مداميك نهضة الأمة: التفكيك والبناء
العلاقة مع الآخر بين التعايش والانغلاق
لسماحة الشيخ حسين الخشن
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا ونبينا وهادينا وحبيب قلوبنا أبي القاسم محمد بن عبد الله، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وأصحابه المنتجبين، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، والسلام عليكم جميعًا ورحمة الله وبركاته..
وإنه لمن دواعي السرور، أن نكون معكم في هذه الجمعية التي تحمل راية الأدب والفكر في رحاب هذا البلد الطيب الذي تسوده حالة رائعة من الانسجام والوئام والتعايش بين أبنائه على اختلاف تنوعاتهم، وهذه الجو هو نعمة من الله لا بد أن تشكروا الله عليها، وأن تعملوا على حفظها، في وسط هذه المنطقة التي تعيش على صفيح يغلي بالتوترات العصبية والمذهبية.
-
هل بقي مجال للتعايش؟!
وبالانطلاق إلى ما أريد أن أطرحه بين أيديكم؛ لابد أن أتساءل معكم: هل بقي مجال للتعايش في ظل هذا الاحتراب والتقاتل والتدابر الذي يسود عالمنا العربي والإسلامي، وتموج به أمتنا؟ ثم ألم تستهلك كل هذه الكلمات، كلمات التعايش والحوار والتقارب والوحدة الإسلامية حتى غدت مستفزة في بعض الأحيان؟ ألم تصادر العصبيات المقيتة واقعنا، وتفسد أحلامنا وآمالنا في العيش في عالم عربي أجمل وأفضل؟!!
هل تُراني وأنا أطرح هذه الأسئلة أبشر باليأس؟ كلا فاليأس غريب عن ثقافتنا وعن ديننا، الإيمان قرين الأمل، أن تكون مؤمنًا يعني أن يَعْمُرَ الأملُ قلبك وعقلك وحياتك، واليأس قرين الكفر، ولذا عده الله مدخلاً إلى الكفر {لا تيأسوا من روح الله}، قالها يعقوب لبنيه {إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون}.
إذًا هي أسئلة لا تنطلق من إنسان يعيش اليأس؛ وإنما يعيش القلق على مستقبل الأمة، ويحلم بمستقبل أفضل. وكلّه أمل بإمكانية التغيير، ولكنّ الأمل لا يحلّ المشكلات ولا يصنع المعجزات إن لم يكن مقرونًا بالعمل، لذا لا نريده أملاً حالمًا يعيش في المثاليات، بل أملاً واقعياً يدفعنا إلى ميادين العمل، لنترجم هذه الشعارات إلى واقع ملموس، حتى لا نبقي شعارات التعايش والتقارب والإصلاح والتغيير شعارات تعيش في البروج العاجيّة.
التعايش ليس حالة رومنسية نعيشها، التعايش ليس شعرًا نتغنى به أو ننظمه، ولا شعارًا نرفعه، ولا شعورًا تنبض به القلوب دون أن يُترجم على أرض الواقع، التعايش الحقيقي الذي يُجدي كعلاج لمآزقنا هو التعايش الذي نحوّله إلى ثقافة، ومن ثم إلى منهج حياة، وإذا أردنا أن نحوّل التعايش إلى منهج حياة فأمامنا مهمتان جليلتان تمثلان دعامتين لنهوض إنساننا وأمتنا:
المهمة الأولى، هي مهمة التفكيك، والمهمة الثانية هي مهمة البناء، وعلينا البدء بعملية التفكيك ثم يليها عملية الصياغة والبناء من جديد.
2. المهمة التفكيكية
والمهمة التفكيكية، هي في غاية الأهمية، وحاجتنا إلى التفكيك تنبع من أن عقولنا وثقافتنا قد أصابها الكثير والكثير من التحجر والتكلس والجمود، فتحتاج إلى من يحركها ويزيل الصدأ عنها، تحتاج إلى عمل يعيدها إلى نبضها وحيويتها. أن تعود إلى نبضها الاجتهادي، نعم إننا بحاجة إلى عقل اجتهادي يعيد النظر في كل موروثنا. لا تغرّنّكم كل دعاوى فتح أبواب الاجتهاد التي نتغنى بها. إنّي لا أرى أبوابًا مشرعة للاجتهاد، وإنما هي نوافذ صغيرة لا تستطيع أن تلبي حاجات الواقع، ولا نستطيع أن تقدّم حلولاً لكل مشكلاتنا.
إنّ العقل الاجتهادي التفكيكي يفترض أن ينطلق في مسارات عدة، بما يرفع التكلس والتحجر ويحاصر العصبيات القاتلة، ويفتح آفاقاً كبيرة أمام نهوض الأمة، ودعوني هنا أشير إلى بعض العُقَد التي تحتاج إلى أن نعمل على تفكيكهها، كمقدمة ضرورية للوصول إلى مجتمع إسلامي آمن ومتعايش ومتآخٍ، وما أشير إليه هو البعض دون أن أكون في مقام الحصر:
العقدة الأولى: هي العقدة الكلامية، فعلم الكلام الإسلامي هو - بحسب وضعيته التاريخية - علم أسس لمنطق الإقصاء وتضليل الآخر وتفسيقه وتبديعه، وربما تكفيره. وذلك لأنّ هذا العلم قد ارتكز على مقولات إلغائية، من أخطرها: مقولة "الفرقة الناجية والفرق الهالكة"، وهو الأمر الذي أورثنا - أو ساهم في ذلك - هذا الواقع المتشظي الذي غدا معه التعايش مستحيلاً. لا يظنن أحد أنّ فكرة الفرقة الناجية تتصل بالرؤية الأخروية ولا صلة لها بعالم الدنيا، كلا، إنّ منطق الفرقة الناجية يتصل اتصالاً وثيقًا بواقعنا وحياتنا؛ لأنك عندما تُخرِج الآخر من الجنة وتحتكرها لنفسك وجماعتك، فإن ذلك يُعدّ مقدمة لإخراج الآخر من دائرة التعايش والاحترام. إنّ شخصاً تراه من أهل النار كيف تتعايش معه؟! هذه كذبة سَمِجة، فعندما تمد يدك إليه، فأنت في قرارة نفسك تمدّ يدك إلى إنسان تعتقد أنه من أهل النار، هذا الاعتقاد سوف يجرّؤك على انتهاك حرمته، وصولاً إلى سفك دمه؛ لأنك إن سفكت دمه فإنك إنما تسفك دم إنسان من أهل النار، وتعجّل به إلى مصيره الأسود، وفي ظلال هذا المنطق نبتت مقولات التضليل والتفسيق والتبديع، ناهيك عما بين هذا وذاك من نزع الحرمة عن الآخر. هذه عقدة أساسية أمام فكرة التعايش وهي بحاجة إلى تفكيك وتفنيد.
العقدة الثانية: هي العقدة الفقهية، فإنّ فقهنا - وبإيحاء من الرؤية الكلامية الإقصائية بالإضافة إلى عوامل أخرى - قد ابتنى على أساس الشقاق لا على أساس الوفاق، وأنتج لنا الكثير من الفتاوى التي تنزع الحرمة الأخلاقية عن الآخر، فتُجيز لعنه، وتبيح سبه وغيبته، وتنزع عنه أيضاً الأهلية الدينية فلا تجيز الصلاة معه أو خلفه، وكذلك تسقط عنه الأهلية القانونية، فلا تُقبل شهادته، والفتاوى في هذا المجال كثيرة، ومنتشرة في كتب الفقهاء على اختلاف مذاهبهم، إنّ هذا الفقه المبتني على هذه الفتاوى قد ساهم أيضاً في خلق واقع متشظِ، وساهم في تكريس القطيعة بين أبناء الأمة. إنّ لدينا تراثًا من فتاوى القطيعة، وهو تراث فقهي من نِتاج رجال اجتهدوا في ظل بيئة معينة، ورؤية خاصة، وبالتأمل فيما أنتجوه يكتشف الفقيه أنّ الكثير من هذا الفتاوى ما هي إلا آراء نظرية تفتقر إلى دليل مقنع بل إنها مخالفة لروح القرآن وللكثير من قواعد الإسلام، وأخطر ما في الأمر أنّ هذا الفقه، وأتكلم بصورة عامة عابرة للمذاهب، قد أسس لقواعد تعمل على التنظير للقطيعة مع الآخر وتبريرها وإعطائها نحواً من "الشرعية"، فنحن نلاحظ أنّ فقيهاً من مذهب معين يسوغ مخالفة المذهب الآخر بالقول: إنّ أفضل أو أقرب طريق للوصول إلى الحقيقة هو أن الأخذ بعكس ما هو موجود في المذهب الآخر؛ لأن "الرشد في خلافهم"، ويأتيك فقيه من الجهة الأخرى، ليقول لك، إنّ عليك أن تترك الأخذ بالسنة النبوية إذا "صارت شعاراً للرافضة"، أو للمذهب الفلاني، إنّ هذا التفكير الفقهي شائع ومنتشر، وقد يوجد استثناءات دون شك، وتوجد آراء أخرى تخالف هذه التوجهات، لكنّ التوجه العام الذي حكم فقهنا كان يسير نحو تكريس القطيعة مُضْفياً عليها غطاءً دينياً.
العقدة الثالثة: التي لا بدّ أن تستهدفها عملية التفكيك، هي العقدة التاريخية، فنحن أمّة تقدس تاريخها بكل شخوصه وأحداثه، حتى لكأنّها ترغب بالسكون في هذا التاريخ والجمود فيه، وهذا التقديس يحول دون انطلاق قراءة نقدية جادة تهدف إلى غربلة هذا التاريخ وتصفيته وتمييز غثّه من سمينه وصحيحه من سقيمه. هل تُراني أدعو إلى القطيعة مع التاريخ؟ الجواب: كلا، فنحن نعتز بهذا التاريخ، لأن فيه الكثير من عناصر القوة ونقاط الضوء، لكنّ ما أدعو إليه هو أن لا نسكن في هذا التاريخ، وأن نبذل قصارى الجهد في قراءته قراءة سُننية، تستلهم دروسه وعبره، كما أمرنا الله في كتابه القرآن الكريم، {لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب}، أن تقرأ التاريخ قراءة سُننية يعني أن تركّز على اكتشاف القوانين الحاكمة على هذا التاريخ، لتأخذ بها بما ينفعك في حاضرك ومستقبلك، وأما قراءة التاريخ قراءة من يستوطن في هذا التاريخ، أو قراءة من يستعيد أحداثه ومشكلاته ليوتر حاضره ويتقاتل باسم رجالاته، إن قراءة كهذه لن تزيدنا إلا تخلفاً وتمزقاً وتشرذماً. إنّ القرآن الكريم قد أعطانا قاعدة ذهبية في كيفية قراءة التاريخ والتعامل معه، قال تعالى: {تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون}، هذا هو منطق القرآن في التعامل مع التاريخ، وإذا حاكمْنا أنفسنا ووزناها بميزان هذا المنطق القرآني، فسوف نكتشف أننا ماضويون، حتى لو كنا نأخذ من هذا العالم المعاصر ومن ثورته التقنية والعلمية كل جديد، فاستخدامنا لأحدث الوسائل التقنية لن يجعلنا أمة متحضرة وتعيش العصر، لأنّ التجديد لا يعني أن تحمل أحدث الأجهزة أو أن تجدد في لباسك وسيارتك.. التجديد يبدأ بثورة في الفكر والعقل، وأن تمتلك رؤية ومنهجاً تسير عليه في حياتك.
إنّ هذه العُقد الثلاث: وهي العقدة الكلامية والفقهية والتاريخية، هي التي تحاصرنا، ففي ضوئها وظلالها يعيش إنساننا المسلم، إنها تضلله وتلاحقه وتضغط عليه، وأضف إلى هذه العقد الدور الكبير الذي لعبته السلطة في بلاد المسلمين، والتي اعتمدت نهجاً كسروياً استبدادياً في إدارة الحكم، ما ساهم إلى حدٍ كبير في تكريس هذا الواقع المتشظي، ولا أريد الإسهاب في الحديث عن دور السلطة مع أنّ علينا أن نضعها في الحسبان لأنّ دورها كان ولا يزال أساسياً في هذا المجال وهو يحتاج إلى دراسة مستقلة.
في هذا السياق المنغلق على الذات والمحتكر للحقيقة وللجنة، والمشيطن للآخر والمقصي له، نشأت الجماعات والفرق، ونجم عن ذلك سعي كل جماعة للانغلاق على ذاتها، فأخذت تبني حول نفسها جدرانًا سميكة، أكانت جدراناً حقيقية أو مجازية، لتفصل جماعتها عن الآخر. نعم لقد نجحنا في بناء جدران حول أنفسنا لتعزل أحدنا عن الآخر أو تحميه من الذوبان في فلكه، وهكذا غدونا كمن يعيش في كهوف مظلمة وزنازين مقفرة. ولئن استطاعت الفرق المحظية تاريخياً لدى السلطة أن تمارس الإقصاء والقهر في حق سائر الفرق، فقد كانت ردة فعل الفرق الضعيفة والمضطهدة أن تعمل على شيطنة الآخر، وتصويره بصورة مرعبة ومخيفة. وإلى الآن ترانا نصر على أن نحوط أنفسنا بأسوار من الجهل! مع أن الجدران في العالم كله قد سقطت، ولا بد أن تسقط كل الجدران والعوازل، والمتقوقعون الذين يفكرون ويعتقدون أنهم بهذا التقوقع حول ذاتهم وعصبياتهم المذهبية يستطيعون أن يحموا قبائلهم المذهبية الضيقة هؤلاء واهمون، فنحن في عصر انفتاح المعلومة، ولن تستطيع بعد اليوم أن تمنع أو تحجر الفكر الآخر ولا أن تسيطر على العقول. والقوي ليس الذي يضع الأسوار حول نفسه، القوي هو الذي يتسلح بقوة المنطق والمعرفة.
كانت هذه إطلالة على الدعامة الأولى التي نحتاجها لتغيير واقعنا وصولاً إلى واقع يسوده الوئام والتعايش
3. مهمة البناء
والدعامة الأخرى لنهوض الأمة، هي البناء، ومهمة البناء لا تقل أهمية عن مهمة الهدم والتفكيك، فبعد أن نقوم بعملية التفكيك، تكون مهمتنا الثانية هي العمل على إعادة بناء ثقافتنا على أسس مختلفة، أن نبني على أسس قرآنية منطقية عقلية نقدية، ومن أهمها:
-
الابتعاد عن القراءة الحرفية الجامدة والتجزيئية لكتاب الله تعالى، والاستعاضة عنها بالقراءة الكلية والمقاصدية التي تستلهم هذا الكتاب في مقاصده الكلية وآفاقه الرحبة.
-
قراءة الموروث الروائي قراءة تميّز بين ما هو ثابت وما هو متغير، وبين ما هو شرع وبين ما هو تدبير ظرفي مؤقت، وتلك مهمة عظيمة وجليلة، ولعلّ من أكثر الأفكار التي سادت في علم أصول الفقه ضرراً على الفكر الإسلامي هي النظر إلى كل هذا التراث الروائي على أنّه فوق التاريخ وأنه عابر للزمان والمكان، والحال أنّ الأمر ليس كذلك وأن ما يتضمنه التراث من أحكام تدبيرية وظرفية لا يقلّ عن الأحكام التشريعية.
-
تأصيل العلاقات الإنسانية على أساس المبدأ القرآني الذي ينص على احترام الإنسان وتكريمه، {ولقد كرمنا بني آدم}.
-
تعميق مبدأ السلم في التعامل بين الجماعات والدول، فالسلام هو المبدأ الأساس في العلاقات الدولية والإنسانية بين الجماعات، وأما الحرب فهي استثناء، وتفرضها حالة العدوان على الأمة أو الظلم الذي تتعرض له الجماعة.
-
بناء الشخصية الإسلامية على أساس القيم الأخلاقية والإنسانية والتي أكد عليها القرآن، وعلى رأسها، قيمة الرفق، والرفق ليس مجرد سلوك خلقي يتعامل به الإنسان مع زوجه وأولاده وجيرانه؛ وإنما هو منهج حياة، يجعل الشخصية المسلمة مصدر أمن وأمان، بدل أن يتحول المسلم إلى شخصية تعيش حالة من الغرور الديني والاستعلاء على الغير، بل وشخصية مخيفة ترتعد لرؤيتها الفرائص، وهذا أكبر تشوّه تعرضت له الشخصية الإسلامية.
4. إعادة الثقة بالذات
ودعوني لا أسهب في تفصيل الكلام عن المبادئ التي تشكل أسسًا لعملية البناء والنهوض؛ لأني أعتقد أنّ علينا قبل ذلك كله أن نعمل على حلّ معضلة والتداوي من مرض مدمر، وفي حال لم نعمل على التداوي منها، فإنّ كل جهودنا تذهب سدى، والمرض هو فقْدُ شريحة كبيرة من المسلمين ثقتهم بذاتهم وعدم إحساسهم بمسألة الانتماء ولا بالهوية الدينية. إنّ المسلم المعاصر لا يعيش غربة عن دينه فحسب، بل غدا يشعر في كثير من الأحيان بالخجل لانتمائه إلى هذه الأمة، ولذلك ترون هذه الحالة من الاستلاب أو الارتداد. إنّ المسلم إذا ذهب إلى مكان معين في العالم ربما يخجل أن يعرّف بهويته، وهذه حالة مرضية، وخطورة هذا المرض أنه يصيب جهاز المناعة في الأمة. إذا كان أخطر مرض يصيب الفرد هو المرض الذي يصيب جهاز المناعة لديه، فإنّ أخطر الأمراض التي تصيب الأمة أيضاً هي الأمراض التي تصيب جهاز المناعة فيها، وجهاز المناعة في أية أمة هو ثقتها بذاتها وبهويتها وإحساسها بانتمائها الديني والحضاري.
ولذا علينا أن نعمل بكل جهد واجتهاد لإعادة ثقة المسلم بهويته، وهذا الأمر لا يكون بخطابات رنانة، ولا بكلمات معسولة، هذا الأمر يكون بثورة ثقافية اجتهادية، وبرؤية متكاملة ومراجعة نقدية لكل واقعنا، فهل نملك جرأة المراجعة لكل موروثنا وواقعنا!؟.
إنّ هذه المراجعة النقدية هي أكثر من ضرورية، والخطوة الأولى في عملية المراجعة، تبدأ بطرح الأسئلة الجريئة، ووظيفة هذه المنتديات هي أن تطرح الأسئلة الجريئة، لماذا تخلفنا؟ لماذا أصابنا ما اصابنا؟ هذه الأمة التي تمتلك هذا الكتاب العظيم، وتمتلك هذا التاريخ المشرق، وتمتلك كل عناصر القوة، وكل هذه الطاقات وتملك العدد والعدة، لماذا هي أمة ضعيفة متناحرة متقاتلة، تعيش على هامش الأمم ولا يحسب لها أحد حسابًا ولا يقيم لها وزناّ في هذا العالم؟!
دعونا نمتلك الجرأة ولا نتهيب من طرح أي سؤال على الإطلاق، فالخوف من طرح الأسئلة هو من عوارض المرض المشار إليه. إنّ المرض الذي يصيب الفرد كما تعلمون له عوارض ومؤشرات، والطبيب إذا أراد أن يُشخِّص مرض ما ويتعرف على ما إذا كان التهابًا معينًا أو حمى أو ما إلى ذلك (عافانا الله وإياكم من كل الأمراض)، فإنه يبحث عن عوارض المرض ومؤشراته، ثم ينتقل إلى مرحلة العلاج، ومرض الأمة وهو فقد الثقة بالذات الحضارية، له عوارض كثيرة، من أهمها: عدم الشعور بالمسؤولية، والعزوف عن المشاركة الإصلاحية واليأس من إمكانية التغيير، والانفصام في شخصية الإنسان المسلم بين ما يقوله من جهة وبين ما يفعله من جهة أخرى. بين ما يظهره أمام المسلمين وبين ما يفعله بعيداً عن أعينهم، وقد نبه القرآن الكريم إلى خطورة هذا الانفصام عندما قال: {يا أيها الذين ءامنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبرمقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون}.
إنّ المهمة جليلة والمسؤولية كبيرة وعظيمة، وعلينا أن لا نسمح لليأس أن يسقط إرادتنا، ولا بدّ أن تتظافر جهود المفكرين والعلماء المخلصين من كل الفرق والاتجاهات، ولا يجوز الاسترخاء في هذا المجال، بل علينا أن نعيش حالة طوارئ فكرية، وأن نجند أنفسنا وكل طاقاتنا من أجل القيام بهذه المهمة العظيمة المزدوجة، أعني المهمة التفكيكية والبنائية، وصولًا إلى مستقبل أفضل لأبناء أمتنا، بما يجعل هذه الأمة بحق شاهدة على الأمم، وخير أمة أخرجت للناس، كما نص على ذلك القرآن الكريم.
وأنا على ثقة بأن هذا الأمر ليس بمستحيل؛ بل أن بشائر هذا الأمر تلوح في الأفق إن شاء الله تعالى، والله الموفِق، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.