤال على الإطلاق، فالخوف من طرح الأسئلة هو من عوارض المرض المشار إليه. إنّ المرض الذي يصيب الفرد كما تعلمون له عوارض ومؤشرات، والطبيب إذا أراد أن يُشخِّص مرض ما ويتعرف على ما إذا كان التهابًا معينًا أو حمى أو ما إلى ذلك (عافانا الله وإياكم من كل الأمراض)، فإنه يبحث عن عوارض المرض ومؤشراته، ثم ينتقل إلى مرحلة العلاج، ومرض الأمة وهو فقد الثقة بالذات الحضارية، له عوارض كثيرة، من أهمها: عدم الشعور بالمسؤولية، والعزوف عن المشاركة الإصلاحية واليأس من إمكانية التغيير، والانفصام في شخصية الإنسان المسلم بين ما يقوله من جهة وبين ما يفعله من جهة أخرى. بين ما يظهره أمام المسلمين وبين ما يفعله بعيداً عن أعينهم، وقد نبه القرآن الكريم إلى خطورة هذا الانفصام عندما قال: {يا أيها الذين ءامنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبرمقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون}.

إنّ المهمة جليلة والمسؤولية كبيرة وعظيمة، وعلينا أن لا نسمح لليأس أن يسقط إرادتنا، ولا بدّ أن تتظافر جهود المفكرين والعلماء المخلصين من كل الفرق والاتجاهات، ولا يجوز الاسترخاء في هذا المجال، بل علينا أن نعيش حالة طوارئ فكرية، وأن نجند أنفسنا وكل طاقاتنا من أجل القيام بهذه المهمة العظيمة المزدوجة، أعني المهمة التفكيكية والبنائية، وصولًا إلى مستقبل أفضل لأبناء أمتنا، بما يجعل هذه الأمة بحق شاهدة على الأمم، وخير أمة أخرجت للناس، كما نص على ذلك القرآن الكريم.  

وأنا على ثقة بأن هذا الأمر ليس بمستحيل؛ بل أن بشائر هذا الأمر تلوح في الأفق إن شاء الله تعالى، والله الموفِق، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 






اضافة تعليق

الاسم *

البريد الإلكتروني *

موضوع *

الرسالة *


 


 
  قراءة الكتب
 
    Designed and Developed
       by CreativeLebanon