حوار مع مركز أفاق للدراسات والأبحاث: مشكلة الأديان تتشكل في الخطاب الفقهي    ثمن الحرية    أمثل الأساليب في عمليّة تهذيب النفس    مزايا الشباب    العمل سرّ النجاح    العبادة وعيٌ وانفتاح لا جهل وانغلاق    اقتناء أصنام الأمم البائدة    المفاهيم الدينية بين وجوب الاعتقاد وحرمة الانكار    البناء الاعتقادي بين الاجتهاد والتقليد    
 
بحث
 
تكريم الإنسان
 
س » كم كان عمر الزهراء (ع) حين زواجها من أمير المؤمنين (ع)؟ هل صحيح أن الإجماع هو على التسع من عمرها؟
ج »
 
▪️يوجد اختلاف كبير بين العلماء في تحديد عمر سيدتنا الزهراء سلام الله عليها حين زواجها من أمير المؤمنين عليه السلام، وتترواح هذه الأقوال بين تسع سنوات وعشرين سنة.
 
▪️مرد هذا الاختلاف إلى أمرين:
 
- الأول: الاختلاف في تاريخ مولدها، فهل ولدت قبل البعثة بخمس أم بعدها بخمس أو باثنتين؟ 
 
- الثاني: الاختلاف في تاريخ زواجها من أمير المؤمنين عليه السلام، حيث إن ثمة خلافاً في أنها تزوجت بعد الهجرة إلى المدينة بسنة أو بسنتين أو بثلاث.
 
▪️المعروف عند كثير من المؤرخين - كما ينقل التستري في تواريخ النبي (ص) والآل (ع) - أنها ولدت قبل البعثة النبوية بخمس سنين، وهذا ما ذهب إليه محمد بن إسحاق وأبو نعيم وأبو الفرج والطبري والواقدي وغيرهم، وعلى هذا سيكون عمرها حين الزواج ثماني عشرة سنة أو يزيد.
 
▪️ ونقل العلامة الأمين "أن أكثر أصحابنا" على أنها ولدت بعد البعثة بخمس سنين، وعلى هذا سيكون عمرها حين الزواج تسعاً أو عشراً أو أحد عشر عاماً، تبعاً للاختلاف في تاريخ الزواج.
 
⬅️ الظاهر أنه ليس هناك إجماع على أنّ عمرها عند الزواج بها كان تسع سنوات، فقد ذهب الشيخ المفيد في "مسار الشيعة" أنها ولدت بعد مبعث النبي (ص) بسنتين، وهو ظاهر الشيخ الطوسي في المصباح، بل نقل الشيخ عن رواية أنها ولدت في السنة الأولى لمبعثه الشريف، وحينئذ إذا كانت قد  تزوجت في السنة الأولى من الهجرة فيكون عمرها حين الزواج ثلاث عشرة سنة، وإذا تزوجت في السنة الثانية للهجرة سيكون عمرها أربع عشرة سنة، وإذا تزوجت في السنة الثالثة سيكون عمرها خمس عشرة سنة.
 
 وقد رجح التستري وغيره من علمائنا القول بولادتها بعد البعثة بخمس، استناداً إلى بعض الأخبار المروية عن الأئمة(ع).. وكيف كان، فتحقيق المسألة واتخاذ موقف حاسم يحتاج إلى متابعة.. والله الموفق.

 
 
  مقالات >> متنوعة
في المنهج: ضوابط ومعايير (المرأة في النص الديني)
الشيخ حسين الخشن



 في المنهج: ضوابط ومعايير

إنّ هذا المحور مخصَّصٌ لبيان أهمّ الضوابط والقواعد المنهجيّة التي يُفترض أن تحكم قراءتنا للموروث الديني، والتعرّف على المعايير الأساسية التي بموجبها يتمّ التعامل مع النصوص المتصلة بالمرأة أو غيرها. فما نطرحه هنا يشكّل مدخلاً ضرورياً ليس لدراسة هذه القضية المبحوث عنها فحسب، بل ودراسة نظائرها من قضايا الفكر الديني التي تعتمد على النصوص الروائيّة.

باختصار: إنّ الضوابط الآتية تمثّل بعض معالم المنهج السليم في قراءة النص الديني.

بعيداً عن التهويل والانهزام

ويأتي على رأس تلك المعايير ضرورة التجرّد عن المسبقات الفكريّة، فضلاً عن الأهواء والأغراض الخاصة التي قد تدفع الإنسان إلى تبرير الواقع والتماشي معه والتماهي مع عاداته وتقاليده. فالإرث التاريخي السلبي في التعامل مع المرأة مهما كان ثقيلاً ومرّاً لا يفترض أن يلقي بظلاله على الباحث والمفكر بما يمنعه من الإدلاء برأيه بكل حرية وصراحة. كما أنّ من الضروري درس قضايا الفكر في جوٍ علمي هادئ يتيح للدارس التعبير عن رأيه بكل حريّة دون مثبّطات نفسيّة أو تهويلات إعلاميّة أو مؤثرات اجتماعية أو إسقاطات ثقافية مستوردة من خارج بيئتنا، ولا سيما الإسقاطات الوافدة من الثقافة الغربية المهيمنة. وعلينا أن نعترف في هذا المقام أنّ موضوع المرأة هو من الموضوعات الحساسة التي يتمّ التعاطي معها في كثير من الأوساط المتأثرة بالثقافة المهيمنة بطريقة عاطفية تهويليّة بعيداً عن اللغة العلمية الرزينة والأجواء الهادئة التي تسمح لصاحب الفكر أن يطرح رأيه بحرية كاملة أو يفصح عمّا يؤمن به. وهذا الجو ربما يدفع المرء إلى إخفاء بعض آرائه المتصلة بالمرأة والتكتم عليها، بل قد يقول كلاماً مخالفاً لقناعاته، وذلك مخافة أن يُتّهم بكراهية المرأة ومعاداتها وهو ما يعرف بـ(الميسوجينية)[1] ويشهر به ويشنّع عليه بذلك. إنّ هذه السطوة التهويليّة وإن كنا نتفهمها لكننا لا نستطيع أن نجدَ لها مبرراً، فهي - في واقع الأمر - تمثّل نوعاً من الإرهاب الفكري المعيق للدراسة الموضوعية للأحداث والظواهر، هذه الدراسة التي تعدُّ شرطاً ضرورياً لتقدم المجتمعات وتطورها، هذا التطور الذي نعتقد أنه مَدينٌ لتلاقح الأفكار وتنوعها، ومما يؤسف له أنّ الكثيرين يستخدمون أساليب التشنيع والتهويل على الغير لأهداف غير نظيفة ولا علاقة لها بالعلم، من قبيل الشعار التهويلي الذي يستغله الصهاينة ويشهرونه في وجه كل من يعارض سياستهم التوسعيّة العدوانيّة، عنيت به شعار معاداة الساميّة، والأسلوب عينه يستخدمه البعض في الفضاء الديني عندما يعمدون إلى التشهير بالآخرين ويرفعون في وجههم سلاح التكفير والتضليل والتفسيق والتبديع.

ولهذا، فإنّنا نعتقد أنّه لَخطأ فادح أن نقع - في دراسة هذه المسألة وأمثالها - ضحايا الخطاب التهويلي الذي يتهمنا بالإساءة إلى المرأة ومصادرة دورها وحقوقها، أو يرمينا بالتخلّف والرجعيّة، ما يدفعنا إلى تغيير مواقفنا، وتبديل أفكارنا مسايرة لهذا الخطاب وتماهياً معه وانسجاماً مع الأفكار السائدة والمستوردة التي يفرضها علينا الآخر القوي الذي ينطلق في خطابه وأفكاره من رؤية فلسفيّة ليس في قاموسها شيء اسمه «عالم الغيب» أو «يوم المعاد»، كما أنّه يعتمد على مرجعيّة تشريعيّة لا تأخذ الدين -كثيراً- بعين الاعتبار. ومن هنا، كان من الطبيعي أن يدعو إلى إعطاء المرأة الحريّة الكاملة لتفعل ما تريد وتمارس ما يحلو لها، وأن يدعو إلى المساواة بين الرجل والمرأة في كل شيء. وهذه العناوين أو المبادئ، وإن كنا قد نوافق على مجملها، ونعتقد أنّ مساحة اللقاء كبيرة بينها وبين فكرنا الإسلامي الأصيل، بيد أننا نختلف معها في بعض الجوانب، ونختلف - وهذا هو الأهم - مع الأساس الفلسفي الذي تنطلق منه. كما أنّنا لا نقبل بالتفسير الغربي لمفهوم الحرية، فإنّ حريةً مطلقة ودون ضوابط أو قيود لا نوافق على إعطائها للرجل، ومن الطبيعي أن لا نوافق على إعطائها للمرأة أيضاً. كما أنّنا ننطلق في تصورنا حول مفهوم الحرية من قاعدة التوحيد التي تعني أنّ حريتنا هي في طول عبوديتنا لله تعالى.

ولا يخفى أنّ البعض من أبناء أمتنا قد انهزموا نفسياً وروحياً أمام الهالة أو السطوة التي فرضتها الحضارة الماديّة وما حققته من إنجازات على أكثر من صعيد، حتى فقدوا الثقة بذاتهم وبدينهم، وشعروا بأنّ تراثهم وتاريخهم يمثّلان عبئاً ثقيلاً عليهم، وأنّه لن يتسنى لهذه الأمة النهوض من كبوتها وتخبطها إلا بعد قيامها بقطيعة تامة[2] مع تراثها. ولكننا إذ نرفض هذه الفكرة، ونعتقد أنّها تعبّر عن روح انهزاميّة، فإننا في الوقت نفسه نؤكّد على أنّ من الخطأ -أيضاً- أن نتعامل مع تراثنا بقداسة مطلقة وكليّة، دون التمييز بين ثوابته ومتغيراته، بين مبادئه ووسائله.

 وعند هذا الأمر الأخير، أعني الخلط بين الوسائل والمبادئ، وبين الثابت والمتغيّر، فإنّي أؤكد على أنّ الكثير من الأفكار والرؤى السائدة في مجتمعاتنا الإسلامية حول المرأة، وهكذا الكثير من أشكال وأساليب التعامل معها تدخل في دائرة العادات والتقاليد، وليست هي من الدين وقيمه ومبادئه في شيء، وما أكثر العادات التي ألبسناها لبوس الدين! وما أكثر الوسائل المتغيّرة التي منحناها سمة المبادئ الثابتة!

نقد السند 

والضابط الثاني الذي يفترض أن نتحاكم إليه قبل تكوين رؤية متكاملة حول موقف الإمام علي(ع) من المرأة وتحميله تبعات هذا الرؤية هو ضرورة التوثّق من انتساب تلك المرويات إليه(ع). فالنصوص المنسوبة إلى علي(ع) بشأن المرأة سواء أكانت مروية في «نهج البلاغة» أو غيره من المصادر، لا بدّ أن تخضع لمعايير البحث العلمي التي تخضع لها سائر النصوص الروائية. وأمانة البحث العلمي تفرض علينا القيام بعمليّة نقدٍ لهذه النصوص على صعيدي السند والمتن معاً، وسنكتشف فيما يأتي أنّ غالبية هذه النصوص ضعيفة السند.

ونحن في الوقت الذي نرفض فيه بشكل جازم وحاسم ما يزعمه البعض[3]، من أنّ خطب علي(ع) وكلماته ورسائله ووصاياه ومواعظه المذكورة في «نهج البلاغة»، هي بأجمعها أو معظمها نصوص منحولة أو موضوعة عليه من قبل الشريف الرضي (جامع النهج)، لأنّ هذه الدعوى هي دعوى واهية وغير علميّة. ولا أعتقد أنّ باحثاً موضوعياً يتجرّد من الخلفيّات، ويمتلك نصيباً معقولاً من الثقافة الأدبية والتاريخيّة يجرؤ على التفوّه بطرح هذه الدعوى بهذا التعميم والكليّة[4]؛ وذلك:

أولاً: لأنّ أدنى اطلاع على لغة علي(ع)، وأسلوبه البياني والخصائص التعبيريّة لعصره، مقارنة بلغة الشريف الرضي وأسلوبه الأدبي والخصائص البيانيّة لعصره، سوف يقدِّم دليلاً قاطعاً على ضعف هذه الدعوى ووهنها، فشتان بين الشخصين والعصرين والأسلوبين، فالشريف الرضي وإن عُرف بأدبه الجمّ والرفيع ولمع اسمه بين الشعراء[5]، وبلغ مقاماً عالياً في الفقاهة، وتبحّر في شتى المعارف الدينيّة، لكنه لا يرقى إلى مقام علي(ع) الذي كان السَّباق في كل ما قال أو كتب، وقوله الفصل وكلامه الحجة في البلاغة والفصاحة وفي اللغة والنحو، والأدب، وهو الذي يؤخذ منه ولا يُردُّ عليه، ولذلك لا يمكن أن يشتبه كلامه بكلام الشريف الرضي، وكيف يدانيه(ع) أحد، والحال أنّ على كلامه(ع) «مسحة من العلم الإلهي، وفيه عبقةٌ من الكلام النبوي»[6].

ثانياً: على أنّ الكثير من هذه الخطب والمواعظ والوصايا والكلمات التي ضمّها «نهج البلاغة» نجدها مبثوثة في المصادر الحديثية والتاريخية قبل ولادة الشريف الرضي بعشرات بل ربما مئات السنين، كما أثبت ذلك بالأدلة والبراهين الساطعة العلامة المحقق السيد عبدالزهراء الحسيني في كتابه القيم «مصادر نهج البلاغة وأسانيده».

ثالثاً: إنّ اتهام الشريف الرضي بوضع نصوص «نهج البلاغة» هو افتراء محض وتهمة جائرة بغير دليل، وتخوين بدون مبرر لرجلٍ معروفٍ بورعه وأمانته وصدقه وعزة نفسه وإبائه ووفائه وإخلاصه وشهامته، فضلاً عن كونه الأديب البارع والفقيه المتبحر والمتكلم الحاذق والمفسر المبدع[7]، إلى غيرها من مكارم أخلاقه وجميل صفاته التي تجعله أجل وأسمى من أن يفتري الكذب على جده أمير المؤمنين(ع).

إلّا أنّ ذلك لا يعني -بحال- أنّ كل ما في «النهج» هو صادر قطعاً عن الإمام(ع)، بحيث نجعله في مرتبة ما فوق النقد السندي، والاستدلال بنصوصه قبل التأكد من صحة السند أو الوثوق بالصدور ولو من طريق آخر. فروايات «النهج» تخضع لما تخضع له سائر الروايات من ضرورة التدقيق في أسانيدها، وملاحظة مضمونها ولغتها ومدى انسجامها مع لغة صاحب النهج وهو الإمام علي(ع) سيد الفصحاء والبلغاء[8]. ولا تستوحشْ من المناقشة السنديّة في الأحاديث، بما في ذلك أحاديث «نهج البلاغة»[9]، فهذا ليس بدعة في القول أو ضلّة في الفكر، بل إنّ الأخذ بهذا المعيار معروف لدى مشهور علماء المسلمين ومؤسَسٌ على قواعد علميّة متينة تفرض ذلك وتحتّم المصير إليه. إنّه وفي ظلّ معرفتنا اليقينيّة بتعرّض تراثنا إلى العبث وامتداد يد الوضع إليه، فلا مفرّ من اعتماد هذا الضابط العقلائي، سعياً إلى غربلة هذا التراث قدر المستطاع وتمييز غثّه من سمينه وصحيحه من ضعيفه.

 ولكن تجدر الإشارة إلى نقطة مهمة في المقام، وهي أنّه إذا وجدنا سبيلاً إلى قراءة هذه النصوص قراءة تاريخيّة، فلا ضرورة تحتّم علينا ردّها وطرحها. وأقصد بالقراءة التاريخية وضع هذه الروايات في سياق المرحلة الزمنيّة التي صدرت فيها، مع ما يكتنف تلك المرحلة من ظروف اجتماعية وعادات خاصة وضعت المرأة في حيّز معين. ولذا، فإنّي لا أجد نفسي تطاوعني على الاكتفاء بالمناقشة السندية وحدها إن وجدت متسعاً للقراءة التاريخية، وسيأتي الحديث عن هذا الأمر في الضابط السادس الآتي.

وربما يقال: إنّ إخضاع « نهج البلاغة» لمعيار التدقيق السندي لن يبقي منه شيئاً ولن تسلم رواية من رواياته؛ لأنّها بأجمعها - وطبقاً لهذا المعيار - مراسيل[10] ولا تمتلك أسانيد من أصلها لينظر فيها أو يبحث عن مدى وثاقة رجالها. ومردّ ذلك إلى أنّ «الشريف الرضي» رحمه الله قد ارتأى حذف أسانيد كتابه - ربما - روماً للاختصار، أو لوثوقه بصدورها عن علي(ع)، أو اتكالاً على وجودها في مصادر الحديث والتاريخ.

والجواب: إنّه وببركة الجهود التحقيقيّة التي بذلها بعض المحققين (السيد عبدالزهراء الحسيني)، فقد تمّ إثبات وجود أسانيد أو مصادر أخرى، لمعظم روايات «النهج»، أكان ذلك في مصادر الحديث الأخرى، أو في الكتب التاريخيّة أو غيرها. وهو الأمر الذي أخرج الكثير منها عن حدّ الإرسال إلى الإسناد. على أنّ الكثير من الروايات المبثوثة في «النهج» يمكن الوثوق بصدورها عنه(ع)، لا لوجودها في مصادر أخرى فحسب، بل لأنّ لعلي(ع) بصمةً بيانيّة خاصة تجعل كلامه متميزاً عن كلام الآخرين ولا يشتبه بكلام غيره، ولا شكّ أنّ هذه البصمة متوفرة في الكثير من نصوص «النهج»[11].

خطأ التعامل على أساس قاعدة التسامح

وربطاً بموضوع التدقيق السندي، فإنّ ثمّة أمراً آخر لا بدّ من التنبيه إليه، (الأمر الثالث) وهو أنّه - ربّما - دعا أو يدعو البعض إلى الأخذ بنصوص «نهج البلاغة» عموماً وما يتصل  بالمرأة خصوصاً دون حاجة إلى التثبت من أسانيدها، بحجة أنّ مضامين «النهج» في الأعم الأغلب لا ربط لها بالأحكام الشرعية الإلزامية، الأمر الذي يسمح بنوع من التساهل في أسانيدها ولا يضطرّنا إلى التشدد في تطبيق المعايير الرجالية في محاكمتها، وذلك استناداً إلى قاعدة «التسامح في أدلة السنن»[12]. وهذا الأمر - أعني ندرة الأحكام الشرعية الإلزاميّة في نصوص «النهج» - قد يرى البعض فيه - أيضاً - عذراً للشريف الرضي نفسه في حذفه لأسانيد خطب «النهج» ورسائله وكلماته القصار، على أساس أنّ غرض الشريف الرضي[13] لم يكن متجهاً إلى تأليف كتاب مُعَدٍّ لذكر روايات الأحكام ليهتمَّ بذكر الأسانيد ويعتني بها.

 أقول: صحيح أنّ غرض الشريف الرضي لم يكن متجهاً إلى تأليف كتاب معدٍّ لذكر روايات الأحكام، وإنّما هدف في كتابه إلى جمعِ قدر كبير من نصوص علي(ع) ذات الطابع البلاغي المميز الذي يظهر تفوق علي(ع) وفرادته في هذا المجال، لكن هذا لا يعني أبداً أنّ «نهج البلاغة» لا ربط له بالأحكام الشرعية، وبالتالي ليستنتج من ذلك أنّه لا داعي للتشدد السندي في رواياته، فهذا الكلام مرفوض لعدة اعتبارات، أهمها:

إنّ الكثير من نصوص «النهج» تتضمن مفاهيم عقديّة، وهذه لا يُكتفى في إثباتها بالاعتماد على أخبار الآحاد حتى لو كانت صحيحة السند، فضلاً عن الأخبار المرسلة أو الضعيفة، ولا مجال للتسامح في أسانيدها؛ هذا مع العلم أنّ الكثير من النصوص العقديّة التي اشتمل عليها «النهج»، تشتمل على مضامين عالية ومنسجمة مع البراهين العقلية، ويمكن الوثوق والاطمئنان بصدورها عن باب مدينة علم الرسول(ص) بهذا الاعتبار.

إنّ الكثير منها يتضمن مفاهيم إسلامية عامة متصلة بالحياة والإنسان، ومن ذلك ما نحن فيه، أعني النصوص المتصلة بالنظرة إلى المرأة ودورها في الحياة.. وهذه المفاهيم لا مجال - أيضاً - للتسامح في أدلتها؛ لأنّ قاعدة التسامح - لو تمّت في نفسها - فإنّها واردة في مجال المستحبات، وربما ألحق بها المكروهات، وأما تعميمها إلى المفاهيم فلا وجه له إطلاقاً، بل إنّ هذا التساهل في أدلة المفاهيم الإسلامية العامة ساهم في تقديم صورة مشوهة عن الإسلام وموقفه ورؤيته في كثير من القضايا. إنّ المفاهيم الإسلامية من قبيل: الزهد، الحرية، العزة، القوّة، دور المرأة وموقعها في الحياة وسواها من المفاهيم، لا يمكن أن يتمّ إثباتها وبلورة الموقف الإسلامي منها استناداً إلى أخبار ضعيفة السند أو مراسيل، ولا سيما أنّ أمثال هذه المفاهيم تعكس صورة الإسلام العامة ويتفاعل معها الناس، ولها تأثير بالغ في نفوسهم أكثر مما تعكسه بعض الأحكام الشرعية الجزئيّة والتفصيلية التي يرفض الفقهاء التسامح في أدلتها.

إنّ دعوى ندرة النّصوص التشريعيّة في «نهج البلاغة» هي دعوى غير صحيحة، ولا يفوه بها مَنْ لديه إلمام كافٍ بنصوص «النهج» أو سَبر أغواره. فالنصوص التي يستفاد منها في المجال التشريعي بشكل أو بآخر هي نصوص وفيرة جداً في «النهج»، سواء ما يتصل منها بالأصول والقواعد الفقهية أو ما يتصل بمقاصد التشريع وفلسفته، أو ما له ربط بالأحكام التشريعيّة المتعارفة كالصلاة والصوم والحج والزكاة. ولعل أهم ما يشتمل عليه «النهج» على الصعيد التشريعي، هو النصوص التي تسلّط الضوء على قضايا السلطة وأسس الإدارة السياسية والقضائية والمالية، وضوابط عمل المسؤولين والموظفين في الدولة الإسلامية؛ وإنّي أعتقد أنّ هذا الأمر بحاجة إلى دراسة مستقلة تعمل على استلال النصوص ذات البعد التشريعي في «نهج البلاغة» وتبويبها وتنظيمها ووضعها أمام الباحثين والمهتمين.

هذا كله بصرف النظر عن أنّ قاعدة «التسامح في أدلة السنن» هي قاعدة غير تامة في نفسها حتى في مجال السنن والمستحبات، كما برهن على ذلك جمع من العلماء المحققين[14]. وأمّا الروايات التي استدل بها لقاعدة التسامح والتي عرفت بروايات «من بلغ»[15]، فلا يستفاد منها سوى حسن الانقياد لله، وأنّه تعالى عند حسن ظن عبده به، ولا يخيّب ظنه ورجاءه.

نقد المتن ومرجعيّة القرآن

والضابط الرابع الذي يفترض اعتماده في محاكمة التراث الروائي برمته، ومنه الروايات الواردة عن علي(ع) بشأن المرأة: هو ضرورة نقد المتن، وهو ما يعرف بالنقد الداخلي للنص، وذلك بعرض مضمونه على القرآن الكريم، انطلاقاً من أنّ الإمام علياً(ع) هو ربيب القرآن ولا يمكن أن يحيد عنه قيد أنملة، كيف وهو سيّد العترة الطاهرة التي لن تفترق عن كتاب الله (عز وجل) طرفة عين أبداً إلى حين الورود على رسول الله(ص) وهو قائم على الحوض يوم القيامة، كما ينصّ على ذلك حديث الثقلين الشهير[16].

وسيأتينا لاحقاً، أنّ القرآن الكريم يقدّم صورة عن المرأة ومكانتها وحقوقها أقلّ ما يمكن أن يقال في وصفها بأنّها صورة متوازنة، وهذه الصورة هي الأساس في بناء تصورنا الإسلامي. ومن وحي هذه الصورة القرآنية وفي هديها، علينا أن نتعامل مع كل التراث الخبري المروي عن رسول الله(ص) أو عن أمير المؤمنين(ع) أو غيره من الأئمة (ع) بشأن المرأة، كما في غير ذلك من المجالات. فكل هذا التراث لا بدّ من عرضه على كتاب الله تعالى، فما وافق الكتاب وكان منسجماً مع مفاهيمه أخذنا به، وما لم يوافقه وكان فيه ما يشي بذمّ جنس المرأة أو تحقيرها أو الحطّ من كرامتها فهو مرفوض، ولا يمكننا أن نثق بصدوره عن النبي(ص) أو عن أمير المؤمنين(ع) أو سائر الأئمة من أهل البيت(ع). فهم شرّاح القرآن ومفسروه، وهم أجلّ وأسمى من أن يتكلّموا أو يتحدثوا بما يخالف مفاهيمه وتعاليمه، كما أكدت على ذلك العديد من كلماتهم ومواقفهم، وجرى عليه عملهم وسار عليه نهجهم، ففي الحديث عن أبي عبدالله(ع): قال: قال رسول الله(ص): «إنّ على كلّ حَقٍّ حقيقة وعلى كلّ صوابٍ نوراً، فما وافق كتاب الله فخذوه، وما خالف كتاب الله فدعوه»[17].

وسوف نذكر في ثنايا الصفحات الآتية بعض الروايات المنسوبة إلى رسول الله(ص) أو إلى أمير المؤمنين(ع) والتي تتنافى مع نص الكتاب أو مع روحه ومفاهيمه.

والحقيقة أنّ النصّ القرآني حول المرأة يشكّل مرجعيّة أساسيّة لا يستغنى عنها في بناء تصور إسلامي حقوقي إزاء قضايا المرأة، فإنّ نصوص السُّنة في معظمها هي -فيما أرجح- نصوص تزخر بالبعد التاريخي الخاضع للزمان والمكان، وهذا ما سوف نتناوله بالحديث في النقطة السادسة الآتية.

الإحاطة والنظرة المتكاملة

 والضابط الخامس الذي لا بدّ من مراعاته في التعامل مع تلك النصوص، هو ضرورة الابتعاد عن القراءة التجزيئية لها؛ لأنّ تكوين صورة واقعيّة أو قريبة من الواقع حول رؤية الإمام علي(ع) وموقفه من المرأة يحتّم علينا أن نعمل بادئ ذي بدء على تجميع كافة النصوص المروية عنه فيما خصّ المرأة، ثم وبعد تنظيمها وتبويبها، يصار إلى توثيقها وفحص أسانيدها، ثم يصار إلى إجراء موازنة بينها، بغية الخروج بتقييم عام لها، ومن ثَمَّ استخلاص النتائج المستفادة منها.

 ولا يكفي في هذا المجال الرجوع إلى النصوص المنطوقة أو المكتوبة من الكلمات والخطب والوصايا المروية عنه، بل من الضروري أن نأخذ في الحسبان أيضاً سيرته العمليّة وتعاطيه أو تعامله اليومي مع المرأة. فحضور المرأة في حياة علي(ع) سواء كان ذلك داخل بيته وأسرته أو خارج ذلك، ومشاركتها في مسيرته ومعاركه، إنّ هذا كله لا بدّ أن يشكّل مستنداً أساسياً في تكوين صورة متكاملة عن موقفه(ع) من النساء، ولا يصحّ بحال من الأحوال تكوين هذه الصورة بطريقة مجتزئة، وذلك بالاستناد إلى بعض النصوص والروايات أو بعض المواقف والأحداث مع إغفال البقيّة، فالنظرة التجزيئية لا تسمح بتكوين صورة صحيحة وواقعية عن نظرة علي(ع) إلى المرأة، وموقفه منها، بل إنّها ستجعلنا أمام صورة مشوهة وغير دقيقة.

ويجدر بنا تفعيل العمل بهذا المعيار، والأخذ به في التعاطي مع كل تراثنا الروائي،
ولا سيما الذي يراد الاستناد إليه في بناء المفاهيم والتصورات والأحكام. وهذا يفرض علينا أن نلمّ بكلِّ النصوص والخصوصيات المتصلة بالموضوع المبحوث عنه، وكل ما يضيء على القضية من جميع جوانبها، ومن ثمّ يتمّ بناء التصوّر وأخذ الفكرة بالاستناد إلى ذلك.

 وهذا المعيار ليس خاصاً بقراءة النص الديني، بل هو معيار عام يعتمده كافة العقلاء ويسيرون على ضوئه في التعرّف على آراء الحكماء والأدباء، وغيرهم من الشخصيات وذوي الرأي بينهم. إنّ العقلاء وفي الموارد التي تصدر فيها عن أحد الشخصيات السياسية أو الأدبية أو الفلسفية كلمات عديدة ومواقف شتى، فهم يجمعون كل الكلمات ذات الصلة، ويتحرّون عن جميع المواقف والأفعال، ويدرسون الظروف التي صدرت فيها الأقوال، والملابسات المحيطة بتلك الأفعال. وبعد ذلك، يصار إلى تكوين صورة كاملة واستخلاص رأي نهائي عن موقف تلك الشخصيّة. ولا ينحصر أخذهم بهذا المعيار في التعرف على آراء الأفراد ومواقفهم، بل وكذا الجماعات والأمم والشعوب الغابرة. فإنّ المنهج المعتمد في دراسة أحوالهم وأوضاعهم وعاداتهم ومعتقداتهم يعتمد المعيار المذكور، فيتمّ تحشيد القرائن والشواهد الكتبيّة أو الشفويّة أو الأثرية أو الطبيّة (علم التشريح) أو غيرها لتكوين الصورة المطلوبة. 

النص الديني بين المرحليّة والدائميّة

والضابط المنهجي السادس الذي لا بدّ من ملاحظته ووضعه في الحسبان عند دراسة النصوص المذكورة واستنطاقها، هو ملاحظة ما إذا كانت - كلاً أو بعضاً - بصدد الحديث عن جنس المرأة وطبيعتها مما لا يختصّ بزمان دون آخر، أو بيئة دون أخرى، ما يسمح في مثل ذلك بإصدار حكم عابر للأزمنة، وصادر - على حدّ تعبير الأصوليين - على نهج القضيّة الحقيقية، أو أنّها بصدد إعطاء حكم ظرفي وصادر على نهج القضية الخارجية؛ وبكلام آخر: هل تلك النصوص ناظرة إلى جنس المرأة على نحو العموم والشمول، أو إلى واقع المرأة في زمانه(ع) وما أحاط بها من ظروف جعلتها على هامش الحياة الثقافيّة والأدبيّة والسياسيّة والعلميّة؟

وبكلمة ثالثة: هل إنّ الإمام(ع) يتحدث عما هو كائن أو عمّا ينبغي أن يكون؟ 

إنّ حمل النصوص الدينيّة على المرحليّة أو التاريخانية -مع أنّه ليس غريباً عن الفكر الأصولي وله جذوره في كلمات الفقهاء- لم يتحوّل إلى منحى مستساغ في الوسط الحوزوي، بحيث يُتلقّى بالقبول، بل لا يزال اتجاهاً خجولاً ويؤخذ به على استحياء، لأنّه ينافي ما استقر في الأذهان من أصالة ثبات الشريعة.

قد تقول: إنّ حمل كلام النبي(ص) أو الإمام(ع) على النظر إلى واقع المرأة في زمانه يجعل كلامه ككلام غيره من الحكماء، مع أنّ ثمة فارقاً جوهرياً بين كلمات المعصوم وكلمات الحكماء، فالحكماء وإن كانوا قد يستشرفون المستقبل، لكنهم يقيّمون الأمور بحسب اجتهاداتهم وتجاربهم ويتأثرون بمحيطهم وظروفهم التاريخية، ولذا فقد تأتي اجتهاداتهم وتحليلاتهم مصيبة وقد تكون خاطئة، بينما المعصومون مسددون ولا يصدرون عن تحليل واجتهاد معرَّضٍ للخطأ، فالمعصوم متصل بوحي السماء ولو بطريقة غير مباشرة، كما أنّه ملهم ومسدد، وما يطرحه ليس آراءً شخصية أو اجتهادات استحسانيّة يمكن أن يتبيّن خطؤها بمرور الزمان.

ونقول في الجواب على ذلك: إننا نعترف ونقّر أنّ المعصوم(ع) لا يجتهد فيخطئ، إلّا أنّ ذلك لا يلغي أن يكون في بعض الأحيان بصدد تقييم الواقع الخارجي كما قلنا، فيكون حكمه وتقييمه صادراً على نهج القضية الخارجية لا الحقيقية، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنّ ثمة وجهاً مقبولاً يرى إمكانية حمل كلام النبي(ص) أو الإمام(ع) في بعض المجالات على الخبروية دون الوقوع بمحذور الالتزام بخطأ المعصوم(ع)[18].

وسوف يوافيك - فيما يأتي من محاور الكتاب - اشتمال النصوص المرويّة عن الإمام علي(ع) على العديد من القرائن التي تشهد بأنّ محطَّ نظره(ع) إلى واقع المرأة في ظروفها ووضعيتها التاريخية، وليس إلى بيان القاعدة المطردة والعابرة للزمان والمكان، ولا بأس أن نشير هنا إلى بعض هذه القرائن:

     قوله(ع) في بعض النصوص الآتية: «فإنّا وجدناهن لا ورع لهنّ..»، فإنّ هذا التعبير يشي أنّه(ع) كان يتحدث عن حصيلة تجربته مع النساء. ومعلومٌ أنّ التقييم المنطلق من الخبرة الاجتماعية يظلُّ محكوماً بسقف الواقع الاجتماعي وقدرته على تربية المرأة والنهوض بوضعها، وهو ليس بالضرورة أن يعكس حال المرأة في كل عصر ومصر، فضلاً عن أن يعبّر ذلك عن طبيعة متأصلة في المرأة.

وفي خطبة الجهاد المعروفة نجده(ع) يؤنّب أصحابه مشبّهاً عقولهم بعقول النساء، مستخدماً تعبيراً ذا دلالة فيقول: «يا أشباه الرجال ولا رجال، حلوم الأطفال، وعقول ربات الحجال»[19]، وربات الحجال هنّ النساء، كما لا يخفى، والحجال جمع حجلة، وهي بيت العروس، وهي قُبَّةٌ تُزيّن بالستور والثياب للعروس. ومن المعلوم أنّ علاقة النساء بالحجال وارتباطهن بها، تتصل بالتنشئة والواقع الاجتماعي الذي أحاط بهن وجعل ذلك وكأنه مفروض عليهنّ، فهنّ لم يُخْلَقْنَ ليكنّ ربات حجال فحسب، وإن كان ذلك بعض شؤونهنّ ولديهن ميل ونزوع إليه. بل إنّ للمرأة دورَ الشراكة مع الرجل في خلافة الله على الأرض بكل ما للخلافة من متطلبات. ولا يخفى أنّ المرأة التي تُربّى لتكون من ربات الحجال، وتُعدُّ وتُهيّأ ليكون همُّها منحصراً بالزينة، فمن الطبيعي أن لا ينمى عقلها الثقافي، بل يظلُّ نظير عقل الأطفال كما وصفها الإمام(ع).

ولا شك أنّ المتأمل في كلماته(ع) سيظفر بالكثير من القرائن المشابهة والتي تشهد لما قلناه. وسيأتي لاحقاً الإشارة إلى هذه القرائن.

 تأويل النص وفق قواعد اللغة

 والضابط السابع الذي يجدر بنا التذكير به، والتنبيه على أهميّة رعايته في المقام، هو ضرورة اعتماد الظاهر كمبدأ لا محيص عنه في عملية قراءة النصوص واستنطاقها؛ فإن كان الظاهر مما يمكن الأخذ به، ولا يصادم حقيقة عقلية أو علميّة فيتعيّن الأخذ به ولا موجب لردّه أو تأويله، وإلا فلو كان مضمونه مصادماً لحقيقةٍ مما ذكر فلا مفرّ من ردّه، ولا موجب لا للأخذ به ولا لتأويله.

 ونحن نؤكد - هنا - على اعتماد هذا الضابط، وذلك في مقابل ما قد يقوله لنا البعض - وربما أقدم على ممارسته فعلاً -  من أنّه ليس من المستحسن الإقدام على ردّ النصوص المرويّة عن المعصومين(ع)، ومنها النصوص الواردة عن الإمام علي(ع) في شأن المرأة والتي قد يصعب التصديق بها والأخذ بظواهرها. بل الأولى والأجدى - بنظر هذا البعض - هو اللجوء إلى تأويلها وحملها على خلاف الظاهر الذي تراءى لنا.

ولكننا نتحفّظ على هذا المنهج في التعامل مع النصوص الخَبَرِيَّة[20]، لعدة أسباب:

أولاً: إنّ في التأويل خروجاً عن قواعد قراءة النص، والتي تعتمد الظهور أساساً في عمليّة التفهيم والتفاهم؛ وهو - أقصد التأويل - يمثِّل في واقع الأمر نوعاً من أنواع الردِّ للنص، إذ لا فرق بين ردّ النص ورفضه من أصله، أو ردّ المعنى المتبادر منه، وذلك بليّ عنقه وصرفه عن ظاهره.

ثانياً: إنّ الإفراط في التأويل ولا سيما في نصوص الإمام علي(ع) المعروفة بسحرها البياني الخاص قد يفقدها قيمتها البلاغية، وهي السِّمَةُ التي نعهدها ونلمسها ونتذوقها في معظم خطبه وكلماته ورسائله ووصاياه، ولهذا فأي «تأويل» يراعي قواعد اللغة ويتحمّله وعاؤها ويحافظ على بلاغة الكلام فهو مقبول، وإلّا كان تأويلاً مرفوضاً.

ثالثاً: إنّ التغاضي والتسامح مع التأويل الذي لا تحتمله قواعد اللغة حتى لو كان الدافع إليه حسناً قد جرّا إلى ما لا تحمد عقباه، من العبث في النصوص الدينيّة والتلاعب في تفسيرها والتكلّف في تأويلها، الأمر الذي لا يبقى معه موجبٌ لردّ شيء من الأخبار حتى لو كانت كاذبة[21]، ناهيك عن غيرها من الأخبار التي قد لا يكون ثمّة مبرر أو موجب للتأويل فيها. وهذا الأمر فتح الباب على مصراعيه أمام تسلل ذوي النزعات المغالية، والأغراض الخاصة للدخول في الإسلام متسترين ببعض العناوين والقشور البالية التي سمح لهم بها مبدأ التأويل غير المنضبط بأية ضوابط، وهكذا اتخذت الباطنيّة من التأويل سلاحاً ناعماً لهدم الإسلام، والتملّص من شرائعه وعزائمه.

هذا لو أريد من التأويل معناه المصطلح وهو حمل اللفظ على خلاف ظاهره والمنساق منه عرفاً، وأمّا لو أريد من التأويل معنى الاجتهاد في فهم النص ومحاولة قراءته بطريقة جديدة مغايرة للسائد، مع عدم الخروج عن ضوابط قراءة النص التي يحتملها وعاء اللغة، فلا محذور في الأمر؛ لأنّ فهم المتقدمين ليس حجة علينا، ولا يلزمنا الجمود أو التقيّد بما قدّموه من قراءات للنص، ولعلَّ ما تقدّمت الإشارة إليه من أنّ النصوص الواردة حول المرأة ربما كانت صادرة على نهج القضيّة الخارجيّة وليس على نهج القضيّة الحقيقيّة هو إحدى القراءات التأويلية المستجدة[22] والتي لا ضير فيها.

وبكلمة أخرى: إنّنا لا نقصد باعتماد مبدأ الأخذ بالظاهر الدعوة إلى التعامل مع النصوص على أساس حرفي، والجمود على ظاهر الألفاظ دون العمل على استجلاء مضامين النص والنفوذ إلى أعماقه، والتعرّف على دلالاته المتنوعة التي يحتملها الوعاء اللغوي ولا تصادم المبدأ المذكور. وهكذا، فلا نقصد من المبدأ المذكور الجمود على فهم السلف، فإنّ السلف قدموا قراءتهم وفهمهم الخاص بحسب اجتهاداتهم، وهذا لا يشكّل حجة على الأجيال اللاحقة. وإنّما نقصد بذلك استنطاق النص طبقاً لأساليب القراءة التي يحتملها وعاء اللغة بمرونته، بما يجعل النص مرآة لصاحبه وليس لقارئه، بمعنى أنّ القراءة من المفترض أن توصلنا إلى أفكار صاحب النص وليس إلى رؤية ذاتنا وأفكارنا التي نقحمها على النص.

وفي هذا السياق اللغوي، علينا أن نأخذ في الحسبان تطوّر اللغة وحركيّة استعمالاتها واصطلاحاتها. فربّ مصطلح أو تعبير كان في الزمن الغابر يُستخدم بشكل اعتيادي دون أن يثير حساسية أو يختزن معنًى سلبياً، لكنّ تطوّر حركة الاجتماع البشري وتأثيرها البالغ على اللغة تجعل هذا اللفظ مهجوراً، ويختزن إيحاءات ذات دلالة سلبيّة. وهذا ما جرى - فيما نرجّح - مع مصطلح العورة مثلاً، ممّا ورد في بعض الأحاديث الآتية، وهو حديث: «النساء عورة». فإنّ لفظ العورة لم يكن - على الأرجح - ليختزن معنًى سلبياً كالذي يتبادر إلى الذهن العام اليوم، وإنّما كان يدلُّ أو يوحي بنقطة ضعف معينة يمكن للآخرين أن ينفذوا أو يتسللوا منها وينالوا مرادهم، كما جاء ذلك في وصف البيوت مما نقله القرآن الكريم عن لسان بعض المتخاذلين عن نصرة النبي(ص) في معركة الأحزاب، حيث قالوا: {إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ} [23]. فإنّ مقصود هؤلاء من كون بيوتهم عورة أنّها مكشوفة للعدو فيمكنه استغلالها. وسيأتي توضيح هذا الأمر في محور لاحق.

والأمر عينه جرى مع مصطلحات وتعبيرات أخرى، ومنها قولهم: «فلانة كانت تحت فلان» في إشارة كنائيّة إلى أنّها زوجته، وهو ما ورد في الذكر الحكيم في قوله تعالى في شأن امرأتي نوح ولوط (ع): {كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ} [24]. فقد يتوهم البعض أنّ التعبير بالتحتيّة مسيء للمرأة، مع أنّ الأمر ليس كذلك، كما سنبيّن في المحور الثاني، فقرة «المرأة في القرآن».

قبح الذم على ما ليس بالاختيار

ومن الأمور التي يجدر بنا لفت النظر إليها، كونها تشكّل ضابطاً معيارياً في محاكمة النصوص: عدم تعقل صدور الذم من الله تعالى أو من النبي(ص) أو من الإمام(ع) على ما ليس بالاختيار، فالنص الذي يتضمن ذماً للإنسان - ذكراً أو أنثى - على أمرٍ لا يخضع لاختياره وليس من صنعه، هو نصٌّ لا يمكن لنا الأخذ به ولا تقبّل صدوره عن الله تعالى أو عن مصدر متصل بالوحي بطريقة أو بأخرى؛ لأنّ ذمّ الإنسان على ما هو خارجٌ عن إرادته واختياره أمر قبيح عقلاً ونقلاً، تماماً كما هو الحال في تكليف الإنسان بغير المقدور وما هو فوق طاقته.

وعلى ضوء هذا، فعندما نجد أنّ بعض النصوص المنسوبة إلى الإمام علي(ع) تطعن في المرأة بنقص دينها وإيمانها، وتعلل ذلك بتركها للعبادة أثناء عادتها الشهرية، فلا مفرّ من أن نرسم علامة استفهام كبيرة إزاء هذا النص، لتضمنه أمراً لا يمكن فهمه ولا تصديق صدوره عن علي(ع) باب مدينة علم النبي(ص)، وذلك لأنّ الحيض بالنسبة إلى المرأة ليس أمراً اختيارياً لها ولا من صنعها، وإنما هو أمر تكويني يتصل بأصل خلقتها وتكوينها، فكيف تُلام عليه وتُذمّ بسببه؟!

وهكذا لو فُهم الذَّمُ من النصّ المروي عن النبي(ص) وهو قوله: «النساء عيٌّ»، والعيُّ بمعنى العجز عن البيان، فإنّ لقائل أن يقول: إنّ العيّ في المرأة - لو صح أنّها كذلك - ليس أمراً اختيارياً لها لتلام أو تذمّ عليه[25].

ومن الطبيعي، أنّه قد يأتي في ذهن البعض أو يرد على خاطره بعض الردود على ما قلناه من قبيل: أنّ الإمام(ع) ليس بصدد الذم والإدانة في تلك النصوص ونظائرها، وإنّما هو بصدد توصيف الواقع، ولكن هذا الردّ وغيره سيأتي تقييمه لاحقاً إن شاء الله تعالى.

ومن النصوص التي يمكن ذكرها في هذا المجال: ما روي عن رسول الله(ص): «لحصيرٌ في ناحية البيت خير من امرأة لا تلد»[26]، فإنّ عقم المرأة في الأعم الأغلب ولا سيّما زمن صدور هذا الكلام هو أمر غير اختياري لها، فلماذا هذا التحقير لها؟! وكيف نفهم جعل الحصير أكثر نفعاً وفائدة منها! مع أنّ العاقر التي لا تلد إذا أحسن المجتمع تربيتها وتأهيلها ولم ينظر إليها باحتقار، فإنّها ستكون امرأة نافعة ومفيدة، ولن تعقم عن العطاء الفكري وعن القيام بالعديد من المهام الرسالية والاجتماعية.

ونظير ذلك ما لو صدر ذمٌ لإنسان بسبب لون بشرته أو بسبب عرقه[27]، أو لوجود نقص عضوي أو مرض وراثي فيه أو بسبب ضعفٍ عقلي لديه، فكل ذلك مما لا يمكن تقبّل صدور الذم فيه عن الشارع الحكيم والناطقين باسم الدين.


هذا المقال من كتاب "المرأة في النص الديني"



[1]  كراهية النساء (الميسوجينية): موقف عنصري ضد جنس النساء، يدفع باتجاه اضطهادهنّ وممارسة التمييز ضدهنّ.

 

[2]  يُعَدُّ محمد أركون من أبرز المفكرين الذين نظّروا وروّجوا لضرورة القيام بقطيعة كاملة مع التراث الإسلامي، انظر كتابه: قضايا في نقد العقل الديني- كيف نفهم الإسلام اليوم؟، ترجمة وتعليق: هاشم صالح، دار الطليعة، بيروت - لبنان، الطبعة الرابعة، 2009م.

 

[3]  ولعلّ من أوائل من طرح هذه التهمة الباطلة ابن خلّكان (ت: 681هـ) فقد نقلها عن بعض الناس دون أن يجزم بصدقها أو يتبناها، قال: «وقد اختلف الناس في كتاب «نهج البلاغة» المجموع من كلام الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه هل هو جمعه (أي جمع المرتضى) أم جمع أخيه الرضي؟ وقد قيل: إنّه ليس من كلام علي، وإنّما الذي جمعه ونسبه إليه هو الذي وضعه والله أعلم»، انظر: وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، ج 3 ص 313. وترددت بعد ذلك على ألسنة البعض دون تدقيق أو تحقيق.

 

[4]  وقد فنّد جمع من الأعلام هذه الدعوى: انظر: أعيان الشيعة، ج1 ص540، وذكر الأستاذ أحمد زكي صفوت وجوهاً ستة للشك في نهج البلاغة وفنّدها جميعاً بأسلوب علمي رصين، انظر كتابه: ترجمة علي بن أبي طالب، طبعة مطبعة دار العلوم، مصر، 1932م.

 

[5]  حتى فضّل بعضهم شعره على المتنبي، انظر: أعيان الشيعة، ج 9 ص 217.

 

[6]  كما يصرح الشريف الرضي نفسه، انظر: نهج البلاغة، ج 1 ص 11.

 

[7]  وهذا ما أجمع عليه كتاب سيرته ومترجمو حياته، انظر على سبيل المثال: أعيان الشيعة، ج 9 ص 217 وما بعدها.

 

[8]  انظر: ما ذكره السيد علي الفاني رحمه الله في كتابه بحوث في فقه الرجال، ص 113، حيث خلص إلى ما يقرب مما ذكرناه.

 

[9]  في الوقت الذي لاحظنا أنّ الكثير من الفقهاء يحاذرون التصريح بضعف الخبر الوارد في نهج البلاغة، فإنّ البعض الآخر لم يُخْفِ رأيه في المسألة، كالسيد الخوئي، والذي يقول بشكل صريح: «إنّ الاعتماد على نهج البلاغة والاستدلال به لإثبات حكم من الأحكام الشرعيّة مشكل جدّاً». انظر: موسوعة السيد الخوئي الفقهية، الزكاة ج24 ص192. وقد ردّ بعض الروايات مع كونها واردة في نهج البلاغة، انظر: الموسوعة المذكورة ج11 ص102، وقد يصرح بسبب الردّ وهو الإرسال، انظر: مصباح الفقاهة، ج35 ص561، أجل نجده في بعض الموارد قد صحّح عهد الأشتر المروي في «النهج» لا لصحة سنده، بل اعتماداً على قوة مضمونه ما يبعث على الوثوق بصدوره عنه، قال: «والعهد وإن نقل مرسلاً إلا أنّ آثار الصدق منه لائحة، كما لا يخفى للناظر إليه»، انظر: مصباح الفقاهة، (ضمن موسوعة السيد الخوئي) ج35 ص416. ولكن الصحيح أنّ للعهد سنداً صحيحاً كما ذكرنا في محل آخر، بصرف النظر عن المعيار الذي ذكره السيد رحمه الله، وإن كان معياراً صحيحاً في نفسه، كما أنّ للكثير من روايات النهج أسانيد مذكورة في مصادر الحديث.

 

[10]  الخبر المرسل هو الذي يرويه عن المعصوم من لم يدركه أو لم يسمعه منه، سواء رواه بدون واسطة أو بوجود سقط في سلسلة السند واحداً كان أو أكثر، انظر: نهاية الدراية، للسيد حسن الصدر (ت: 1351هـ) ص189، تحقيق: ماجد الغرباوي، نشر المشعر، ط1، قم - إيران.

 

[11]  تكلمنا مفصلاً عن هذا المعيار وإمكانية الاعتماد عليه ومحاذير ذلك في كتاب أصول الاجتهاد الكلامي، ص 366 وما بعدها.

 

[12]  قاعدة التسامح في أدلة السنن هي قاعدة مشهورة وفحواها: أنّه لا حاجة للأسانيد الصحيحة في أخبار السنن (المستحبات) وألحق بها بعضهم المكروهات، وعمّمها بعضهم إلى ما هو أوسع من ذلك، الأمر الذي كان له تداعيات غير محمودة في العديد من المجالات كما أوضحنا ذلك في كتاب أصول الاجتهاد الكلامي، ص342 وما بعدها.

 

[13]  قال السيد الأمين رحمه الله: «ولم يكن قصده - أي الشريف الرضي - من جمعه أن تؤخذ منه الأحكام ومسائل الحلال والحرام ليذكرأسانيده، وإنّما قصد جمع مختارات كلامٍ له حظٌ في الفصاحة والبلاغة والمضامين العالية لينتفع قراؤه بذلك»، انظر: أعيان الشيعة، ج1 ص540.

 

[14]  يقول السيد الخوئي (رحمه الله) بعد تعرضه لروايات القاعدة: «فتحصل أنّ قاعدة التسامح في أدلة السنن مما لا أساس لها»، انظر مصباح الأصول، ج 2 ص 320.

 

[15]  والتسمية مأخوذة من نصّ الحديث، فعن أبي جعفر(ع): «مَنْ بَلَغَهُ ثوابٌ مِنَ الله على عمل، فعَمِلَ ذلك العمل التماس ذلك الثواب أُوتيه وإن لم يكن الحديث كما بلغه»، الكافي، ج2 ص87.

 

[16]  روى هذا الحديث علماء الفريقين، ففي مسند أحمد بإسناده إلى أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى=

=    الله عليه وآله وسلم: «إنّي تارك فيكم الثقلين: أحدهما أكبر من الآخر كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي وإنّهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض»، مسند أحمد، ج3 ص14، ولاحظ كنز العمال، ج1 ص172، ولاحظ كتاب الكافي، ج2 ص415.

[17]  وسائل الشيعة، ج27 ص109، الحديث 10 الباب 9 من أبواب صفات القاضي.

 

[18]  بحثنا هذا الأمر في دروسنا حول أبعاد الشخصيّة النبوية والمعصومة، ويمكن مراجعة ذلك أيضاً في كتابنا: الشريعة تواكب الحياة، ص102 وما بعدها.

 

[19]  نهج البلاغة، ج1 ص70، والكافي، ج 5 ص 6، وانظر: معاني الأخبار، للصدوق ص310، والغارات، للثقفي ج2 ص 477، والإرشاد، للمفيد ج 1 ص 279.

 

[20]  أمّا النصوص القرآنية فإن كان ظاهرها مصادماً مع حقيقة علمية أو عقلية، فلا مفرّ من التزام التأويل فيها، للقطع بصدورها فلا مجال لردّها، والواقع أنّه لا وجود لنصوص قرآنية مصادمة لحقائق العلم وقطعيات حكم العقل.

 

[21]  وقد عرف عن فقيه العراق في زمانه محمد بن شجاع الثلجي أنه اعتمد التأويل حتى في الأخبار الصريحة في الجبر والتشبيه إلى حدّ التعسف والخروج عن حدود الاستعمال، وقد اعترض الشيخ الطوسي على هذا المنهج بأنّه «لو ساغ ذلك لم يكن لنا طريق نقطع على كذب أحدٍ وذلك باطل»، انظر: عدة الأصول، ج1 ص 94.

 

[22]  المستجد في هذه القراءة هو تفعيل الأخذ بها، أمّا القراءة ذاتها فلها جذور ممتدة في الفكر الديني.

 

[23]  سورة الأحزاب، الآية 13.

 

[24] سورة التحريم، الآية 10.

 

[25]  بحثنا هذه الرواية في موردين: الأول: كتاب إليك يا ابنتي، ص 37، والثاني: في مبحث الستر من دروس بحثنا الفقهي، والرواية صحيحة، وسيأتي بحثها مفصلاً في محور لاحق من محاور هذا الكتاب.

 

[26]  نسبه إلى رسول الله(ص) الغزالي في إحياء علوم الدين، ج 4 ص 105، ورواه ابن الجوزي في الموضوعات، ج 2 ص 267.

 

[27]  ولهذا السبب فقد ناقش بعض الفقهاء في الروايات الذّامة للأكراد أو الخوز أو غيرهم، انظر حول هذه الأخبار: الكافي، ج5 ص158، وعلل الشرائع، ج2 ص527.

 

 






اضافة تعليق

الاسم *

البريد الإلكتروني *

موضوع *

الرسالة *


 


 
  قراءة الكتب
 
    Designed and Developed
       by CreativeLebanon